أين نحنُ من السودان؟!
تاريخ النشر: 8th, September 2024 GMT
ماجد المرهون
majidomarmajid@outlook.com
أرض كوش والنُوبة ومهد الحضارات الأفريقية القديمة وبلاد النيلين وبَوابة العالم العربي إلى إفريقيا، إنِّه السودان البلد المُسالِم والمُهادِن مع كُل تنوعاتهِ الطبيعية الهائلة وتعدُّداتهِ البشرية من حيث الأعراق واللغات والثقافات والإثنيات، حتى ازدادوا بالإسلام عزًا، كما أعز الله به كُل من أسلم، وما يُثبت تصالح السودان مع ذاته داخليًا وعدم وجود مؤسسة دينية ذات فتوى مرجعية هو أنَّ المرجعيات لشيوخ الطُرق الصوفية؛ مما يجعل منها مسألةً بالغة التعقيد وفاتِحةٍ لثغراتٍ خلافية واسعة كما يُعتقد وحسب الصورة النمطية للخلافات الدينية.
لكن هذا لا يحدث في السودان إطلاقًا؛ وهي سماحة تدعو للإعجاب، ومع الأخذ في عين الاعتبار العدد الضخم من القبائل المُسجَلة رسميًا والتي قد تصل إلى 700 قبيلة تقريبًا فإنَّ هذا يُعد من محفزات نشوء بؤر خِصبةٍ للخصومةِ والشِقاق باعتماد الحس الجمعي الذي نعتقده اليوم في ظل عدم وجود دولةٍ تحفظ الحقوق المعنوية الثقافية والحقوق المادية المُباشرة، لنجد مجددًا أنَّ كل ذلك لا يُعتبر مولدًا لإذكاء روح التشاحن وخلق صراعات يُمكن وصفها بالخطيرة.
إنه أمرٌ استثنائي يدُل على إمكانية تعاطي السوداني مع كل المكونات بسهولةٍ وذكاء والتعايش جنبًا إلى جنب مع الاختلافات والفروقات من حولهِ ببساطةٍ دون عناء، في صِفةِ حفظ كرامته من خلال احترام الآخرين وحقوقهم وهو ما شكَّل السِمَة السائدة للشخصية السودانية وما تبين لنا في التَّعامل مع السودانيين، إذًا ما هو مدخل تفكيك هذا الشعب من الباطن للخلوص إلى مخرج إحسانِ التقسيم في الظاهر؟!
صحيحٌ أنَّ الاستقرار السياسي بدلالاتهِ الحديثة لم يَستتِّب بصورة دائمة في السودان لعدة عقود، لكن لم تنشأ حروب مُهلكةٍ للنسل والحرث مع وجود ثِقلٍ تشريعي للمكون القبلي والديني، إلّا حينما ظهرت الأحزاب السياسية والتي كانت ولا زالت غير قادرةٍ على تأسيس فاعلية صلبةٍ لدولة ديمقراطية من خلال ما تفتعِله بين الحين والآخر من انقلاباتٍ عسكريةٍ تنافُسيَّة في الاستيلاء على رأس هرم السُلطة لمجرد خلافاتٍ ذرائعيةٍ فيما بينها أو كيدية، بيد أنَّ المُجتمع في عمومهِ يفهم جيدًا عمق هذه المعادلة المُتكررة؛ إذ لم تكن لتلك الأحداث في السبعةِ عقودٍ الماضية انعكاسًا صريحًا على شخصية وثقافة الإنسان السوداني من حيث الفكر والسلوك، وهذا دليل راسخ على صلابة الوعي لدى السودانيين كأُمَّة، وليس كأحزابٍ قليلة ساعية للسُلطة والمكاسب الشخصية، على عكس ما نجِده في الجنوب المنفصل والذي تعصفُ به الخلافات الآيدلوجية والإثنية والعرقية؛ مما أفشل قيامه المستقل منذ 13 عامًا كدولةٍ بالمفهوم الحقيقي مع توفر كُل المقومات الاقتصادية.
قد لا يختلفُ اثنان على الصراعات الدائرة تحت الرماد في العالم العربي مُنذ "سايكس- بيكو" واستمرار الدبلوماسية الغربية في تأجيج جذوتها، مع أن السودان لم يشمله اتفاقية التقسيم بشكلٍ مباشر، إلّا أنه أدرج ضمن خطة برنارد لويس عام 1983 في التقسيمات العرقية والطائفية والمذهبية. وقد شهدنا على تحقُّق شيء منها إبّان انفصال الجنوب، وما قد يتحقق لاحقًا مع استبداد الأحزاب المُتنازعة في التصلُّب السُلطوي والتعنُّت في الرأي ليكون مشروع التقسيم القادم بِمعاول الأذرعة الحزبية نوعًا من الحلول التي تُطرح في إطار التفاوض لحفظ السلام وإنفاذ العدالةِ وحماية المدنيين وحقوقهم، وبالطبع لن تُرفض المُبادرة مع تأزم الظروف الإنسانية وسريعًا سيقبل كُل حزبٍ بمساحة معلومةٍ لحكمها وأجزاءٍ مرسومةٍ لبسط نفوذهِ عليها بعد أن قاسموا بقصدٍ أو دون قصد في تأصيل سياسة التجزيء وهم فرحون بما احتازوا.
لقد أسهم السودانيون إسهامًا عظيمًا لا يمكن نُكرانه في وضع اللبِنات الأولى لقيام الدول العربية الحديثة بعد اكتشاف النفط وفي شتَّى مناحي الحياة؛ كالتعليم والزراعة والهندسة وحتى في القانون والمحاسبة والتخطيط المدني، بسبب سبقهم العلمي وسُمعتهم الحميدة، فإنَّ السؤال الذي يطرح نفسه بديهيًا بعد ما أوردته في المقال المقتضب أعلاه هو: أين نحنُ الآن كأمةٍ عربيةٍ وإسلامية مما يحدث في السودان؟ لا سيما أن الوضع السياسي والدبلوماسي يختلف عمّا يحدث في فلسطين "وهما أمران أحلاهُما مُر"، وما المواقف التي اتخذناها إزاء إخوتنا السودانيين؟ أم أنَّ إخلاء الطرف من المسؤولية يحين عندما تلمع مقولة "شأن داخلي" من باب عذر النفس بسد الذريعة؟!
وبصرف النظر عن صِراعات الأحزاب التي يُحاول بعضها العلو على الآخر في النفوذ والاستحواذ على حساب الإنسان والممتلكات والمُكتسبات، فإنَّ ما يحدث من سفك دماء وتقتيلٍ وتنكيلٍ بالأبرياء لهو مدعاةٌ للأسف والحزن الشديد تجاه أحد أكثر الشعوب العربية ودًا ولُطفًا وطيبًا وعرفانًا وتسامحًا، فهل يوجد من يوقف الشرذمةِ المُستبيحة لكل مُحرَّمٍ وممنوع عند حدها ويقول لهم كفى، أم بالنظر نكتفي والسكوت، حتى نبارك يومًا ما غالبية التصويت على التشظي والتفتيت؟!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الانتخابات البرلمانية المصرية.. فرصة ضائعة للإصلاح
توقع الكثيرون أن تكون الانتخابات البرلمانية المصرية التي جرت لغرفتها الأولى (مجلس الشيوخ) في آب/ أغسطس الماضي، وبدأت قبل أيام الاستعدادات لغرفتها الثانية (مجلس النواب) فرصة جديدة للإصلاح السياسي، ولو بشكل تدريجي، لكن المشهد العام حتى الآن يشي بأنها فرصة مهدرة، لحقت ما سبقها من فرص مهدرة أيضا، مثل الحوار الوطني، أو لجنة العفو الرئاسي، أو حتى الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان!! وكشفت عن إصرار النظام على المضي قدما في المزيد من السياسات القمعية في ظل أوضاع شديدة الالتهاب تحيط بمصر، تُعرّض أمنها القومي للخطر، وتتطلب توحيدا حقيقيا لجبهتها الداخلية.
يحلم الكثيرون في صفوف المعارضة داخل مصر بانفراجة سياسية، ويهللون لكل خطوة متناهية الصغر مثل الإفراج عن معتقل، أو الدعوة لحوار وطني، واستدعاء بعضهم للمشاركة فيه، أو حتى دعوة البعض لحفل عشاء بحضور السيسي. ولا يمكن لومهم على هذه الأحلام البسيطة، حيث لم يترك النظام فرصة لأحلام كبيرة مع فرضه لحالة الانسداد السياسي، والقمع الأمني، والصوت الواحد، وهذا وضع غير قابل للاستمرار، ويحتاج تضافر جهود كل المخلصين للمسارعة بالخروج منه.
ربما يعتقد البعض أن مرور 12 عاما على نظام الثالث من تموز/ يوليو كافية للانتقال من حالة الانغلاق السياسي والإعلامي إلى حالة من الانفتاح، والانفراجة السياسية، وحين نصب النظام سيرك الحوار الوطني ارتفعت الآمال بالحلحلة السياسية، ورغم أن الحوار لم يكن شاملا، إلا أنه قدم وصفة علاج لا تمثل إزعاجا كبيرا للنظام، فالمشاركون يتحاورون تحت سقفه، ويدركون المواءمات المطلوبة، وكان من بين توصياتهم تعديل قانون الانتخابات البرلمانية ليعتمد نظام القائمة الحزبية النسبية، بحيث تجد الأحزاب فرصا في التمثيل البرلماني حسب أوزانها الانتخابية، لكن السلطة رفضت هذه التوصية، وأصرت على تطبيق ما يعرف بالقائمة المطلقة، والتي تعني أن حصول قائمة على نسبة 50 في المئة من الأصوات + صوت واحد تفوز بكل المقاعد، في حين تخرج القائمة الحاصلة على أقل من 50 في المئة بصوت واحد من المولد بلا حمص، أي لا تحصل على أي مقعد برلماني.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل عمدت السلطات لتكليف أحزاب الموالاة التابعة لها (4 أحزاب) لتشكيل ما يسمى بالقائمة الوطنية، يحصلون من خلالها على الغالبية العظمى من المقاعد، مع ترك بعض الفتات لأحزاب أخرى تقبل الانضواء تحت جناح تلك القائمة، وهو ما أحدث شقاقا داخل أحزاب المعارضة بين قبول، ورفض، ومقاطعة للانتخابات باعتبارها محض مسرحية هزلية جديدة.
إلى جانب القائمة المغلقة، ترك قانون الانتخابات مساحة للترشح الفردي، ويفترض أن تكون هذه المساحة فرصة لمنافسة حرة بين المرشحين، وبالذات من الأحزاب التي لم تستطع تشكيل قائمة، أو لم تقبل الانضواء تحت القائمة الوطنية، لكن السلطة لم تترك هذه المساحة أيضا، إذ أوعزت لأحزابها بترشيح منتسبيها في تلك الدوائر، مع ضمان مسبق بفوزهم، كما تركت السلطة الباب مفتوحا للمال الحرام، حيث أصبح البعض يشتري مقعد مجلس الشيوخ أو النواب بأسعار فلكية وصلت إلى خمسين مليون جنيه مصري (100 ألف دولار)، وحين اشتكى البعض من هذا الطلب تم استدعاؤه للتحقيق، بينما لم يتم استدعاء الأحزاب التي ارتكبت هذه الجريمة لأنها ببساطة من أحزاب السلطة.
لم يكن غريبا والحال كذلك أن تسيطر 4 أحزاب حديثة عهد بالسياسة على 90 في المئة من مقاعد مجلس الشيوخ، وفاز حلفاؤها الذين ترشحوا ضمن قائمتها بـ10 في المئة الباقية، وخرجت بقية الأحزاب والمستقلين صفر اليدين، وهو ما سيتكرر بالضرورة مع انتخابات مجلس النواب التي ظهرت مقدماتها المماثلة تماما لمقدمات مجلس الشيوخ، وأهمها هيمنة أحزاب الموالاة الأربعة على المشهد الانتخابي، وبالتبعية سيُنتج ذلك برلمانا مشوها، لم يصل نوابه إلى قاعته عبر نضال سياسي، أو حضور جماهيري، بل عبر قرارات سلطوية، ومال فاسد.
ولنتخيل هذا ذاك النائب الذي دفع 50 مليون جنيه ثمنا لمقعده البرلماني كيف ستكون أولوياته تحت القبة؟! المؤكد أنه لن يشعر بأي التزام تجاه دائرته الانتخابية لأنه اشترى المقعد بماله، والمؤكد أنه سيكون حريصا على تعويض ما دفع من أموال بطرق مختلفة مستغلا حصانته البرلمانية، وبالمحصلة فإننا سنكون -كما كنا من قبل- أمام مجلس لتقنين الفساد، والدفاع عنه لا مكافحته، أو محاسبة المسئولين عنه.
لنعد بالذاكرة إلى الوراء قليلا في انتخابات برلمان 2012، حيث جرت بكل حرية وشفافية، وتنافست فيها كل الأحزاب، وجرت فيها تحالفات انتخابية قوية، وأنتجت برلمانيا متنوعا من كل الاتجاهات، وكان بتركيبته تلك أقوى برلمان؛ لولا التآمر السريع عليه، وحله بقرار قضائي غريب بعد شهور معدودة من انعقاده، ومنذ ذلك الوقت جرت الانتخابات البرلمانية 3 مرات، لتأتي النتائج في كل مرة ببرلمان أسوأ مما سبقه.
كان من الممكن أن تصبح الانتخابات البرلمانية نافذة للإصلاح السياسي عبر السماح بحرية الترشح والتنافس، طالما أن النظام وأحزابه ومؤيدوه يشعرون بقوتهم! والتفاف الشعب حولهم! فقد كان ذلك سينعكس على نتائج التصويت! وفي الوقت نفسه كانت أحزاب المعارضة ستحصل على نصيب معقول من التمثيل البرلماني الذي يحيي البرلمان بعد موات، لكن ما حدث هو المزيد من الهيمنة والاستحواذ بقوة ونفوذ السلطة، وليس بقوة التصويت الانتخابي الحر، وهو ما ضاعف حالة الانسداد السياسي.
ورغم أن أنصار النظام يتباهون بموقفه الأخير في مفاوضات شرم الشيخ التي انتهت بوقف الحرب في غزة، ويدّعون أنها زادت من شعبيه النظام، فإن المؤكد أن هذه حالة عارضة ما تلبث أن تتبدد مع إعلان نتائج انتخابات البرلمان، ومع تطبيق المزيد من السياسات الاقتصادية المؤلمة، والزيادات الجديدة للأسعار، وبيع المزيد من أرض الوطن وفاء لديون فاسدة.
x.com/kotbelaraby