كلما غفوت قليلا ظهر لي الرجل وهو جالس على أريكة يلتفت بصعوبة نحو اليمين من شدة الألم، ويرفع عصا بيده اليسرى ويقذف بها نحو المسيّرة المرسلة من أعدائه. ولعله في تلك اللحظات تذكر بيتا من قصيدة "سقط القناع" لمحمود درويش "سقطت ذراعك فالتقطها واضرب عدوك لا مفر". هكذا تحول يحيى السنوار من قائد عسكري وسياسي إلى أسطورة تتجاوز رمزيتها الدائرة الفلسطينية والعربية، لتحتل مكانة بارزة في الميثولوجيا العالمية.
يعلم الصهاينة كيف تصنع الأساطير الملهمة، فالكثير منهم مارسوا هذه الصناعة سواء من خلال توظيف التاريخ وفي أحيان كثيرة يتم اللجوء إلى تزويره، أو عبر التحكم في الإعلام وتقنيات السينما وبقية الفنون من أجل تحويل ضحاياهم في المحرقة النازية إلى مادة سياسية وأيديولوجية؛ يبررون من خلالها ما يرتكبونه حاليا من فضائع في حق الفلسطينيين. لكن هذه المرة، بدل أن يوظفوا التكنولوجيا لصالحهم، حصل العكس تماما، حيث حققوا دون رغبة أو تخطيط منهم الأمنية التي طالما عبر عنها هذا الثائر الاستثنائي، فرح الإسرائيليون بجريمتهم، وظن نتنياهو ومن معه بأن هذا "الإنجاز" يوفر لهم فرصة لإذلال المقاومة وتركيع مقاتليها، فطلب من قيادتها تسليم الرهائن والتنازل عن أسلحتهم وأرضهم مقابل أن يتركهم أحياء!! فأثبت بذلك جهله بالتحولات الكبرى في التاريخفجعلوا منه القدوة التي ستلهم الفلسطينيين وغيرهم الأبعاد الثورية مثلما حصل مع شخصيات رسّخها التاريخ في ذاكرة الشعوب، مثل شي جيفارا الذي حوله الاغتيال إلى قوة ملهمة لملايين الشباب، أو عمر المختار الذي واجه الموت بشجاعة نادرة فداء لشعبه.
فرح الإسرائيليون بجريمتهم، وظن نتنياهو ومن معه بأن هذا "الإنجاز" يوفر لهم فرصة لإذلال المقاومة وتركيع مقاتليها، فطلب من قيادتها تسليم الرهائن والتنازل عن أسلحتهم وأرضهم مقابل أن يتركهم أحياء!! فأثبت بذلك جهله بالتحولات الكبرى في التاريخ. لم يكن الإسرائيليون وحدهم الذين فكروا بهذه الطريقة، وإنما سايرهم في ذلك أبرز قادة العالم؛ بدءا من الرئيس الأمريكي جو بايدن وصولا إلى زعماء الاتحاد الأوروبي وطيف واسع من الحكام العرب الذين اعتبروا الوقت قد حان لإيقاف الحرب. هؤلاء بدون استثناء لهم منطقهم ومصالحهم ونظرتهم للحياة وللسياسة التي تختلف كليا عن الواقع الموضوعي والذاتي الذي يتحكم في مسار كل مجاهد احتُلت أرضه، ولم يجد من سبيل لاستعادة حقه والدفاع عن شعبه سوى المقاومة حتى الشهادة أو النصر. ومن له خطة أخرى فليعرضها تحت الشمس، فهم يعلمون أن قرار عدم توقف الحرب ليس في غزة أو في لبنان، إنه في تل أبيب، وبيد نتنياهو تحديدا.
المنطقة مقبلة على معارك مفتوحة على مختلف الجبهات الإيرانية واللبنانية والفلسطينية التي ستراجع بالتأكيد تكتيكاتها، لكنها ستتمسك باختياراتها الاستراتيجية، وما أثبتته الأحداث المتتالية أن حركة حماس تحديدا يتميز خطها السياسي وبنيتها التنظيمية بالاستمرارية مهما كانت التحديات
هم يريدون فلسطين بدون مقاومين، أما الخطوة الموالية التي لا يمكن تجاهلها أو إنكارها فتتمثل في كونهم يعملون بوعي أو غير وعي من أجل فلسطين بدون فلسطينيين. ليس هذا بالضرورة موقف الحكام العرب، لكن سياساتهم تقود حتما إلى هذه النتيجة وفق التخطيط الصهيوني المعلن.
كل المؤشرات تدل على أن الحرب ستتواصل على جميع الجبهات، فاغتيال السنوار وإن شكل ضربة قوية وموجعة لحماس، إلا أنه لن يقصم ظهر المقاومة. فما حصل شبيه بما تم مع اغتيال حسن نصر الله الذي خلف وراءه تنظيما محكما وجرأة على الوصول إلى منزل نتنياهو. فالعمليات النوعية التي نفذت بعد اغتيال السنوار ضد الجيش الإسرائيلي دليل على أن الذخيرة لم تنفد، وأن القدرة القتالية لا تزال عالية.
المنطقة مقبلة على معارك مفتوحة على مختلف الجبهات الإيرانية واللبنانية والفلسطينية التي ستراجع بالتأكيد تكتيكاتها، لكنها ستتمسك باختياراتها الاستراتيجية، وما أثبتته الأحداث المتتالية أن حركة حماس تحديدا يتميز خطها السياسي وبنيتها التنظيمية بالاستمرارية مهما كانت التحديات، وما حصل يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي لم يكن قرارا فرديا مرتبطا بوجود السنوار في القيادة، بقدر ما كان اختيارا جماعيا. لذلك، من كان يتوقع أن اختفاء القائد كاف لتغيير الاتجاه وانهيار التنظيم، تبيّن له بأن هذه الفرضية خاطئة، وأن ما يطالب به الإسرائيليون لن يحصلوا عليه إلا عن طريق التفاوض.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه السنوار الإسرائيليون المقاومة غزة إسرائيل غزة المقاومة السنوار طوفان الاقصي مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
لم يخلع عباءته على مدى ربع قرن.. ما سر ولع يحيى الفخراني بالملك لير؟
ما يزال الملك لير يواصل تخليد غضبه ونزقه واستبداده وجنونه، بعد أن جعله وليام شكسبير يصرخ معبرا عن هذا كله، منذ عرض المسرحية "الاستثنائية بين مآسيه"، لأول مرة في 26 ديسمبر/كانون الأول عام 1606، من قِبَل فرقة شكسبير التمثيلية، أمام الملك جيمس الأول والبلاط الملكي في "وايت هول" بلندن.
ليتوالى تقديمها سنويا تقريبا على عدة مسارح حول العالم حتى يومنا هذا، لما تجسده من تفكك أسري ومشاكل عائلية، يكتوي بناره معظم سكان كوكب الأرض.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الممثلة المصرية وفاء عامر ترد على اتهامات الاتجار بالأعضاءlist 2 of 2ظهور استثنائي لفيروز في وداع نجلها زياد الرحبانيend of listكان آخرها مسرح "غيت" الأيرلندي، في الربع الأول من هذا العام. ثم المسرح القومي المصري، ومسرح "سان أنطون غاردن" في مالطا، في يوليو/تموز الماضي. وسوف تُقدم على مسرح "جامعة نوتردام" بهولندا، أواخر أغسطس/آب.
لكن تبقى للنسخة العربية من "الملك لير" قصة أخرى، ليس للعالمية التي لامستها فحسب، ولكن للأداء الأسطوري الذي توج به الفنان الكبير يحيى الفخراني مسيرته الفنية الحافلة.
"الملك لير" شهادة وصول الفخراني لذروة الممثل الناضجفما تزال مسرحية "الملك لير"، تُمثل أهمية كبيرة، كواحدة من "أكثر مآسي وليام شكسبير جرأة من الناحية النفسية، ناهيك عن صعوبة أدائها على المسرح"؛ كما يقول الممثل الأميركي المخضرم ستيفن أوليفر، الذي قدم العديد من الأدوار الشكسبيرية على مدى عقود.
وباعتبارها من أكثر أعمال شكسبير إثارة للمشاعر، فإن قوة مسرحية "الملك لير"، تمثل "ذروة مسيرة الممثل الناضج"، القادر على تجسيد شخصية ملك يبدو قويا، ولكنه مليء بالعيوب، ويدفعه كبرياؤه إلى اتخاذ قرارات متهورة؛ "ومن خلال المعاناة والجنون، يعرف التواضع، ويصل في النهاية إلى نوع من الخلاص المأساوي"؛ كما يقول كريس غات، مخرج النسخة المقدمة على مسرح "سان أنطون غاردن" في مالطا.
لذا، قال يحيى الفخراني في لقاء تلفزيوني على قناة "دي إم سي"، إنه يقدم شخصية "الملك لير" في هذه النسخة الثالثة من المسرحية، "وهو في سن لير الحقيقي"، خلافا للنسخة السابقة التي قدم فيها العرض وكان عمره حينها في الـ60. وأوضح أن هذا منحه الفرصة "ليعيش الحالة النفسية للشخصية بكل معاناتها وإرهاقها ومتعتها، مستفيدا من إتقانه للأحاسيس والمشاعر، كما أرادها كاتبها شكسبير".
إعلان نجم يضيء المسرح في الـ80 من عمرهأصبحت شخصية "الملك لير"، قاسما مشتركا يجمع بين النجم العالمي السير أنتوني هوبكنز، ونجم الدراما العربية، الفنان يحيى الفخراني؛ فهما الأكثر شبها بملامح لير الشكلية ومرحلته العمرية. لكن هوبكنز قدم الملك في فيلم تلفزيوني عام 2018، بوجه جليدي حاد، يعيش أجواء عسكرية صاخبة.
أما الفخراني، المولود بمصر في السابع من أبريل/نيسان 1945، فقد تقمص لير، ولبس عباءته، ووضع تاجه، وأمسك بصولجانه؛ وفي جولتين مسرحيتين تاريخيتين (2001، 2019) لم يسبقه إليهما أحد؛ قدم للوطن العربي أبا طاغية من نار، يتقلب بين نشوة الحيوية والعنفوان، وخيبة الانكسار والخذلان.
ليس هذا فحسب، بل يمكن القول إن الفخراني لم يستطع مقاومة حضور الملك لير في بعض أعماله الدرامية، ولو من بعيد. كما لم يستطع مقاومة العودة لارتداء عباءة لير وتاجه، ليقف على خشبة المسرح القومي، لتقديم نسخة ثالثة من "الملك لير"، من إخراج شادي سرور. ليكمل مشواره الأسطوري، من وجه يملأ الشاشة في الـ30 من عمره، إلى حضور يضيء المسرح في الـ80.
لماذا تمسك يحيى الفخراني بالملك لير؟تدور أحداث العرض المسرحي "الملك لير" حول الملك لير الذي قرر أن يوزع أملاكه على بناته الثلاث، ولأن ابنته الصغرى لم تشأ أن تنافقه فقد حرمها من نِعمه، وأثناء توزيعه للأملاك اشترط أن يقيم مع كل واحدة من بناته لفترة معينة، لكنّ ابنتيه الكبيرتين تقرران الاستيلاء على كل شيء وتطردان والدهما.
إذن التفكك الأسري، والتصدعات العائلية الناجمة عن نزق الآباء وعقوق الأبناء ومعارك الميراث؛ شكلت حجر الزاوية في تأثر وتمسك يحيى الفخراني بالملك لير؛ وهو الفنان المنغمس في مجتمعه العربي، ويرصد كيف أصبحت العلاقات الأسرية تمر بمرحلة خطيرة تهدد استقرار المجتمع، "بسبب الضغوط الاقتصادية، والتغيرات الاجتماعية والثقافية المتسارعة، التي ساهمت في تفكك الروابط العائلية، وتأجيج صراعات الأجيال".
وفي تفسيره للتمسك بالملك لير قرابة ربع قرن من الزمان، قال يحيى الفخراني في نفس اللقاء التلفزيوني، "إن الملك لير هو أنسب نص شكسبيري لمصر وللعالم العربي، وذلك لارتباطه بموروث ثقافي راسخ في مصر والعالم العربي، يتعلق بـ"علاقة الأب ببناته وسلطته عليهم". وأضاف أنه كل مرة قدم فيها الملك لير، كانت تُرفع لافتة "كامل العدد"، وهذا يدل على أن العرض "يمس الجمهور فعلا".
طيف الملك لير يحوم حول دراما الفخرانيتسلل طيف الملك لير بما يحمله من هموم العائلة ومشاكل التسلط والعدالة والخيانة، إلى الخط الدرامي في كثير من أعمال يحيى الفخراني بنسب مختلفة وفي مراحل مختلفة.
ففي مسلسل "الليل وآخره" الذي يُعد أحد أيقونات الفخراني، من تأليف محمد جلال عبد القوي وإخراج رباب حسين عام 2003، كان طيف الملك لير حاضرا من بعيد في الخلفية، فلم يكن رُحيّم أبا، لكنه كان أخا أكبر يتوقع من إخوته الطاعة والولاء والرضا عن كل ما يفعل، بعد أن ترك تعليمه وتفرغ لمساعدة الأب في تضخيم ثروته وتعليمهم حتى تبوؤوا مناصب جيدة.
لكنه يكتشف أن لهم وجهة نظر أخرى في حقه الشخصي في الحب، وحسابات مختلفة فيما يتعلق بأحقيتهم في الميراث؛ فزلزلته الصدمة، وثارت براكين الغضب بداخله، وانزلق نحو العصبية والعزلة.
إعلانأما في مسلسل "دهشة" الذي قام يحيى الفخراني ببطولته وأخرجه نجله شادي عام 2014، فقد كتبه عبد الرحيم كمال اقتباسا عن مسرحية الملك لير، وكان أداء الفخراني فيه متأثرا بالملك لير بشكل ملحوظ.
فالمسلسل تدور أحداثه حول الغدر والجحود والجشع وعقوق الوالدين؛ من خلال رجل ثري لديه 3 بنات، يقرر توزيع تركته عليهن وهو حي يرزق، قبل أن يكتشف أنه أوقع نفسه في ورطة لم تكن تخطر بباله، إذ بدأت بناته في تجاهله والتنكر له، ونأت كل منهن بنفسها ومالها الموروث عن والدها في شيخوخته.