عندما كانت إسرائيل تغزو بيروت عام 1982، تابعت المجموعات الثورية الفلسطينية والعربية نهجها في ملاحقة العدو خارج حدود المواجهة، ناقلة المعركة إلى قلب أوروبا. من بين تلك العمليات، اغتيل "رجل موساد ودبلوماسي" أميركي في باريس، ووُجّهت أصابع الاتهام إلى اللبناني جورج إبراهيم عبد الله، الذي يقبع في السجون الفرنسية منذ 4 عقود بتهمة قيادة الفصائل الثورية اللبنانية المدافعة عن فلسطين، وبذلك يكون أقدم سجين سياسي في أوروبا.

كانت العملية امتدادا لمرحلة "وراء العدو في كل مكان" التي اختصرتها روايات الأديب الفلسطيني غسان كنفاني (عكا 1936، بيروت 1972) وجسّدتها المجموعات الثورية بقيادة المناضل وديع حداد (صفد 1927، ألمانيا الشرقية 1978)، فحوّلت العالم إلى ميدان مواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، واستقطبت مقاتلين عربا، ورفاقا من اليابان وأوروبا وأميركا اللاتينية، واضعة فلسطين على خريطة النضال الأممي.

"مناضل ولست مجرما"

وعادت قضية المناضل الأممي جورج عبد الله إلى الواجهة مجددا مثلما كانت عام 2013، مع توالي الأخبار عن قرب الإفراج عنه بعد قرار محكمة فرنسية بذلك. إلا أن الادعاء الفرنسي، أعلن قبل أيام عزمه استئناف القرار. وفي حال أفرج عنه، يكون عبد الله قد أمضى أكثر من 20 عاما في السجون الفرنسية بعد انتهاء محكوميته، وسط رفض السلطات القضائية المتكرر إخلاء سبيله.

وأمام القضاة، وقف الرجل ذو اللحية الكثّة والنظرة الواثقة مطالبا بحريته للمرة الـ11، قائلا بثبات: "أنا مناضل ولست مجرما"، مؤكدا أن اختياره هذا الطريق كان "ردا على انتهاك حقوق الإنسان في فلسطين"، وبأن ما فعله: مقاومة.

فهو المولود في الثاني من أبريل/نيسان 1951 في قرية القبيات شمال لبنان لعائلة مسيحية مارونية، وقد شهد في مطلع شبابه "نكسة" 1967، حيث ساهمت "هزيمة حزيران" في تشكيل وعي جيل بأكمله تجاه قضايا التحرر والمقاومة.

عبد الله اشتهر بعبارة "أنا مناضل ولست مجرما" وأكمل عقوبة السجن المؤبد عام 1999 (غيتي)

وفي سن مبكرة، انضم إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، واختار طريق النضال والمقاومة. وبعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن (1970)، أصبحت بيروت معقلا للثوار والمقاومين، فكانت نقطة تحول حاسمة في مسار حياته، حيث كانت العاصمة اللبنانية مركزا يعجّ بالحركات الثورية، مما كان له الأثر الكبير في تشكيل قناعاته السياسية.

انضم عبد الله لصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة الراحل جورج حبش، بعد إصابته في الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1978 (عملية الليطاني). ومع أفراد من عائلته ورفاقه، أسس الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، وبين عامي 1981 و1982، نفذت المجموعة هجمات في أوروبا، أسفرت بعضها عن سقوط قتلى في فرنسا، في إطار دعم القضية الفلسطينية والكفاح ضد الاحتلال.

موت المعلم وولادة المقاتل

وبدأ جورج حياته المهنية معلما في مدرسة بمنطقة أكروم بعكار، وفي مقالة وردت بموقع يتبع لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، تروي بدايات جورج وتكشف عن ارتباطه المبكر بالفدائيين الفلسطينيين، يقول كاتبها إن "ابن القبيات" كان يعرّف نفسه بأنه "كادح وليس من البَكَوات"، مستنكرا الظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني.

وتستعرض المقالة المراحل الأولى لجورج عبد الله ضمن الثورة الفلسطينية، مبينة تأثره بحياة "المخيمات" في لبنان، وكيف كان يجول أزقة مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين، مستخدما دراجته النارية، ليوزع مجلة "الآداب" على المهتمين.

وبعد إنهائه الدورات التثقيفية، انضم عبد الله إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين رسميا، ثم انتقل من الشمال إلى منطقة "الجبل" في "مهمة جهادية"، وكان من المفترض أن يعود بعد شهر إلى الشمال، لكنه اختار البقاء، معلنا بذلك نهاية مرحلة "جورج المعلم" وولادة "جورج المقاتل". ومن ثم، أصبح جزءا من الجناح العسكري للجبهة الشعبية، لتصبح الأراضي اللبنانية كلها ساحة قتاله.

جورج عبد الله أمام المحكمة الفرنسية عام 1986 (غيتي)

وخدم عبد الله في الجنوب، والبقاع، والجبل، وبيروت -بحسب المقالة- لكن بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي عقدته منظمة التحرير الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي قبيل اجتياح بيروت عام 1982، انفصل عبد الله عن الجبهة، رافضا التهدئة مع العدو، واتخذ مسارا خاصا به، متأثرا بوديع حداد، وخصوصا بمقولته الشهيرة "وراء العدو في كل مكان"، وانقطعت أخباره إلى حين سماع خبر اعتقاله في فرنسا.

جوازات سفر واعتقال

يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول 1984، دخل جورج عبد لله مركزا للشرطة في ليون الفرنسية، طالبا الحماية من ملاحقة الموساد الإسرائيلي له. حينها كان يحمل جواز سفر جزائري، بعد أن استخدم جوازات سفر أخرى من مالطا والمغرب واليمن للعبور إلى يوغوسلافيا وإيطاليا وإسبانيا وسويسرا وقبرص.

لكن الأجهزة الأمنية الفرنسية سرعان ما أدركت أن الرجل الذي يجيد اللغة الفرنسية ليس سائحا وإنما هو عبد القادر السعدي، وهو الاسم الحركي لجورج عبد الله.

وعثر في إحدى شققه في باريس على أسلحة بينها بنادق رشاشة وأجهزة إرسال واستقبال.

وافقت محكمة فرنسية الأسبوع الماضي على طلب الإفراج عن جورج عبد الله (غيتي)

وفي حوار مع صحيفة "لاديباش" الفرنسية، تحدث إيف بوني، الرئيس الأسبق لجهاز الأمن الداخلي الفرنسي، عن تفاصيل اعتقال جورج إبراهيم عبد الله عام 1984، قائلا: "لم نكن نعلم هويته"، وخلال التحقيق "زعم انتماءه إلى جهاز أمن منظمة التحرير الفلسطينية ووجّه تهديدات للمحققين".

وأضاف بوني أنه لجأ إلى الإسرائيليين للحصول على المساعدة، مما قاد إلى اكتشاف هوية قائد الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، وهي مجموعة ماركسية مدافعة عن فلسطين. ومع ذلك، أكد بوني أن الأدلة ضد عبد الله لم تكن قوية، إذ اقتصرت تهم بتزوير الوثائق وحيازة أسلحة ومواد متفجرة.

كان جورج على صلة بسوريا آنذاك، بحسب التحقيق، كذلك على تواصل مع حركات وشخصيات صُنّفت "إرهابية"، مثل تنظيم "العمل المباشر" في فرنسا، و"الألوية الحمراء" في إيطاليا، إضافة إلى علاقته بكارلوس الفنزويلي وفصيل الجيش الأحمر في ألمانيا.

مقاتل عربي لا يندم

في عام 1986، أصدرت محكمة ليون حكما بالسجن لمدة 4 سنوات على جورج عبد الله بتهم "التآمر الإجرامي وحيازة أسلحة ومواد متفجرة". وفي العام التالي، مثل أمام محكمة الجنايات الخاصة في باريس، إذ وُجهت إليه تهم بالتواطؤ في اغتيال الأميركي تشارلز راي "ورجل الموساد" ياكوف بارسيمينتوف في 1982، بالإضافة إلى محاولة اغتيال ثالثة في 1984.

وبينما تمسك عبد الله بنفي التهم، قال إنه "مجرد مقاتل عربي"، أصدر القضاء حكما بالسجن المؤبد رغم أن النائب العام كان قد طالب بعقوبة أقل، تصل إلى 10 سنوات.

عبد الله اتهم بقيادة "الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية" المناصرة لفلسطين (الفرنسية)

في مذكراته، أشار المحامي جورج كيجمان إلى أن عبد الله "أهان الجميع" في المحكمة، ووصفهم بـ"الخنازير والإمبرياليين القذرين"، مما استدعى طرده من القاعة. ورأى محاميه السابق جاك فيرجيس في الحكم "إعلان حرب"، مما دفع إلى تشكيل لجنة دعم فورية تطالب بالإفراج عنه فورا.

ومنذ عام 1999، عندما أصبح مؤهلا لإطلاق سراحه، وتم رفض جميع طلبات عبد الله للإفراج عنه، باستثناء طلب واحد، كان مشروطا بترحيله، وهو ما لم ينفذه وزير الفرنسي الداخلية آنذاك، مانويل فالس.

في عام 2022، قال محاميه جان لويس شالانسيه في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية: "إنه في حالة فكرية جيدة. لا يزال متمسكا بمواقفه، ويواصل القراءة بشكل مكثف، ويبقى مطلعا على الأحداث في الشرق الأوسط".

ويرى محامو ومؤيدو جورج عبد الله أن استمرار احتجازه هو نتيجة لتأثيرات سياسية ودولية خارجية. في عام 2013، صادقت المحكمة الفرنسية على إطلاق سراحه بشروط، كان من بينها ترحيله إلى لبنان. لكن، رغم هذا القرار، "تدخلت سفارتا الولايات المتحدة وإسرائيل في مجريات القضية"، مما أثّر بشكل كبير على سير المحاكمة وأدى إلى تراجع السلطات الفرنسية عن قرارها. هذه التدخلات، وفقا لمحاميه، تُعتبر جزءا من حملة سياسية منسقة تهدف إلى إبقاء عبد الله في السجون الفرنسية.

أنصار جورج عبد الله يتظاهرون خارج سجن لانيميزان الفرنسي  (الفرنسية) خيانة فرنسية

ردت الفصائل الثورية اللبنانية على اعتقال جورج عبد الله بخطف مدير المركز الثقافي الفرنسي في طرابلس، جيل سيدني بيرول، مطالبة بصفقة تبادل، وتم التوصل إلى اتفاق لتحرير بيرول وعبد الله، إلا أن فرنسا أخلفت وعدها وأبقته في السجن.

يروي إيف بوني، الرئيس الأسبق لجهاز الأمن الداخلي الفرنسي لصحيفة "لا ديباش" تلك اللحظة، قائلا: "كنت خارج البلاد حين طلبت باريس مني العودة بسرعة للتفاوض على تبادل الأسرى. في ذلك الوقت، كان عبد الله متهما بمخالفات بسيطة، ولم يكن هناك ما يثبت تورطه في أي جريمة كبيرة. فوافقت على الصفقة دون أي اعتراض من وزارة الداخلية".

جورج عبد الله أمضى 15 عاما من حياته في ميادين المقاومة و40 عاما في السجون الفرنسية دفاعا عن فلسطين (رويترز)

يضيف بوني، "ما لبثت الأمور أن تغيرت فجأة. ففي الوقت الذي تم فيه تحرير بيرول، أخبروني أنهم اكتشفوا في أحد مخابئ الفصائل الثورية اللبنانية السلاح الذي استخدم في قتل تشارلز راي وياكوف بارسيمينتوف. هذا الاكتشاف غيّر مسار القضية تماما، وتجاهلت العدالة الاتفاق الذي أبرمته. قالوا لي ببساطة: حكمه قد صدر".

ويختتم بوني حديثه: "شعرت بخيبة أمل شديدة. لقد قدمت وعدا إلى الذين بذلوا جهودا في هذه القضية، ولكن السلطات السياسية تركتني أواجه الموقف وحدي".

غزة لن ترفع راية الاستسلام

"لن تحمل غزة أبدا راية الاستسلام… ولن تتمكن الصهيونية أو أي قوة إجرامية أخرى من كسر إرادة المقاومة فيها"، بهذه الكلمات عبر المعتقل جورج عبد الله في رسالته التضامنية مع الشعب الفلسطيني، الذي يواجه حرب إبادة في غزة والضفة الغربية. البيان أُلقي خلال مظاهرة نظمت في مرسيليا الفرنسية بتاريخ 25 فبراير/شباط الماضي، حيث عبّر المحتجون عن دعمهم لصمود الفلسطينيين في وجه الاحتلال.

وأشار عبد الله في رسالته إلى أنه "لا ينبغي أن ننسى أبدا أن جذور النضال الفلسطيني انبثقت من أعماق مخيمات اللاجئين في غزة، والضفة الغربية، والأردن، ولبنان.. هذه المقاومة تحمل وعد التحرر وتصون إرث الفدائيين".

يرى أنصاره في العالم أنه رمز حي للنضال والمقاومة، فهو الذي اعتبرته الكاتبة الفرنسية آني إرنو، الحائزة جائزة نوبل للآداب عام 2022، "ضحية قضاء الدولة الذي يلحق العار بفرنسا". كما يعتقد إيف بوني أن الاستمرار باعتقاله يعد "انتقاما سياسيا"، وأنه قد يكون له الحق في اعتبار ما فعلته الفصائل الثورية اللبنانية "مقاومة"، لأنها جاءت في أعقاب مجزرة صبرا وشتيلا، داعيا إلى إنصافه.

جورج لا يزال في سجون فرنسا رغم مرور 20 عاما على انتهاء مدة محكوميته (وسائل التواصل)

خلال 73 عاما من حياته، أمضى جورج عبد الله 15 عاما في ميادين المقاومة و40 عاما في السجون، ثابتا على قناعاته. وفي زنزانته، يعلّق صورة مكتوب عليها "اقترب اللقاء يا فلسطين"، متمسكا بالقضية التي كانت وستظل بوصلة نضاله دون اعتذار أو ندم، بل ويرى أن إطلاق سراحه "أمام الإبادة التي يرتكبها الإسرائيليون والأميركيون" في غزة، "مجرد تفصيل".

تجسد قضية جورج عبد الله الذي حمل رقم (N° 2388/A221) في سجن لانيميزان رمزا لظلم فرنسا ضد مناضل تعتقله منذ 40 عاما، وقد يبقى حتى وفاته ما لم يطلق سراحه في ديسمبر/كانون الأول المقبل كما أمرت المحكمة، رغم استحقاقه الحرية منذ عام 1999.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات جورج عبد الله عبد الله فی عاما فی

إقرأ أيضاً:

جورج دبليو ترامب

بدأت الدعوات الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية لغزو العراق بزعم امتلاك هذا البلد أسلحة دمار شامل، وأسلحة نووية على وجه الخصوص، ما استُخدم حينها مبررًا للقيام بعمل عسكري لمنع العراق من امتلاك تلك الأسلحة. وعلى أساس هذه الحجة، جرى التحشيد الإعلامي والشعبي بشكل مكثف لتبرير الغزو. واليوم، تتكرر ذات السيناريوهات تقريبًا، حيث يُعاد التحشيد ضد إيران بالمنطق ذاته، أي الادعاء بامتلاكها برنامجًا للأسلحة النووية.

وعلى الرغم من نفي مديرة المخابرات الوطنية الأمريكية، تولسي جابارد، امتلاك إيران لأي أسلحة نووية، في تقرير منشور على موقع مكتب مدير الاستخبارات الوطنية بتاريخ 25 مارس 2025، والذي جاء فيه (والنص مترجم):

«لا يزال مجتمع الاستخبارات يقيّم أن إيران لا تصنع سلاحًا نوويًّا، وأن المرشد الإيراني علي خامنئي لم يصرّح ببرنامج الأسلحة النووية الذي علّقه في عام 2003»،

إلا أن الرئيس السابق دونالد ترامب سارع إلى تكذيب هذا التصريح علنًا أمام وسائل الإعلام، قائلًا: «إنها مخطئة».

بهذه التصريحات، يحاول دونالد ترامب أن يسلك المسار ذاته الذي سار عليه جورج بوش الابن عام 2003، عندما قرر غزو العراق دون وجود أدلة موثوقة على امتلاكه لأسلحة دمار شامل، متجاهلًا بذلك الشرعية الدولية، والقوانين الأممية، والتحالفات السياسية، ومُعيدًا إنتاج ذات المنطق الذي استخدم لتبرير حرب ثبت لاحقًا أنها افتقرت إلى المصداقية.

لقد بدا ترامب في هذه المواقف كنسخة مكررة من جورج بوش، وكأن الأخير يحكم بعنجهية الأول، في مشهد سياسي يتماهى فيه الرجلان إلى درجة بات من الممكن القول: إننا اليوم أمام «جورج دبليو ترامب».

تستخدم أمريكا دائمًا فكرة (الخطر الخارجي) الذي يمثل خطورة بالغة على مصالحها، فتنتقل من خطر لآخر، فيتنام فأفغانستان فالعراق فإيران، وبينها جميعا دائما ما تكون الصين وروسيا حاضرة في التحشيد الإعلامي، وفي الدول الثلاث الأولى -على الأقل- توجهت أمريكا لخيار الحرب، وخرجت من أغلبها خاسرة، لكنها واليوم تحشد لمساندة حليفها في الشرق الأوسط، فإنها تستعمل منطق العمليات أكثر من منطق الحرب، لذا تجد بأنها قصفت المواقع النووية الإيرانية بعملية خاطفة وسريعة، دون إعلان الحرب، لأنها استطاعت أن تعي بعد عنجهيات كثيرة أن الحرب مكلفة وخاسرة، لكن هذا لا ينفي وجود خيار انطلاق الحرب على إيران في حال معرفتها أن الأخيرة قد نقلت فعلا مفاعلاتها النووية من المناطق المقصوفة، أو هذه العملية لم تؤثر فيها بشكل كبير واستمرت الضربات على إسرائيل، ويُمكن النظر إلى هذا أيضا على أنه هرب من المشاكل والأزمات الداخلية التي تواجه الإدارة الأمريكية، لا سيما بعد احتجاجات لوس أنجلوس ونشر ترامب لقوات الحرس الوطني والمارينز دون دعوة حاكم الولاية، مما يعني تجاوزًا لصلاحياته الفيدرالية.

تصنع الحكومة الأمريكية التحشيد الإعلامي عن طريق إيجاد البعبع المهدد لمصالحها، ثم إعادة تأطير السردية على أنها قضية عادلة يجب على أمريكا أن تقوم بها، من خلال استدعاء الرموز الأخلاقية مثل السلام، الحرية، الديمقراطية، الكرامة..إلخ وقد استُخدم هذا في الغزو العراقي، ويستخدم الآن، وبمنطق جديد بالنسبة لترامب، منطق السلام بالقوة، الذي لم يكن حاضرًا حتى في حملته الانتخابية، فما كان يروّج له تحديدا هو إنهاء الحروب، أما الآن فهو ينفذ عمليات ضد إيران، لإيجاد السلام، لكنه ليس سلام مفاوضات أو تفاهمات، وإنما سلام خضوع!

في هذا التشابه الفج بين 2003 و2025، يحضر في الأذهان سؤال مهم: ما الذي تغير فعلاً؟ الذي تغيّر هو الداخل الأمريكي، فإن الرأي العام الحالي يعارض أي تدخل أمريكي في إيران، ويرى بأنه مجرد استنزاف للموارد الأمريكية دون أي جدوى، فضلا عن الجانب الأخلاقي الذي يقتضي أن دخول أمريكا في الحرب يعني إزهاق أرواح الإيرانيين، فبحسب استطلاع مركز بيو للأبحاث (Pew Research Center) أجري خلال الأشهر الماضية، ينظر أغلب الأمريكيين بنسبة 53% لإسرائيل بشكلٍ سلبي، كذلك فإن شخصيات مؤثرة مثل ستيف بانون، وتاكر كارلسون، ومارجوري تايلور جرين، قد عارضوا التدخل الأمريكي في الحرب، على اعتبار أن ذلك يتنافى مع وعود ترامب في عدم خوض أي «حروب أبدية»، علما أن هذه الأسماء تعتبر من داخل معسكر (أمريكا أولا)، وقد نشر الناشط الجمهوري تشارلي كريك في منصة إكس استطلاعا يسأل فيه ما إذا كان ينبغي للولايات المتحدة التدخل في ضربة ضد إيران فأجاب 90% من مناصريه بالرفض.

فضلا عن المنشورات والحلقات المرئية والمسموعة التي تعارض التدخل الأمريكي في الحرب. ومما تغيّر كذلك، أن إعلام مواقع التواصل الاجتماعي أصبح هو الأكثر شهرة وتأثيرًا في تشكيل الرأي العام من الإعلام التقليدي الذي كان سابقًا يعمل على خلق حالة التوهم بضرورة التدخل العسكري، أو أن الرأي العام موافق لقرار الدخول في الحرب، ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي استطاع الأمريكيون التعبير عن رفضهم لهذا التدخل العسكري، وعدم جدواه، بل وتناقضه من وعود ترامب في حملته الانتخابية.

ومن الأشياء التي تغيرت كذلك، أن الهيمنة الأمريكية في المنطقة لم تكن ذاتها التي كانت في بداية الألفية، إذ إنها تغيرت وقلّت، لم تنته على الإطلاق، لكنها تراجعت أمام الحضور الصيني، ولذلك فإن هذا من الأسباب التي تجعل الإدارة الأمريكية راغبة في الدخول للحرب، إذ الهدف ليس دعم إسرائيل فقط، وإنما للتضييق على الصين والإضرار بمصالحها، وكذلك فإن في حالة سقوط النظام الإيراني تكون الولايات المتحدة قادرة على زيادة الحرب التجارية وحرب الجمارك على الصين، فضلا عن إضعاف حليفٍ روسي مهم في المنطقة، والتضييق على منظمة بريكس.

إن دور شعوب المنطقة لا يقتصر على المراقبة فقط كما يحدث الآن في الضربات الجوية الإيرانية - الإسرائيلية، وإنما يتعدى الواجب الأخلاقي والسياسي ذلك إلى مشاركة الرأي الداخلي الأمريكي في معارضته لتدخل الولايات المتحدة في هذه الحرب؛ لأن عمليتها التي قامت بها السبت الماضي، أو تدخلها في الحرب بشكل مباشر، يُمكن أن يؤجج الصراع ويدفع بالمنطقة لحرب أكبر مما يضر بمصالح الجميع، وأولها شعوب المنطقة ذاتها.

إن الأدوات المتاحة في الوقت الحالي، مثل وسائل التواصل الاجتماعي، تتيح لشعوب المنطقة أن تشارك في ضغطها على الإدارة الأمريكية بعدم تدخلها بأي شكل من الأشكال، سواء إعلان الحرب أو مجرد عمليات في إيران، وتشكيل الضغط هذا يتولد بعدة أشكال، منها الضغط الشعبي الإعلامي الذي لا شك تقرؤه الولايات المتحدة وإن كانت تظهر عدم اهتمامها به باستعلائها المعهود، ومنها كذلك الطلب من الحكومات في المنطقة رفض استخدام أراضيها أو مجالها الجوي لتنفيذ ضربات ضد إيران، مما يجعل الوضع أكثر تعقيدا على الإدارة الأمريكية في قرارها لتنفيذ العمليات العسكرية، لأنها تراعي مصالحها في المنطقة بشكل كبير جدا، وزيادة النظرة السلبية تجاهها، الذي يُمكن أن يؤدي لأن تكون دولة غير مرحب بها سياسيا وشعبيا (في الحالة المثالية للنظرة السلبية)، يجعلها تستشعر الخطر لا سيما بعد زيادة الاستثمارات والشراكات التجارية مع الصين.

كما يجب أن يتم تجاوز الخطابات العاطفية التي تنطلق ارتجالاً من اللحظة، لبناء سردية عقلانية مساندة للداخل الشعبي الأمريكي، لتشكيل الضغط الكافي لتوقف الولايات المتحدة تدخلها في الحرب. فإن لم يحدث هذا ولم تبنِ شعوب المنطقة الضغط الملائم، لا يُستبعد تكرار سيناريو 2003، مما يضر بالجميع، بمن فيهم الأفراد، وبعدها لا يكون للطم الخدود على الخسارات المتتابعة أي فائدة أو جدوى.

في الختام أقول: إن التاريخ لا يكرر نفسه بنسبة متطابقة، لكنه عقابٌ لمن لا يقرؤونه ويفهمونه، فإن لم ندرك خساراتنا الكبرى في الغزو الأمريكي للعراق في 2003، وزيادة نفوذ الولايات المتحدة بعدها، وبقينا في حالة المتفرج السلبي، عدنا مرة أخرى للخسارات الكبرى، وأدركنا بعد عقود سوء ما فعلناه اليوم.

إن الصوت الشعبي العربي، بل وكل صوت شعبي في المنطقة، مهم ومؤثر، إذ العالم لم يعد ذاك الذي تتحكم فيه أمريكا لوحدها، ولم يعد لوسائل الإعلام التقليدية قدرتها على التحكم الكامل في الخبر وتشويش الحقيقة، بل أصبح لكل فرد القدرة على أن يكون ذا رأي ومنطلق، وإن لم ننطلق من مصلحتنا ونفكر فيها، لم يفكر فيها أحد عنا، ولذا فإن الفهم السياسي لديناميكيات القرار الأمريكي والقدرة على التأثير فيه ليس ترفًا خارجًا عن المهام اليومية الضرورية، فإن الأحداث الأخيرة تدعونا جميعا لبناء معرفتنا وقدرتنا وإدراك أهميتنا لنكون في أمان سواء من جر المنطقة لحرب شاملة لا جدوى منها، أو من التضرر بالإشعاعات النووية التي يُمكن أن تطلق أمريكا سراحها في حال تدخلها. ومن يدري، ربما قد أطلقتها بالفعل في عمليتها الأخيرة!

مقالات مشابهة

  •  فرنسا.. إعصار وأمطار غزيرة تخلف قتلى ودماراً واسعاً (فيديو)
  • تسلا تطرح ساير كاب السيارة الثورية ذات التصميم الفضائي
  • وفاة الفنان عماد محرم عن عمر يناهز 74 عاما
  • فرنسا توشح حموشي بأرفع الأوسمة والرباط تشهد توقيع شراكة استراتيجية بين الأمن المغربي والشرطة الفرنسية
  • بيان صادر عن تكتل قبائل بكيل بشأن القصف الذي استهدف قاعدة العديد في دولة قطر الشقيقة
  • بيان ملتقى مشايخ ووجهاء اليمن بشأن القصف الإيراني الذي طال دولة قطر
  • في صفقة مفاجأة.. من هو اللاعب السوري الذي ضمه برشلونه إلى فريقه؟
  • قوات العدو تشن اعتقالات واسعة في الضفة الغربية
  • أذكار الصباح مكتوبة.. حصن المسلم الذي يحفظه من الشرور
  • جورج دبليو ترامب