شكّلت وسائط الاتصال الحديثة طفرةً في أنماط التواصل ونقلةً نوعية في مجال الإعلام، مما انعكس على الحياة الإنسانية برمتها من خلال التقريب بين مختلف الشعوب والثقافات، ومدّ الجسور بين المجتمعات داخل الكوكب. وكان التحوّل الحاصل تعبيرًا عن ثورة ثقافية عارمة انهدمت معها أسوار وحواجز ليس فقط في عالم الاتصال والتواصل، بل في منحنيات الوعي والفكر أيضًا.

هذا ما دفع عددًا من الباحثين والمختصّين للتعبير بإعجاب كبير عن المساحات الجديدة لحرية التعبير والرأي التي انفتحت أمام شرائح واسعة ظلّ صوتها مهمّشًا ومبعدًا. لكن من جانب آخر، لا تنفكّ الوقائع تؤكد أن حرية التعبير في وسائط التواصل مجرد وهْم، وأن شبكات التواصل الاجتماعي في عمومها لا تنفصل عن نزعة الهيمنة، بل هي أداة من أدوات الضبط وإعادة صياغة التمثلات والآراء لتنساق مع خيارات مراكز القوّة والهيمنة على العالم.

وقد ظهر ذلك بوضوح في العدوان الحالي على غزة وفلسطين، والحرب الروسية الأوكرانية، كما جسّد اعتقال مؤسّس تليغرام في باريس – قبل أن يُفرج عنه بكفالة – مثالًا حيًّا لزيف حرية التعبير ورفض حياد مواقع التواصل الاجتماعي.

الانحياز لسرديات مراكز القوة

ظلت وسائط التواصل تحمل الكثير من الإغراء لما يمكن أن تتيحه من أفق للحرية في النقد والتعبير، إلى أن جاءت الأحداث الأخيرة في فلسطين والصّراع الدائر في أوكرانيا لتصبح أداة مباشرة في التضييق على الآراء المعبرة عنهما والتي تعبّر عن تضامنها مع الفلسطينيين ضد الإبادة الجماعية والتقتيل والتشريد، أو تلك التي ترفض الانسياق خلف السرديات السائدة في عددٍ من مناطق النزاع.

لكن آليات الرقابة قد اشتدت بكثافة على المناهضين للحرب، وبدل أن تكون هذه الوسائط فضاءات للتّضامن الإنساني الحر، وكشف الحقائق التي تدور وقائعها على الأرض، من أجل وضع حدّ للمأساة، تحوّلت إلى أداة ووعاء يعبّران عن رؤية وموقف واحد، وهو موقف لا ينفصل عن المواقف السياسية المنحازة لإسرائيل والسردية الإسرائيلية على حساب الحق الفلسطيني.

لم يقف الأمر عند حدود الانحياز وممارسة الرقابة على المنشورات، ما يعد انتهاكًا لحرية الرأي والتعبير، سواء في العالم الافتراضي أو الواقعي؛ إذ برز فيه توظيف السلطات الحكومية للمعلومات المتحصلة في التضييق على النشطاء والفاعلين، بل تجاوز ذلك إلى فرض رؤية بعينها في عددٍ من الدول، ورفض الحياد الذي مارسته بعض تلك الوسائط، كما حدث مع مالك تطبيق "تليغرام" من طرف السّلطات الفرنسية قبل أسبوع.

وعلى الرغم من إضفاء بُعد قانوني على الاحتجاز، فإن الأمر ينطوي على هواجس سياسية ترتبط بالخوف من الحياد الذي ينهجه التطبيق وسياسة الخصوصية التي تضمن حدًا أدنى من الحرية في التواصل بين مستخدميه، مما يسمح بسرديات وروايات معينة بالانتشار. وفي الآن ذاته، يمثل عدم ممارسة الرقابة الفجّة التي ينتهجها عدد من شركات الاتصال، قلقًا لأنساق سياسية بات هاجسها الرئيسي خاضعًا للبعد الأمني وآليات الضبط والإخضاع الناعم.

ثورة ثقافية مناهضة لحرية الرأي

لفهم الأدوار التي تضطلع بها وسائط التواصل في المنظومة الحديثة، ينبغي الوعي بأن الانخراط في الزمن الحديث لا يعني بالضرورة الالتزام بالمفاهيم والقيم المتداولة في الفضاء العمومي، وفي الأوساط الأكاديمية والثقافية.

فقد أبدع العقل الإنساني في صياغة النظريات حول المنطلقات المركزية التي شكلت وعاء الحداثة والتقدم، لكن تمثلات تلك الأسس والتطور الذي وقع في المجالات التقنية والبيروقراطية، أفرغت مضامينها الخطابية من الأثر العملي في الواقع الإنساني. ومن ثم فإن التقدم في التقنية ووسائط الاتصال لم يكن منذرًا بعصر وردي للحرية والمساواة ورقيًّا في مدارج الإنسانية، وإنما شكل هدرًا للحرية وتبديدًا لعذرية القيم والمبادئ التي انشغل بها فلاسفة التنوير، وكانت أملهم في تحقيق فردوس أرضي يخدم الإنسان ولا ينتهك حرمته.

أي أن الجهاز البيروقراطي مع الدولة الحديثة بقدر ما أسهم في التنظيم الاجتماعي وعقلنة ممارسة السلطة، فإنه في الآن ذاته قد فرض هيمنته على الإنسان والمجتمع، وانتهك خصوصيته وأفقده قدسيّته.

وبالمثل؛ كانت التقنية أداة في ممارسة الضّبط وتطويع الإنسان وانتهاك حرمة الطبيعة، مما وَلّد أزمة إنسانية كبرى، وجينات هذه الأزمة بنيوية ترتبط بالنموذج وأسسه المعرفيّة، وليست عرضية متعلّقة بممارسات بعينها.

أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي مع الثورة الثقافية الراهنة ذات وظائف مزدوجة تخدم الدولة والسوق على السواء، مما يجعلها أداة لضبط وتحكم ناعم في اختيارات الإنسان

فالنموذج الحديث بطبيعته، وبالرغم من بعض إيجابياته، يحمل في ذاته عناصر تدمير للحياة الإنسانية، سواء بالوسائل الخشنة التي تستعمل في الحروب التقليدية، أو الناعمة، والتي من ضمنها وسائط التواصل والإعلام الخاضع لمركب الهيمنة الاقتصادي والسياسي والثقافي.

وفي طليعة هذا المركب الولايات المتحدة الأميركية والدول المرتبطة بها، أو الشّركات العابرة للحدود والتي يحكمها منطق السوق، وترتبط ارتباطًا عضويًّا بالاقتصاد والمصالح الأميركية، ولا تنفصل عن أدوات الهيمنة الثقافية السياسية والأمنية على العالم.

أي أن هذه الوسائط ليست جسور تواصل وحسب، وإنما هي من صميم شبكة تسيّج الإنسان والعالم، تتداخل فيها الأبعاد الاقتصادية، والثقافية، والسياسية، والأمنية. ومن ثم فإن جانبًا من الصراع مع الصين – وغيرها – هو صراع من أجل مستقبل الإنسان والهيمنة على العالم، ورسم خياراته في مناحي الوعي، والجغرافيا السياسية والثقافية والاقتصادية.

إذ إنه ما دام التحول قد حصل خارج عقال الأخلاق ومن منطلق الأخلاق الوضعية، فإنها لم تعد هناك محرمات أو خصوصية إنسانية أو مقدسات، ولن يكون هناك مجال لهذا الجانب في صراعات المستقبل التي تدور رحاها في المنظومة المعلوماتية.

كما أن الآدمي المكرم لم يعد يحمل أي معنى للتكريم في ظل صيرورة النسبية المطلقة، وإغراق العالم بالأشياء التي تغذي في الإنسان نزعة الاستهلاك وتجعله هدفًا للسوق. ووسائط الاتصال لها ارتباط وثيق بمراكز القوة، وإن كان لها دور فعّال بشكل معاكس في تعبئة الرأي العام، وكشف تناقضات النسق المهيمن، كما هو حال القضايا العادلة.

لقد كان هناك وعي فلسفي مبكّر بخطر وسائط الاتصال الحديثة قبل أن تظهر شبكات التواصل الاجتماعي، وقد اتجه هذا الوعي النقدي إلى الأسس التي انبنى عليها النموذج الحديث، من خلال التمييز بين العقل النقدي والعقل الأداتي.

الصراع بين الحرية والرقابة

إن وسائط الاتصال الجماهيري كما عند هربرت ماركيوز (ينظر كتابه: الإنسان ذو البعد الواحد) تعمل على ترسيخ العقل الأداتي.

ومن ثم فإن سيكولوجيا الجمهور وتوجيه الرأي العام من خلال المؤسسات والشركات الإعلامية الكبرى لا تقدم خدمة للعقل والفكر واستقلالية الإنسان وحريته، وإنما تجعله أداة بيد النظم والمؤسسات، أي في يد الدولة الحديثة ومؤسساتها بتمرير أيديولوجيا الدولة في مرحلة معينة، كون وسائط الاتصال الجماهيري تندرج ضمن أدوات الضبط وتوجيه الوعي، أي الوعي الأيديولوجي للدولة الحديثة، والتي تحتاج إلى أيديولوجية تمارس من خلالها التنشئة والتحكم في الوعي والتمثلات واختيارات الناس، بقدر حاجتها إلى أدوات الإكراه المادي تحت مقولة: "العنف المشروع".

لقد تطوّرت نظم الاتصال ووسائط التواصل في الأزمنة اللاحقة، إلى أن شهدنا ما أشرنا له سابقًا بالثورة الثقافية، وقد أسفر تطوّر شبكة المعلوميّات ووسائط الاتصال الشبكي عن تأثير ممتد على الاقتصاد والثقافة والسياسة.

فنحن لسنا أمام وسائط اتّصال تقرّب المسافات وتجسّر العلاقات، وتكشف الاختلالات وحسب، بل نحن كذلك أمام صناعة لوعي جديدٍ مسلوب الإرادة وفاقدٍ للحرية وخالٍ من الحسّ النقدي. فالوعي المراد إنتاجه ليس من اختيار الإنسان وإرادته الحرة، وإنما من صميم إستراتيجيات الهيمنة والتحكم في السرديات الخطابية السائدة، ومن ذلك ما يجري في نقاط الاشتباك من أجل العدالة والحرية والحقّ في فلسطين، وغيرها من بقاع الدنيا.

ختامًا:

لقد كانت وسائط الاتصال الجماهيري أداة أيديولوجية في يد الدولة توجّه الجمهور من خلالها باستخدام البروباغندا في أزمنة سابقة. وبفعل التطور التقني والثورة المعلوماتية وانعكاساتها على الحياة الإنسانية برمتها، مع التحولات التي عرفها الاقتصاد العالمي، والعلوم والمعارف، تجاوز دورها البعد الوظيفي، وأصبحت تُستخدم في خلق وضع جديد على مستوى الواقع الإنساني في أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية.

بل إنها أضحت تتحكم في تطلعات واختيارات الإنسان. وبصيغة أخرى، أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي مع الثورة الثقافية الراهنة ذات وظائف مزدوجة تخدم الدولة والسوق على السواء. ومن ثم، نجد طبيعة الصراع الدائر في الآونة الأخيرة حول مدى حيادية شركات الاتصال.

التقدم وما جلبه من وسائل التقنية ووسائط الاتصال لم يحقق بالضرورة وضعًا مثاليًا للحرية، وإنما يمكن القول إن التقدم في التقنية ووسائط الاتصال يواكبه تخلّف في مسار الحريات. بمعنى آخر، أصبحت هذه الشّبكات والوسائط أدوات ضبط وتحكم ناعم في اختيارات الإنسان، تساهم في تشكيل الوعي، وتوجيه الرأي العام بما يتماشى مع مصالح القوى المهيمنة على الساحة العالميّة، مما يؤكد أن وهْم حرية التعبير في شبكات التواصل الاجتماعي هو جزء من لعبة أكبر للتحكّم في الفكر والمجتمع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات شبکات التواصل الاجتماعی ة التی ومن ثم

إقرأ أيضاً:

واقعنا التربوي.. هل يُواكب بناء الدولة أم يُعوقه؟

يجب علينا أن نتوقف لنسأل: كيف لبلد مثل بلادنا، التي تميزت وتفوقت على كثير من دول الإقليم، والتي تتمتع بمجتمع بسيط وروابط اجتماعية وعلاقات متينة، وتمتلك إمكانات كبيرة مع تعداد سكاني بسيط، أن يتأخر ثقافيًا ويفقد القدرة على التطوير؟

هذا التساؤل العميق يدعونا إلى التوقف عند واقعنا التربوي، لنعرف مكامن الخلل ونبحث عن السبل التي تحول بلدنا إلى نموذج ناجح في التنمية والتقدم.

مقدمة

في زمن تتشابك فيه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، نطرح سؤالاً جوهرياً: هل استثمرنا في بناء الإنسان كما ينبغي؟

الإنسان هو الأساس، واللبنة الأولى لأي بناء متين. فبدون تربية سليمة وقيم راسخة، لا يمكن للدولة أن تنهض، ولا للمجتمع أن يتقدم.

إن الأزمات التي نعانيها ليست معزولة عن تراكمات طويلة الأمد في منظومة التربية والسلوك، وهذا ما يجعل من دراسة هذا الجانب ضرورة ملحة للخروج من دوامة الفشل.

في كل دولة، تشكل منظومة التربية والتعليم حجر الزاوية في بناء الإنسان والمجتمع، وبالتبعية تأسيس الدولة الحديثة القادرة على تحقيق التنمية والازدهار. أما في ليبيا، فإن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة هو: هل واقعنا التربوي يواكب هذا الطموح الكبير في بناء الدولة، أم أنه يشكل عائقًا يعرقل مسيرة التقدم؟

هذا السؤال ليس مجرّد تساؤل، بل هو ضرورة وطنية ملحة. فالتربية الأسرية والتعليم والثقافة والقانون كلها متداخلة في منظومة معقدة تؤثر بشكل مباشر على قدرات أبنائنا على المشاركة الفاعلة في بناء وطنهم. في هذا المقال، نستعرض واقع التربية في ليبيا، مع تحليل مكامن الخلل وأثرها على التنمية، لنفهم كيف يمكن أن تتحول التربية من عائق إلى رافد قوي نحو بناء الدولة المنشودة.

التربية والتعصب القبلي والمناطقي

أحد أخطر الانعكاسات السلبية لغياب التربية الوطنية الجامعة هو انتشار التعصب القبلي والمناطقي والجهوي. فبدل أن يكون الانتماء للوطن هو الرابط الأول، أصبح الانتماء للقبيلة أو المنطقة معيار الولاء والدفاع، مما غذّى الانقسام وأعاق قيام دولة المؤسسات.

هذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكمات تربوية لم تتصد لها الأسرة ولا المدرسة كما يجب.

غياب مشروع صناعة المواطن الواعي

المواطن الواعي هو الذي يدرك حجم الإمكانات التي حبانا الله بها، ويعرف كيف يوظفها في البناء لا الهدم. غير أن غياب التربية التي تزرع قيم المسؤولية والعمل المشترك والنقد البنّاء، جعلنا نكرر الأخطاء نفسها، ونعيد إنتاج الأزمات حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من انقسام سياسي وفوضى اجتماعية.

إرث الأخطاء والتخلف المجتمعي

ما نعيشه اليوم من سلبيات هو انعكاس مباشر لتراكمات الماضي، حيث لم نتعلم من أخطائنا، ولم نعترف بمسؤوليتنا عنها. هذا النمط من التفكير جعلنا نلقي اللوم على “الآخر” دون مراجعة الذات.

لا يخلو أي مجتمع من سلبيات وأخطاء، لكن ما نعانيه في بلادنا اليوم يتجاوز ذلك ليصل إلى ظواهر تتناقض مع ما ندعيه من قيم وعادات وأصالة وتدين. فبلد المليون حافظ للقرآن الكريم – مع كامل احترامنا وتقديرنا – يشهد تناقضًا صارخًا بين هذه القيم والممارسات التي ظهرت بعد أول اختبار حقيقي في 2011، وطوال هذه السنوات الأربعة عشر التي تلتها، والتي شهدت أزمات متكررة وظواهر غريبة تعكس ارتباكًا حتى في أعلى المستويات، خاصة بين النخبة وصانعي القرار.

لقد كان من الممكن أن تكون الثورة أو التغيير بداية لعصر جديد، لكن غياب الوعي المجتمعي والتهيئة التربوية جعلنا ندور في دائرة الأزمات نفسها.

الإتيكيت.. أساس لا ترف

جزء من الخلل التربوي يكمن في وجود آباء وأمهات كبروا وهم يحملون سلبيات وسلوكيات متناقضة مع روح العصر، ثم نقلوها إلى أبنائهم.

إننا هنا لا نقصد المظاهر الشكلية، بل الإتيكيت الذي يظنه البعض ترفًا اجتماعيًا، بينما هو في جوهره احترام ونظام ولباقة وانضباط، أي قيم تتفق تمامًا مع ديننا وعاداتنا الحسنة.

غياب هذا السلوك في التربية جعل الأجيال الجديدة تفتقد أبسط قواعد التعامل الحضاري، من احترام المواعيد، والاعتذار، واحترام النظام العام، وحسن الاستماع، وكلها أساسيات لأي مجتمع يريد التقدم دون أن يفقد هويته.

شباب بلا بوصلة

واقع شبابنا اليوم يعكس حجم الفجوة التربوية؛ فالكثير منهم يفتقدون الرؤية المستقبلية، وتنقصهم المهارات والقيم التي تمكّنهم من مواجهة التحديات.

ومع غياب دور الأسرة، وتراجع تأثير المؤسسات التعليمية والإعلامية والاجتماعية، برزت ظواهر مقلقة، من الانخراط في سلوكيات سلبية، إلى العزوف عن العمل والمشاركة في الشأن العام.

لماذا لا تصبح الإيجابية ظاهرة عامة؟

هناك أسر واعية تؤدي ما عليها وتغرس في أبنائها قيمًا إيجابية، لكن هذه النماذج لا تتحول إلى ظاهرة مجتمعية لغياب منظومة داعمة — من تعليم قوي، وإعلام هادف، وسياسات واضحة — تحوّل السلوك الجيد إلى ثقافة عامة، وتخلق “عدوى إيجابية” تنتشر في المجتمع.

التعليم والثقافة والقانون.. ثلاثية التخلف

لا يمكن الحديث عن بناء سلوك تربوي يواكب الدولة دون التوقف عند ثلاثية أساسية تمثل اليوم أحد أكبر أسباب التخلف: التعليم، الثقافة، والقانون.

فالتعليم المتخلف لا يخرج أجيالًا مؤهلة فكريًا ومهاريًا، بل يدفعهم إلى الحياة العامة وهم يفتقرون لأبسط أدوات الفهم والتحليل.

أما الثقافة الضعيفة أو المنحرفة، فتجعل المجتمع أسيرًا لعادات سلبية وخرافات، وتضعف وعيه النقدي وقدرته على مواكبة التطور.

ويأتي القانون، فإذا كان غائبًا أو مطبقًا بانتقائية، فإنه يفقد هيبته ويغذي الفوضى، فتتراجع قيم الانضباط والمساءلة.

هكذا تكتمل الحلقة المفرغة: تعليم ضعيف، ثقافة فقيرة، قانون بلا قوة… والنتيجة مجتمع عاجز عن النهوض، حتى وإن توفرت له الموارد والإمكانات.

الدولة والمجتمع.. مسؤوليتان متكاملتان

لا يمكن إلقاء اللوم على طرف واحد. المجتمع هو الذي ينتج الأفراد ويغرس فيهم القيم، والدولة هي التي تضع السياسات وتوفر البنية التحتية التعليمية والتربوية والقانونية.

كلاهما مسؤول، لكن بدرجات مختلفة. المجتمع ينتج الخلل عندما يفشل في التربية، والدولة تُعمّق المشكلة أو تُعالجها من خلال سياساتها وقدرتها على التنظيم والمحاسبة.

الإصلاح الحقيقي يحتاج تضافر الجهود بين الطرفين لبناء وطن مستقر وقوي.

دور علماء النفس والاجتماع في بناء المجتمع

لا يمكن الحديث عن إصلاح المنظومة التربوية والتنموية دون التأكيد على الدور الكبير لعلماء النفس والاجتماع، الذين يمثلون العمود الفقري لفهم طبيعة الإنسان والمجتمع. هؤلاء العلماء هم الذين يملكون الأدوات العلمية لتحليل السلوكيات الفردية والجماعية، ولفهم الديناميكيات الاجتماعية التي تؤثر على البناء المجتمعي.

مشاركتهم الفاعلة في الميدان من خلال الأبحاث والتدخلات الاجتماعية، وورش العمل التوعوية، تساعد في معالجة الخلل السلوكي والاجتماعي، وتقويم القيم، وتعزيز الوعي الجمعي. كذلك، دورهم في تقديم استشارات متخصصة للآباء، والمعلمين، وصانعي القرار، يسهم في توجيه الجهود التربوية والسياسات الاجتماعية نحو مسارات صحيحة ومدروسة.

لا غنى عن هذا الجانب العلمي في بناء الإنسان والمجتمع، خصوصًا في ظل التحديات التي تواجهها ليبيا اليوم، إذ يفتح المجال أمام حلول علمية مستندة إلى فهم عميق لطبيعة المجتمع الليبي وتاريخه الثقافي والاجتماعي.

البناء التربوي أولوية أساسية

ليس مستحيلاً أن نبدأ بالتركيز على البناء التربوي الذي يمثل أولوية أساسية لبناء جيل جديد يعي معنى الانتماء إلى الوطن. ويتم ذلك من خلال وضع أسس سليمة تعتمد على تخطيط واستراتيجيات واضحة تبني أطفالنا وشبابنا، وتغرس فيهم حب الوطن والانتماء له. ويشمل ذلك تصميم برامج تعليمية متميزة، ووسائل تربية حديثة، وأنشطة متكاملة في مؤسسات ترفد وتدعم الدور الأسري في غرس القيم الوطنية وتعزيز الهوية.

ولا نغفل كذلك الدور الحيوي لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والمؤسسات الاجتماعية والتربوية، التي يجب أن تكون منبرًا لتعزيز الوعي الوطني والانسجام المجتمعي، بدلًا من التركيز على خطابات التظليل والتفرقة التي تزيد من الانقسامات. إن استثمار هذه الوسائل بشكل إيجابي يسهم في خلق بيئة محفزة للإيجابية، ونشر قيم المواطنة والاحترام والتسامح.

فهذا البرنامج الشامل يعزز الوعي السياسي ويجنب شبابنا المخاطر التي تهددهم من الانحرافات السلوكية والظواهر الهدامة والفراغ.

خاتمة

إن استعادة بناء الوطن تبدأ بإصلاح الإنسان، وتأهيله تربوياً وأخلاقياً ليكون قادراً على حمل أمانة النهضة والتنمية.

التربية السلوكية ليست رفاهية بل ضرورة حتمية، فهي التي تمنحنا القدرة على مواجهة التحديات، وتحمي مجتمعنا من الانهيار.

إذا أردنا أن نعيد مجدنا ونحقق المستقبل الذي نحلم به، فلنبدأ أولاً من الإنسان، من قيمه، من وعيه، ومن تربيته التي تظل رافعة حضارتنا نحو الأفضل

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

مقالات مشابهة

  • وزير الزراعة: الرسائل التي سبقت زيارة لاريجاني إيجابية
  • عون: خدمة الإنسان لاخيه الإنسان أسمى العطاءات وانبلها
  • اتحاد الكتّاب في سوريا يبحث مواجهة الفوضى الإعلامية على وسائل التواصل
  • مفتي الجمهورية: الذكاء الاصطناعي قاتل للعقول إذا غاب الوعي
  • أنس.. الكلمة التي أرعبت الرصاصة
  • واقعنا التربوي.. هل يُواكب بناء الدولة أم يُعوقه؟
  • مجلس السيادة ينوه ويحذر
  • مقدمة برنامج بقناة فضائية تتهم شخص بالإساءة لها عبر وسائل التواصل الاجتماعى
  • برلماني: تطوير الإعلام خطوة استراتيجية لتحصين الوعي ودعم مسيرة الدولة
  • رئيس الدولة يهنئ هاتفياً رئيس أذربيجان باتفاق السلام الأذري – الأرميني التاريخي