أجيال غادرتنا وأخرى تصارع للبقاء
تاريخ النشر: 12th, October 2024 GMT
قديما قال الفرزدق ردا على نقد الحضرمي لأحد أبياته، "على ما يسوؤك وينوؤك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا"، هكذا ينتهج البعض نهج احتلال النقد مرتبة تالية للإبداع، لا أن يصبح مرشدا ودالا وهاديا، حتى صار النقد يعدو في طريق لا نهاية له، لاهثا خلف المدارس الأدبية والشعرية المستحدثة، محاولا هضمها وتعبيد طرق جديدة لها بين نظرياته ومناهجه.
والواقع أن الإبداع إذا افتقر إلى نقد جيد صار مرتبكا، مكررا لأخطائه التي لا يقومها أحد، ولا يهتم لها مهتم، فالناقد الجيد مرشد في الطريق الشاق، هكذا يطرح المبدع إبداعه مثلما عنّ له، ليحين دور الناقد، الذي يعيد الترتيب والكشف والاستنتاج والإشارة بطريقة جديدة مذهلة، فنجد أنفسنا أمام إبداع مواز للنص وكاشف لأبعاده.
*أجيال النقد بين الرحيل والبقاء
في الآونة الأخيرة رحلت أسماء نقدية كانت تملأ الفضاء النقدي علما وشهرة وصيتا، فمنذ أقل من سنتين رحل الدكتور صلاح فضل، والدكتور جابر عصفور، ومنذ شهور غادرتنا الدكتورة سيزا قاسم، تلتها الدكتورة سمية رمضان، ليتسلل إلينا شعور مرتجف بأن النقد الأدبي بمصر ووطننا العربي قد يكون في خطر، خاصة مع ما نشهده على الساحة النقدية الفعلية من ممارسات نقدية مرفوضة.
منذ وقت ليس ببعيد، كان النقد الأدبي حاضرا بقوة بين أكاديميين وأساتذة أجلاء كبار، لم يكونوا كثيرين في الأجيال لكنهم تركوا في كل جيل بصمة مميزة لا تمَّحى آثارها النافعة، ولم تقتصر أدوارهم على نقد النص فحسب، بل تجاوزوا ذلك إلى رعاية المواهب وصقلها، وتحليل النصوص الأدبية، ووضع النتائج في صورة نظريات يهتدي بها اللاحقون.
لكن من أسفٍ أن برحيل تلك الأجيال والتي تمثلت في جيل الرواد وما بعده، تحول النقد الآن إلى ما يشبه المجاملات، حتى صار الناقد، إلا من رحم ربي، يكتب عن نصوص المقربين المرضي عنهم لا من يستحقون، بل تحول النقد إلى مجرد انطباع سريع مقولب، ينفع لكل نص وزمان ومكان، حتى ما قيل في نص يمكن "تقييفه" ليقال في آخر، هكذا فعلت آفة النقد السريع في الندوات والصالونات الأدبية والمقالات، بل نرى أن أقبح الآثار التي ترتبت على غياب النقد الحق، كان غياب المعيار.. أي افتقاد النموذج المتصوَّر الذي ينبغي أن يكون عليه النص المكتوب، حتى ضجت ساحة الإبداع بالطاقات الزائفة الخادعة والمقلدين واللصوص ومستوردي الأفكار والضعاف في اللغة والباحثين عن القوالب الأسهل وما شابه، ولا غرو أن بعض هؤلاء نال مجدا طويلا؛ ومازال.
ويمكننا كي نجيب عن تساؤل حائر يدور حول مصير النقد بين أيدي الجيل الحالي، أن نستعرض في عجالة بعض أجيال النقد السابقة:
*جيل الرواد
من هؤلاء طه حسين، محمود العقاد، مصطفى صادق الرافعي، كان نقدهم يقوم على تذوق الأدب ثم على الأحكام العامة شأنهم شأن كبار قدامى النقاد، ابتداء بأول ناقد منهجي، وهو محمد بن سلام الجمحي، في كتابه "طبقات فحول الشعراء"، مرورا بالجاحظ، قدامة بن جعفر، وحازم القرطاجني، باستثناء الحسن بن بشر الآمدي، في كتابه "الموازنة بين الطائيين"، إذ كان ذا عقل تحليلي، فقد بنى كتابه على تحليل بعض الموضوعات في شعر الطائيين، وأخيرا عبدالقاهر الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز".
ولم يغب النقد عن اهتمام الفريق الآخر الذي انشغل بالعلم عامة أو العلوم الإنسانية في مجملها، وهذا ما يمكننا أن نلحظ شيئا من تجلياته لدى أعلام الجيل التالي، فهؤلاء هم أهم المشتغلين بالفلسفة، وهم: زكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وفؤاد زكريا(ومن قبلهم منصور فهمي)، ولكل منهم مساهمته في نقد الأدب أو نقد الموسيقى أو نقد الشعر.
* تلاميذ جيل الرواد
نستطيع أن ننظر إلى نقاد الجيل التالي الكبار، بدءا من محمد مندور وسهير القلماوي وشوقي ضيف وأحمد كمال زكي، إلى شكري عياد ولويس عوض، وشوقي عبدالحميد، رجاء النقاش، عبدالقادر القط، سيزا قاسم، وغيرهم، هؤلاء حافظوا بدرجات متفاوتة على دور الناقد ورسالة النقد، ولم يحبسوا أنفسهم في قفص التخصص الضيق. بل لقد انفتح بعضهم علي تيارات ما بعد الحداثة.
*محمد مندور مؤصلا
الناقد محمد مندور، والملقب بشيخ النقاد، كان رمزا لجيل التأصيل في النقد، حيث جاء جيل مندور ليرسخ الأفكار التي وضعها جيل النقاد الرواد من قبله، فقد جمع مندور بين دراسة الأدب والقانون والسياسة والاجتماع، وكانت فكرة السنوات التسع التي قضاها في فرنسا ذات تأثير بالغ في فكره، فقد قال إن هذه السنوات هي التي كونت شخصيته، وكانت قضية التجديد إحدى القضايا المهمة التي تؤرقه دائما، ليجد أن الصحافة هي المجال الرحب الذي سيتيح الميدان لكتاباته لينخرط بها في ميادين وساحات السياسة.
*عبدالقادر القط منتصرا للأفضل
ما زال الثمانينيون يذكرون الناقد الدكتور عبد القادر القط بكل خير (يرحمه الله) لا سيما في تجربته بمجلة إبداع، فلم يأل جهدا في الانتصار لتفوق قصيدة فتى عظيم الموهبة من مركز ناءٍ بالصعيد أو قصة شاب بديع من قرية مجهولة بالدلتا.
* الجيل الحالي:
ترى هل حافظ جيل النقاد الحالي على استكمال مسيرة أساتذتهم من جيل الرواد وما بعده، وهل أضافوا لتلك المسيرة؟
كان للناقد الكبير الدكتور محمد عبد المطلب تعليق سابق في تلك القضية، مفاده أن الجيل الجديد من النقاد لم يكمل المسيرة السابقة عليه وارتد إلى مرحلة(نقل الثقافة النقدية)، وهو ما وصفه عبدالمطلب ب(الفوضى)، ويقصد بها تعدد المسارات النقدية تعددا عشوائيا، أوجزها في خمسة مسارات:
الأول:( النقد الآلي) الذي يتحول فيه الناقد إلي( جهاز تسجيل) يردد مجموعة من المصطلحات النقدية المترجمة, ثم يفرضها على النص، فيتحول إلي كائن مشوه.
الثاني:( النقد الحرفي) ويعني أن النقد عند البعض نوع من الحرفة شبيهه بحرفة(السباكة) الناقد يمتلك مجموعة أدوات قدمها له( علم السرد) فهو يطبقها على كل النصوص، لا فرق بين نص وآخر. الثالث:( النقد المائي)، وهو نقد شبيه بالماء، بلا لون أو طعم أو رائحة، ومن السهل نقله من نص إلى آخر، ومن مبدع إلى آخر دون عناء. الرابع:( النقد الهوائي)، وهو النقد الذي ينتهي أثره بانتهاء قراءته أو سماعه، وما أكثره.
الخامس:( النقد البهلواني) وهو نقد له رواده ومريدوه إذ يتقدم الناقد إلى النص، ويستخرج منه الأعاجيب، فهو أشبه بالحاوي الذي يخدع العين فيسكب الماء من الكوب الفارغة ويخرج البيضة من أذن المشاهد.
ختاما ورغم كل ما سبق لا ننفي أنه يوجد في وقتنا الراهن نقاد كبار أكاديميين وغيرهم، يمكن التعويل عليهم، واسعو الثقافة، هاضمون للتراث العربي والآداب الغربية، ولديهم أفكار من شأنها تصحيح الأخطاء، ويوجد طلبة في السنوات النهائية بكليات اللغة العربية متفوقون ومتحمسون للنقد أيضا، وقد يكون مستقبلهم النقدي مشرقا، لكن الجميع يفتقدون للحافز، ويشعرون بالحاجة إلى التوعية بأهميتهم، لكن أعدادهم قليلة، ويكتبون يختفون تحت وطأة التيار الجارف الأكثر اتساعا، لينتهي بنا الأمر بالاعتراف أن النقد في خطر شديد، والمسؤولية في رقاب الجميع مبدعين ونقادا ومثقفين ومتابعين ومهتمين ومؤسسات عامة وخاصة؛ فإما استفاقة قريبة وإما ضاع النقد ومعه الإبداع.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: طه حسين محمود العقاد
إقرأ أيضاً:
بحوزته 10 آلاف دولار.. براءة متهم من الاتجار في العملة الأجنبية
قضت الدائرة الثالثة جنايات بمحكمة القاهرة الاقتصادية، ببراءة شخص من تهمة الاتجار في النقد الأجنبي خارج السوق المصرفي وحيازته 10 آلاف دولار.
صدر الحكم برئاسة المستشار أشرف عيسي، وعضوية المستشارين خالد الأبرق، وأحمد خالد الشايب، ومروان جمال وكيل النيابة، ومحمد علي امين السر.
واتهمت النيابة العامة أحمد.ح.أ، لأنه في يوم 10 سبتمبر 2024 بدائرة قسم مدينة نصر ثان، بمحافظة القاهرة تعامل في النقد الأجنبي على خلاف الشروط والأوضاع المقررة قانونا بأن استبدل العملة الأجنبية بما يعادلها من العملة الوطنية خارج نطاق البنوك المعتمدة أو الجهات المرخص لها قانونا في ذلك.
وباشر عملا من أعمال البنوك بأن تعامل في النقد الأجنبي والمصري بيعا وشراء دون أن يكون من المسجلين في البنك المركزي المصري لممارسة هذا النشاط.
وركنت النيابة العامة لإثبات الاتهام قبل المتهم إلى قائمة أدلة الثبوت ضمنتها ما شهد به ضابط التحريات بالإدارة العامة لمكافحة جرائم الأموال العامة، من إنه ورد إليه معلومات من أحد مصادره السرية - أكدتها تحرياته - مفادها تعامل المتهم في النقد الأجنبي خارج نطاق السوق المصرفي، وقد ابلغه مصدره السري باكتساب ثقة المتهم وعرض عليه مبلغ وقدره ۱۰۰۰۰ دولار أمريكي فتظاهر بقبول ذلك العرض وحدد معه موعد للتقابل، وعليه دبر الشاهد مبلغا بالعملة الوطنية يعادل قيمة الصفقة، وانتقل صحبة قوة من الشرطة السريين رفقة مصدره السريه إلى حيث تواجد المتهم ودار حديث فيما بين المتهم والمصدر حول الصفقة انتهى إلى إخراج المتهم مبلغا من الدولار الأمريكي من طيات ملابسه وسلمه للمصدر السري لحصره، فسلمه الأخير ما يعادله بالعملة الوطنية، وحال حصرهما للمبالغ النقدية محل الصفقة أمكن ضبط المتهم، وبمواجهته أقر بأن المبلغ المضبوط حوزته للتعامل في النقد الأجنبي خارج نطاق السوق المصرفي.
وأوضح أمر الإحالة، ان المتهم أنكر ما نسب اليه من اتهام بتحقيقات النيابة العامة ، وبجلسة المحاكمة لم يحضر المتهم بشخصه و مثل محمد قاسم وكيل عنه وطلب القضاء ببراءته تأسيساً على الدفع ببطلان القبض والتفتيش لانتفاء حالة التلبس، وعدم توافر أركان الجريمتين المنسوبتين اليه، وقدم مذكرة بدفاعه طالعتهما المحكمة وآلمت بها.
وكشفت أوراق القضية، أنه من المقرر أن جريمة التعامل في النقد الأجنبي على غير الشروط والأوضاع المقررة في القانون طبقا للمادة 212 من القانون رقم 194السنة 2020في شأن البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد يشترط لتحققها وجود النقد الأجنبي والاتفاق على بيعه أو شرائه على خلاف الشروط والأوضاع المقررة في هذه المادة وعن غير طريق المصارف المعتمدة للتعامل في النقد الأجنبي والجهات الأخرى المرخص لها بالتعامل طبقا لأحكام القانون.
وكان من المقرر أنه يكفي في المحاكمات الجنائية أن تتشكك محكمة الموضوع في صحة إسناد التهمة إلى المتهم لكي تقضي بالبراءة ما دام حكمها يشتمل على ما يفيد أنها محصت الدعوى وأحاطت بظروفها وبأدلة الثبوت التي قام الاتهام عليها عن بصر وبصيرة ووازنت بينها وبين أدلة النفي ورجحت دفاع المتهم أو داخلتها الريبة في صحة عناصر الاتهام.
وكان تقدير جدية التحريات من المسائل الموضوعية التي يوكل الأمر فيها إلى محكمة الموضوع بغير معقب -وكانت العبرة في الإثبات في المواد الجنائية هي باقتناع قاضي الموضوع بناء على الأدلة المطروحة عليه فيها وهو يحكم بما يطمئن إليه من أي عنصر من عناصر وظروفها المطروحة على بساط البحث ولا يصح مطالبته بدليل بعينه ولا بقرينة بذاتها ينص عليها.
وأشارت المحكمة في حيثيات حكمها، أنه بعد إحاطتها بوقائع الدعوى على النحو السالف بيانه عن بصر وبصيرة، لا يطمئن وجدانها إلى أدلة الثبوت التي ارتكنت عليها سلطة الاتهام في إسناد التهمة قبل المتهم وبما لا تطمئن معه المحكمة إلى ما شهد به ضابط الواقعة في ذلك الشأن، ولا على ما أثبته في محضره من أقوال واعترافات مقول بحصولها أمامه من المتهم، والاعتداد بإنكار المتهم وما أبداه من دفاع ترى المحكمة أنه أولى بالاعتبار عما عداه، كما انه لا يستقيم مع مقتضبات العقل والمنطق أن يجهر المتهم أمام الكافة بالتعامل في النقد الأجنبي في الطريق العام ، ومن ثم ترى المحكمة من ظروف الدعوى وملابساتها وقرائن الحال ما يشككها في أنه ربما كان الواقعة الضبط صورة أخرى مغايرة أمسك شاهد الإثبات عن ذكرها، ولم يفصح عنها ولم تكشف عنها التحقيقات.
ولما كانت الدعوى وعلى هذا النحو لم يتبق فيها دليل يصح على إدانة المتهم بمقتضاه سوى تحريات شاهد الأثبات الوحيد والتي لا تصلح وحدها سنداً للإدانة، بحكم أنها تخضع دائماً لرأى صاحبها وتحتمل الصحة والبطلان إلى أن يُعرف مصدرها، ولما كانت الأحكام الجنائية تبنى على الجزم واليقين ولا تبنى على الشك والظن والتخمين.
وإذ خلت الأوراق من دليل يقيني يعول عليه ويصح سنداً لإدانة المتهم فإنه يتعين والحال كذلك عملاً بنص المادة ١/٣٠٤ من قانون الإجراءات الجنائية القضاء ببراءته مما أسند إليه.