الآكلون بألسنتهم وأقلامهم على موائد الصهاينة!
تاريخ النشر: 26th, September 2024 GMT
الأحداث الكبرى التي تعيشها الأمة ـ رغم قسوتها، وشدتها، والآثار المادية التي تنتج عنها ـ إلا أنها كاشفة كذلك عمن يعيش وفي خاطره وقلبه قضايا أمته، ومن يعيش، وجسده عربي أو مسلم، لكن العقل والقلب مع العدو، سواء كان العدو غربيا، أم صهيونيا، ولو لم تأت الأحداث لانطلى على كثير من الناس، ما كان يطنطن به هؤلاء من حديثهم حول قضايا تتعلق بالعروبة والإسلام، أو بالإنسان وحقوقه.
كثيرا ما يتساءل الناس: لماذا تبدو هذه الظاهرة في لحظات ضعف العالم الإسلامي، وتبدو بشكل فج، في وقت تكون فيه الأمة أحوج ما تكون لكل صوت يدعم قضيتها، فإذ بهم يطعنون المقاومين للعدوان، والرافضين للظلم والظلمة، فنجدهم مع العدو والظلم، وضد الحق وأمتهم، وإن بدوا أمام الناس أنهم منا، يتحدثون بألسنتنا، وألوانهم كألواننا؟!
أليس ما نراه على بعض قنوات، وبرامج، وبعض مقدمي برامج، وبعض كتاب مقالات، وأصحاب أقلام عرب ومسلمون، هو ما تعبر عنه هذه الأحاديث، وتحذر منه، من قوم يأكلون بألسنتهم وأقلامهم على موائد الصهاينة، وعلى موائد المحتل، أو وكلائه في بلداننا، وهو ما نراه من قصف مستمر على كل مقاوم والحقيقة أن هذه الظاهرة حين نراها، فهي تزيدنا إيمانا بقرآننا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد أخبرنا الوحي بهذه الظاهرة، وأنها ستوجد في الحياة، وهؤلاء الأشخاص الذين يأكلون بألسنتهم وأقلامهم على موائد العدو الداخلي والخارجي، هم مصداق لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والذي ذكرت بعض أحاديثه الشريفة أوصاف هؤلاء، ونعتهم، وتفاصيل دقيقة لأفعالهم ومنهاجهم، بل شبهتهم تشبيهات غاية في البلاغة والوصف.
ورد في تشبيه الذين يأكلون بألسنتهم وأقلامهم بالباطل على مائدة العدو والظالم، في حديثين مهمين، أما الأول: فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يخرج قوم يأكلون بألسنتهم؛ كما تأكل البقر بألسنتها"؛ ويقول العلماء عن سر هذا التشبيه بالبقر في طريقة أكلها: كما أن البقر تأكل الحشيش من كل نوع ولا تميز بين النافع والضار، فكذلك هؤلاء لا يبالون بما يقولون من كلامهم.
وقيل: إن البقرة كما لا تهتدي إلى الكلأ، ولا تتمكن من الاحتشاش إلا بلسانها، فكذلك هؤلاء لا يهتدون إلى المآكل إلا بذلك، لا يميزون بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، سمَّاعون للكذب أكَّالون للسحت، فوقع ضربُ المثل بالبقر عن هذين المعنيين.
وقد ورد الحديث برواية أخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه، كما تخلل الباقرة بلسانها"، وقال شراح الحديث في معناه أيضا: إن الله تعالى يبغض البليغ، أي: الفصيح، وهو المبالغ في الكلام. وقوله: "الذي يتخلَّل بلسانه"، أي: يأكل بلسانه؛ يعني يدير اللسان حول الأسنان في التكلم تفاصحا، أي يتشدق في الكلام، ويفخم لسانه، ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها، والمراد: يدير لسانه حول أسنانه مبالغة في إظهار بلاغته، ثم يستخدم هذه اللون من التفاصح لنصرة الباطل، أو لتزيينه، وإخفاء الحق عن الناس.
لم يعد غريبا أن تطلق الجماهير العربية الفطنة على إحدى القنوات وصف العبرية، وعلى كتاب وإعلاميين أوصافا تحول أسماءهم من اسم عربي لعبري، لأنهم وصفوه بما ينضح به قلبه، وينطق به لسانه، ولو حاول أن يلحن في القول، أو يدعي الحياد والمهنية، لأن المواقف باتت كاشفة وفاضحة. أما الحديث الآخر، فهو أشد حكما، وأبلغ وصفا، لما نعيشه الآن من أقلام وأصوات، ظاهرهم أنهم منا، قومية ووطنا ولغة، لكن حقيقة الأمر أنهم على غير ذلك، بل هم سهم في كنانة العدو ضد أمتهم وقضاياها، فقد كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يسأل عن الشر مخافة أن يقع فيه، وحتى يتجنبه إذا بدا له، فظل يسأل هل بعد هذه المرحلة النبوية بخيرها من حال آخر، فأخبر بنعم، ثم سأل عن الفتن المختلفة التي تأتي، فأخبره صلى الله عليه سولم عن شريحة من الناس ستأتي أيضا، تكون من دعاة الشر، سماهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" فقال حذيفة: قلت: صفهم لي يا رسول الله؟ قال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا".
فهم ليسوا دعاة لحق، ولا مناصرين له، بل يدعون إلى أبواب جهنم، أي: كل أبواب الشر والفتن، وكل أبواب الخيانة والعمالة الظاهرة والخفية، يزينونها للناس، تارة بالهجوم على أهل الخير، أو دعاته، وتارة بالدفاع عن العدو، ومما يزين ما يفعلون، أنهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، فهم ليسوا غرباء عنا، لا غرباء البدن، ولا غرباء اللسان. فهم من أنفسننا وقومنا، فهم في الظاهر مثلنا ومعنا، وفي الباطن مخالفون لنا في أمورهم وشؤونهم.
فقد قال العلماء كذلك في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من جلدتنا"، أي: من أنفسنا وعشيرتنا، وقيل: معناه من أهل ملتنا. ويتكلمون بما قال الله تعالى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بالمواعظ والحكم. وما في قلوبهم شيء من الخير، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. وأراد أنهم في الظاهر مثلنا؛ معنا، وهم في باطن الأمور هم مخالفون لنا، وجلدة الشيء ظاهره، وإنما أراد به القرب، فظن السمرة غالبة عليهم، واللون إنما يظهر في الجلد.
وقد كان الشيخ الغزالي رحمه الله يصف هؤلاء بوصف دقيق، ويطلق عليهم هذا العنوان المعبر: (الإنجليز السُّمْر)، فقد كان المحتل الإنجليزي مختلف البشرة عن أهل بلادنا، لكنه قبل أن يرحل عن بلادنا ترك وكلاء وعملاء له، تختلف بشرتهم عن بشرته، لكن المنهج والهدف والغاية متفقة ومتماهية تماما معه، فهم استعماريو الهوى، سمر البشرة، كي يكون كلامهم مقنعا للبسطاء من أبناء الأمة، فلا بد من قرب البشرة واللسان من الناس، حتى يمرر ما يقولون.
أليس ما نراه على بعض قنوات، وبرامج، وبعض مقدمي برامج، وبعض كتاب مقالات، وأصحاب أقلام عرب ومسلمون، هو ما تعبر عنه هذه الأحاديث، وتحذر منه، من قوم يأكلون بألسنتهم وأقلامهم على موائد الصهاينة، وعلى موائد المحتل، أو وكلائه في بلداننا، وهو ما نراه من قصف مستمر على كل مقاوم، ولذا لم يعد غريبا أن تطلق الجماهير العربية الفطنة على إحدى القنوات وصف العبرية، وعلى كتاب وإعلاميين أوصافا تحول أسماءهم من اسم عربي لعبري، لأنهم وصفوه بما ينضح به قلبه، وينطق به لسانه، ولو حاول أن يلحن في القول، أو يدعي الحياد والمهنية، لأن المواقف باتت كاشفة وفاضحة.
[email protected]
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه عربي احتلال علاقات عرب رأي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة صلى الله علیه وسلم ما نراه
إقرأ أيضاً:
خطبتا الجمعة بالحرمين: لا حج إلا بتصريح فنعمة الأمن والأمان من أعظم النعم.. ولن يخزي الله مسلمًا سار على هدي نبيه
ألقى الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس المسلمين خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام، وافتتحها بتوصية المسلمين بتقوى الله -عز وجل-.
وقال السديس: في زمان كثرت فيه الفتن الظلماء، وعمت محن الدهماء، وفي أغوار الأحداث وأعماقها تتألق قضية فيحاء عريقة بلجاء، من الضرورات المحكمات، والأصول المسلّمات، ومن أهم دعائم العمران والحضارات، إنها قضية الأمن والأمان، والاستقرار والاطمئنان”.
وأوضح أن الأمن أول دعوة دعا بها خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام؛ إذ قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا أمنا وَارْزُقْ أهله مِنَ الثَّمَرَاتِ}، فقدَّم الأمن على الرزق، بل جعله قرين التوحيد فجمع في دعائه بين أمنين عظيمين؛ الأمن العام الشامل لحفظ الأنفس والأبدان، والأمن العقدي، الذي يُراعى فيه التوحيد الخالص لله تعالى، وهذا معنى عظيم من معاني الإيمان الذي جاءت به شريعة الإسلام.
وبين أنه منذ أشرقت شمس هذه الشريعة الغراء ظللت الكون بأمن وارف، وأمان سابغ المعاطف، لا يستقل بوصفه بيان، ولا يخطه يراع أو بنان.
وقال: تلك هي المنهجية الإسلامية الصحيحة لهذه القضية الشاملة الربيحة، قضية الأمن والأمان، فهما جنبان مكتنفان للإيمان، منذ إشراق الإسلام، إلى أن يُحشر الأنام، فلقد أعلى الإسلام شأنها، ورفع شأنها، من خلال التزام الإيمان والتوحيد وجانب الوسطية والاعتدال والابتعاد عن الإفراط والتفريط في كل أمور الحياة.
ولفت النظر إلى أن من قضايا العصر المؤرقة التي رمت الإنسانية بشرر، واصطلى بها العالم الإسلامي وتضرر، ذلكم الغزو الفكري المتتابع، والاستهانة بعقول البسطاء المتراقع المصادم لشريعة الإسلام، والمضاد لهدي خير الأنام، لم تنشب آثاره، تتأرجح بعقول بعض الشباب الأغرار، ومن يغرر بهم، ويقتل لهم في الذرى والغوارب لذا فإن من أهم أنواع الأمن: الأمن الفكري، بل هو لب الأمن وركيزته، لأن الأمم والأمجاد والحضارات إنما تقاس بعقول أبنائها وأفكارهم، لا بأجسادهم وقوالبهم.
وحذر فضيلته من الاختراقات الإلكترونية بشتى صورها وأنواعها، وجرائم الذكاء الاصطناعي الذي أصبح متاحًا للجميع مبينًا أنه أمام تلك الأنشطة الإجرامية متعددة الأوجه فإن الواجب الوقوف صفًا واحدًا في وجه كل من يحاول شق الصف وإحداث الفرقة والخلل، بالكذب على القيادات والرموز والعلماء بمقاطع مكذوبة، أو أقوال منتحلة من خلال تفعيل الأمن المجتمعي، والإبلاغ عن كل ما يخل به، فهو ضرورة حتمية لمعرفة أساليب النصب والاحتيال، وكيفية التعامل معها والوقاية منها، وحملات الحج الموهومة والمضللة؛ لوقاية المجتمع من الجرائم المستحدثة التي تنتهك الحقوق والحريات، وتستهدف الدين والأنفس والعقول والأعراض والأموال، وأن من البشائر والآمال أن نسبة الوعي بهذه الحرب محل إشادة وتقدير، فلا تهزها الشائعات المغرضة، والافتراءات الكاذبة، التي هي نتاج أحقاد مفضوحة مكشوفة، ولهذا فإن الوعي المجتمعي أساس الأمن المجتمعي، محذرًا البعض أن يكون أدوات أو مطايا للأعداء دون أن يشعروا، بتصديق تلك الترهات.
ورأى الشيخ عبدالرحمن السديس أن الناجحين والطموحين أفرادًا ومؤسسات، ودولاً وكيانات، تتناوشهم سهام الحاسدين والحاقدين في كل مكان وزمان.
وأكد أن من أعظم النعم والآلاء نعمة الأمن والأمان؛ فبلادنا بحمد الله آمنة وهي بحفظ الله محفوظة، مشددًا على أهمية أمن الحرمين الشريفين وقاصديهما، ذلك أن الحج عبادة شرعية، وقيم حضارية، تلبية ورجاء ودعاء، وذكر ونداء، وخشوع وصفاء، وتوبة وثناء، فهو نظام كامل، ومنهج شامل، وعبادة خالصة مؤكدًا أهمية التزام الأنظمة والتعليمات والتوجيهات ومنها: لا حج إلا بتصريح، وهو من لوازم شرط الاستطاعة، تحقيقًا للمقاصد الشرعية الكبرى في جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، وإثراء تجربة القاصدين والزائرين الدينية والقيمية، وأنه يجب تعاون المواطنين والمقيمين والمسلمين جميعًا في هذا الجانب الأمني المهم.
وأوصى إمام وخطيب المسجد الحرام المسلمين بضرورة الوحدة والاعتصام لمواجهة المخاطر والتحديات، خاصة مآسي إخواننا المستضعفين وأحبتنا المكلومين في فلسطين العزيزة، والمسجد الأقصى المبارك، فلا ننساهم من دعائنا، ونبتهل إلى الله أن يكشف عنهم ما نزل بهم، وينصرهم على عدوهم.
* وفي المسجد النبوي الشريف ألقى خطبة الجمعة الشيخ الدكتور عبدالباريء بن عواض الثبيتي، وتحدث عن سيرة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – بوصفها منهجًا ودستورًا يصلُحُ بها حالُ البشرية جمعاء في كل زمان ومكان، وتمثّل رسالة تنبضُ بالحياة، تُحيي القلوب والضمائر، وترسّخ مبادئ العدل والرحمة والمساواة، وتُلغي كل تفاضُلٍ زائف بين البشر قائم على العِرق أو المال أو اللون أو الجِنس، وتمنحُ البصيرة في زمن الفتن.
وأوضح الشيخ عبدالباريء الثبيتي أن سيرة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – تُمثّل رحلة مفعمة بالدروس من المهد إلى اللّحد، من خلوته في غار حِراء حيث بدأ الوحي، إلى مِنبر المدينة ؛ إذ أُعلنت الرسالة، من يُتمٍ وابتلاءٍ إلى ريادة وتمكين، من أول نداءٍ بالعلم: “اقرأ” إلى آخر وصية خالدة “الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانُكُم”.
ويسرد إمام المسجد النبوي السيرة العظيمة لنبي الرحمة والهدى – صلى الله عليه وسلم – مبينًا أنه وُلِد يتيمًا، لكن اليُتم ليس ضعفًا، وإن بدا في ظاهره حرمانًا، فهو حافزٌ للنبوغ، ودافعٌ للتوكُّل على الله أولاً، ثم الاعتماد على النفس بثقة وثبات، فكثيرًا ما يلتقي اليُتم بالإرادة، يتحوّل إلى شعلة تضيء الطريق، وهذا ما تجلّى في سيرة النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم -، وسِيَر العُظماء قبله وبعده، فكم من يتيم خطّ اسمه في سجلّ الخالدين، وارتقى بالإيمان، وتسلّح بالعلم، وسما بالعمل، حتى أصبح من روّاد النهضة، وصُنّاع الحضارة.
وبين أن النبي – عليه الصلاة والسلام – تزوّج السيدة خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها-، فكان زواجًا أُسّس على حبٍّ صادقٍ، ووفاءٍ ثابت، ومودة ورحمة، وشراكة صادقة، وأي بيت تُبنى دعائمه على هذه القيم النبيلة، لا تهزّه العواصف، ولا تفته الخلافات، ولا ينهار أمام أتفه الأسباب.
وأضاف: وفي سن الأربعين، وبينما كان النبي يختلي بنفسه في غار حراء، متأملًا في ملكوت الله، نزل عليه جبريل عليه السلام، يحملُ أعظم نداءٍ سَمعته البشرية: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} نداءٌ لم يكن مجرد أمرٍ بالقراءة، بل إعلان لميلادِ أمة، شعارها القراءة باسم الله، ومنهجُها العلم، وحِصنُها الإيمان، فبدأت الرسالة الخالدة بـ”اقرأ” لِتؤسّس إنسانًا يعي، وعقلًا يُفكّر، وقلبًا يؤمن، وأمة تنهضُ على نورٍ من الوحي.
وتابع فضيلته بقوله: عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته، وقد ارتجف جسدُه من هول أول لقاء بالوحي، فلم يجِد مأوى أحنُّ ولا أصدقَ من حضن السيدة خديجة – رضي الله عنها-، فاحتوته بسكينة المرأة الحكيمة، وثبات القلبِ المُحبّ، وقالت كلمتها الخالدة التي سكنت قلبه، وبدّدت خوفه: “كلا، أبشر، فوالله لا يُخزيك الله أبدًا، إنك لتصِلُ الرّحِم، وتصدُقُ في الحديث، وتحمل الكلَّ، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحقّ”، وبناء على ذلك لن يُخزي الله أبدًا، من سار على هدي نبيّه، فجعل الإحسان طريقه، والرحمة خُلُقه، والنبوّة قدوته.
وأضاف الشيخ عبدالباريء الثبيتي بأن المنهج النبوي في الدعوة كان مؤسسًا على التوجيه الإلهي: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَةِ} فانطلقت دعوته بكلمة طيبة تلامس القلوب، وصبر جميل يغلبُ الصُّدود، يردُّ على الجهل بالحِلم، ويقابل القسوة بالرفق، كانت دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم- رحمة تسري، لا سطوة تُفرض؛ قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَة لِّلْعَٰلَمِينَ}، رحمة بالحائر، ورفقٌ بالجافي، وحِلمٌ على من أساء، حتى في أشدّ المواقف، لم يُقابل الجهل بجهلٍ، ولا الغِلظة بغِلظة، بل قاد القلوب إلى الله باللين، وفتح المغاليق بالمحبة.
وذكر أن زمننا هذا كثُرت فيه الأصوات، وارتفع فيه الجدل، وقلّ فيه الأسلوب الحكيم، ونحن في أمسّ الحاجة للعودة إلى ذلك المنهج النبوي الراشد، منهجٌ يُخاطب العقول بالحكمة، والقلوب بالرحمة، ويدعو إلى الله برفقٍ يُحيي، لا بغلظة تُنفّر.
وبيّن إمام وخطيب المسجد النبوي أنه إذا تحدثنا عن خُلُق النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – فلن توفيه الكلمات قدره؛ فهو خُلُق تجسّد، ورحمة تمشي، فكان الصفحُ عنده سجيّة، والكرم عادة، والتواضع طريقًا، وكان يعفو عمن ظلمه، ويصلُ من قطعه، ويُكرم من أساء إليه، يُواسي الحزين، ويمسح على رأس اليتيم، ويَرحمُ الصغير، ويوقِّر الكبير، لا يُفرّق بين غني وفقير، يجلس بين أصحابه، يُصغي إليهم ويؤانسهم، كأنه واحد منهم، ومع ذلك كانت له هيبة تملأ النفوس، ومحبة تأسر القلوب.
وتابع قائلًا، كان عليه الصلاة والسلام قائدًا يُربّي الرجال على الإيمان والصِدق، وحاكمًا يُدير دُفة أمة، ويُقيم أركان حضارة، وزوجًا حنونًا يرعى شؤون بيتِه بمحبة ومسؤولية، وعبدًا شكورًا يقوم بين يدي ربه في جوفِ الليل حتى تتفطّر قدماه، ومُصلحًا حكيمًا يُداوي عِلل المجتمع بالرحمة والعقل والبصيرة، وفي كل جانب من هذه الجوانب، كان النبي – صلى الله عليه وسلم – نموذجًا فريدًا، ومُعلمًا للقدوة والاقتداء.
وذكر أنه في حجته الأخيرة وقف النبي – صلى الله عليه وسلم – على صعيد عرفات، تُحيطُ به أمواج من القلوب المؤمنة، أكثر من مئة ألف نفسٍ، تُنصت بخشوعٍ، لِتشهد أعظم بيانٍ عرفه التاريخ.
وأورد الشيخ الدكتور عبدالباريء الثبيتي ما تضمنته خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، مبينًا أنه رسم فيها للأمة خارطة الطريق، وحدّد فيها معالم البقاء وعوامل العزّ، وأعلن فيها المساواة بين البشر، وأبطل كل تفاضُلٍ زائفٍ قائم على النَسَب أو المال أو اللون أو الجنس، وغَرَس في القلوب ميزانًا ربانيًا واحدًا، هو التقوى، ثم أوصى بالنساء خيرًا، وحذّر من الظُلم، وذكّر بحرمة الدماء والأعراض، وأرسى مبادئ العدل والرحمة، وختم عليه الصلاة والسلام خطبته العظيمة بوصية خالدة، هي حبل النجاة، ودستورُ الفلاح في الدنيا والآخرة، فقال: “تركتُ فيكم أمرين؛ لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما: كتاب الله، وسُنّتي”.
وأضاف بأنه بعد أن بلّغ النبي -صلى الله عليه وسلم- الرسالة، وأدى الأمانة، وربّى أمة، وأقام حضارةً، اشتد عليه المرض في أيامه الأخيرة، لكنه لم يغفل عن أمته، بل كانت آخر وصاياه: “الصَّلاة الصَّلاة وما ملكت أيمانكم”، لعِظمِ شأنها، وجلالة قدرها.
وختم إمام وخطيب المسجد النبوي خطبة الجمعة مُذكرًا بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ خرج إلى الناس في لحظاته الأخيرة، يتأمّلهم بعين المحبة، وكأن قلبه يطوفُ بهم مودّعًا، ثم عاد إلى بيته، وأسلم روحه الطاهرة في حِجر السيدة عائشة – رضي الله عنها، وارتجّت المدينة، لكن نوره لم ينطفئ، وسُنته لم تَغِبْ، بل بقيت حية في قلوب المؤمنين راسخة في حياة الأمة، فمات الجسدُ، لكن بقي الأثر، وبقيت الأمانة في أعناق هذه الأمة، ليسيروا على هديه، ويحيوا سُنّته، ويُبلّغوا رسالته للعالمين، فمن أحبّ النبي حقًا فليقتفِ أثره، وليُحيي سُنته في نفسه وأهله ومجتمعه، فالمحبة الصادقة ليست ادعاء باللسان، بل اتباعًا بالأفعال.