د. هشام عثمان

منذ وصولهم إلى السلطة في السودان عام 1989، عبر انقلاب عسكري بقيادة الجبهة الإسلامية القومية، عملت الحركة الإسلامية السودانية، أو ما يُعرف بالكيزان، على إعادة تشكيل الوعي السياسي والثقافي للشعب السوداني. كان الهدف الأساس هو تدمير أي فكرة عن الديمقراطية والممارسة السياسية التعددية، وتثبيت الحكم الاستبدادي باسم الدين.

لتحقيق ذلك، تبنوا استراتيجيات معقدة ومرنة، تجمع بين السيطرة على المؤسسات التعليمية، الهيمنة على الإعلام، القمع المباشر، وتوظيف الدين لأغراض سياسية. هذه السياسات أسهمت في إبعاد الشعب عن مفهوم الديمقراطية وتصوير الأحزاب المدنية كعدو للوطن والدين، مما أفسح المجال أمام حكمهم الطويل.
في هذا المقال، سنناقش استراتيجيات الكيزان في تشويه الوعي الديمقراطي وشيطنة العمل الحزبي، مع تقديم حلول عملية للتصحيح وإزالة هذه الشيطنة.

استراتيجيات الكيزان لتشويه الوعي الديمقراطي وشيطنة العمل الحزبي

1. السيطرة على التعليم وإعادة صياغة المناهج

التعليم كان ولا يزال أحد أقوى الأدوات التي استخدمها الكيزان لتشكيل وعي الأجيال القادمة. منذ بداية حكمهم، أدركوا أن تغيير الفكر يتطلب السيطرة على كيفية تفكير الشباب وفهمهم لتاريخهم ومستقبلهم.

أ. تعديل المناهج الدراسية

قام النظام بإعادة صياغة المناهج التعليمية بشكل يخدم توجهاتهم السياسية والدينية. كانت الديمقراطية تُقدّم على أنها نظام غربي، غريب عن السودان وعن الإسلام، مما ولّد نفورًا عامًا من هذا النظام. تم حذف أو تشويه الفترات الديمقراطية التي مرت بها البلاد، بحيث يتم تصويرها كفترات فوضوية فشلت في تحقيق الاستقرار أو التنمية. بدلاً من ذلك، تم تقديم الفترات العسكرية والاستبدادية كفترات من النظام والاستقرار، مع التركيز على إنجازات مزعومة للنظام الحاكم.
كان مناهج التربية الوطنية والدينية موجهة لغرس قيم الولاء المطلق للحكومة القائمة والابتعاد عن النقد أو التمرد السياسي، مما زرع في الأجيال الشابة مفاهيم سلبية حول العمل السياسي المدني والنقد الديمقراطي.

ب. تغييب التاريخ الديمقراطي

تم تغييب الشخصيات الرمزية التاريخية من قادة الديمقراطية في السودان مع إبراز شخصيات دينية أو عسكرية على أنها رموز الوطن. هذا التغييب المنهجي للتاريخ ساهم في تجهيل الأجيال الجديدة بالفترات الديمقراطية، مما جعلهم غير قادرين على تقييمها بشكل صحيح أو الدفاع عنها عند الحاجة.

ج. غرس قيم الطاعة والولاء السلطوي

من خلال المناهج الدينية والمدنية، تم غرس مفاهيم الطاعة العمياء للحاكم باعتبارها قيمة دينية وسياسية في آن واحد. تم الترويج لفكرة أن الخروج على الحاكم أو انتقاده يُعتبر خروجاً على الدين، مما عزز قبول الشباب للحكم الديكتاتوري، وربطوا بين الاستقرار والسلطة المركزية وبين الفوضى والعمل السياسي الحر.

2. السيطرة على الإعلام واستخدامه كأداة دعاية فعالة

الإعلام كان السلاح الثاني في أيدي الكيزان، حيث أدركوا منذ البداية أن الإعلام يمكن أن يكون سلاحاً قوياً في توجيه الرأي العام وتشويه الحقائق. من خلال السيطرة الكاملة على وسائل الإعلام الرسمية وإطلاق حملات دعائية ممنهجة، تمكن النظام من ترسيخ صورة سلبية للأحزاب المدنية والديمقراطية.

أ. الترويج لنجاح النظام

كانت وسائل الإعلام تُستخدم بشكل مستمر لتلميع صورة النظام وتصويره كحامي للدين والوطن. تم التركيز على إنجازات سطحية ومؤقتة للنظام، مع تجنب الحديث عن الفساد، القمع، أو إخفاقات النظام في إدارة الاقتصاد والسياسة. تم تقديم الكيزان كحماة للإسلام والوحدة الوطنية، في حين تم تصوير الديمقراطيين والمعارضين كعملاء للخارج أو مؤامرين ضد الدين.

ب. الهجوم المستمر على الأحزاب المدنية

تم إطلاق حملات دعائية واسعة عبر الصحف، الإذاعة، والتلفزيون ضد الأحزاب السياسية، وخصوصاً تلك التي تروج للديمقراطية أو العلمانية. تم تصوير هذه الأحزاب على أنها فاسدة، تعمل لصالح قوى خارجية، أو أنها غير قادرة على إدارة شؤون البلاد. الهدف من هذه الحملات كان خلق نفور عام من الأحزاب وترويج فكرة أن الحزب الواحد والنظام العسكري هو الأفضل لحماية مصالح البلاد.

ج. احتكار الرأي العام

بالإضافة إلى ذلك، تم منع ظهور أي وجهات نظر سياسية معارضة في الإعلام الرسمي، مما ترك المواطن السوداني أمام خيار وحيد هو الخطاب الرسمي للنظام. تم قمع أي وسائل إعلام مستقلة أو معارضة، إما من خلال إغلاقها أو استيعابها داخل النظام عبر وسائل الترغيب والترهيب. هذا الاحتكار للرأي العام جعل من الصعب على المواطن السوداني الحصول على معلومات موضوعية أو متوازنة حول السياسة والديمقراطية.

3. قمع الحركات السياسية والنقابات

كان القمع المباشر وسيلة أخرى أساسية استخدمها الكيزان لتدمير أي نشاط سياسي خارج إطار سيطرتهم. لم يقتصر هذا القمع على الأحزاب المدنية فقط، بل شمل أيضاً النقابات والمنظمات المجتمعية التي كانت تمثل أصواتاً ديمقراطية مؤثرة في الشارع السوداني.

أ. تفكيك النقابات

كان للنقابات العمالية والمهنية دور بارز في دعم الديمقراطية والمطالبة بالحقوق السياسية والاقتصادية. أدرك الكيزان خطورة هذه النقابات، لذلك عملوا على تفكيكها وإعادة تشكيلها لتكون تحت سيطرتهم. تم استبدال القيادات النقابية المنتخبة بقيادات معينة من النظام، مهمتها الدفاع عن سياسات الحكومة وتبريرها بدلاً من الدفاع عن حقوق العمال والمهنيين.

ب. استهداف المعارضين السياسيين

شهد السودان خلال فترة حكم الكيزان موجات من الاعتقالات والمحاكمات الصورية ضد المعارضين السياسيين. تم استهداف قادة الأحزاب المدنية، وتم الزج بهم في السجون أو إجبارهم على المنفى. بعضهم تعرض للتعذيب أو التضييق الاقتصادي، بينما تمت تصفية البعض الآخر سياسياً أو اجتماعياً. الهدف من هذا القمع كان خلق حالة من الخوف والترهيب لدى الجماهير، حتى لا يتجرأ أحد على دعم الأحزاب المدنية أو التفكير في المشاركة السياسية خارج إطار النظام.

ج. منع التجمعات السياسية والمظاهرات

بهدف القضاء على أي حراك سياسي معارض، لجأ النظام إلى حظر التجمعات السياسية والمظاهرات. تم استخدام الأجهزة الأمنية لقمع أي احتجاجات أو مسيرات سلمية، مع إطلاق يدها في التنكيل بالناشطين والمعارضين، مما خلق حالة من الرعب السياسي في البلاد.

4. التوظيف السياسي للدين

استخدم الكيزان الدين كأداة قوية لتبرير حكمهم وتشويه سمعة معارضيهم. لم يكن الدين بالنسبة لهم وسيلة لتوجيه الناس نحو القيم الروحية والأخلاقية فقط، بل كان أداة لإضفاء الشرعية على حكمهم ولتقويض مصداقية الأحزاب المدنية.

أ. الترويج لفكرة "الإسلام هو الحل"

رفع الكيزان شعار "الإسلام هو الحل" كوسيلة لتبرير سياساتهم وتوجيه الرأي العام ضد أي محاولة للتفكير في البدائل السياسية. تم تصوير الديمقراطية والليبرالية كأفكار مستوردة من الغرب تتعارض مع الدين، مما خلق معادلة خاطئة في أذهان الناس تربط بين الحكم الإسلامي والحكم العسكري كضمان للاستقرار والقيم الأخلاقية.

ب. استغلال المساجد والمنابر الدينية

استخدم الكيزان المساجد كمنابر لتوجيه الرأي العام، حيث تم تدريب الخطباء والأئمة لنشر أفكار النظام بين المواطنين. الخطب الدينية أصبحت وسيلة للتحريض على الأحزاب المدنية ولإضفاء الشرعية الدينية على سياسات النظام. كل من يعارض النظام كان يُصوّر على أنه يعارض الإسلام نفسه، مما جعل الكثيرين يترددون في دعم الأحزاب المدنية خوفاً من الوصم بالكفر أو العلمانية.

ج. توظيف الدين في النزاعات العسكرية

في سياق الحروب الأهلية التي خاضها النظام في الجنوب ودارفور، تم استغلال الدين بشكل مكثف لتعبئة المواطنين ضد المتمردين. النظام صوّر هذه النزاعات على أنها حروب دينية، حيث أصبح العدو السياسي ليس فقط معارضاً للنظام، بل معارضاً للدين. هذه التعبئة الدينية ساهمت في تقسيم المجتمع السوداني وزيادة الكراهية بين مختلف مكوناته.
استراتيجيات إزالة شيطنة الأحزاب المدنية التي أسسها الكيزان في وعي الأجيال اللاحقة

تعتبر الأحزاب المدنية في السودان جزءًا من النسيج السياسي الذي شهد تغييرات جذرية عبر العقود. لكن، للأسف، يعاني هذا القطاع من شيطنة ملحوظة في وعي الأجيال اللاحقة، مما يؤثر على قدرتهم على التفاعل الإيجابي مع هذه الأحزاب ودورها في الحياة السياسية. لذلك، تتطلب إزالة هذه الشيطنة اتباع استراتيجيات مدروسة ومتكاملة.

التوعية التاريخية

تُعد التوعية التاريخية الخطوة الأولى نحو تصحيح المفاهيم الخاطئة حول الأحزاب المدنية. يجب تقديم دراسات تاريخية موضوعية تتناول تاريخ هذه الأحزاب ودورها في الحياة السياسية السودانية. ينبغي تسليط الضوء على إنجازاتهم وإخفاقاتهم، مع تقديم تحليل شامل يساعد في تشكيل فهم متوازن لدى الأجيال الجديدة. على سبيل المثال، يمكن تناول مساهمات الأحزاب في تطوير حقوق الإنسان والديمقراطية، وأيضًا توضيح التحديات التي واجهتها.

نشر المعلومات الإيجابية

من المهم نشر القصص الإيجابية حول أنشطة الأحزاب المدنية وتأثيرها الإيجابي في المجتمع. يمكن أن تسهم المنصات الإعلامية في هذا الصدد، من خلال تقديم نماذج ناجحة من القيادات النسائية والشبابية داخل هذه الأحزاب. فالكثير من الأجيال اللاحقة قد لا يكون لديهم العلم الكافي عن هؤلاء الأفراد أو إنجازاتهم، مما يستدعي ضرورة تسليط الضوء عليهم بشكل أكبر.

التثقيف السياسي

يعتبر التثقيف السياسي أمرًا ضروريًا لرفع مستوى الوعي بين الأجيال الشابة. ينبغي تنظيم ورش عمل ومحاضرات تهدف إلى شرح أهمية الأحزاب المدنية ودورها في الديمقراطية والتنمية. من خلال توفير المعرفة المطلوبة، يمكن تمكين الشباب من تشكيل آراء مستنيرة حول الأحزاب المدنية، والتفاعل معها بشكل أكثر إيجابية.

تشجيع الحوار والنقاش

تعتبر منصات الحوار والنقاش أدوات فعالة لتعزيز الفهم الشامل للأحزاب المدنية. يجب إنشاء بيئات تسمح للأجيال الجديدة بالتعبير عن آرائهم ومخاوفهم حيال الأحزاب المدنية. من خلال النقاشات المفتوحة، يمكن معالجة الشكوك والتصورات السلبية، وتعزيز روح التفاهم بين مختلف الفئات.

توظيف وسائل التواصل الاجتماعي

تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في نشر المعلومات والتواصل مع الشباب. يجب استغلال هذه المنصات لنشر المحتوى التثقيفي والإيجابي حول الأحزاب المدنية. من خلال استخدام الرسوم البيانية والمحتوى المرئي الجذاب، يمكن جذب انتباه الشباب وتحفيزهم على التعلم عن هذا الموضوع.

دعم النشاطات الثقافية والفنية

تعتبر النشاطات الثقافية والفنية وسيلة فعالة لرفع الوعي وتعزيز الفهم. يجب تنظيم فعاليات مثل المعارض الفنية والمسرحيات التي تعكس التحديات التي واجهتها الأحزاب المدنية. هذه الفعاليات لا تعزز فقط الثقافة، بل تسهم أيضًا في نقل الرسائل السياسية والاجتماعية بطريقة مؤثرة.

التعاون مع منظمات المجتمع المدني

يُعتبر التعاون مع منظمات المجتمع المدني خطوة حيوية في جهود إزالة شيطنة الأحزاب المدنية. يمكن لهذه المنظمات إجراء الدراسات البحثية التي تدعم هذه الجهود، بالإضافة إلى تنظيم حملات توعية تهدف إلى توضيح دور الأحزاب المدنية في تعزيز الديمقراطية والتنمية.
تقديم نماذج قيادية جديدة

يجب تسليط الضوء على القيادات الجديدة داخل الأحزاب المدنية، حيث يمكن أن يمثل هؤلاء الأفراد نموذجًا إيجابيًا للشباب. من خلال إبراز إنجازاتهم وأفكارهم، يمكن جذب انتباه الأجيال الجديدة وتشجيعهم على التفاعل مع هذه الأحزاب.

إن إزالة شيطنة الأحزاب المدنية التي أسسها الكيزان في وعي الأجيال اللاحقة ليست مهمة سهلة، لكنها ضرورية لبناء مجتمع ديمقراطي متماسك. تتطلب هذه الجهود جهدًا جماعيًا وتعاونًا من مختلف الجهات الفاعلة في المجتمع، بما في ذلك الأكاديميين والنشطاء السياسيين والإعلاميين. من خلال العمل المتواصل على هذه الاستراتيجيات، يمكن تحقيق تحول إيجابي في وعي الأجيال الجديدة، مما يساهم في دعم الديمقراطية وتعزيز مشاركة المواطنين في الحياة السياسية

hishamosman315@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الأحزاب المدنیة الأجیال الجدیدة الرأی العام السیطرة على هذه الأحزاب على أنها من خلال

إقرأ أيضاً:

مصرع 22 شخصًا جراء الأمطار الغزيرة بجمهورية الكونغو الديمقراطية

لقي 19 شخصًا على الأقل مصرعهم في كينشاسا، عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية، جراء فيضانات أعقبت الأمطار الغزيرة.

وأوضح وزير الداخلية الإقليمي، تييري كابويا، أن الحصيلة المؤقتة للقتلى بلغت 19 شخصا: 17 منهم في بلدة نجاليما شمال غرب، واثنان في ليمبا وسط، وأكثر من 500 منزل غمرتها المياه في بلدة ماتيتي وسط. كما أفاد بوقوع أضرار مادية جسيمة وحدوث تضرر للطرق.

أورد ذلك راديو فرنسا الدولي، مشيرا إلى أن هذه الأمطار الغزيرة تأتي في الوقت الذي تشهد فيه العاصمة موسم جفاف لأكثر من أسبوعين.

واعتبر أوجستين تاجيسابو، المسئول بالمركز الوطني للأرصاد الجوية في ميتلسات الوكالة الكونغولية للأرصاد الجوية والاستشعار عن بُعد عبر الأقمار الصناعية، ان ما حدث يشكل ظاهرة استثنائية، مضيفا ان هذه الظاهرة النادرة تعود إلى اضطراب مناخي، لا سيما بسبب موسم جفاف قصير.

وتراقب وكالة الأرصاد الجوية هذه الظاهرة عن كثب، لأنه كلما زادت قوة تدفق الرياح، زاد خطر هطول الأمطار طوال الموسم، على حد قوله.

وفي برازافيل، عاصمة جمهورية الكونغو، أسفر هذا الطقس القاسي غير المتوقع عن مقتل ثلاثة أشخاص على الأقل.

اقرأ أيضاًالسلطات الأسترالية: 16 ألف شخص حاصرتهم الأمطار الغزيرة جنوب شرق البلاد

بوتوريكو تعلن مقتل شخصين جراء الأمطار الغزيرة والفيضانات العارمة

مقالات مشابهة

  • خبير: الأحزاب بدأت في عمل لقاءات مع المرشحين للانتخابات
  • ملايين يحتجون ضد ترامب دفاعًا عن الديمقراطية والمهاجرين
  • مصرع 22 شخصًا جراء الأمطار الغزيرة بجمهورية الكونغو الديمقراطية
  • السودان ،يحتاج للاستفادة من الحروب في المنطقة من أجل تطوير استراتيجيات مضادة
  • ماذا بعد الضربة التي صعقت رأس النظام ؟!
  • نقطة اللاعودة: استراتيجيات الضربات الاستباقية التي تُعيد تعريف الأمن القومي
  • العراقيون بين حاجتهم إلى التغيير وإرادتهم المعطلة
  • تحالف الأحزاب المناهضة للعدوان يدين العدوان الصهيوني على إيران
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: الحزب الجديد!
  • إسرائيل على حافة الانفجار السياسي