غزة – تمسح أماني الجماصي دموعها وتكمل القفز في ظل القصف والنار، ومعها آلاف النازحين من حي التفاح شرق غزة يتحاشون رصاص الطائرات وقذائف المدافع، فيمشون بمحاذاة الجدران حينا، ويحتمون بالمناطق المغطاة بالأسقف حينا آخر.

"لأول مرة أبكي بلا وعي، لا أعلم أهو افتقادي لمن كان الأمان وسط الرعب أم هو الخوف من الموت، أم إنه ضلالُ الوجهة؟"، تقول أماني للجزيرة نت.

ووسط هذه الأهوال، لم تلتفت السيدة لثقل ما يحمله جسدها الهزيل، فقد كانت تحمل حقائب بوزن 40 كيلوغراما، رغم أن وزنها لا يزيد عن 45 كيلوغراما!

"ماذا حملتِ معكِ؟" سألناها، فأجابت "حقيبتي الخاصة وحقيبة فيها متعلقات زوجي، خاتمه الذي نزعته من إصبعه قبل دفنه، وقميصه وفردة من حذائه وبقايا ملابس ممزقة انتشلتُها من تحت أنقاض المنزل الذي استشهد فيه".

يصفّي النزوح المستمر ممتلكاتك، فكل مرة تفرّ فيها من مكانك تكلفك ترك جزء من مقتنياتك، تقول أماني "في نزوحنا الرابع من جامعة الأقصى، لم نتمكن من حمل كل أغراضنا لضيق الوقت، فتركنا جزءا كبيرا منها على أمل العودة إليها، ولكن بعد الانسحاب وجدنا الجامعة مدمرة ولم نتمكن من انتشال أيًّا منها".

فالفناء مصير كل ما يتركه النازحون وراءهم، لتصير الحقائب اختزالا للذاكرة والماضي كله، فيها ميراث الراحلين وبقايا بيوت مدمرة لم يبقَ منها إلا الفتات.

من نزوح أهالي حيي التفاح والدرج إلى مناطق غرب غزة قبل أيام (الجزيرة) "يكذب كما يتنفس"

ينتهج جيش الاحتلال مؤخرا سياسة الهجوم المباغت جوا وبرًا على المنطقة التي ينوي استباحتها، فيروّع الناس ويقتحم بيوت الآمنين ويعتقل ويقتل، ثم بعد ذلك كله يعلن بدء عملياته في المنطقة، ويلقي مناشير تظهر نيته الاقتحام وتطالب أهالي الأماكن المحيطة بالإخلاء، ليبرّئ نفسه أمام المحاكم الدولية أنه حذرهم من البقاء.

تقول أماني إن الاحتلال "يكذب كما يتنفس"، فيسمّي مناطق آمنة يلجأ إليها آلاف الغزيين ثم يباغتهم فيها، وهو ما حدث قبل أيام في منطقة الصناعة وتل الهوى، وتضيف "معظم النازحين توجهوا من مناطق شرق غزة إلى غربها استجابة لمطلب الاحتلال، لم يمر ساعتين فقط على وصولنا إلى الغرب حتى باغتتنا الدبابات وحوصرنا في منطقة الصناعة التي أُمرنا بالتوجه إليها".

وتضيف "لم نرتح سوى ساعتين من نزوح التفاح، وإذا بهم يبدؤون بحصار منطقة الصناعة، تكوّرتُ على نفسي واحتضنت ساقي على درج البيت الذي نزحنا إليه، وبدأ الاحتلال بدكّ المنطقة بالأحزمة النارية والرصاص والقذائف".

لا شيء يفعله الخائف في هذا الموقف سوى الدعاء وطلب النجدة من الله. التفتت أماني لأمها وتساءلت "ألا يموت الشهيد بلسعة كلسعة النحل؟"، أجابت أمها "هكذا أُخبرنا"، لتعلّق أماني "يا ليتنا نُلسعها ونموت ونرتاح خيرٌ من هذا الكيّ الذي نحياه".

وهو كيٌّ متواصل للشهر العاشر، تساوت فيه أوجاع القاطنين في الشطر الشمالي من قطاع غزة على اختلاف حكاياتهم.

اليوم الأقسى

في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، تصعد أمل حبيب يوميًّا على ركام الطوابق العلوية من منزلها المدمر، تشعل النار لتطهو ما توفر، وتملأ عينيها بمشاهد المنازل المحيطة.

تقول أمل للجزيرة نت "كل المنازل حولنا مرقّعة إما بالقماش وإما بألواح الخشب والكرتون. ما زلت أتعجب من قدرتنا على التعايش مع الموت أولاً، ومن حبنا للشجاعية ثانيا".

تنزل أمل إلى المخزن الصغير المتبقي أسفل بيتها المدمر، وتعيش فيه بعدما صيّرته قصرا، كما تقول، انتشلت ما سلم من ركام منزلها من مقاعد ممزقة، ودقت الأخشاب المكسّرة وصنعت منها أرففا رتّبت عليها مقتنياتهم، وشقت نافذة في جداره، وتعيش فيه منذ أربعة شهور كما لو أنها لم تفقد شيئا.

تتذكر أمل تفاصيل اليوم الأقسى في حياتها، يوم الاقتحام الثالث للشجاعية، حيث كانت تهمّ بالخروج لتراجع الطبيب بعدما أصابتها جلطة دماغية من الإجهاد البدني والنفسي الذي سببته الحرب. تقول "كنتُ واقفة على باب البيت وإذا بالطائرات والمدافع تفرغ حمولتها علينا، وجدت النساء يجرين بلا شيء، لا يحملن إلا أبناءهن".

مشهدٌ يطفح مرارا، حيث كل البشر يركضون هربا من الموت، يحملون على أكتافهم ما يعينهم على البقاء، جالون مياه وكيس دقيق، ويختزلون حياتهم وماضيهم وذاكرتهم في حقيبة صغيرة.

عادت أمل لأولادها الستة، وصرخت "احملوا ما يعز عليكم تركه واخرجوا"، فلم يكن هناك وقت للمفاضلة، ولم يكونوا يملكون ترف الاختيار. التفت ابنها عمر إلى قطته، حملها وخرج، كل واحد منهم تناول حقيبته وصار يدس فيها ما يجد أمامه.

أما أمل فلم يتبق لها وثائق لتحملها معها، فقد تركتها في نزوحها الرابع حين لم تفكر إلا في أبنائها، فحملت خاتما أهداها لها والدها قبل وفاته، ومسبحةً وصلتها هدية من القدس، وفي كل يدٍ أمسكت بطفل من أطفالها وبدأت بالركض والصراخ معا "يا رب انتقم".

ماذا حملتِ ما عدا ذلك يا أمل؟ سألتها الجزيرة نت، لتجيب "حملت قهرا لو وزع على أمةٍ لأماتها".

وأكملت "لماذا تهاجمنا إسرائيل على فتات الحياة التي رضينا بها؟ لماذا تلاحقنا على الاستقرار الذي نشدناه على أنقاض وأمتار قليلة من بيوتنا؟".

أمل حبيب مع ابنتيها (الجزيرة) من موت إلى آخر

كل النازحين الذين سألناهم عن وجهتهم أجابوا "مش عارفين وين نروح"! وهو أيضا سؤال يطرحونه مع كل منشور يُلقى أو اتصال مسجل لجيش الاحتلال يطالبهم بالإخلاء، فما يبدؤون بفعله حينها هو تجاوز الخطر والخروج من دائرة الموت، ثم حين يصلون لمنطقة "آمنة" يشرعون بالتفكير في المكان الذي سيأوون إليه، مركز إيواء أو غرفة في بيت معارف وأقارب حتى لو كان فيه العشرات.

تقول أمل "نزحت مع 80 شخصا من عائلة زوجي إلى شقتين، اقتسمنا فيهما الغرف، جلست مع أبنائي في غرفة تحوي فرشتين كنا نتناوب على النوم عليهما".

هو هروب من الموت بقذائف المدافع إلى طريقة أخرى من الموت، حيث استهدف الاحتلال المنزل الذي أوت إليه أختها الوحيدة في المنطقة الآمنة بالصواريخ، ثم حاصر المستشفى الذي كانوا يتلقون فيه علاجهم برصاص المُسيرات.

تروي أمل تفاصيل حصار المستشفى المعمداني بطائرات "كواد كابتر" بعد نزوحهم من الشجاعية بأيام، حيث كانت تزور عائلة أختها المصابة.

هالها جرّ أسرّة المرضى، وركض المصابين بمحاليلهم المعلّقة، وروت "حمل رجل ابنته الغائبة عن الوعي وزوجته التي يمتلئ جسدها بالحروق الشديدة والبلاتين، ووضعهما على سرير بعجلات، وصار يدفعه وهو لا يعرف كيف يحميهما من رصاص المسيّرات".

رعب لا يمكن وصفه

رفضت أمل عَدّ المرات التي نزحت فيها لأنها لا تريد نبش الذاكرة ونكأ الجرح. وقالت "نزحنا أكثر من 10 مرات، ولا أريد حصرهم وتذكر أحداثهم التي تدمي القلب".

تحاول إسرائيل الضغط على سكان شمال القطاع للنزوح جنوبا، مدعيةً أنه منطقة آمنة، وحين رفضوا ذلك اختيارًا أُجبروا على ذلك عنوة، كما حدث مع عائلة غزية فضّلت عدم كشف هويتها.

يقول أحد أبناء العائلة، للجزيرة نت، إنه عقب اقتحام الاحتلال منزلهم في شارع الصناعة، وبعد تعريتهم والتحقيق معهم عدة ساعات وضربهم، أُمروا بالتوجه إلى وسط قطاع غزة دون أن يأخذوا شيئا من مقتنياتهم.

ويكمل "مشينا 3 ساعات مع أطفالنا ونسائنا، ولم نمنح خيار الراحة أو الجلوس، كانت الدقيقة في الطريق كساعة، والرعب الذي عشناه لا يمكن وصفه".

وحين وصلوا الحاجز تعرضوا للشتم والسب بألفاظ نابية من جنود الاحتلال، ثم التقطوا لهم صورا وهم يستلمون منهم زجاجات مياه، في "أكذوبة جديدة تروّج أن الطريق كان آمنا وسهلاً، ولم نتعرض فيه للتفتيش والإهانة والضرب"، كما يقول.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات من الموت

إقرأ أيضاً:

دراسة: الجوز يدعم صحة الدماغ ويحافظ على الذاكرة

أظهرت دراسة حديثة أن تناول الجوز بانتظام يمكن أن يكون له تأثير كبير على صحة الدماغ والذاكرة، لما يحتويه من عناصر غذائية مهمة مثل الأحماض الدهنية أوميجا 3، الفيتامينات، والمعادن، وأكد الباحثون أن الجوز يساعد على تعزيز وظائف المخ، تحسين التركيز، وتقليل خطر التدهور العقلي مع التقدم في العمر، مما يجعله غذاءً مثاليًا لدعم الصحة العقلية.

ليلة لن تتكرر.. كاتي بيري نجمة تتلألأ تحت أضواء الأهرامات في أولى حفلاتها بمصر دليل مرضى القلب لمواجهة فيروسات الشتاء والحفاظ على الصحة أبرز الأمراض التي تهدد مرضى القلب خلال فصل الشتاء مع دخول فصل الشتاء.. تحذير لمرضى القلب من مخاطر البرد "عاهة هتفضل معايا طول عمري".. رحمة حسن تنهار بعد خطأ طبي فادح (صور صادمة) بيصلي على كرسي.. أول ظهور لتامر حسني بعد استئصاله جزء من الكلى (صور) قائمة المشاركين ‏بمنصة الأفلام بمهرجان القاهرة الدولي للفيلم ‏القصير ‏ فيروس ماربورج.. تهديد وبائي جديد يلوّح في أفق جنوب إفريقيا وإثيوبيا بعد الهجوم عليها.. بدرية طلبة تتوعد المسيئين بالقانون حسام حبيب يحسم الجدل حول صورته مع شيراز.. "شائعات ارتباطنا غير صحيحة"

وأوضح التقرير أن الأحماض الدهنية أوميجا 3 الموجودة في الجوز تلعب دورًا رئيسيًا في تعزيز مرونة أغشية الخلايا العصبية وتحسين التواصل بين الخلايا الدماغية، وأشارت التجارب السريرية إلى أن الأشخاص الذين أدمجوا الجوز في نظامهم الغذائي اليومي لاحظوا تحسنًا ملحوظًا في التركيز والذاكرة مقارنة بمن لم يتناوله.

 

وأشار الباحثون إلى أن الجوز غني بمضادات الأكسدة، مثل فيتامين E والفلافونويدات، التي تحمي الدماغ من التلف الناتج عن الجذور الحرة وتقلل من الالتهابات المزمنة، وأكدت الدراسات أن هذه الخصائص تساعد في الوقاية من الأمراض العصبية مثل مرض الزهايمر والخرف، وتعزز القدرة على التفكير الواضح واتخاذ القرارات اليومية بشكل أفضل.

 

وأوضح الخبراء أن أفضل طريقة للاستفادة من فوائد الجوز هي تناوله نيئًا أو محمصًا قليلًا دون إضافة ملح أو سكر، مع الالتزام بالكمية اليومية المعتدلة التي تتراوح بين 20 إلى 30 غرامًا، أي ما يعادل حفنة صغيرة، كما يمكن إضافته إلى السلطات، الزبادي، أو الحبوب للحصول على قيمة غذائية أكبر دون زيادة سعرات حرارية كبيرة.

 

وأكد التقرير أن الجوز لا يدعم الدماغ فقط، بل يساهم أيضًا في تحسين صحة القلب والأوعية الدموية، وخفض مستويات الكوليسترول الضار، وتحسين ضغط الدم بفضل احتوائه على الأحماض الدهنية الصحية والمعادن مثل المغنيسيوم والنحاس.

 

ودمج الجوز ضمن النظام الغذائي اليومي يمثل خطوة بسيطة لكنها فعالة لدعم صحة الدماغ، الحفاظ على الذاكرة، تعزيز التركيز، وتقليل خطر الأمراض العصبية، مما يجعله عنصرًا طبيعيًا قيّمًا يمكن الاعتماد عليه يوميًا لتعزيز الصحة العقلية والجسدية على حد سواء.

مقالات مشابهة

  • جنود وضباط المنطقة العسكرية الأولى يطالبون الحكومة بدعم عاجل بعد نزوحهم إلى مأرب
  • الهباش: الجرائم التي يرتكبها الاحتلال في فلسطين تزيد موجة العنف
  • مستشار الرئيس الفلسطيني: الجرائم التي يرتكبها الاحتلال بفلسطين تزيد من موجة العنف
  • هل تتغيّر كتب المدارس قريبا؟ أورانوس ونبتون قد يكونان كوكبين صخريين
  • خبراء علم الأنساب يساعدون الأميركيين على تتبّع جذورهم في إيطاليا
  • كانديس أوينز.. اليمينية السوداء التي ناصرت فلسطين وعادت الصهيونية
  • عبر الخريطة التفاعلية.. ما أهمية المنطقة التي وقع فيها كمين تدمر؟
  • من هو رائد سعد الذي اغتالته إسرائيل بعد 35 عاما من المطاردة؟
  • نجا عدة مرات.. من هو رائد سعد الذي أعلنت “إسرائيل” اغتياله في غزة؟
  • دراسة: الجوز يدعم صحة الدماغ ويحافظ على الذاكرة