قال الله تعالى: «الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» [إبراهيم: 1].

وكلمة (إليك) فى قوله سبحانه وتعالى: «أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ» تدل على أن الوحى انتهى إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إلى غيره، فهو لا يُؤخذ إلا منه صلى الله عليه وسلم، ولا يُدرك إلا بواسطتِهِ صلى الله عليه وسلم.

وقد انبنى على هذا قوله سبحانه وتعالى: «لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ»، حيث أُسند إخراج الناس من الظلمات إلى النورِ إلى سيدِنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالهداية لا تكون إلا باتباعِه هو صلى الله عليه وسلم، والاستنان بسُنته والتمسك بهَديه.

وكان من الممكن -من حيث الصياغة اللغوية- أن تكون الآية: لِيَخرج الناسُ، بحيث تفيد أنه بوُسعِ كلِّ واحد من الناس أن يهتدىَ بالكتاب، ويخرج نفسه بنفسه من الظلمات إلى النور بمجرد قراءته وفهمه الخاص للقرآن الكريم دون الرجوع إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها لم تأتِ كذلك؛ لأن هذا المعنى غير صحيح، وغير مراد.

فهذه الكلمة الربانية «لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» تبين دون أدنى شكٍّ أنه ليس دورُ سيدِنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم هو مجرد تلاوة آيات القرآن الكريم على مسامع الناس فقط.

وقد جاءت آيات أخرى توضح هذا فى جلاء لا خفاء فيه، قال الله تعالى: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» [النساء: 113]، وهذه الآية صريحة فى أن الله تعالى أنزل عليه صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم وأنزل عليه الحكمة أيضاً، وعطف الحكمة على الكتاب يقتضى المغايرة بينهما، والذى يغايرُ الكتابَ هو ما يُبلغُه صلى الله عليه وسلم من تشريع بقوله، أو بفعله، أو بتقريره -أى: عدم اعتراضِه على فعل بحضرته- فالسُّنّة وحى كالقرآن تماماً، وتفسير بعض العلماء للحكمة بأنها النبوة لا يناقض هذا المعنى، بل يؤيده ويقويه، فالحكمة نبوة ووحى زكى قسيم لكتاب الله تعالى، جاءت مبينة له، وموضحة لأحكامه، بل استقلت ببيان بعض الأحكام الشرعية.

فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن لم يكن مجرد مبلغ لآيات القرآن الكريم، بل كان يعلم الناس القرآن والحكمة، وقد جاء هذا صريحاً فى غير موضع من كتاب الله تعالى، من هذا قوله سبحانه: «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ» [البقرة: 151]، وقوله تعالى: «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ» [آل عمران: 164]، وقوله عز وجل: «هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ» [الجمعة: 2]، فهذه الآيات جميعاً نصَّت على أنه صلى الله عليه وسلم يعلِّم الكتاب والحكمة؛ أى: ما أوحاه الله تعالى إليه من القرآن الكريم ومن السنة المطهرة.

وجَلىٌّ فى هذه الآيات المباركات أن تعليم الكتاب والحكمة جاء معطوفاً على تلاوته صلى الله عليه وسلم آيات الله تعالى؛ وسبقت الإشارة إلى أن العطف يقتضى المغايرة، فتعليم الكتاب شىء غير تلاوة آياته وتبليغها للناس، ومن صور هذا التعليم ما كان يراه الصحابة الكرام من سلوكه وأخلاقه التى هى صورة عملية لكتاب الله تعالى، فلما قال أحدُهم للسيدة عائشة رضى الله عنها: يا أمَّ المؤمنين أنبئينى عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: «ألستَ تقرأُ القرآن؟» قال: بلى، قالت: «فإن خُلقَ نبى الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن» [رواه مسلم].

وهذا معناه أنه لا بد من أن نأخذ بالسنة المطهرة، فبها يكون الانتقال من الظلمات إلى النور، وهى الحكمة التى بدونها يتخبط الناس فى دنياهم، والتى لا يصح أخذ القرآن الكريم بعيداً عنها، فالقرآن الكريم يدل على أنه لا يُؤخذ إلا من خلال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه هو الذى يعلمه، وتعليمه صلى الله عليه وسلم هو سنته المطهرة.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: القرآن الكريم السنة المطهرة النور الظلمات رسول الله صلى الله علیه وسلم ه صلى الله علیه وسلم القرآن الکریم الله تعالى ال ح ک م ة ال ک ت اب

إقرأ أيضاً:

الإجازة في تلاوة القرآن الكريم.. التحديات والفوائد وأهميتها في التعليم الإسلامي

الحصول على الإجازة في تلاوة القرآن الكريم يمثل حلمًا لكثير من المسلمين الذين يسعون إلى إتقان التلاوة وفق أصول التجويد والقراءات. هذه الإجازة ليست مجرد شهادة أكاديمية، بل هي إثبات للتمكن من نقل القرآن الكريم كما تلقاه النبي محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام. في هذا المقال، سنستعرض التحديات والفوائد في الحصول على الإجازة في تلاوة القرآن الكريم، بالإضافة إلى دورها المحوري في التعليم الإسلامي، مع تسليط الضوء على الجوانب العملية والروحية لهذه الرحلة.

ما هي الإجازة في تلاوة القرآن الكريم؟

الإجازة في تلاوة القرآن الكريم هي إثبات رسمي من شيخ مُجاز بأن الطالب قد أتقن تلاوة القرآن الكريم وفق قواعد التجويد المحددة، سواءً برواية حفص عن عاصم أو غيرها من القراءات المتواترة. تحمل هذه الإجازة سندًا متصلًا بسلسلة من المشايخ حتى تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مما يعطيها قيمة دينية وعلمية عالية.

تتطلب الإجازة في تلاوة القرآن الكريم عدة عناصر أساسية:

- إتقان أحكام التجويد (الظاهرة والمخفيّة).

- حفظ القرآن كاملًا أو جزءًا منه حسب نوع الإجازة.

- القراءة على شيخ مُجاز للتأكد من ضبط النطق والوقف والابتداء.

- الالتزام بالأخلاق الإسلامية خلال رحلة التعلم.

التحديات في الحصول على الإجازة في تلاوة القرآن الكريم

رغم الفوائد العظيمة، فإن طريق الإجازة في تلاوة القرآن الكريم ليس سهلًا، بل يواجه الدارس عدة تحديات، منها:

- صعوبة إتقان التجويد: خاصةً في الأحكام الدقيقة مثل التفخيم والترقيق، أو أحكام النون الساكنة والتنوين.

- التزام الوقت: يحتاج الطالب إلى مواظبة يومية على التلاوة والمراجعة، مما قد يصعب على من لديه التزامات عمل أو دراسة.

- البحث عن شيخ مُجاز: ليس كل المشايخ معتمدين في منح الإجازات، مما يجعل العثور على شيخ موثوق تحديًا في بعض المناطق.

- التكلفة النفسية: قد يواجه الطالب فترات من الملل أو الإحباط، خاصةً إذا واجه صعوبة في حفظ بعض السور.

الفوائد الروحية والعلمية للإجازة في تلاوة القرآن الكريم

على الرغم من التحديات، فإن الإجازة في تلاوة القرآن الكريم تحمل فوائد عظيمة، منها:

- ضمان صحة التلاوة: حيث تصبح القراءة خالية من الأخطاء وفق أصول التجويد.

- نيل الأجر العظيم: فالقارئ المُجاز يكتسب أجرًا مضاعفًا لتلاوته القرآن كما أُنزل.

- الحفاظ على السند المتصل: مما يساهم في حفظ القرآن من التحريف أو التغيير عبر الأجيال.

- التميز في التعليم الإسلامي: حيث تُفتح أمام الحاصل على الإجازة أبواب التدريس والإمامة في المساجد.

دور الإجازة في تلاوة القرآن الكريم في التعليم الإسلامي

تلعب الإجازة في تلاوة القرآن الكريم دورًا محوريًا في التعليم الإسلامي، فهي:

- أساس تعليم التجويد: حيث يعتمد المعلمون على الإجازات لضمان جودة المدرسين.

- تعزيز الثقة بين الطلاب والمشايخ: فالإجازة تُعتبر دليلًا على الجدارة العلمية.

- نشر القراءات الصحيحة: خاصةً في المناطق التي تنتشر فيها لهجات قد تؤثر على نطق القرآن.

- تشجيع الحفظ والمراجعة: لأن الإجازة تتطلب التزامًا مستمرًا بالقرآن.

نصائح للحصول على الإجازة في تلاوة القرآن الكريم

لتحقيق النجاح في رحلة الإجازة في تلاوة القرآن الكريم، يمكن اتباع النصائح التالية:

- اختيار شيخ خبير: يفضل البحث عن شيخ معروف بسنده القوي وأسلوبه الواضح في التعليم.

- الالتزام بجدول يومي: تخصيص وقت ثابت للحفظ والمراجعة.

- المشاركة في حلقات القرآن: حيث تساعد المنافسة الإيجابية على التحفيز.

- الصبر والمثابرة: لأن الإجازة تحتاج إلى وقت وجهد طويل.

أهمية الإجازة في تلاوة القرآن الكريم في العصر الحديث

في ظل التحديات المعاصرة التي تواجه الأمة الإسلامية، تبرز الإجازة في تلاوة القرآن الكريم كحصن يحفظ هوية الأمة ويربطها بمصدر تشريعها الأول. ففي عصر انتشرت فيه القراءات الإلكترونية والعشوائية للقرآن، أصبحت الإجازة ضمانة لحماية النص القرآني من التحريف أو سوء الفهم.

كما أن الإجازة في تلاوة القرآن الكريم في زماننا هذا لم تعد مجرد وسيلة لإتقان التلاوة فحسب، بل أصبحت أداة فعالة في مواجهة التيارات الفكرية التي تحاول تشويه صورة القرآن الكريم. فالقارئ المجاز يصبح سفيرًا للقرآن، قادرًا على تصحيح المفاهيم الخاطئة ونقل العلم الصحيح.

الفرق بين الإجازة في التلاوة والإجازة في القراءات

من المهم التفريق بين الإجازة في تلاوة القرآن الكريم برواية واحدة (كرواية حفص عن عاصم) وبين الإجازة في القراءات العشر. فالأولى تركز على إتقان تلاوة القرآن برواية معينة مع تطبيق أحكام التجويد، بينما الثانية تتطلب دراسة أعمق تشمل القراءات المتواترة المختلفة مع معرفة الفروق بينها.

لكل نوع من هذه الإجازات مميزاته الخاصة:

- الإجازة في رواية واحدة تكون أيسر وتحقق الغرض الأساسي من ضبط التلاوة.

- إجازة القراءات تفتح آفاقًا أوسع في العلم ولكنها تحتاج جهدًا مضاعفًا.

- كلتاهما تسهمان في حفظ التراث القرآني ولكن بدرجات متفاوتة.

الإجازة في تلاوة القرآن الكريم بين الأصالة والتطوير

تشهد الإجازة في تلاوة القرآن الكريم في العصر الحالي تطورًا في الوسائل مع الحفاظ على الأصالة في المنهج. فبينما ظل الشرط الأساسي هو التلقي المباشر من الشيخ المجاز، إلا أن التقنيات الحديثة سهلت العملية عبر:

- المنصات الإلكترونية للتعليم عن بعد.

- تطبيقات الذكاء الاصطناعي للمساعدة في التقييم.

- وسائل التواصل للاستمرار في المتابعة مع المشايخ.

لكن يبقى التحدي الأكبر هو الحفاظ على روح الإجازة التقليدية التي تعتمد على العلاقة المباشرة بين الشيخ والطالب، والحرص على عدم تحويلها إلى مجرد عملية تقنية جافة.

تأثير الإجازة في تلاوة القرآن الكريم على المجتمع

لا تقتصر فوائد الإجازة في تلاوة القرآن الكريم على الفرد فقط، بل تمتد إلى المجتمع بأكمله. فالمجازون يصبحون:

- نواة لحفظ القرآن في المجتمع.

- مرجعية في تصحيح التلاوات في المساجد.

- قدوة للشباب في الالتزام الديني.

- جسرًا بين الأجيال في نقل العلم.

كما أن انتشار حاملي الإجازات في المجتمع يسهم في رفع المستوى العام لتلاوة القرآن، ويحد من الأخطاء الشائعة في التلاوة التي قد تنتشر بسبب عدم وجود مرجعية علمية.

الخاتمة

الحصول على الإجازة في تلاوة القرآن الكريم يمثل إنجازًا عظيمًا يجمع بين الأجر الديني والتميز العلمي. رغم التحديات التي قد تواجه الطالب، إلا أن الفوائد الروحية والعملية تجعل هذه الرحلة تستحق العناء. سواءً كان الهدف هو تعليم الآخرين أو ضمان صحة التلاوة، تبقى الإجازة في تلاوة القرآن الكريم حلقة وصل بين الأجيال في حفظ القرآن الكريم ونقله بلا تحريف.

مقالات مشابهة

  • هل يجوز للمرأة الحائض زيارة القبور؟ .. الأزهر يجيب
  • سورة تفتح خلايا المخ لكل من يقرأها بفضل بركتها
  • الإجازة في تلاوة القرآن الكريم.. التحديات والفوائد وأهميتها في التعليم الإسلامي
  • رئاسة الشؤون الدينية تحتفي بالفائزين بمسابقة القرآن الكريم لحجاج بيت الله الحرام
  • "التربية" تعلن نتائج النسخة الـ49 من مسابقة القرآن الكريم
  • فضل السعي على الرزق الحلال في شدة الحر
  • الداخلية أولا وظفار ثانيا وشمال الباطنة ثالثا في النسخة 49 من مسابقة القرآن الكريم
  • أحسن ذكر للتوفيق والتيسير في الحياة.. داوم عليه وسترى العجب
  • حكم قراءة سورة يس بنية قضاء الحاجة وتيسير الأمور.. الإفتاء توضح
  • خطيب بكفر الشيخ: كفانا فخرًا وعزًا بذكر الله مصر في القرآن