ثمة توازن حذر بين مكتسبات الدول الثلاث: إيران، السعودية، الإمارات. من غير المتوقع أن يحدث تغيير عاجل، ذو دلالة، على الخارطة الثلاثية. دول التفكك لا تنجو بضربة حظ، والحروب الطويلة التي تذهب إلى هدنة، بعد إعياء، إن عادت فإنها تأخذ شكلاً سياسياً لا عسكرياً، أي تعود كمناورة. على نحو ما حدث في ألمانيا بعد الحرب الثانية، احتفظت أربع دول بمكتسباتها من الأراضي الألمانية، ألمانيا الـــ”روسية، أميركية، فرنسية، بريطانية”.
أوراق اليمن صارت، كلها، في الخارج. نتذكر أن مزحة ألقيت علينا قبل عامين، آنذاك ذهب رجال ونساء إلى الرياض ليتداولوا في شأن بلادههم. الصور التي التقطت لهم، وهم على طاولاتهم يدونون ملاحظاتهم الجبارة، كانت باعثة على الطمأنينة. ذهبوا إلى النوم، كما يفعل كل مُغترب، وفي خيالهم أشياء عبقرية سيكتبونها غداً. أفاقوا على رئيس جديد، ولم يتمكنوا حتى الآن من معاينة رئيسهم القديم. الرئيس الجديد “قرار” اتخذه ضباط من الدولتين، ووافق عليه ساسة البلدين. كرجل يحمل درجة الدكتوراه، ويتمتع بذكاء وخبرة، فهو يعرف وظيفته الرئاسية: أن يحرس مكتسبات الدول الثلاث، وأن يعترف بالتشظي. لا تريد الدول الثلاث حرباً هجينة مجدّداً. ثمّة مجال كاف للمناورات والشجار، وحتى للتلويح بالحرب. ولكن لا مكان للحرب. حددت كل دولة مستوى “غير المقبول” في الجزء الخاص بها. أميركا، اللاعب الوحيد من خارج الثلاثي، قبلت اللعبة، بل أرادتها. يمثل النظام الفاشي في صنعاء ورقة رابحة للولايات المتحدة، من خلالها تستطيع أن تقود السعودية في أي اتجاه تريده. ويمثل الاحتلال الإماراتي للأراضي الجنوبية مصلحة إسرائيلية- وبالضرورة أميركية- خصوصاً فيما يتعلق بالنفوذ على البحار والجزر والمياه الدولية.
الصواريخ الإيرانية في صنعاء تمكن أميركا من فرض نفوذها على السياسة السعودية. تمثّل الصواريخ الحوثية مصلحة استراتيجية للإدارة الأميركية. في تقرير مثير كتبه دافيد روزين بيرغ على فورن بوليسي [هو أيضاً المحرر الاقتصادي لصحيفة هآرتس] حول “لماذا لم تقطع الدول العربية علاقتها بإسرائيل” قال إن السعودية تريد، بكل الوسائل، دعماً أميركياً في سبيل الحصول على بنية تحتية نووية، ومن أجل حمايتها بشكل عام من إيران وأذرعها. تستغل أميركا هذه الحاجة السعودية وتبقي على التحديات كما هي، وفي سبيل ذلك أيضاً تأخذها إلى التطبيع مع إسرائيل. ضغط “العالم الشيعي” على السعودية ألقاها في عش النمر. لا بد لذلك الضغط أن يستمر كي لا تأخذ السعودية وضعاً مستقلاً على المسرح الدولي الآخذ في التغيير. على وجه الخصوص مع اندماج إيران في المحور الروسي- الصيني أكثر من أي وقت مضى.
اليمن بلد واقع تحت الاحتلال، أوراقه كلها في الخارج. ستعيش أجيال عديدة تحت هذا المصير. أقصى ما يمكن أن يُنجز راهناً، بجهد داخلي أو توافقات خارجية، هو “تحسين حياة اليمنيين”. فتح طرقات، تسهيل حركة الموانئ، فتح مطارات، بعثات طبية وإغاثية، ربما محاولة لتوحيد العملة، وأمور أخرى ذات طبيعة لوجيستية وليس سياسية. تماماً كما يُقال حين يجري الحديث حول فلسطين. إن تحسين حياة اليمنيين لا يعني، بالمرّة، تمكينهم من دولتهم الموحدة، أو من سيادتهم على بلادهم.
على الواجهة هناك سياسيون يقومون بأدوار بيروقراطية تراعي مصالح المستعمرين وتوافقاتهم. إن كانت إيران قد قبلت أن تتخلى عن مهاجمة مأرب، ضمن مساعيها لبناء بعض الجسور مع الخليج، فهي لن تقبل بتغيير قواعد الاشتباك كأن تحاصر صنعاء وتحشر في الزاوية. ستعود السعودية إلى احترام قواعد الاشتباك كما تفعل في الجنوب مع خصمها الآخر “الإمارات”. تضع الإمارات فيتو على تصدير النفط من مستعمراتها الجنوبية، ولا تملك السعودية سوى احترام ذلك الفيتو، لا بد من توازن ما بين مصالح المستعمرين الثلاثة. أي: تهدئة الملف اليمني وتسكينه حتى يمكن للأخوات الثلاث الانصراف إلى أماكن أخرى ومسائل بعيدة.
مناورة البنك المركزي، وما استتبعته من تهديدات حوث.ية، ستفضي إلى تسوية ما، أي إلى العودة إلى قواعد الاشتباك المتفق عليها بين الدول الثلاث. ومن غير المرجّح أن تشهد المُستعمرات اليمنية تغييراً حقيقياً في الأعوام القادمة. لن يكون ذلك ممكناً بمعزل عن تغييرات كبرى تضرب النظام العالمي وتعيد رسوم خارطة النفوذ والقوة والأقطاب.
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: أمريكا إيران الحوثيون السعودية كتابات مستعمرات مقالات الدول الثلاث
إقرأ أيضاً:
السودان بعد حرب أبريل: من مخاطر التقسيم إلى تفكك الدولة!
الواثق كمير
[email protected]
تورونتو، 9 ديسمبر 2025
المقدمة
منذ انفصال جنوب السودان عام 2011، واجه السودان منعطفًا تاريخيًا حاسمًا أصبحت فيه بنية الدولة أكثر هشاشة من أي وقت مضى. وفي مطلع عام 2013، وفي ظل توتر سياسي متصاعد وأزمة اقتصادية خانقة وتنامٍ ملحوظ للنزاعات في الأطراف، نشرت ورقة تحليلية تناولت مستقبل الدولة السودانية عبر ثلاثة سيناريوهات رئيسية: 1) إما بقاء الوضع حينئذٍ على ما هو عليه مع إصلاحات شكلية، أو 2) انزلاق البلاد نحو تفكك مُتدرّج للدولة، أو 3) الوصول إلى تسوية سياسية شاملة تُعيد تأسيس الشرعية وتمنع الانهيار. (الواثق كمير، “الكرة في ملعب الرئيس: تفكك الدولة السودانية ….السيناريو الأكثر ترجيحاً!”، سودانايل، 11 فبراير 2013).
لم تكن الورقة محاولة للتنبؤ بقدر ما كانت قراءة لبُنية الأزمة ولمنطقها الداخلي، حيث أكدت أن تجاهل متطلبات التسوية التاريخية—باعتبارها المدخل الوحيد لمعالجة جذور الصراع—سيجعل من سيناريو التفكك هو الأكثر احتمالاً. ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، وتغير طبيعة النزاع بشكل جذري، تبرز الحاجة لإعادة ربط اللحظة الراهنة بالسيناريوهات التي عُرضت في 2013، ليس للمقارنة التاريخية فحسب، بل لاستخلاص الدروس العملية التي يمكن أن تُسهم في وقف الحرب وصياغة مسار جديد لإعادة تأسيس الدولة.
تفكك الدولة: السيناريو الأكثر ترجيحاً!
حرب أبريل 2023 لم تكن مجرد تصعيد جديد للصراع، بل شكلت منعطفًا نوعيًا في مسار النزاعات السودانية. ظهور لاعب جديد على المسرح، قوات الدعم السريع، وتحالفه العسكري والسياسي مع جهات محلية وإقليمية، وتسيطره على كامل إقليم دارفور وأجزاء من غرب وجنوب وشمال كردفان وجنوب النيل الأزرق، مع إعلان حكومة ودستور لدولة، جعل الواقع السياسي والجغرافي أكثر تعقيدًا. وبينما الانفصال السلمي قد لا يكون ممكنًا—مخالفًا لما حصل في جنوب السودان—يظل سيناريو تفكك الدولة الأكثر ترجيحاً.
ثلاثة عوامل رئيسة تعزز هذا الترجيح:
التدخل الإقليمي وتضارب المصالح: تشاد وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، بدعم من الإمارات، من جهة، ومصر وإرتريا من جهة أخرى، تشارك في الصراع بشكل مباشر وغير مباشر. خاصة بعد سيطرة الدعم السريع على حقول النفط في منطقة هجليج، وخروج الفرقة العسكرية للجيش السوداني، ودخول الجيش الشعبي من جنوب السودان والتنسيق المشترك مع الدعم السريع لحماية المنشآت الحيوية. هذا التعقيد الإقليمي يجعل من إدارة الأزمة الداخلية دون تفكك الدولة أمراً بالغ الصعوبة.
إمكانية انفجار صراعات محلية جديدة:
بافتراض سيطرة الدعم السريع على كل دارفور وأجزاء من كردفان، وحتى في حال توجهه نحو انفصال هذه المناطق، فإن غياب توافق شعبي وسياسي حول تقرير المصير كما حدث في الجنوب يفتح الباب أمام حرب “أهلية” جديدة بين مجموعات دارفور الأخرى ذات الأصول الأفريقية (الزغاوة، الفور، المساليت، البرتي، الداجو، التنجر، التامة، الميدوب، الفلاتة، القرعان، وغيرهم) وبين حواضن الدعم السريع الاجتماعية من ذوي الأصول العربية. ذلك، بجانب أنّ هناك الحركات المسلحة التي تتباين مواقفها السياسية من هذه الحرب ومستقبل دارفور، مما قد يُنبئِ باستمرار النزاع. هذا الصدام الداخلي يزيد احتمالات التفكك ويؤكد هشاشة الدولة.
الشروخ داخل التحالفات العسكرية والسياسية: تبرز احتمالات تصدع داخل التحالف الحكومي بين الجيش السوداني والحركات المُشكلّة ل “القوة المشتركة”، بجانبِ المجموعات المسلحة الأخرى المُقاتلة مع الجيش في شرق ووسط وشمال البلاد، في سياق التنافس على الأنصبة في السلطة والثروة. بينما ليس من المستبعد أنّ هذا التصدع قد يُصيب التحالف العسكري لقوات الدعم السريع مع الجيش الشعبي شمال وحركات دارفور المنشقة النى انضمت إلى تحالف “تأسيس”، ما ينذر بتفكك الدولة على الصعيد العسكري والسياسي، ويعقد جهود السيطرة على كامل التراب الوطني وإعادة الشرعية، حيث تصبح الولاءات متناقضة والمصالح متضاربة، مما يُضعف القدرة على إدارة الدولة بشكلٍ موحد وفعال.
بالنظر إلى هذه العوامل، يبدو أن السودان بعد أبريل ليس على حافة الانقسام فحسب، بل على طريق خطير نحو تفكك الدولة—الذي طرحته في ورقة 2013— الذي ما زال هو السيناريو الأكثر ترجيحاً بعد حرب أبريل، يعكسه واقعٌ متناميٌ على الأرض.
الخاتمة
ما كشفته الحرب ليس مجرد أزمة عابرة بل تحذير صارخ بأن وحدة الدولة السودانية مهددة على نحوٍ غير مسبوقٍ. فبعد مرور أكثر من عقد على السيناريو الذي رسمته في الورقة التحليلية لعام 2013، حول تفكك الدولة أصبح أقرب من أي وقتٍ مضى، مُعززاً بتدخلات إقليمية مُعقدة، صراعات داخلية حادة بين المكونات المجتمعية والسياسية، وشروخ في التحالفات العسكرية. اليوم لا يمكن معالجة الوضع عبر الإجراءات الشكلية أو الحلول الجزئية. إنّ ترجيح كفة تفكك الدولة يُحتم على القيادات السياسية وصانعي القرار التفكير بجدية في مسارات حل سلمي شامل، يُعيد تأسيس الشرعية، ويضع الأسس لانتقال مستدام يحمي السودان من الانهيار الكامل.
فبدون تبني مسار تسوية سياسية شاملة قادرة على دمج كل الأطراف، واستعادة الدولة من جديد، ستظل المخاطر قائمة، والبدائل محدودة، فيما يعاني الشعب السوداني من آثار النزاع وتشتت السلطة وفقدان المؤسسات. إنّه اختبار حقيقي لقدرة الدولة السودانية على تجاوز أخطر أزماتها منذ الاستقلال.