العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي
تاريخ النشر: 6th, November 2024 GMT
عملية اتخاذ القرار؛ ومن ثَم صياغة السياسات لها شق فني وآخر سياسي، ويعتمد الشق الفني على الأدلة والقرائن من خلال جمع بيانات دقيقة ومحدثة، يتم تلخيصها وتحليلها وتفسيرها على نحو سليم، كما يعتمد على المعرفة بالخبرات الوطنية والدولية، وعلى الاستفادة من آراء الخبراء في كافة المجالات المتصلة بموضوع القرار المطلوب اتخاذه.
نماذج للتوترات:
نظراً لأن مهنة الإحصاء تسعى إلى تكميم الظواهر السياسية، ولكون المقاييس الكمية تعبر عن الحقيقة بشكل محايد؛ فإن التاريخ الحديث يمتلئ بوقائع تعكس توتر العلاقة بين منتجي الإحصاءات والسياسيين. ومع حدوث بعض التحسن التدريجي على الضوابط التي تحكم العمل الإحصائي، إلا أن الصراعات والتنافسات السياسية ما زالت تنعكس على استقلالية العمل الإحصائي. ففي الولايات المتحدة تتصادم الأيديولوجيا السياسية مع الأساليب المنهجية لإجراء التعداد السكاني، حيث تصبح منهجية إجراء التعداد –والذي يعتمد عليه في توزيع الدوائر على الولايات- في بؤرة الصراع السياسي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي؛ إذ يتبنى الحزب الديمقراطي استخدام عينة مكملة للتعداد؛ وذلك لمعالجة القصور في تسجيل الفئات الأكثر فقراً، في حين يرى الحزب الجمهوري الاقتصار على نتائج أسلوب الحصر الشامل التي تصب في مصلحته؛ لأنها ترصد نسبة أقل من المواطنين الذين يعيشون في مناطق أكثر فقراً .
وفي كندا، اتخذت حكومة المحافظين في عام 2010 قراراً باستبدال التعداد السكاني الشامل بمسح للأسر المعيشية، على الرغم من معارضة واسعة من معظم الإحصائيين وعلماء الاجتماع ومستخدمي البيانات وحكومات المقاطعات، وبلغت الأزمة ذروتها باستقالة كبير الإحصائيين منير شيخ . وبمجرد انتخاب الحكومة الليبرالية الجديدة سنة 2015، أعلنت العودة إلى الوضع السابق فيما يتعلق بالتعداد السكاني، ووعدت بقانون جديد لتعزيز استقلال هيئة الإحصاء الكندية؛ ومع ذلك، في سبتمبر 2016، تكررت الواقعة؛ إذ استقال كبير الإحصائيين واين سميث، احتجاجاً على قانون الإحصاء الجديد؛ لأنه لا يحمي استقلال هيئة الإحصاء الكندية، ولم يعالج ما اعتبره تهديداً رئيسيّاً؛ وهو خسارة الهيئة للسيطرة على البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات .
وتمثل حالة اليونان نموذجاً لتوتر العلاقة بين الأجهزة الوطنية والأجهزة الإقليمية، حيث نشأ نزاع دام عقداً من الزمن بين دائرة الإحصاء الوطنية اليونانية (NSSG) والوكالة الإحصائية للاتحاد الأوروبي (EUROSTAT) حول دقة إحصاءات الديون والعجز المالي؛ أدى ذلك إلى سن قانون جديد للإحصاء سنة 2010، وإعادة هيكلة لدائرة الإحصاء الوطنية وتعيين رئيس جديد لها. وأعادت هذه التغييرات الانسجام بين النظام الإحصائي اليوناني (ELSTAT) والسلطات الأوروبية، إلا أن الصراع انتقل إلى المؤسسات اليونانية. فمنذ بداية فترة ولايته، تم اتهام أندرياس جورجيو (Andreas Georgiou) رئيس الجهاز الإحصائي اليوناني بتزوير البيانات -لصالح دائني اليونان- وتم تقديمه إلى سلسلة من التحقيقات والمحاكمات. وفي فرنسا، نشر عدد من الإحصائيين تحت اسم مستعار “لورين داتا” (Lorraine Data) في عام 2009، كتاباً بعنوان “التزوير الكبير: كيف تتلاعب الحكومة بالإحصاءات؟” يدين تزوير الحكومة وتلاعبها بالإحصاءات الرسمية .
وبطبيعة الحال، كان الصراع بين الإحصاء والسياسة أكثر احتداماً في الدول النامية، ففي الأرجنتين أدى التدخل الحكومي المباشر في تعريف وأسلوب حساب مؤشر تكلفة المعيشة، واستبدال الموظفين المحترفين بآخرين محل ثقة خلال سنوات رئاسة كريستينا كيرشنر، والتي امتدت من 2007 إلى 2015؛ إلى تدمير الثقة في عمل المعهد الوطني للإحصاء والتعداد. وخلال الأشهر الستة الأولى من عام 2016، أعلنت حكومة يمين الوسط الجديدة أن الأرجنتين في حالة “طوارئ إحصائية وطنية”؛ إذ توقف الجهاز الإحصائي عن إنتاج المؤشرات الرئيسية، ومنها الناتج المحلي الإجمالي ومعدل التضخم ومعدل الفقر إلى حين إعادة إنتاج هذه المؤشرات وفق التعريفات الدولية المتعارف عليها . وتوجد أمثلة أخرى في تركيا وفي جمهورية الجبل الأسود .
يضاف إلى ما سبق ما سجله تاريخ الإحصاء من وقائع تم خلالها ممارسة أقسى درجات العنف ضد الإحصائيين وصلت في بعض الأحيان إلى التصفية الجسدية، وهو ما حدث لغراتسييلا سيدلر، الشابة الأرجنتينية، التي أصدرت في سنة 1976 دراسة إحصائية عن أحوال الأحياء الفقيرة في بوينس آيرس، سببت حرجاً شديداً للديكتاتورية العسكرية، فوصفها زعيم المجلس الجنرال خورجي فيديلا بأنها مثال على تسرب المخربين إلى الحكومة. اختفت غراتسييلا بعد ذلك بوقت قصير (في 25 سبتمبر 1976) وكانت تبلغ من العمر 29 سنة.
في نفس العام، ترك كارلوس نورييغا، الذي كان آنذاك مدير المكتب الإحصائي الأرجنتيني، منصبه. وذكرت إفادات غير رسمية من زملائه في العمل أنه أُرغم على ذلك؛ لأنه رفض طلبات من الحكومة العسكرية الجديدة بالتلاعب بالبيانات التي يصدرها المكتب الإحصائي. في فبراير 1977، وفي أثناء قضاء عطلة في مار ديل بلاتا مع زوجته وأبنائه، احتُجز كارلوس بأيدي أشخاص يُعتقد أنهم يعملون في الحكومة. ولم تعترف الحكومة أبداً بأنه قيد الاحتجاز، ويُعتقد أنه أُعدم.
حوكمة العلاقات:
العلاقة بين الإحصاء والسياسة تختلف عن العلاقة التقليدية بين المنتج والمستهلك، والتي يتفاعل فيها الطلب والعرض على نحو يمكن نمذجته. وفي علاقة الإحصاء بالسياسة يمتلك كل طرف مصدر قوة وأوراق ضغط تسهم في صياغة هذه العلاقة، وتحدد مِن ثَم الرابح والخاسر. فمن ناحية يمتلك الإحصاء بريق الحقيقة نظراً للسحر الذي تمتلكه الأرقام باعتبارها “عنوان الحقيقة”، وينظر إليه في كثير من الأحيان باعتباره الحَكم العدل معصوب العينين الذي يصدر أحكاماً مجردة غير متحيزة تعتبر بمثابة تقييم لأداء السياسيين. وعلى الجانب الآخر، يمتلك السياسيون السلطة؛ وهو ما يسمح لهم بالتأثير في الموارد التي يتم تخصيصها لتنفيذ أنشطة جمع وتحليل ونشر البيانات، كما يملكون -لاسيما في الدول التي لا تطبق قواعد الحوكمة- السلطة التي تسمح لهم بالتأثير في وضع المركز الوطني للإحصاء أو غيره من الأجهزة الإحصائية وعلى قدرته على العمل باستقلالية.
وتكمن مشروعية علم الإحصاء في أنه يصف الظواهر الاجتماعية من خلال أرقام، ويصل إلى ذلك من خلال استخدام أساليب علمية موثوق بها؛ ومن ثم فإنه يُفترض أن يقدم حقيقة هذه الظواهر بشكل مجرد. وفي المقابل، فإن السياسيين يأملون أن تتسق هذه الأرقام مع توجهاتهم، أو تضيف مصداقية إلى السياسات والبرامج التي ينفذونها، أو يسعون إلى تنفيذها، أو توثق الإنجازات التي يدَّعون أنهم قاموا بها. والعلاقة بين الإحصائي والسياسي يحكمها حرص الإحصائي على قياس الظواهر الاجتماعية بحيادية كاملة، ورغبة السياسي في أن يحمل هذا القياس أخباراً سارة له؛ وإذا لم يحدث ذلك فقد يحرك السياسي آلية مضادة للتأثير في المقاييس المعلنة أو يشكك في نزاهتها أو يحاول لي أعناق الأرقام لتفصح عما ليس فيها. ويتوقف رد فعل السياسيين على القوة التي يتمتع بها منتج الإحصاءات وعلى قدرة المؤسسات المنتجة للمعرفة على الصمود أمام الضغوط التي قد يمارسها السياسيون. وفي غياب نظام إحصائي مستقل يعمل في مناخ يتسم بإعمال القانون والفصل بين السلطات ويطبق قواعد المساءلة، يتمكن السياسيون من التلاعب بالمعلومات ونشرها بشكل مضلل، أو منع تداول المعلومات التي لا تحقق مصالحهم، أو عرقلة إنتاج البيانات لخلق حالة ضبابية يصعب خلالها إعمال المساءلة.
أولوية الاستقلالية:
بغض النظر عن حسابات المكسب والخسارة التي تحكم العلاقة بين الإحصاء والسياسيين؛ فإنه يمكن القول إن الإحصاء المستقل الذي لا يخضع للمواءمات السياسية يسهم في بناء الدولة الحديثة من خلال إنتاج وإتاحة المعلومات التي تفيد في:
• ترتيب أولويات التنمية وفي تخصيص الموارد.
• تحديد ومواجهة التحديات والمخاطر.
• الاستفادة من الفرص السانحة.
• تحديد مستويات اللامساواة وتوزيعها.
• توقع التوترات.
• إدارة الأزمات والأحداث الطارئة.
• التعرف على اتجاهات وتوقعات وتفضيلات المواطنين.
• متابعة وتقييم الأداء.
والإحصاءات المتصلة بالمجالات المشار إليها تسهم بشكل رئيسي في ترشيد أولويات العمل الحكومي، وتجعل أية برامج أو تدخلات حكومية أكثر واقعية، ناهيك عن أنها تسمح بتقييم هذه البرامج أو التدخلات. كما أن كثيراً من الإحصاءات المتصلة بالمجالات المذكورة أعلاه تفيد في تحسين إدارة الدولة، كما تفيد في تجسير الفجوة بين ما يمكن أن تقدمه الحكومات وما يتطلع إليه المواطنون؛ ومن ثم تسهم في إدارة التوقعات، وليس فقط في إدارة الموارد، وهو ما يساعد على بناء الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، ويدعم الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي.
وحتى يقوم الإحصاء بهذا الدور يجب أن تتوفر له الاستقلالية؛ وإذا ما تم التفريط في استقلالية الإحصاء يخفق السياسيون في الاستفادة من الإحصاء في تحقيق كل أو معظم هذه الأدوار؛ ومن ثم تصبح المكاسب الضيقة قصيرة الأجل التي يحققها السياسيون من جراء التدخل في مخرجات العمل الإحصائي أقل بكثير من المزايا التي تتحقق في الأجل المتوسط أو الطويل من جراء الحفاظ على استقلالية الإحصاء؛ وهو ما يتطلب وجود نظام صارم مستدام لحوكمة العمل الإحصائي ولضمان استقلالية المؤسسات التي تنتج الإحصاءات.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
عمرو أديب: أي طرف مُجبَر على إرضاء مصر دليل قوة لها لا يستهان بها
أكد الإعلامي عمرو أديب أن قوة مصر الإقليمية أصبحت واضحة في ملفات استراتيجية، وعلى رأسها ملف الغاز، مشيرًا إلى أن وصول العلاقة مع أي طرف إلى مرحلة يكون فيها مُجبَر على إرضاء مصر، هو دليل قوة لا يُستهان به.
صفقة الغاز الأخيرةوقال "أديب" خلال تقديم برنامج “الحكاية” والمذاع عبر قناة “ام بي سي مصر” إن صفقة الغاز الأخيرة التي جرى استئنافها لم تكن متوقفة بسبب خلافات فنية، بل بسبب تحركات عسكرية مصرية في منطقة لا يشملها الاتفاق الأصلي، عندما كانت القوات المصرية متمركزة على الحدود، وهو ما دفع الطرف الآخر للتحرك بدوره.
وأضاف: “لما توصل لمرحلة إن عدوك… لا بطل ولا بطلان… يبقى مُجبَر يخلصلك صفقة الغاز عشان الغاز يفضل يتدفق، ويراضيك في العلاقة السياسية… يبقى لازم تفهم إنك في موقف قوة”.
استئناف الصفقةوأشار أديب إلى أن استئناف الصفقة جاء بعد إدراك الطرف الآخر أن التعامل مع مصر من موقع الندية والقوة أفضل بكثير من الدخول في صدام أو تعطيل مصالحه، خاصة بعد التحركات العسكرية المصرية التي غيرت قواعد اللعبة على الأرض.
وتابع: “صفقة الغاز كانت متوقفة… ولما مصر تحركت بقواتها في مكان مش موجود في الاتفاقية، هو اتحرك كمان، وبعدها اتغيرت نبرة التعامل كلها… وبقى في قناعة إن العلاقة مع مصر لازم تفضل كويسة”.
الطاقة والأمن القوميوشدد أديب على أن ما يحدث يؤكد أن مصر أصبحت لاعبًا مؤثرًا في شرق المتوسط، وأن قدرتها على الضغط وتحقيق مصالحها تتزايد بوضوح، سواء في ملفات الطاقة أو الأمن القومي.
واختتم: “دي مش صدفة… دي نتيجة قوة، وتحرك محسوب، ورسالة إن مصر لما تتحرك… الكل بيراجع حساباته”.