لن يطمسوا صوت الحقيقة
تاريخ النشر: 13th, August 2025 GMT
د. سالم بن عبدالله العامري
"لن يطمسوا صوت الحقيقة"، هكذا كتبت دماء الصحفيين سطرها الأخير في غزة. ففي ليلة حالكة، استهدفت غارة صهيونية خلف مستشفى الشفاء الصحفي أنس الشريف، مراسل الجزيرة، ومعه الصحفي محمد قريقع وثلاثة من رفاق الكاميرا والكلمة، في محاولة لإسكات الشهود على الجريمة. كان القاتل يظن أن القصف قادر على محو الصوت، لكنه لم يدرك أنَّ دماء الصحفيين لا تطفئ الكلمة، بل تمنحها حياة أوسع وصدى أبعد.
ومثلما رحلوا، رحل قبلهم على الطريق ذاته كوكبة من الصحفيين في غزة، حملوا الكاميرا والقلم حتى اللحظة الأخيرة، وواجهوا القصف بعدساتهم. كانوا يعلمون أن كل صورة تبث، وكل كلمة تكتب، ليست مجرد خبر، بل جدار يحمي الذاكرة من النسيان، وسلاح في ميدان الحقيقة.
أنس الشريف، الذي عرف أزقة غزة وألف رائحة بارودها، لم يترك الدنيا قبل أن يودع الأحرار بوصية تقطر ألمًا ووفاءً:
"أوصيكم ألا تسكتكم القيود، ولا تقعدكم الحدود، وكونوا جسورًا نحو تحرير البلاد والعباد… أوصيكم بأهلي خيرًا، بابنتي شام، بابني صلاح، بوالدتي الحبيبة، وبزوجتي أم صلاح…" لم يكتب أنس هذه الكلمات من برج عاجي ولا من وراء مكتب، بل كتبها وهو في قلب الخطر، وهو على خط النار، مدركًا أن صوته قد ينقطع في أي لحظة، لكنه مؤمن أنَّ الحقيقة ستجد دائمًا من يحملها.
مع أنس، ارتقى أيضًا إبراهيم ظاهر، مؤمن عليوة، ومحمد نوفل، وهم في قلب الميدان يوثقون القصف بعدساتهم. هؤلاء لم يكونوا مجرد ناقلي أخبار، بل مقاتلين في معركة الوعي، يدركون أن الكاميرا في غزة سلاحٌ بقدر ما هي أداة توثيق. كل صورة أرسلوها، وكل تقرير بثوه، كان وثيقة إدانة لآلة الحرب، ودليلًا على أن غزة ليست مجرد خبر عاجل، بل حكاية حياة لأناس لهم أسماء وأحلام وأمهات تنتظر عودتهم. كانوا يعلمون أن مهنة الصحافة في غزة ليست مجرد عمل، بل هي وقوف على خط النار، وأن الكاميرا هنا ليست أداة نقل خبر، بل معركة في حرب الحقيقة وصراع السرديات.
في الحروب، أول ما يسعى القاتل لاغتياله هو الحقيقة، لأنها تكشفه، وتفضحه، وتمنح الضحية وجهًا وصوتًا. لكن ما لا يدركه القاتل، أن الحقيقة حين تروى بدم الشهود، تصير أعمق رسوخًا وأوسع انتشارًا. أصوات أنس ورفاقه اليوم تضاعفت، وصارت صدى يتردد في كل منبر، ورسالة يحملها كل صحفي وحر في العالم. وصاياهم أمانة، والصمت عليها خيانة.
رحلوا وتركوا في قلوبنا مفاتيح للصمود والمقاومة ورفض الصمت. دماؤهم جسور لعبور الكلمة الحرة، وأرواحهم أعمدة ترفع راية الحقيقة. لن يطمسوا، لأن كل عدسة ترفع اليوم في غزة، وكل قلم يكتب عن أطفالها، وكل صورة تصل إلى العالم، هي امتداد لصوتهم.
في غزة، قد يسقط الصحفي شهيدًا، لكن الحقيقة لا تسقط. قد يكسر القلم، لكن الحبر يظل يسيل من الدماء. أما أصوات الشهداء، فلن تدفن، بل ستنتشر في الريح لتصل إلى كل ضمير حي، تذكّر العالم أن هناك أرضًا محتلة وشعبًا يقتل، وصوتًا.. لن يطمس.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الحياة ليست مادة فقط !
الحياة نعمة عظيمة تستحق الشكر، وتستحق أن تعيش جميع التفاصيل الجميلة في حياتك، دون تذمر أو سخط.
وتتجلى قيمة الحياة في العلاقات التي نبنيها، في الحب الذي نتبادله، وفي اللحظات التي نتشاركها مع الآخرين.
إنها في البصمة التي نتركها في هذا العالم، وفي الأثر الذي نحدثه في حياة من حولنا. الحياة دعوة مستمرة للاستكشاف والتعلم، لفهم أنفسنا والعالم من حولنا.
وبقاؤك على قيد الحياة نعمة عظيمة لابد أن تستشعرها وتستمتع بها؛ فلا تهدر وقتك في الشكاية والتذمر.
وجمال الحياة ليس في الشكليات والماديات التي طغت بشكل كبير على تفكير وعقول الناس؛ حيث أصبح التركيز على الجانب المادي والاستهلاكي أكثر من القيم الروحية؛ ما أدى إلى فقدان الإحساس بالمعنى الحقيقي للحياة والتركيز على المظاهر الخارجية بدلًا من الجوهر.
هذا التركيز المفرط أدى إلى الشعور بالفراغ الروحي، وفقدان الإحساس بالهدف الحقيقي، وأدى إلى زيادة الشعور بالقلق والاكتئاب وفقدان الانتماء للمجتمع.
كما أن طغيان الماديات أسهمت بشكل كبير في تقلص معدل الإنتماء والولاء والتضامن الاجتماعي.
ونحن لسنا ضد الاستقرار المادي وتحسين المعيشة والوصول لمستويات مادية أعلى؛ ولكن ما يحدث في وقتنا الراهن بات مزعجاً !
ففي غالبية مواقع التواصل الاجتماعي برمجة فكرية واجتماعية تجاه الاهتمام المفرط بفكرة الثراء؛ وكأن المال هو كل شيء في هذه الحياة متناسين كل مقومات السعادة الأخرى.
إن هذا كله نوع من التشتيت الفكري المضلل لفئة الشباب! ما يجعلهم رهينة لفكرة الثراء السريع؛ والبحث عنها بشتى الطرق، وهذا يجعل أكثرهم يخسر كل مقومات الحياة الجميلة، ويتعلق بفكرة الثراء السريع التي قد تجر عليه الويلات، وتفقده فرص التعلم والنجاح.
وفي نهاية المطاف، الحياة هي هبة ثمينة من الله تعالى. ويجب حقاً أن نقدرها ونعيشها بكل ما فيها من تفاصيل. وهي فرصة لتحقيق أحلامنا، لتحقيق ذواتنا، ولترك بصمة إيجابية في هذاالكون.