السلام وما أدراك ما السلام:
السلم فضيلة الفضائل والحرب كريهة الكرائه.
نعم للسلام ولكن السلام الذي يستحق إسمه ويستحق نعم، نعمين، هو السلام الذي يمنع عودة الحرب – وفي سياقنا هذا عدم عودة الحرب يعني سيادة الدولة وتفكيك الميليشيات في أجل معلوم وبخطوات معلومة حسب خارطة طريق معلومة.
المخدرات الموضعية – التي توفر هدنة لطرف أو أطراف لتعيد ترتيب صفوفها وتعزز سلاحها العسكري والسياسي والمالي والدبلوماسي – للإنقضاض مرة أخري – لا تستحق أسم السلام لانها تعد بعودة حرب أشد ضراوة.
نعم لكل سلام تختفي أو تضعف بشروطه إحتمالات عودة الحرب. وهذا هو معيارنا الوحيد – وما عدا ذلك قابل للتفاوض في نسبية الأشياء وتوازنات القوة في لعبة لا نملك كل كروتها في عالم لا يرحم.
واهم من يعتقد أن الحلف الجنجويدي وسادته في الخارج سيذهبون بسهولة (بي أخوي واخوك). وواهم من يسعي لتحقيق كل شروطه واحلامه النبيلة وكانه أنتصر بالضربة القاضية.
وتصبح القضية قضية أولويات: ما هي شروطنا الأساسية التي لن نقبل إتفاق “سلام” مضروب في غيابها؟ وما هي شروطنا النبيلة التي نقبل التفاوض فيها للقاء في منتصف بحكم الضرورة وحقن ما تبقي من دماء؟
معتصم اقرع
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
السلام على أنقاض الحرب: أطروحة ترامب المقلوبة
أثار الرئيس الأمريكي ترامب في أعقاب الضربة الجنونية التي نفذتها طائرات بي ـ2 الشبحية على ثلاث منشآت نووية إيرانية في «نطنز» و«فوردو» و«أصفهان» مفارقة عجيبة لمصطلح «السلام» تتجاوز الحرب الحالية إلى مستوى من الفهم قد يسود العالم أجمع.. وتكشف الدلالة الترامبية للسلام عن ملامح حالة سياسية جديدة قد تتسيد العالم في المرحلة المقبلة.
كتب ترامب قبل أن تغادر طائراته الشبحية سماء الشرق الأوسط تدوينة على منصته يقول: «حان الآن وقت السلام»! وليس السلام هنا نهاية للحرب كما يوحي التعبير، بل هو إعلان عن بدئها، فترامب يدرك أن القصف هو الشرارة لا الخاتمة. والواضح أن مفهوم السلام الذي يعنيه ترامب في عبارته المكتوبة بوعي هو لحظة تتويج القوة، وهذه مفارقة لا يمكن تجاوزها في فهم المرحلة القادمة.. السلام الذي يعلن فوق رماد القصف لا على طاولة المفاوضات، والسلام الذي لا ترعاه الدبلوماسية ولكن تفرضه القنابل الخارقة للدروع.
كانت الولايات المتحدة تدير علاقتها مع إيران خلال العقود الثلاثة الماضية عبر الضغط الاقتصادي تارة وعبر أدوات التفاوض والحوار المتعدد الأطراف تارة أخرى. وحتى عندما بلغت حافة الصدام في أحيان كثيرة، ظل الرؤساء الأمريكيون يقدّرون تكلفة الحرب مع دولة ذات عمق حضاري وجغرافي وكتلة سكانية ضخمة مثل إيران.. لكن ترامب، الذي وصف العملية بـ«النجاح العسكري الباهر»، لم ينتظر حتى تصل نتائج الضربة إلى الميدان، فتحدّث كما لو أن الحرب قد انتهت، وأن «السلام» قد تحقق بمجرد الضغط على الزناد.
ما يثير القلق العالمي الآن ليس تجاوز ترامب لحوار السلام الذي كانت ترعاه سلطنة عُمان وكانت نتائجه مبشرة بدلالة تصريحات ترامب نفسه، ولكن إعادته لتعريف السلام، ليصبح نتيجة للقصف والتدمير لا نتيجة للاتفاقيات المنبثقة عن الحوارات والتوافقات الدبلوماسية.
لا ينطلق السلام وفق مفهوم ترامب من المنطق العماني الذي يراهن على أهمية الحوار في بناء التفاهمات الدولية وحل الخلافات السياسية، ولا حتى من منطق المفكر الغربي كانط الذي يدعو لسلام دائم عبر القانون، ولا حتى ضمن مفهوم «الآباء المؤسسين» لأمريكا الذي يبدو السلام في فكرهم نقيضا للقوة العسكرية وهو ليس، بالتأكيد، مشروعا للهيمنة. والواضح أن مفهوم السلام الذي تحدّث عنه ترامب أقرب ما يكون إلى أطروحة صامويل هنتنغتون حول «صدام الحضارات»، حيث لا يُبنى السلام على تفاهم حضاري، بل على هيمنة طرف على آخر، وعلى إقرار بحدود القوة بدل تفاهم العدالة. ودعا هنتنغتون في أطروحته تلك إلى إدارة التوتر بين الحضارات، لا لتجاوزه، وهكذا يبدو ترامب حين يعلن السلام في لحظة تفوق عسكري، لا في لحظة نهاية صراع.
وما يزيد من خطورة هذا الانحراف أن ترامب لم يكتفِ بإعادة تعريف السلام، بل تجاوز بذلك أيضا التقاليد الدستورية الأمريكية التي تمنح الكونجرس صلاحية إعلان الحرب، لا الرئيس وحده. لقد تصرف كقائد أعلى يستخدم القوة بلا تفويض تشريعي، ما يعيد إلى الأذهان تحذيرات «الآباء المؤسسين» من عسكرة القرار السياسي وانزلاق الجمهورية إلى حكم الفرد المتفرد بالقرار.
والمفارقة التي يدركها ترامب تماما أن ما قصفه ليس المنشآت النووية، ولكن أحد آخر خطوط الدفاع المعنوي لإيران؛ فالقيادة الإيرانية كانت تربط هذا المشروع بفكرة السيادة والكرامة.. وإذا كان ترامب يدرك تماما أن الرد الإيراني قادم لا محالة فإن طريق السلام بات أكثر تعقيدا، فيما كان قاب قوسين أو أدنى من التحقق في مسقط.
إن إعادة تعريف مفهوم «السلام» وفق أطروحة ترامب من شأنها أن تقلب معايير الشرعية الدولية، وتنذر بتكرار نموذج القوة بديلا للقانون في أماكن كثيرة في العالم.
وقال الرئيس الأمريكي الأسبق دوايت أيزنهاور، محذرًا: إن قرار الحرب أخطر من أن يُترك للعسكريين وحدهم؛ لكن ترامب يثبت أن السياسيين أيضا -حين يجنحون للقوة- لا ينبغي أن تُترك لهم الحرب دون رادع دستوري أو وازع أخلاقي.
إن الأخطر في ما حدث، ليس الضربة ذاتها، رغم خروجها على كل القوانين، بل إعادة تشكيل وعي عالمي جديد يُسوِّق الحرب بوصفها مدخلا للسلام، ويقلب المفاهيم لتغدو القنابل وسيلة تفاهم. وفي اللحظة التي تغيب فيها طاولات التفاوض، وتحضر الطائرات الشبحية، يصبح السلام أكثر المفردات هشاشة في زمن القوة. وما لم يُستدرك هذا الانزلاق المفاهيمي، فإن «السلام» ذاته قد يتحول إلى كلمة حرب.