جامعة الدول العربية وحركات التحرر في المغرب العربي.. قراءة في كتاب (1 من2)
تاريخ النشر: 30th, August 2024 GMT
يتناول كتاب "جامعة الدول العربية وحركات التحرر في المغرب العربي 1952- 1962- (الجزائر أنموذجاً)" لمؤلفه رشيد ولد بوسيافة، دور جامعة الدول العربية في دعم حركات التحرر من الاستعمار في المغرب العربي، ويركز بشكل خاص على الجزائر.
الكتاب هو في الأصل أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في التاريخ وصدرت عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة عام 2021.
يستند المؤلف بوسيافة في كتابه إلى وثائق جامعة الدول العربية من التقارير الدورية لأمانتها العامة، إلى باقي وثائق الجامعة، من قرارات، ولوائح، ومناشير، ورسائل، وبيانات، ومضابط جلسات.
يشتمل الكتاب على أربعة فصول. الفصل الأول، المعنون بـ"العمل العربي والمغاربي المشترك: النشأة والتطور"، يخصصه المؤلف للحديث عن ظروف تأسيس جامعة الدول العربية ونصوصها الأساسية، وعلى مكتب المغرب العربي الذي أُسس في عام 1947، وهو كان له دور بارز في دعم حركات التحرر في المغرب العربي.
يكشف الباحث أن فكرة إنشاء جامعة الدول العربية والعمل العربي المشترك كانت بريطانية في الأساس، عندما دعا وزير الخارجية البريطاني أنتوني إيدن أنذاك إلى إقامة كيان يوحّد العرب، ويعزّز الروابط الاقتصادية والثقافية بينهم. إذ لم يكن للعرب كيان موحّد يتحدث باسمهم ويدافع عن مصالحهم إلا بعد عام 1945، حيث كان قبل ذلك نصف الأقطار العربية يرزح تحت الاستعمار، ونصفها الآخر عبارة عن دول فتية ضعيفة عسكرياً واقتصادياً. لكن تداعيات الحرب العالمية الثانية أثمرت في نمو التحركات القومية والوطنية ونشاط المقاومة ضد الوجود الاستعماري، وهو ما أسفر عن نيل عدد من الدول العربية استقلالها. هنا برزت الحاجة إلى الوحدة بين الأقطار العربية وإيجاد نوع من التوازن بين القوى الأساسية فيها، فضلاً عن الحاجة إلى التبادل التجاري وانتقال الأشخاص، وخاصة بين دول المشرق العربي، ما وفر الأساس المادي للوحدة، بينما كان الأساس الروحي والثقافي والتاريخي متوافراً.
يكشف الباحث أن فكرة إنشاء جامعة الدول العربية والعمل العربي المشترك كانت بريطانية في الأساس، عندما دعا وزير الخارجية البريطاني أنتوني إيدن أنذاك إلى إقامة كيان يوحّد العرب، ويعزّز الروابط الاقتصادية والثقافية بينهم.يربط أغلب الدارسين إنشاء جامعة الدول العربية بالخطاب التاريخي لوزير الخارجية البريطاني أنتوني أيدن في 29 مايو 1941، الذي قال فيه: "إن العالم العربي قد خطا خطوات عظيمة، منذ التسوية، التي تمت عقب الحرب العالمية الماضية(يقصد الأولى). ويرجو كثير من مفكري العرب للشعوب العربية درجة من درجات الوحدة، أكبر مما تتمتع به الآن. وإن العرب يتطلعون إلى نيل تأييدنا في مساعيهم نحو هذا الهدف. ولا ينبغي أن نغفل الرد على هذا الطلب، من جانب أصدقائنا. ويبدو أنه من الطبيعي، ومن الحق، تقوية الروابط الثقافية والاقتصادية بين البلاد العربية، وكذلك الروابط السياسية أيضاً... وحكومة جلالته سوف تبذل تأييدها التام لأي خطة تلقى موافقة عامة".
يرى بوسيافة أن هذا التصريح كان حافزاً للدول العربية المستقلة أنذاك، كي تتحرك في اتجاه تحقيق الودة، مستفيدة من الدعم البريطاني الذي أكده إيدن مجدداً بعد عامين. بل إن البريطانيين فرضوا على ملك مصر فاروق الأول حكومة لحزب الوفد في 4 فبراير 1942 برئاسة مصطفى نحاس الذي أضحى عراب الوحدة العربية، إذ قام بوضع تصور أولي لعمل عربي مشترك حيث دعا كلاً من رئيس الوزراء السوري جميل مردم بك ورئيس الكتلة الوطنية اللبنانية بشارة الخوري، للتباحث معهما في القاهرة بشأن فكرة إقامة جامعة عربية لتوثيق العرى بين البلدان العربية.
في الخامس من أغسطس 1944، وجهّت مصر الدعوة إلى العراق وشرق الأردن والسعودية وسوريا ولبنان واليمن، وهي دول نالت استقلالها. وأسفرت المشاورات بشأن الوحدة عن الإعداد لصيغة لتحقيق الوحدة العربية عرفت ببروتوكول الإسكندرية. في 7 أكتوبر 1944، صادقت على البروتوكول خمس دول هي العراق وسورية ولبنان ومصر وشرق الأردن، وتخلفت عن توقيعه السعودية واليمن، اللتين وقعتا عليه بعد أشهر قليلة.
يعد نص هذا البروتوكول الأرضية التي بني عليها ميثاق جامعة الدول العربية حيث شكلت لجنة لصياغة الميثاق، والتي اقترحت ثلاث صيغ للتكتل العربي الجديد: أولاها التحالف العربي، ثانيتها الاتحاد العربي، الجامعة. وقد رجحت اللجنة التحضيرية الاتجاه الداعي إلى وحدة الدول العربية المستقلة، بما لا يمس استقلالها وسيادتها، واستقرت على تسمية التكتل بـ"جامعة الدول العربية".
في 22 مارس 1945، وقعت الصيغة النهائية لنص ميثاق جامعة الدول العربية من رؤساء حكومات خمس دول عربية هي: لبنان وسورية والعراق وشرق الأردن ومصر. ثم وقعت السعودية في وقت لاحق. وقد تألف الميثاق من 20 مادة حددت مقاصد الجامعة العربية والأطر الأساسية لنظام عملها. وحدد الميثاق مجالات التعاون بين الدول المشاركة بما يلي:
-الشؤون الاقتصادية والمالية، وضمنها التبادل التجاري والجمارك والعملة، وشؤون الصناعة والزراعة.
ـ شؤون المواصلات، وضمنها سكك الحديد والطرق والنقل الجوي والبحري والبرق والبريد.
ـ شؤون الثقافة.
ـ شؤون الجنسية والجوازات والتأشيرات وتسليم المجرمين.
ـ الشؤون الاجتماعية.
-ـ الشؤون الصحية.
معاهدة الدفاع المشترك
في 13 أبريل 1950، وقعت على معاهدة الدفاع المشترك سبع دول عربية هي: الأردن وسوريا والعراق ولبنان ومصر واليمن والسعودية. ودخلت المعاهدة حيز التنفيذ في 25 أغسطس 1952. وجاء في مادتها الثانية أن كل اعتداء مسلح يقع على أي دولة أو أكثر أو على قواتها، هو اعتداء على جميع الدول العربية الموقعة على المعاهدة.
يرى الباحث بوسيافة أن هذه المعاهدة كانت خطوة جبارة في مسيرة العمل العربي المشترك، غير أنها لم تفعّل، ولو طبقت على أرض الواقع لكان لها أثر كبير في حسم كثير من الحوادث العسكرية التي ألمّت بالأمة العربية.
تتشكل الجامعة العربية من ثلاثة فروع رئيسية هي: مجلس الجامعة واللجان الدائمة والأمانة العامة، إضافة إلى أجهزة ومنظمات متخصصة تابعة لها.
موقف الجامعة العربية من الاستعمار
اتّبعت الجامعة العربية منذ تأسيسها خطاً معادياً للاستعمار. وكانت لأول أمين عام للجامعة المناضل ضد الاستعمار الإيطالي في ليبيا، عبد الرحمن عزام باشا، مساهمته في هذا التوجّه. وظهر ذلك جلياً في جميع خطبه ونداءاته. ففي نداء موجّه إلى شعوب المغرب العربي، قال عزام باشا: "لقد كانت قضية شمال إفريقيا مجهولة للعالم، ما أعان المستعمرين على استغلالهم وجبروتهم، وقد رأت الجامعة العربية منذ نشأتها أن هذه الحالة خطرة، لا بد لها من نهاية".
كانت تهاجم الجامعة في عدد من المحافل الدولية وفي إعلامها.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، نقل قادة الحركة الوطنية المغاربية نشاطهم من برلين إلى دمشق ثم القاهرة حيث أسست جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية، التي ساهمت في توحيد نشاطات الحركة الوطنية المغاربية. وفي عام 1946، قام يوسف الرويسي، بمساعدة من أعضاء من حزب البعث السوري، بإنشاء مكتب المغرب العربي في دمشق، الذي استقطب قادة المغرب العربي. وبعد اختيار القاهرة مقرًّا لجامعة الدول العربية، تنادى زعماء الحركة الوطنية في المغرب العربي إلى مؤتمر في أبريل 1947، وناقشوا فكرة توحيد الكفاح، واتُّخذ قرار العمل على استقلال تونس والجزائر والمغرب، وعدم الاعتراف بالاحتلال الفرنسي لهذه الأقطار.
وانتهى المؤتمر إلى توحيد متطلبات حركات الكفاح في الأقطار الثلاثة في مكتب واحد، هو مكتب المغرب العربي عام 1947، الذي تكون من ممثلي أحزاب المغرب العربي التس كانت تطالب بالاستقلال، وهم الحبيب بورقيبة والطيب سليم من تونس، وعلال الفاسي ومحمد بن عبود من المغرب، ومحمد خيضر والشاذلي المكي من الجزائر، وأحمد السويعي وبشير السعداوي وطاهر الزاوي وعمر الغويلي والفيتوري السويحلي من ليبيا.
في 13 أبريل 1950، وقعت على معاهدة الدفاع المشترك سبع دول عربية هي: الأردن وسوريا والعراق ولبنان ومصر واليمن والسعودية. ودخلت المعاهدة حيز التنفيذ في 25 أغسطس 1952. وجاء في مادتها الثانية أن كل اعتداء مسلح يقع على أي دولة أو أكثر أو على قواتها، هو اعتداء على جميع الدول العربية الموقعة على المعاهدة.واشتمل نظام المكتب على ثلاثة أقسام هي: القسم المغربي، والقسم الجزائري، والقسم التونسي.
ومن بين إنجازات المكتب تحرير المناضل المغربي عبد الكريم الخطابي الذي كانت فرنسا تنقله إلى المنفى في سفينة عبر قناة السويس وتم تحريره عبر إقناعه بالتقدم باللجوء السياسي في مصر.
وقد قام المكتب في يوليو 1948 بتأسيس لجنة تحرير المغرب العربي، برئاسة الخطابي، وكان له دور في جمع كلمة المغاربة من خلال زعمائهم وممثليهم في مارس 1951، حيث جرى اعتماد ميثاق وقعوه جميعاً، رفضوا فيه الانخراط في الوحدة الفرنسية واتفقوا على الأخذ بسياسة المراحل. ويتحدث المؤلف عن انطلاقة قوية لمكتب المغرب العربي وأفول تدريجي نتيجة خلافات الزعماء.
جيش تحرير المغرب العربي
جرت محاولات عدة لتنسيق الكفاح المسلح في المغرب العربي بجهود خاصة من عبد الكريم الخطابي الذي أرسل بعثات إلى تونس والجزائر والمغرب من أجل تنظيم كفاح مسلح مشترك بين الحركات الوطنية في هذه الأقطار. امتد هذا الكفاح الموحد من عام 1954 إلى عام 1956 واتسمت بداياته بتنسيق ثلاثي منظم بين قادة حركات المقاومة والتحرير في الأقطار الثلاثة. وقد توّج هذا الكفاح بتأسيس جيش تحرير المغرب العربي الذي أضحى بداية منذ عام 1955 الإطار الجامع للحركات المسلحة في الدول الثلاث.
ويرى الباحث بوسيافة أن "فكرة العمل العربي والمغاربي المشترك بدأت ملهمة ووهّاجة، وأن الآباء الأولين الذين أسّسوا الجامعة، ومن بعدها مكتب المغرب العربي، كانوا يحلمون بكيان واحد للأمة العربية، وذلك واضح من خلال الوثائق التأسيسية لجامعة الدول العربية، بدءاً ببروتوكول الإسكندرية، مروراً بالنسخة التاريخية لميثاق الجامعة، وصولاً إلى باقي الوثائق، خصوصاً معاهدة الدفاع المشترك؛ فالعمل الميداني لم يكن في مستوى الشعارات التي رُفعت، والنتائج المحققة كانت أقل كثيراً من الأهداف التي رُسمت في البداية".
الجامعة وقضايا التحرر في ليبيا وتونس والمغرب
"جامعة الدول العربية وقضايا التحرر في ليبيا وتونس والمغرب"، هو عنوان الفصل الثاني من الكتاب حيث يتناول المؤلف بوسيافة دور جامعة الدول العربية في دعم الدول الثلاث للحصول على استقلالها.
يبدأ الباحث بتناول القضية الليبية التي كانت الأولى المطروحة أممياً بواسطة الجامعة العربية. وحلّت بعدها تونس والمغرب على التتالي، لتأتي في الأخير القضية الجزائرية التي ستصبح القضية المركزية للجامعة، إلى جانب القضية الفلسطينية.
بدأت إيطاليا تتغلل في داخل ليبيا في الفترة بين عامي 1898 و1904، حيث كانت ليبيا تحت الوصاية العثمانية. وفي الأول من سبتمبر 1911، بدأ الغزو الإيطالي لليبيا، فانتظم الليبيون في كفاح مسلح في كل من طرابلس وبرقة، وشكلت القوة العثمانية المتبقية النواة الأولى للمقاومة الليبية.
قام عبد الرحمن عزام باشا بدور كبير في هذه المرحلة من تاريخ ليبيا حيث اختير ضمن هيئة رباعية تولت إدارة ليبيا عام 1918، اضطرت الحكومة الإيطالية للقبول بهذا الوضع وعقدت صلح بينادم معها في يونيو 1919.
يخلص الباحث بوسيافة إلى أن الجامعة العربية أصيبت بخيبة أمل كبيرة بسبب المصير الذي آلت إليه القضية الليبية جرّاء تداخل المصالح الخارجية، ولا سيما النفوذ البريطاني، والاستقلال المنقوص الذي قبل به الليبيون، في ظل نظام الحكم الفدرالي، الذي لا يتماشى مع الأفكار القومية الوحدوية التي تدعو إليها الجامعة العربية، إذ ظهرت خيبة الأمل هذه جليّةً في تقارير الأمين العام في أثناء تناوله هذه القضية.في الدورة الثانية عشرة لمجلس الجامعة العربية، المنعقدة في مارس 1950، استرعت قضية المستعمرات الإيطالية وضمنها ليبيا، اهتماماً كبيراً بعد مناقشة الأمم المتحدة هذه القضية. فكان قد صدر القرار الأممي التاريخي في نوفمبر 1949، الذي أقر بأن طرابلس وفزان وبرقة ستكون دولة ذات سيادة، وأن يكون ذلك قبل يناير 1952، وأن يقوم ممثلو السكان في هذه المناطق بإقرار دستور واختيار جمعية وطنية. كما كلّفت الأمم المتحدة مندوباً سامياً، هو أدريان بلت، يعاونه مجلس. وقام بلت بعد ذلك بدور مهم في استقلال ليبيا، حيث عقد سلسلة من المناقشات مع الناس في جميع أنحاء ليبيا، للاستماع إلى أفكارهم. وقد ساعدت الجامعة العربية بلت بلقاء جماعة السياسيين الليبيين فناقشهم واستمع إلى آرائهم ونصحهم في التوافق على اختيار ممثليهم.
أفرد الأمين العام للجامعة العربية تقريراً خاصاً بليبيا في الدورة الـ12 للجامعة عام 1950، تحت عنوان "جهود الجامعة العربية في استقلال ليبيا"، عرض فيه اهتمام الجامعة بالقضية الليبية منذ إنشائها. إضافة إلى جهود الجامعة الدبلوماسية في الأمم المتحدة والدول الكبرى، من أجل استقلال ليبيا، كانت الجامعة تبذل جهوداً أخرى لجمع الليبيين حول كلمة واحدة، وتهيئة الرأي العام الليبي لاستقبال لجتة التحقيق الدولية برأي موحّد، هو طلب الاستقلال والوحدة.
في 2 ديسمبر 1951، اجتمعت اللجنة التأسيسية، أو لجنة الستين، في طرابلس، واقترحت أن يكون النظام الليبي ملكياً دستورياً اتحادياً ديمقراطياً. واختير أمير برقة إدريس السنوسي ملكاً على ليبيا واعتلى العرش في 24 ديسمبر من العام نفسه. وبنيل ليبيا استقلالها، توقفت معاملتها في جامعة الدول العربية كواحدة من قضايا التحرير.
يخلص الباحث بوسيافة إلى أن الجامعة العربية أصيبت بخيبة أمل كبيرة بسبب المصير الذي آلت إليه القضية الليبية جرّاء تداخل المصالح الخارجية، ولا سيما النفوذ البريطاني، والاستقلال المنقوص الذي قبل به الليبيون، في ظل نظام الحكم الفدرالي، الذي لا يتماشى مع الأفكار القومية الوحدوية التي تدعو إليها الجامعة العربية، إذ ظهرت خيبة الأمل هذه جليّةً في تقارير الأمين العام في أثناء تناوله هذه القضية.
*باحث وأستاذ جامعي لبناني.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب كتاب عرض قطر كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة معاهدة الدفاع المشترک جامعة الدول العربیة الجامعة العربیة من فی المغرب العربی القضیة اللیبیة حرکات التحرر العمل العربی التحرر فی د العرب
إقرأ أيضاً:
تجسيد "روح باندونغ" في العلاقات الصينية العربية
ووي وي يانغ **
قبل سبعين عامًا، عقدت دول آسيا وإفريقيا مؤتمرًا تاريخيًا في باندونغ بإندونيسيا؛ حيث طُرحت "المبادئ العشرة لباندونغ" الشهيرة، التي أكدت على المساواة في السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والتعايش السلمي، والتعاون المتبادل المنفعة. وقد شكلت هذه المبادئ راية روحية للدول النامية من أجل التضامن والتقوية الذاتية، والسعي من أجل الاستقلال الوطني والتنمية.
إن روح باندونغ، التي تتمحور حول " التضامن، التعاون، التنمية"، لم تقتصر على توحيد إرادة دول آسيا وإفريقيا خلال فترة الحرب الباردة، بل لا تزال تتجلى بأشكال جديدة في التفاعلات والتعاون بين الصين والدول العربية في هذا العصر الجديد الذي يشهد تغيرات متسارعة على الساحة الدولية.
عند انعقاد مؤتمر باندونغ، كانت غالبية الدول العربية في المرحلة المفصلية من كفاحها للتخلص من الاستعمار وتحقيق الاستقلال. وقد كانت الصين من أوائل الدول الكبرى التي دعمت نضال الشعوب العربية ضد الاستعمار، ووقفت بثبات في الجانب الصحيح من التاريخ، مما شكل نقطة انطلاق للصداقة الصينية العربية على أساس التجربة المشتركة في مقاومة الاستعمار والرغبة في التنمية.
حتى اليوم، ما زالت المبادئ التي نادت بها روح باندونغ، مثل الاستقلال الذاتي، والاحترام المتبادل، والثقة المتبادلة، والمساواة والمنفعة المتبادلة، متجذرة بعمق في العلاقات الصينية العربية. سواء كان ذلك في ظل الاضطرابات الإقليمية أو في ظل تباطؤ الانتعاش الاقتصادي العالمي، فإن الجانبين الصيني والعربي يلتزمان دائمًا بالحوار أولًا، والتعاون أساسًا، والتنمية أولوية، ويدافعان معًا عن الحقوق المشروعة للدول النامية، ويصونان التعددية والعدالة الدولية.
بالنسبة إلى الدول العربية، فإن الالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية ورفض الهيمنة يشكل ضمانة مهمة لاستقلالية القرار الدبلوماسي. أما بالنسبة إلى الصين، فإن تعزيز التضامن والتعاون مع العالم العربي في هذه المرحلة الحرجة من إعادة تشكيل النظام الدولي، يشكل مسارًا واقعيًا للمساهمة في بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية.
في السنوات الأخيرة، تعمقت الثقة السياسية المتبادلة بين الصين والدول العربية. في مواجهة القضايا الساخنة في المنطقة والاهتمامات المتعلقة بالسيادة والأمن، تلتزم الصين دائمًا بالموقف العادل، وتدافع عن الدول العربية في المحافل المتعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة، وتعارض التدخلات الخارجية، وتدعو إلى حل النزاعات من خلال الحوار والمفاوضات. وفي ظل تصاعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتطور أزمة السودان، وتدهور الأوضاع في اليمن وليبيا، لعبت الصين دور الوسيط النشط، وطرحت "الحلول الصينية"، التي حظيت بالإشادة الواسعة من العالم العربي.
إن قوة التضامن لا تظهر فقط في المجال الدبلوماسي، بل تتجلى أيضًا في بناء الآليات المتعددة الأطراف. فمنذ انعقاد القمة الصينية العربية الأولى في الرياض عام 2022، تم إدراج مفهوم "مجتمع المصير المشترك الصيني العربي" في الوثائق السياسية المشتركة، مما منح التضامن الصيني العربي بُعدًا استراتيجيًا أوضح.
وفي الوقت الراهن، دخل التعاون الصيني العربي فترة "الازدهار الذهبي". ومع التوافق العميق بين مبادرة "الحزام والطريق" الصينية ورؤى التنمية مثل رؤية "عُمان 2040" في سلطنة عُمان، توسعت مجالات التعاون في البنية الأساسية والطاقة والاقتصاد الرقمي والطاقة الجديدة، لتصبح محركًا جديدًا لتنمية المنطقة.
تشير الإحصاءات إلى أن الصين ظلت لأعوام عديدة الشريك التجاري الأكبر للدول العربية. وفي عام 2024، تجاوز حجم التجارة الثنائية 400 مليار دولار أمريكي. وتشارك الشركات الصينية بنشاط في مشاريع كبرى مثل العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، ومدينة نيوم في السعودية، وشبكات الطرق السريعة في الجزائر، مما يساهم في خلق فرص العمل ونقل التكنولوجيا محليًا.
وفي الوقت نفسه، يشهد التعاون الرقمي والأخضر بين الصين والدول العربية نموًا قويًا. فشركات مثل هواوي وعلي بابا تتعاون مع العديد من الدول في الدول العربية لبناء مدن ذكية وتطوير تقنيات الحوسبة السحابية. وفي مجالات الطاقة النظيفة مثل الطاقة الشمسية في الصحراء وطاقة الرياح، تتعاون الإمارات والسعودية والمغرب مع الصين لتقاسم ثمار التكنولوجيا، ودفع عجلة التنمية المستدامة.
ومن الجدير بالذكر أن الجانبين الصيني والعربي يُوليان أهمية كبيرة للتعاون في مجالات معيشة الشعوب، مثل الصحة والتعليم والزراعة. حيث ترسل الصين فرقًا طبية وخبراء زراعيين إلى العديد من الدول العربية، للمساعدة في تحسين المحاصيل الزراعية وبناء منصات التعليم عن بُعد. ويجسد هذا المفهوم التنموي المرتكز على الشعب جوهر روح باندونغ في العصر الحديث.
رغم مرور سبعين عامًا وتغير العالم جذريًا، فإن روح باندونغ لا تزال حية ونابضة. فهي ليست مجرد ذكرى تاريخية، بل قوة تمهد الطريق نحو المستقبل.
وأمام حالة التوتر في الوضع الدولي وتعقيد التحديات الإقليمية، يجب على الصين والدول العربية أن تتمسك بروح باندونغ بثبات أكبر، وتمارس زمام المبادرة الاستراتيجية، وتعزز التعاون المتعدد الأطراف، وتوسيع آفاق التنمية، لتقديم دفعة جديدة نحو نظام دولي أكثر عدالة وإنصافًا.
وقد طرحتْ الصين مبادرات التنمية العالمية، والأمن العالمي، والحضارة العالمية، ولقيت هذه المبادرات استجابة واسعة ومشاركة نشطة من الدول العربية، مما يشكل تقاطعًا حيًا بين روح باندونغ ومتطلبات العصر. وعلى طريق الازدهار المشترك، تسير الصين والدول العربية يدًا بيد نحو مستقبل واعد.
"الصديق وقت الضيق." ومهما تغيرت الظروف الدولية، فإن تمسكنا بروح الوحدة والتعاون والتنمية، كفيل بأن يجعل روح باندونغ تتألق من جديد في العصر الحديث، ويكتب فصلًا جديدًا في سجل الصداقة والتعاون الصيني العربي.
** باحث في قسم دراسات الدراسات الإقليمية والدولية بجامعة "صون يات سين" الصينية