جريدة الرؤية العمانية:
2025-07-28@00:25:02 GMT

التغافل 

تاريخ النشر: 22nd, September 2024 GMT

التغافل 

 

سعيد بن سالم البادي

التغافل يبدو في ظاهره الغباء والغفلة ولكنه في حقيقة الأمر صبر وحكمة وذكاء؛ فالشخص المتغافل يظهر عليه عدم المعرفة بما يدور حوله أو عدم الانتباه لما يقال له ولا يلقي له بالًا أو اهتماماً بالرغم من أنه يبدو مكرًا وخداعًا واضحًا جليًا للآخرين إلا هو الوحيد الذي لا يظهر عليه إدراك ذلك، بينما هو في الحقيقة مدرك لكل الأمر لكن استقبله بكل سعة صدر وهدوء واتزان متجاهلًا كل ما يدور حوله بحكمة ودهاء.

كأن يقدم له أحدهم نصيحة مغلفة بالإخلاص وحسن النية، إلا أن المنصوح يعلم مكنون تلك النصيحة من سياقها وتقلبات والتواءات الناصح وما حقيقتها إلا حسد وحقد وخبث وخداع، لكن المنصوح يتغابى ويتغافل عنه ويتركه يسرد ما لديه ويضع نفسه موضع المُصدق المتقبل للنصيحة وهذا شيء إيجابي من الإنسان الذي يستطيع أن يملك نفسه ولسانه مع علمه وإدراكه لما في الموضوع حتى تبقى عرى العلاقة والوصال مترابطة لأنه حينما يكون المرء مدركًا ما يحوم حوله من الأحداث وما يحاك له من الدسائس والمكائد يستطيع أن يتخذ احتياطاته والوسائل التي تقيه شر ما يحاك له من المكر والدسائس ويعرف كيف يتجنب ذلك فلا يضيره أن يتصنع الغباء والتغافل الذي يقيه أثر الشرين، شر ما يُقال وشر ما قد يكون من الرد الذي لا يُناسب وقد تكون له عواقب وخيمة.

ناهيك عن أنَّ عدم التغافل يجر الإنسان لكثرة الكلام والخوض في المراء الذي نهى عنه قدوة البشرية في أدب الكلام والذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا...) والتغافل يسد أبواب المراء وكثرة الكلام الذي لا طائل منه ولا خير فيه إلا فتح أبواب التباغض والتشاحن.

والتغافل من سمات العظماء وشيم الكبار وصفات الأنبياء فهذا نبي الله يوسف عليه السلام يتغافل ويتغاضى عما فعله فيه إخوته وما حاكوه له من عداء فضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك عندما تغافل عن تطاول إخوته عليه ورموه بالسرقة فذكر الله ذلك التطاول في كتابه العزيز، قائلًا سبحانه وتعالى: {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف: 77]

ومن أدب التغافل أن يغض الإنسان الطرف ويعفو عن بعض الزلات والأخطاء التي قد تصدرعرضًا من القريب أو الصديق، والبعد عن عدها وإحصائها يعد من الحلم وهي صفة من صفات العقلاء قل من استطاع أن يتصف بها.

إن التغافل عن زلل وأخطاء الآخرين كثيرًا ما يجعل الطرف الآخر مستشعرًا الذنب وفي ذات الوقت يترك باب عودته إلى رشده مواربًا ويبادر بالندم والاعتذار.

وغياب مبدأ التغافل في المجتمع ترتب عليه ظهور الكثير من الخلافات والمشكلات التي لوعاودنا نبشها وتفنيدها مرةً أخرى لوجدنا أنها غارقة في التفاهة والبساطة التي لا تستحق ما أعطيناها من الأهمية السلبية التي أفقدتنا كثير من الإيجابيات المؤثرة في حياتنا اليومية من الصحة والعلاقات والمعاملات المتوجب علينا مراعاتها وأن نحافظ عليها ونحرص على ترسيخها في ما بيننا لننعم بالسعادة والإخاء بعيدًا عن التشاحن والبغضاء التي سببهما البعد عن التغافل الإيجابي الذي يحفظ لنا عرى المحبة والمودة والتراحم والتلاحم بيننا.

وأخيرا فرسالتي لكم لا تبحثوا عن تفسيرات ما يُقال كثيرًا ولو كان خطأ ولو كان يجرح ويحز في النفس ولا تتبعوا عثرات من تحبون ولا غير من تحبون فإن عدم البحث عن التفسيرات وعدم تتبع العثرات راحة للنفس وطمأنينة للقلب وكسب للآخرين وصحة للجسم وملأ الصحائف بالحسنات فإن الله يعوض الصابرين على ما يجده من الغير سواء قريباً أو بعيدا جبال من الحسنات فاذكروا حسنات بعضكم وتجاوزوا عن الأخطاء والعثرات فإنَّ الكلام الجميل كالمفاتيح يفتح به الإنسان قلوب من حوله.

هنيئا لمن يتغاضى ويلتمس الأعذار ويزرع الخير وطوبى لمن يحصد ثمرة الخير والبركة في الحياة الدنيا وفي المال والأولاد للقائمين على فعل الخير والناطقين به ومحسني الظن بالآخرين والسعد والفلاح والنجاح للخارجين من هذه الحياة الفانية بحسن المعشر وطيب الذكرى.

وقد أعجبتني بعض الأبيات المنسوبة للإمام الشافعي رحمة الله عليه تناسب هذا السياق يقول فيها:

قالوا سَكَتَّ وَقَد خُوصِمتَ قُلتُ لَهُم // إِنَّ الجَوابَ لِبابِ الشَرِّ مِفتاح

والصمَّتُ عَن جاهِلٍ أَوأَحمَقٍ شَرَفٌ // وَفيهِ أَيضًا لِصَونِ العِرضِ إِصلاحُ

أَما تَرى الأُسدَ تُخشى وَهِيَ صامِتَةٌ // وَالكَلبُ يخسى لَعَمري وَهوَ نَبّاح

وأخيرًا.. فقد قيل إن التجاهل وقت الغضب ذكاء والتجاهل وقت المصاعب إصرار والتجاهل وقت الإساءة تعقل والتجاهل وقت النصيحة البناءة غرور فلننتبه متى نتجاهل.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

لماذا تكره القبائل التي تشكل الحاضنة العسكرية والسياسية للجنجويد دولة 56؟

لماذا تكره القبائل التي تشكل الحاضنة العسكرية والسياسية للجنجويد دولة 56؟
لأنها صناعة الإنجليز الذين لم يدخلوا السودان كمستعمرين ولكن تلبية لمطالبة الآلف من السودانيين الذين كانوا يعيشون تحت وطأة الظلم والفقر والحكم القسري للخليفة عبد الله الذي أنقلب على وصايا الامام المهدي. دولة 56 هي التي بدأت بإنهاء حكم الخليفة عبد الله التعايشي الذي نقض عهد المهدي وانقلب على الخلفاء وكان ينتوي توريث ابنه بإيعاز من أخيه يعقوب. لم تكن دارفور نفسها خاضعة التعايشي آنذاك بل كانت أركان المهدية تقوم على جيش يتكون من مجموعة جيوش بولاءات مختلفة فحسب الوثائق البريطانية للعام 1891 في ارشيف السودان بجامعة درم البريطانية كان جيش الخليفة يتكون من 46 الف مقاتل منهم
8000 تعايشة
12000 رزيقات
3000 حمر وهولاء يعتبرونه الخليفة عبد الله قائدهم المباشر
10,000 جعليين
8000 من قبائل متفرقة من مديرية بربر
7000 من دنقلا وهولاء يعتبرونه الخليفة محمد شريف قائدهم المباشر
3000 من عرب كنانة وهؤلاء يعتبرون الخليفة علي ود الحلو قائدهم المباشر.
وطبعا الجميع يعلم أن تمردا قد قام في امدرمان ضد الخليفة في العام 1892 بقيادة الخليفة شريف ومجموعة من عمد بربر احتجاجا على الضرائب ومصادرة الأراضي وغيرها من الإجراءات التعسفية التي فرضت عليهم و المواطنين في مناطقهم. مجموعة من العمد كانت قد سافرت إلى مصر ونقلت احتجاجاتها وتذمر المواطنين وقد أخمد الخليفة عبد الله التمرد و حبس الخليفة شريف. هذة الوثائق طويلة ويمكن الرجوع لها في الرابط ادناه. ولكن الشاهد فيها إن الجلابة الذين يتم اتهامهم بإحتكار الامتيازات التاريخية هم في الواقع من كانت ترتكز عليهم الدولة المهدية ولكن والصراعات الداخلية التي حدثت نتيجة لسوء اداراة الخليفة عبد الله ورغبته في توريث الحكم هي ما عجلت بسقوط حكمه على يد الإنجليز لتتأسس دولة 56 على انقاض المهدية.
سبنا امام

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • يسري جبر: التغافل سر السعادة الزوجية.. وجنازتك أهون من جوازتك التانية
  • ما مدى نجاسة بول القطط وحكم الصلاة في المكان الذي تلوث به؟.. الإفتاء توضح
  • طوال العامين الماضيين ظللت أعتذر عن دعوات الزواج التي قدمت لي من الأهل والمعارف
  • كان الرسول اذا اشتد عليه أمر فعل هذا العمل.. اغتنمه
  • لماذا تكره القبائل التي تشكل الحاضنة العسكرية والسياسية للجنجويد دولة 56؟
  • الإنسان بين نعمة الهداية وشهوة الطغيان .. قراءة دلالية في وعي الشهيد القائد رضوان الله عليه
  • جورج عبد الله.. الثائر الذي عاد بروح لم تنكسر رغم سنوات سجنة الـ41
  • جورج عبد الله.. الثائر الذي عاد بروح مقاومة رغم سنوات سجنة الـ41
  • دعاء النبي عند رؤية هلال شهر صفر.. تعرف عليه وردده
  • حكم الكلام بين المصلين أثناء خطبة الجمعة.. الإفتاء تحذر من الباطل الساقط