عمر إستقلال السودان سته عقود و يزيد نجدها نفس عقود التيه و الضلال التي عاشتها اوروبا و هي عقود نهاية الليبرالية التقليدية و قد بدات عام 1870 و لم تاخذ نهايتها إلا عام 1929 عام الكساد الاقتصادي العظيم.
لم تنجز النخب السودانية أي شئ يذكر فيما يتعلق بإستيعاب التحول الهائل في المفاهيم. عندما بدأت الليبرالية التقليدية تهتز و قبل سقوطها النهائي كانت هناك هزات و تحولات عميقة قد رصدها علماء الاجتماع و المؤرخيين و الاقتصاديين و لكن حتى تصبح فكرا متبلور أحتاجت لعقود وصلت للستة عقود و بعدها ظهرت محاولات المؤرخيين و خاصة مدرسة الحوليات الفرنسية و قد طلبت من النخب دراسة التاريخ الاقتصادي و التاريخ الاجتماعي لمجابهة التحولات الفكرية الهائلة.


و كان أول من إستجاب للطلب جون ماينرد كينز و قد قدم تفسير للكساد الاقتصادي العظيم بعد أربعة سنوات من حدوثه في النظرية العامة و هذا يشابه حال ثورة ديسمبر و ها هي أربعة سنوات تمر و لم تستطع النخب السودانية أن تقدم نظرية تشرح لنا ما حصل كما فعل كينز مع الكساد الاقتصادي العظيم و كيف قدم تفسير للكساد الاقتصادي العظيم.
و بالمناسبة عجز النخب السودانية عن تقديم تفسير و توضيح لفشلها و عجزها في أن تؤسس لملامح دولة حديثة عقب ثورة ديسمبر المجيدة و ثمنها المدفوع من عرق و دم و دموع الشعب السوداني و قد أسقط أقبح و أبشع نظام و هو نظام الحركة الاسلامية السودانية هذا العجز للنخب السودانية هو كساد موروث من النخب السودانية و متراكم عبر أجيال و عبر زمن طويل قد تخطى القرن أي منذ قيام أتباع أندية مؤتمر الخريجين في السودان و لكن الفرق بينهم و بين النخب الأوروبية في ما بين نهاية الليبرالية التقليدية و بداية الليبرالية الحديثة أن النخب الأوروبية قد فطنت للتحول الهائل في المفاهيم و قابلته بهمة و إجتهاد من أجل تفسير ما حصل.
و هنا يكمن الفرق بين نخب المجتمعات التقليدية و السودان من ضمنها و نخب المجتمعات الحية و يمكنك أيها القارئ أن تتبع خيط تطور الفكر في أوروبا بشكل واضح منذ تقديم ادم اسمث لكتابه ثروة الامم عام 1776 و قد تزامن مع قيام الثورة الصناعية و بعدها بخمسة عقود تجد كيف ظهر فلاسفة و مؤرخون و اقتصاديين يعالجون أثار الثورة الصناعية على المجتمع و نذكر منهم توكفيل صاحب الديمقراطية الامريكية و كان عندما يتحدث عن الديمقراطية يعني أنها قد أصبحت بديلا للفكر الديني و كان ذلك عام 1830
و هكذا يمكنك تتبع تطور الفكر الى لحظة 1880 عندما أحس أرنولد توينبي الكبير بنهاية الليبرالية التقليدية و إنتقد الاستعمار و قد رأي فيه إهمال للطبقات الدنيا في أوروبا و العمال و في نفس الوقت إهدار لموارد الدول التي وقع عليها الاستعما و كان ذلك قبل أن يظهر علينا أمثال عبد الله علي ابراهيم و إستهباله عن دولة ما بعد الاستعمار و بفهم مؤرخ تقليدي يجهل تاريخ الفكر الاقتصادي و النظريات الاقتصادية لذلك جاء حديثه عن دولة ما بعد الاستعمار حديث شيوعي متحجر يضر أكثر مما ينفع.
لأن أرنولد توينبي الكبير و هو عم أرنولد توينبي المؤرخ البريطاني في القرن العشرين قد نقد الاستعمار منذ عام 1883 قبل إستعمار الانجليز للسودان أي حينها كنا مع أوهام مهدية المهدي أي قبل الاستعمار البريطاني بخمسة عشر سنة قبل نهاية المهدية.
ما أريد قوله هو أنك تستطيع تتبع الفكر منذ قيام الثورة الصناعية و صراع المفكرين في الغرب و أيهم كان على دراية بتفسير ما يحدث و لكن في السودان لا يمكنك تتبع تطور الفكر بل تجدهم شيوعيين و كيزان كلهم في مستوى واحد نفس الملامح و الشبه في وهم تقديم حلول نهاية شيوعي سوداني يؤمن بنهاية التاريخ و إنتهاء الصراع الطبقي و كوز لاجئ للغيب يريد أن يكون خارج التاريج بل يحكم على التاريخ.
و هكذا تدور الدوائر و كل عام و الفكر ينحط بين النخب السودانية و إذا تتبعت فكرهم على مستوى أفراد كمفكرين لا تجد من يقدم تفكير يسير في خط مع ما يحدث في العالم فتجد أمثال عبد الله علي ابراهيم يحتفل مع الكيزان بشمعة إنقلابهم الأولى و تجد غيره يدافع عن الطيب زين العابدين و المحبوب عبد السلام و الأفندي و يقولون لك أنهم قد أنتقدوا الحركة الاسلامية و هنا يكون حديث النخب كلام ساكت كما نقول.
و هكذا تجد طريق الفكر في السودان لم يبدأ بعد إذا ما قارناه بالفكر في أوروبا منذ قيام الثورة الصناعية و كيف تجد الفكر المندثر و الفكر الذي ما زال مستمر و يفتح على المستقبل بل البعيد في تطوير المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد كنتاج لتطور الثورة الصناعية و نجدها قد أفرزت فكرة الضمان الاجتماعي حيث نجده في أوروبا واضح المعالم مقارنة بما في الولايات المتحدة نسبة لتاريخها الاجتماعي و تاريخها الاقتصادي في امريكا نجد تجذر فكرة الضمان الاجتماعي أقل مما هو عليه في الدول الاوروبية.
و لكن ما زال هم في بال الناخبين و قد رأينا محاولات أوباما في مسالة طرح العلاج المجاني كما هو عند الأوروبيين و هذا ما لا نجده في حيز النخب السودانية منذ قيام مؤتمر الخريجيين و الى اليوم لا يتحدثون عن المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و فكرة الضمان الاجتماعي و حتى اليوم و بعد سقوط الكيزان لم يقدم أي حزب من أحزاب السودان فكر يتحدث عن المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد حيث يكون العلاج المجاني و التعليم المجاني و حد أدنى للدخل للطبقات الفقيرة.
لا تجد حزب واحد قد قدم لنا تصوّر للدخل القومي في السودان و فلسفة توزيعه لأننا نعرف أن فلسفة إعادة توزيع الدخل أصعب من مسألة خلق الثروة نفسها و هنا يكمن مفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد.
مسألة مفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد هي الرافعة الفكرية الوحيدة التي تجعلنا نفارق موروث الكساد الفكري الذي تركته نخب السودان الفاشلة لأن فكرة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد هو الأفق الوحيد الذي يجعل علاقة الفرد مباشرة بالدولة و ليس كما هو سائد الآن حيث نجد علاقة الفرد بالطائفة الدينية أو علاقته بالادارة الأهلية أو زعامات الطرق الصوفية.
و هذا ما يجعل النخب السودانية تطرب لخطاب الهوية في شقيها العرقي و الديني بدلا من فكر الحرية التي تفتح الطريق لمفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و هذا ما يجعل النخب لا تستطيع تقييم تطورها الفكري فتجد المؤرخ التقليدي السوداني يجهل تاريخ الفكر الاقتصادي و النظريات الاقتصادية و بالتالي لا تخطر بفكره مسألة المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و كيفية ترسيخها و بدورها ترسخ ديمومة الديمقراطية لأن مما يساعد على ديمومة الديمقراطية هو ترسيخ مفهوم أن الديمقراطية تعطي أولية للتعليم المجاني و العلاج المجاني و إعادة توزيع الدخل للأسر ذات الدخل المنخفض.
و هذا يفتح الباب للشعب لمعرفة معنى الحق في الحقوق و بالتالي يعرف الفرق الشاسع بين الديمقراطية و الدكتاتوريات و قبح النظم الشمولية مثل النازية و الفاشية و الشيوعية و حكومات ما ينتج من الخطاب الديني سواء كان كيزاني أو طائفية الصادق المهدي و الميرغني التي لم تتحدث أبدا عن حد أدنى للدخل للأسر الفقيرة بل أسواء من ذلك أنهم ينتظرون من هذه الأسر الفقيرة أن تتبرع للأمام و الختم.
و بالتالي عندما تسقط ديمقراطية أحزاب الطائفية لا تجد من يدافع عنها لأنها لم تقدم تعليم مجاني و لا علاج مجاني و لا حد أدنى للدخل للأسر الفقيرة و هذا الحد الادنى للدخل يكون نتاج تنمية سياسية و تنمية اقتصادية تؤدي لزيادة الدخل القومي و تنعكس في إرتفاع مستوى المعيشة.
و هذا كله بسبب غياب فلسفة ترسّخ لمفهوم المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و هي نتاج فكر ليبرالي تتضح فيه فكرة غائبة تماما من ساحة فكرنا و هي أن الغاية من المجتمع هو الفرد مع إفتراض عقلانيته و أخلاقيته و هنا في مجتمعنا السوداني التقليدي نجد أن الفرد ليس غاية في حد ذاته لذلك تجد المثقف التقليدي و المؤرخ التقليدي و علماء الاجتماع التقليديين يهتمون بطرح الهوية و ليست أدبيات الحرية.
و قد رأينا كيف كان ضلال النخب السودانية في طرح الهوية لدرجة قد أسسوا لها مدارس غابة و صحراء و عودة لسنار و ابادماك و غيرها من الأوهام التي لا تعطي أي أهمية للفرد كغاية في حد ذاته و هذا الفكر الهووي الصاخب هو الذي ضيّق مساحة تطور الفكر الليبرالي الذي يطرح فكر أنثروبولوجيا الليبرالية و يفتح الطريق لفهم يؤدي لترسيخ و ديمومة الديمقراطية.
بل فتح الطريق لسيطرة أعدى أعداء الحرية و هما الكيزان و فكرهم فكر اللجؤ الى الغيب و سيطرة فكر الشيوعي السوداني المتحجر بايديولوجية متحجرة قطعت الطريق على النخب السودانية و محاولة ترسيخ فهم جديد الى الفكر الليبرالي و هو فكر منفتح على اللا نهاية يضع علم الاجتماع كبعد معرفي في صميم الديالكتيك.
و هذا هو سر أن الرأسمالية تخرج من أزماتها و إختناقاتها كل مرة أكثر قوة و لكن عند نخبنا السودانية المحاصرة بجهل الشيوعي السوداني و قد رسّخ فكر يبشع بالرأسمالية في نظر المثقف التقليدي السوداني و لم يخرج من هذه الدوامة إلا الدكتور منصور خالد بعد فوات الأوان عندما قال كان هناك وهم جماعي للنخب في إعتقادها أن أقرب طريق للتنمية هو طريق الحزب الواحد و الفكر الاشتراكي و هذا غير صحيح.
و منصور خالد لولا نباهته و إختلافه عن النخب السودانية التقليدية لما وصل الى نقد مسيرته و وهمه في الاشتراكية و الحزب الواحد و قبح الشموليات. من هنا أدعو النخب السودانية الى الإهتمام بالفكر الليبرالي و كيف ينظر الى أن الديمقراطية بديلا للفكر الديني وفقا للنشؤ و الإرتقاء حيث فارقت البشرية كل من فكر العرق و الدين و كذلك نجد ان الفكر الليبرالي ينظر للفرد كغاية لأن الفرد له غايته و هي قيمة القيم و هي الحرية.
و بالتالي تصبح معادلة الحرية و العدالة هي التي تسوق مسيرة الانسانية في تراجيديتها الى ما لا نهاية. عكس فكر الشيوعية السودانية التي لا تختلف عن فكر الكوز الذي يزعم أنه يستطيع تقديم حلول نهائية في ماضي ذهبي و بالتالي نقول للنخب السودانية وجب إنتباهكم لحيل الشيوعي السوداني الذي يصور لكم بشاعة الفكر الليبرالي و يوهمكم بالفكر الشيوعي الشمولي و قد إنتبه لقبحه مفكري العالم منذ عقود و هم كثر نذكر منهم حنا أرنت و ريموند أرون و إدغار موران و كلود لوفرت و غيرهم كثر و لم نجد أدبياتهم في ساحتنا لأن الشيوعي السوداني نجح في زرع وهم للنخب السودانية الفاشلة أن الرأسمالية فاشلة و نسى أن الفكر الليبرالي يتطابق مع تاريخ البشرية في محاكاتها للطبيعة بعيدا عن الايمان بالمطلق في زمن النسبي و العقلاني الذي يجسده الفكر الليبرالي و يجافيه فكر الكوز و الشيوعي السوداني في ايمانهما بالمطلق.
في وقت نجد فيه أن الفكر الليبرالي يحاكي تاريخ البشرية الطبيعي و هي تمر بإختناقات و لكنها تخرج منها أكثر قوة و لهذا كانت و ستظل الليبرالية ما يناسب مسيرة البشرية التي تسوقها معادلة الحرية و العدالة.
نرجع لعنوان المقال حال السودان يشبه حال أوروبا في زمن ما بين الحربين حيث كانت أوروبا تنتظر نهاية فكر الليبرالية التقليدية و بداية فكر الليبرالية الحديثة و هذا ما يحصل اليوم في السودان أننا نشهد زمن نهاية غياب فكر يجسد الإهتمام بالمسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و هذا لا ينتهي إلا بإختفاء أحزاب اللجؤ الى الغيب أي أحزاب المرشد و الامام و الختم و كذلك إختفاء فكر مطلق يقوده الشيوعي السوداني مجسد بنسخة متكلسة تجسد الأبوية المستحثة في ساحة الفكر السودانية.
و من هنا ندعو النخب السودانية لفكر جديد الغاية فيه الفرد كما تشهد على ذلك ظاهرة المجتمع البشري و لا سبيل الى ذلك بغير أدب جديد يرسخ لمفموم يكمن فيه معنى أنثروبولوجيا الليبرالية حيث يصبح الدين شأن فردي و ينتهي زمن عجز النخب السودانية حيث يظهر عجزها في أن يدافع فيه غير الكوز عن الكوز بأدب التوفيق الكاذب و هنا نجد لا فرق بين الأفندي و كمال الجزولي و لا فرق بين الحاج وراق و المحبوب عبد السلام و لا فرق بين محمد ابراهيم نقد و الطيب زين العابدين في قصة كيف كانوا يخططون لتقيم المشاريع الفكرية في السودان المحنبس بين الشيوعي و الكوز.
و هذا يختلف عن كيف رفض ريموند أرون فكر سارتر و كيف فارق ألبرت كامي أوهام سارتر و كيف إختلف كلود ليفي اشتروس مع فكر سارتر كمدافع عن الشيوعية و هي تمثل أبشع أنواع النظم الشمولية و كيف إختلف ريموند أرون مع ألتويسر.
لهذا ندعو النخب السودانية لإعادة النظر من جديد و قراءة تاريخ الفكر الليبرالي الذي يجسد و يفسر تاريخ البشرية و هي تسير وفقا لمعادلة الحرية و العدالة. غياب معادلة الحرية و العدالة كروح للفكر الليبرالي من الساحة السودانية يفتح الطريق لمغامر مثل حميدتي و تربية كيزان مثل البرهان لقطع طريق أعظم ثورة و هي ثورة ديسمبر و كله بسبب أن النخب السودانية لم تلاحظ كيف يتطور الفكر و يتقدم في خط مستقيم و يسير الى الامام رغم ظهور الاختناقات و الازمات التي يمر عبرها الفكر الليبرالي و يخرج منها أكثر قوة.
على النخب السودانية أن تغادر محطة الشيوعي السوداني الذي لا يرى غير الوجه المتوحش من الرأسمالية و على فكرة أن وجه النيوليبرالية المتوحشة قد عالجه مفكرين ليبراليين بفكر جديد يفتح الطريق لإستمرار الفكر الليبرالي لأنه يمثل تاريخ البشرية الذي لا يتوج بنهاية التاريخ كما تتوهم الشيوعية السودانية في نسختها المتكلسة بل تسوقة معادلة الحرية و العدالة و هي تمثل روح التاريخ الذي لا يتوج بل تاريخ مفتوح الى ما لا نهاية و هذا هو الحل الوحيد لمفارقة غائية و دينية و لاهوتية النسخة المتخشبة من الشيوعية السودانية.

[email protected]
//////////////////////  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الثورة الصناعیة فی السودان فی أوروبا هذا ما

إقرأ أيضاً:

تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام «5- 11»

تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام «5- 11»

بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير

ختمت البروفيسور آمال قرامي تقديمها للطبعة الثانية التي ستصدر قريباً من كتاب: الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، قائلة:

“يصدر المُؤلَف في فترة حرجة من تاريخ السودان استشرى فيها العنف وتفتت فيه النسيج الاجتماعي، وكثرت فيها الخيبات والمآسي وبرزت فيها علامات التراجع عن أهداف الثورة السودانية. فهل يكون هذا المُؤلَف ملاذ الحائرين/ات والباحثين عن فهم أسباب ما يجري؟”

البروفيسور آمال قرامي

أستاذة الفكر الإسلامي والدراسات الجندرية بالجامعة التونسية، تونس

قلنا في مستهل الحلقة الأولى من سلسلة هذه المقالات: “بتخطيط وتنسيق مسبق وبمؤامرة شارك فيها قطاع واسع ممن يسمون برجال الدين في الفضاء الإسلامي، والقضاة الشرعيين، و هيئة علماء السودان، و جماعة الإخوان المسلمين، وبعض رجال الطائفية والقادة السياسيين في السودان، ومشايخ جامعة أم درمان الإسلامية السودان)، ومشايخ الأزهر (مصر)، كان انعقاد المحكمة المهزلة، محكمة الردة في مثل هذا اليوم، 18 نوفمبر من العام 1968. مثَّل انعقاد المحكمة وصدور حكمها الباطل، بداية المواجهة بين الفهم القديم للإسلام، و الفهم الجديد للإسلام، كما طرحه المفكر محمود محمد طه. أتبع الأزهر شراكة مشايخه في مؤامرة المحكمة، بإصدار فتوى بكفر المفكر محمود محمد طه “الكفر الصراح”. كما لحق بالأزهر رابطة العالم الإسلامي حيث أفتى مجلسها التأسيسي وبالإجماع بردة محمود محمد طه عن الإسلام. يتكون المجلس التأسيسي للرابطة من ستين عضواً يمثلون مختلف دول العالم الإسلامي، وتتخذ الرابطة من المملكة العربية السعودية مقراً لها”.

شكَّل حكم محكمة الردة الذي صدر في 18 نوفمبر 1968، سابقة خطيرة، حيث تم استدعاؤه والأخذ به مع فتوتي الأزهر و رابطة العالم الإسلامي في محاكمة يناير 1985، التي حكمت على المفكر الإنساني محمود محمد طه بالإعدام، كما سيرد التفصيل لاحقاً. نواصل الحديث عن المؤامرات المحلية، فبعد أن وقفنا عند تآمر رئيس وأعضاء مجلس السيادة السوداني، نقف اليوم عند مؤامرات القضاة. (ملاحظة: كل ما يرد في هذه السلسلة يجد سنده التوثيقي في الكتاب المشار إليه، أعلاه، وقد أخذنا فيه بمنهج توثيقي صارم).

مؤامرات القضاة

كشف المدعي الأول في محكمة الردة الأمين داود في كتاباته، عن شراكة قاضي القضاة والقضاة الشرعيين في المؤامرة. فقبل أن يتم تقديم الدعوى للمحكمة، قام الأمين داود بالاتصال بقاضي القضاة وبالقاضي الذي ترأس محكمة الردة فيما بعد، وقد أوضح موقف كل منهما.

موقف قاضي القضاة، عبد الماجد أبو قصيصة

حكى الأمين داود في كتابه: نقض مفتريات محمود محمد طه وبيان موقف القضاء منه، وتحت عنوان: “موقف القضاء من محمود محمد طه”، مبيناً بأنه تقدم بالدعوى بعدما رأى “استعداداً طيباً وروحاً عالياً من حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الماجد أبوقصيصة قاضي قضاة السودان لقبول دعوى الحسبة”. كما أضاف بأن قاضي القاضي قد قال له بأن الدعوى من صميم عمل المحاكم الشرعية.

قاضي محكمة الردة

روى الأمين داود في كتابه آنف الذكر، بأنه قد أتصل بالقاضي توفيق أحمد صديق، وطرح عليه خطته قبل انعقاد المحكمة، بل لم يتقدم بالدعوى، كما قال، إلا بعد ما لمسه من الهمة العالية والوقوف مع الحق من الشيخ توفيق أحمد صديق عضو محكمة الاستئناف العليا الشرعية، وبعد ذلك: “تقدمنا بدعوى الحسبة”.

تبين من الاعترافات الموثقة أن قرار محكمة الردة قد تم الاتفاق عليه قبل تقديم الدعوى نفسها. فالمدعي الأول، كما أورد في كتابه، رتب الأمر مع قاضي القضاة ومع رئيس المحكمة، ووجد موافقتهم وقبولهم فماذا بقى؟ لا شيء سوى تنفيذ المؤامرة.

يتضح مما تقدم أن التحالف الذي تشكل من رجال الدين والطائفية والزعماء السياسيين والقضاة الشرعيين، قد اجتمع على التآمر على المفكر محمود محمد طه، فدبروا تلك المكيدة السياسية. ومما لا شك فيه أن معظم هؤلاء السياسيين من الطائفيين والقضاة الشرعيين والفقهاء، لهم امتداداتهم الخارجية في مصر والسعودية، كما أن كثير منهم يتحرك بتوجيهات مصر الرسمية وبتوجيهات مشايخ الأزهر وبالتنسيق بينهما. وقد فصلنا كل ذلك في كتبنا.

إكتمال حلقات التنسيق والتآمر

“ولكن لا بأس، فإن من جَهِلَ العزيز لا يَعِزَّه!! ومتى عرف القضاة الشرعيون رجولة الرجال، وعزة الأحرار، وصمود أصحاب الأفكار؟”.

محمود محمد طه، 19 نوفمبر 1968

بعد اكتمال حلقات التنسيق والتآمر بين القضاة الشرعيين، ورجال الدين، والقادة والسياسيين، تقدم الأمين داود، الأستاذ بجامعة أم درمان الإسلامية (مدعي أول)، وحسين محمد زكي، الأستاذ بجامعة أم درمان الإسلامية (مدعي ثاني)، بدعوى ضد محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري، بالردة عن دين الإسلام، حسبة لله تعالى. تم تقييد الدعوى لتكون القضية رقم 1035/1968 أمام محكمة الخرطوم العليا الشرعية، التي تشكلت برئاسة القاضي توفيق أحمد صديق، عضو محكمة الاستئناف العليا الشرعية المنتدب للنظر والفصل في الدعوى.

عدم اختصاص المحكمة

إن المحكمة التي عُهد إليها بالنظر في القضية رقم 1035/1968، وهي محكمة الخرطوم العليا الشرعية، لم يكن من اختصاصها إصدار حكم بإعلان ردة أي إنسان من الإسلام. فالمحاكم الشرعية في السودان أنشأها الاستعمار بموجب قانون أصدره الحاكم العام، وهو قانون المحاكم الشرعية السودانية لعام 1902. ولم يتضمن هذا القانون أي نص يدل على صلاحية المحكمة الشرعية في الحكم بردة أو تكفير مسلم. فاختصاص هذه المحاكم قد حددته المادة السادسة التي تنص على أن للمحاكم الشرعية الصلاحية للفصل في:

أ‌.    أية مسألة تتعلق بالزواج والطلاق والولاية والعلاقات العائلية بشرط أن يكون الزواج قد عقد على الشريعة الإسلامية أو أن يكون الخصوم من المسلمين.

ب‌.  أية مسألة تتعلق بالوقف أو الهبة أو الميراث أو الوصية … إلخ.

ج‌.  أية مسألة سوى ما ذكر في الفقرتين السابقتين على شرط أن تتقدم الأطراف المتنازعة بطلب كتابي ممهور بتوقيعاتهم يلتمسون فيه من المحكمة أن تقضي بينهم مؤكدين أنهم عازمون على الالتزام بحكم الشريعة في الأمر المتنازع عليه.

مما يدل على عدم اختصاص المحكمة التي نظرت في القضية، أن حكمها جاء غيابياً، بسبب عجزها عن احضار المتهم أمامها أو إجباره على الحضور، كما أنها لم تستطع تنفيذ الحكم الذي أصدرته، لا في ذلك الوقت، ولا في أي وقت لاحق، وهو ما لم يكن يحول دونه غياب المحكوم عليه، خاصة وأن للحكم عقوبة مقررة شرعاً هي أعلى مراتب العقوبات المدنية. وهذا ما أكدته المحكمة العليا/ الدائرة الدستورية في العام 1986 حينما قررت عدم اختصاص المحكمة الشرعية العليا، وقضت ببطلان حكمها، كما سيرد التفصيل لاحقاً.

ما يجب التأكيد عليه هو أن المحاكم الشرعية غير مختصة في إصدار حكم بإعلان ردة أو تكفير أي إنسان من الإسلام. إن تسمية هذه المحاكم محاكم شرعية فيه تضليل وإيهام للناس بأن شريعتهم قائمة. والاسم الصحيح لهذه المحاكم إنما هو “المحاكم الملية” أي أن الحكم الاستعماري كان عندما يحتل بلداً يخصص محاكم لكل ملة من أهل ذلك البلد مسلمين، نصارى، يهود، لتحكم لهم في قضايا الأحوال الشخصية حسب أديانهم، وأسوأ من ذلك فإن ما يسمى عندنا بالمحاكم الشرعية لم يكن ينفذ حكماً من أحكامها إلا بواسطة المفتش الإنجليزي لأن السلطة التنفيذية قد كانت بيده هو لا بيد (القضاة الشرعيين). نقف هنا ونلتقي في الحلقة السادسة.

[email protected]

تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام (4-11)

الوسومالأمين داود الدكتور عبد الله الفكي البشير الزواج الطلاق توفيق أحمد صديق عبد الماجد أبو قصيصة محكمة الردة محمود محمد طه

مقالات مشابهة

  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي (6-11)
  • حجرُ الأحزاب في بركة السياسة
  • مسيرة لقوات الدعم السريع تستهدف حي طيبة شرقي مدينة الأبيض السودانية
  • دراسة تقترح أن ثورانًا بركانيًا مهد الطريق لوباء الطاعون الذي فتك بأوروبا
  • المملكة تحقق اكتفاءً ذاتيًا تجاوز 100% في عدة منتجات غذائية
  • تجليات يُتم الفكر في الفضاء الإسلامي.. الذكرى 57 لمحكمة الردة الأولى وتشكيل التحالف الديني العريض ضد الفهم الجديد للإسلام «5- 11»
  • ختام فعاليات الملتقى الحادي عشر لمناهضة العنف ضد المرأة بمطروح
  • محاضرة حول أصول الفكر المتطرف بمركز الثقافة الإسلامية بدمنهور
  • الدويري: أخشى أن تنقسم الجغرافيا السودانية كما هو الحال في ليبيا
  • الثورة الصناعية .. تحولات في الفكر والعمل والإنتاج