جريدة الرؤية العمانية:
2025-08-05@19:42:29 GMT

كاف بلا نون!

تاريخ النشر: 23rd, November 2024 GMT

كاف بلا نون!

 

د. جمال فودة **

قراءة في شعر همام صادق عثمان

 

الإبداع الشعري لدى أي شاعر يأتي نتيجة مجموعة من الأفكار الثابتة التي يظل يدور حولها طيلة حياته، ينيرها بالكشف أو يتلمسها بالرمز، وهذه الهواجس والوساوس هي التي تهب المبدع تميزه، وتجعله نسيج وحده بين رفاق دربه.

وقد لاحظت خلال قراءة عجلى أن شعر همّام صادق عثمان يدور بشكل كبير حول ظاهرة الاغتراب، تلك الفكرة التي راح ينسج حولها تجاربه؛ في محاولة مستمرة منه لفهم أعمق لذاته التي لا تكف عن الجدل والحوار والسؤال مع هذا العالم.

شعر همام يرسم صورة واضحة المعالم للإنسان المعاصر الغارق وسط الحشد، التائه في دروب الحياة، مسلوبة ذاته وضائعة روحه.

وتظل بصمته الخاصة هي التي تمنحنا أبعاد الدلالة وآفاق التجربة، من خلال التعبير عما يعانيه الإنسان من غربة كونية، وما يستشعره من زيف الحياة، وما ترصده قصائده من صور الفساد الاجتماعي التي تستشري في واقعنا المعاصر، ولعل الغربة الروحية التي يعيشها همام جاءت نتيجة لتلك التغيرات الكبيرة التي طرأت على المجتمع ؛ مما أدى إلى عجزه عن ملاحقة تلك التغيرات، ومن ثمّ صادفت شخصية المغترب هوى في نفسه ؛ ربما لأنه هو نفسه أصبح غريبًا مغتربًا حين فطن رغم حداثة سنه إلى عمق الهوة بين ما يراه وما يتمناه، واستشعر ضآلته حين أحس بانه ليس سوى ذرة تتحرك في إطار محدود لزمن لا محدود!!

فلا الغبراءُ أثقلهَا وجودي

ولا الخضراءُ أنقصَها غِيابي

وحين ينظر في المرآة يجد شخصًا سواه!! فقد بُدلت الملامح غير الملامح والسمات، ومن ثمَّ يخاطب مرآته / ذاته قائلًا :

لا تكوني كذَّابةً يا مرايا

ذلك الوجهُ كان شخصًا سوايا

لم أكنْ مُطفأ الملامحِ رهوًا

كنتُ دومًا مع النسائمِ نايا

كيف يا "قاهرَ" استلبتِ لساني

لم يقلْ مرحبًا ولا قالَ "هايا"

انفردْنا بقمِّة الجرحِ دهرًا

كان أوْلى إفرادُنا بالحَكايا

لا غريبًا في شيْبِ طفلٍ صغيرٍ

إذْ يرى في الوجوهِ وحشَ البلايا

شارعٌ مفترٍ يعرِّي فقيرًا

وغنيٌّ يعدُّهُ في السَّبايا

يا بلادي وما عليَّ يمينٌ

إنَّني فيكِ غُربتي في أنايا

أإذا قلتُ إنَّ فتحًا قريبٌ

جاءني الفتحُ بانتشارِ الرزايا؟!

ذكرياتي جعلتهنّ جميعًاَ

تحت رجْلي فبلَّغتْني سمايا

إن الشاعر يتحدث عن حالة التيه والضياع والإحساس بالاغتراب عن نفسه ومجتمعه، ويصف مشاعره في أغنية حزينة يسكب آهاته على أوتارها، لكن الجراح إذا ما شكونا تزيد!

إن الشاعر لا يستخدم ضمير المتكلم (الياء أو التاء أو نا) بمعناه الخاص المفرد، بل يستخدمه بالمعنى العام للدلالة، فهو عندما يقول (أنا) فإنه ينطق بلسان الجماعة، وهذا ما يدفعنا للتجاوب معه؛ إذ نراه قد استبطن أفكارنا، وجسد همومنا، وأجاد في تصويرها، ومن ثمّ فإن اغتراب الشاعر عن ذاته لا يعكس الذاتية المجردة أو الأنية الضيقة، وإنما يعبر من خلالها عن مشاعر الذات الإنسانية المغتربة، تلك الذات التي تحمل على كاهلها هموم المجتمع، بل هموم العصر!

يا بلادي وما عليَّ يمينٌ

إنَّني فيكِ غُربتي في أنايا

إن اغتراب الشاعر يتنامى نتيجة فقدان ذاته وسط زحام الحياة، فالناس تلاصقت أجسادًا وتباعدت أرواحًا، وهيهات أن تعود إليه ذاته!

وأرغبُ أن تعودَ إليَّ ذاتي

وهل عادت إلى المفقودِ ذاتُ؟

لقد وصل إحساس الشاعر بالغربة عن ذاته إلى إنكار كل شيء حوله، حتى ملامحه لا يراها في نفسه، لقد طفت مرارة الغربة على وجهه، فانتقلت من روحه إلى جسده!

لا تكوني كذَّابةً يا مرايا

ذلك الوجهُ كان شخصًا سوايا

لقد بات الشاعر في خلاف جذري وأكيد مع هذا العالم، واحتدم الصراع بينهما، فلا خلاص له من هذا العالم الذي يخوض في الوحول والآثام، وحسبه أن تكون المنايا أمانيا تخلصه من رق غربته، وتفضُّ اشتباك ذاته مع ذاته!!

سيذكرُني التوجُّعُ والأنينُ

إذا جفَّتْ منَ الثَّمرِ الْغُصونُ

مِثالي في الحياةِ مثالُ كافٍ

كمِ انتظرَتْ وما في الأمرِ نونُ

كأنِّي -رغمَ جمعِ النَّاسِ حولي-

غريبٌ لمْ تصاحبْهُ السُّنونُ

صراعٌ داخلي، شَطريْ رهانٍ

أكونُ أنا أنا، أمْ لا أكونُ؟!

تَمادى الحزنُ حتَّى صرتُ حزنًا

يسمَّى باسمِهِ الشَّخصُ الحزينُ

حياتُكَ كبَّلتْكَ بِها سَجينًا

فهلْ لكَ مُنقذٌ إلا المنونُ؟

زَماني كمْ قسوْتَ على طُموحي

فما لكَ ليسَ يعرفُكَ الحنينُ؟!

 

يكشف لنا تصدير الشاعر للفعل المضارع بحرف (السين) عن رغبته المكبوتة في البوح، والتنفيس هنا بمعنى التوسيع وذلك لأن (السين) توسّع زمن الفعل، وذلك عن طريق الامتداد إلى المستقبل، فالمضارع بحكم مواضعته يعطي معنى التجدد الحضوري، وكأن هناك طاقات روحية إيحائية هي القادرة على جمع المتناقضات في ثنايا الصورة التي تعكس حالة من الإحساس بالضياع بين ماض أليم وحاضر أشد إيلامًا.

ولعل الشاعر يعمل على خلق نوع من التوازي بين البنية اللغوية والتجربة النفسية ، إذ يتم إنتاج الدلالة في وسط زمني ينتمي إلى المستقبل من خلال مجموعة (المضارعات) التي تفجر بعدًا زمنيًا خاصًا؛ إذ تتحرك الصياغة حركة مزدوجة، حيث تتعلق بالماضي وتشده إلى الحاضر، كما تتعلق بالحاضر وترده إلى الماضي، فتخلق بهذه الازدواجية معادلًا يوازى تجربتها خارج إطار الزمن، وهى تجربة تجمع بين الذات وموضوعها في لحظة مطلقة تختل فيها العلائق التي تربط بينهما، أما المعادل فهو الارتداد إلى واقع زمني لاستعادة علاقة مفرغة من الهموم، علاقة تشكل عالمًا من النقاء والصفاء والطهر.

تَجرَّعِ المُرَّ كيْ تُسْقى حَلاوَتَهُ

كما سَقى البُرْءُ داءً بعدَ مُرَّیْنِ

.......

مهما اسودادُ الدُّجى في الأمنياتِ سجى

يحاصرُ الله عسرًا بين يسرينِ

كما وظف الشاعر بنية الاستفهام للتعبير عن الإحساس بالضياع والاغتراب وعبثية الحياة، والسعي للخلاص من أسرها، وكم كان همام صادق واعيًا لفاعلية الاستفهام في تجسيم هذا الحوار النفسي الذي يحول دون التقاط الأنفاس.

صراعٌ داخلي، شَطريْ رهانٍ

أكونُ أنا أنا، أمْ لا أكونُ؟!

...

حياتُكَ كبَّلتْكَ بِها سَجينًا

فهلْ لكَ مُنقذٌ إلا المنونُ؟

 

في ضجة الذكريات يلملم الشاعر هواجسه، يحاور نفسه بعد أن أسدل الستار على حبه، وختم بالحزن على قلبه، وهذا " المونولوج الداخلي " الذي يستدعيه بالاستفهام يتيح له استدعاء المواقف التي استأثرت به، دون أن تجره الذكرى إلى الخوض في التفاصيل التي تستقطب طاقته التصويرية، فالاستفهام هنا أداته إلى التركيز، إضافة إلى كونه عنصر تنبيه في المونولوج الداخلي يجسد تلك المواقف التي تضطرم في أغوار الذات.

لقد نجح همام في أسر ذهن المتلقي وشد انتباهه إلى أقصى درجة؛ لما يحمله الاستفهام من ترقب يعمل على إحياء الدلالة من ناحية، ويقوى قنوات الإبلاغ من ناحية أخرى.

في ضباب هذه الأسئلة تنبت عروق الشعر الأصيل؛ فالشعر لا يستوطن اليقين الصامت ولا الإجابات المتوقعة، بل يعيش دائمًا في هذه المنطقة المتراوحة بين الصمت والنطق، بين السؤال والإجابة.

في الحقيقة لقد أبهرني شعر همام صادق عثمان بطابعه الفني والإنساني، وحسبي في ختام هذه القراءة العجلى القول إن همام شاعر لا يُعرّف، وإنما يُتعرف عليه من خلال شعره، فهو لسان حاله وترجمان ذاته، لقد وجدت فيه صوتًا من أصوات الحركة الشعرية الراهنة في ثقافتنا العربية، ولا تفي هذه السطور بما يستحقه شعره من نظرات أخرى للوقوف على أسراره وسبر أغواره، وهذا ما نرجوه في المستقبل القريب.

** كاتب وناقد وأكاديمي مصري

** عضو الاتحاد الدولي للغة العربية

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

حمد الخروصي.. غربة الذات وإنسانية النص

(1)

الحياة ليست مجرد رقم، إنها الأثر الممتد من المهد إلى ما بعد اللحد، إنها ذلك الخيط الشفيف الذي يربطنا بالخلود الأبديّ، فحين تسقط جميع أسلحتنا يبقى الأثر الطيّب هو الحبل السريّ الذي يربطنا بأبديتنا الغائرة في تخوم اللا زمان، وهكذا يكون الشاعر ذا أثر غير عادي، يتركه في خطوات شِعره، وبين ثنايا قصائده، وفي أيدي قافيته، وفي كل من حوله، يتبعه حيث كان، وأينما كان، وهذا ما كانهُ حمد الخروصي، في حياته، وبعد مماته، شاعر توحّد مع قصيدته، وعشق الحياة، وسار معها، واستطاع أن يكسر ذلك القيد النفسي الذي يفصل الشاعر عن قصيدته، حتى لكأنك تقرأ شخصية حمد في نصوصه، وبين ثنايا أبياته، وهذا ما يفعله القلة من الشعراء الذين لا يفصلون شعرهم عن قيمهم، مبادئهم، وحياتهم.

(2)

لم يكن حمد الخروصي -رحمه الله- مجرد شاعر عابر، بل كان ذا أثر واضح على من حوله، وكان ذا طاقة إيجابية متجددة، ولديه الكثير من العطاء، رغم أنه في أحيان أخرى تجده يعيش في عزلته المختارة، يبني وحدته، ويخاطب ذاته، ويحاول أن يكون «هوَ» أينما كان، غير منفصل عن واقعه، وغير قابل للكسر في وجه الحياة، كانت تجربتي معه في مجلس الشعر الشعبي تجربة ثرية، وكشفت لي الكثير من الجانب الشخصي لحمد، ذلك الشاب الطموح الذي يحاول أن يعطي للآخرين، أكثر مما يأخذ، ظهر ذلك في تنظيمه لفعاليات كثيرة للمجلس رفقة بقية الشعراء المنتمين للكيان الشعري الوحيد الذي ظل مترابطا إلى آخر رمق له؛ حيث ظهرت الروح الإيجابية للشعراء، وبانت الكثير من المواهب الكتابية الكامنة التي ظهرت على ملحق «المجلس» الذي كان يصدر عن جريدة «الوطن»، وكان حمد الخروصي أحد أولئك الشعراء الذين أسهموا بجهد مهم في نبش مواهب الشعراء، والإشراف على تبويب الملحق، بمشاركة الشاعر فيصل العلوي، كانت تلك الروح الوثابة واضحة، وكان حمد شعلة عطاء لا تنطفئ، واستطعنا معا، ومع بقية أعضاء مجلس إدارة المجلس تشكيل ساحة شعرية حقيقية وفاعلة لا يمكن تكرارها بسهولة.

أذكر لحمد «الصحفي» أنه هو من أطلق عليّ لقب «عرّاب الساحة»، في لقاء أجراه معي لصالح مجلة «وهج» التي كان يتعاون في تحريرها، وما زال هذا اللقب - الذي لا أدّعي شرفه - حاضرا في معظم تقديم الآخرين لي في أي فعالية، أو لقاء يُجرى معي.

(3)

ولنتوغل سريعا في «أثر» الشاعر حمد الخروصي، حيث تجد شخصيته الحياتية، و«كاريزما» شاعريته، حاضرين في ذلك الإصدار، وتشعر بتلك الذات المغتربة، ذلك الصوت الهامس، تلك الشفافية التي لا يمكنك إلا الوقوف أمامها طويلا، تكتشف في نصوصه كثافة شعرية غير عادية، وإسقاطات اجتماعية عميقة، وكشفا ثقافيا يربطك بذهنية شعرية عالية، كما أن قصائده ما كانت لتخلو من مفردات البيئة، وهمسات البحر، وهمهمات الليل، والتقاطات الدهشة، التي تعطي للنص ثراءه، وهيبته، وجديته، ولذلك كانت للنص الشعري لدى حمد الخروصي دلالات متعددة، وإيحاءات قد لا تكشف عن نفسها للوهلة الأولى بسهولة، رغم أن الفكرة تبدو للعين المجردة نصا قابلا للفهم، إلا أن تلك القناعة قد تتفتت في القراءة التالية، وأن ذلك الوضوح الذي يغرينا في البداية، ما هو إلا غموض يقودنا نحو «غابة كباريت»، قد تنفجر في أي لحظة.

(4)

كما اعتمد حمد في نصوص أخرى على «الشعر اللقطة»، القصير، والمكثف، وذي الدلالات المتعددة، وغير القاطعة، بينما أظهر نفسا حكائيا، وقدرة على مسرحة النص، وتلوين المكان، وتداخل الأصوات، وتعددها في النص الواحد، وهذا ما يعطي للقصيدة بعدا مسرحيا، وحسّا قصصيا عاليا، وشعورا باتساع النص، ولجوءه أحيانا إلى النهايات المفتوحة، التي تتيح للمتلقي مساحات من التخيّل لما تؤول إليه القصيدة، لقد لخصت نصوص «أثر» نظرته للحياة، والموت، والأشياء من حوله، حتى لكأنك تتبع خيطا يقودك نحو مفاتيح شخصيته التي يعيشها، ويكشفها دون اكتراث، ويسقطها على الأنا، والآخر.

(5)

في قصيدة «حياة» يلخص حمد نظرته المزدرئة للحياة:

(يا حياةٍ ما تساوي عود كبريت، وسجارة.

يا مماتٍ لو يريح الروح من هذي المرارة!!)

هذه هي كل القصيدة!!، تكثيف عالٍ، ونظرة غير مكترثة بمباهج الأشياء، ومفردات بسيطة، وواضحة، ولكنها تشي بما يشعر به تجاه الحياة بكل تفاصيلها.

في نص آخر ينظر حمد إلى النخلة كرمز للحياة، والعطاء، ولكنه يرى أنها فقدت قيمتها، فيرثيها في نص «جذوع الجمر»:

( أنا نخيل الأرض،

أمّ الناس، جارة مريم العذرا،

ما عاد لي حتى جريد، أظلل أولادي عليه..

ما عاد لي تمر وعذوق،

مقطوعة من طين الحياة).هل كانت النخلة رمزا للوطن في نظره، أم هي الأنثى، والعطاء، أم كانت كيانا مجردا؟..لا شيء يقطع بأي من تلك التأويلات.

وكانت الأنثى لدى الشاعر حمد الخروصي رمزا لكل التناقضات، والحكايات، ومركزا للقوة، والضعف، والأمان والغدر، والوفاء والخيانة، يقول في نص «أحباب وأصحاب»:

(كل حب وله زمن،

كل غلطة لها ثمن،

بس أنا عندي سؤال:

إنتي لمن..رحتي لمن؟

لصاحبي؟..هو صاحبي، ما غدى هو صاحبي إلا عشانك،

وأنا أتمنى مثل ما خانني يكون خانك..)

إن هذا الخلط الواضح بين المفاهيم، بين الخيانة، والصديق، ما هو إلا تلخيص آخر لنظرة الشاعر لتلك العلاقات الباهتة بين الناس الذين يحاولون التملق من أجل مصلحة ذاتية، ويتلونون في صورة الأصحاب، ثم تكتشف خيانتهم، وبشاعتهم، ولكن ذلك غير مهم في نظره؛ لأن الأهم هو أن الأقنعة سقطت.

ويحضر المكان بقوة في نصوص حمد الخروصي في نصوص سمّى قصائده باسمها (مطرح، الربع الخالي، مسقط، زنجبار، دبي، الكويت..وغيرها) وهو في كل تلك النصوص يزرع غربته الذاتية، ويلتقط صوره المدهشة، ويراقب المشاهد المتحركة لكي يعطي لنصه الحياة، والحيوية، يقول في نص «مطرح»:

(«لا أحد غير الضباب،

يصافح الشارع، ودخان البواخر، والغياب،

يا هي مدينة مغلقة،

قدامها البحر، وخلفها هالسلاسل،

مطرح مدينة للحصار، الانتظار،

مطرح مدينة للسهر، والشِعر،

مطرح مدينة للخيال، وللسحر، وللقوافل»)

مشهد تفصيلي، تصويري، وصفي لما يشعر به الشاعر، وليس ما يراه فعليا، إحساسه الخاص، وتوحدّه مع المشهد الليلي لمدينة «مطرح»، وتلك الإسقاطات التاريخية، والثقافية، والذاتية التي يسقطها على المكان، والزمان.

هناك الكثير من الثيمات التي ضمها الديوان، ولعل ثيمة الموت هي الأبرز في مجمل نصوص الإصدار، فالموت هو المقابل للحياة، وهو المصير المحتوم، الذي نسير معه، ونعايشه، ونثق فيه، ونراوغه، ونلعب معه، ونتألم معه، ويعيدنا إلى نقطة البدء، ورحلة الانتهاء، ولذلك كانت ثنائية الموت / الحياة حاضرة، ومتلازمة بقوة في نصوص الراحل حمد الخروصي، في نص بعنوان «رحلة الموت لاستعادة الحياة»، والتي يستحضر فيها الشاعر «ملحمة جلجامش» يقول مخاطبا «جلجامش»:

(عود للرحلة إلى أرض الخلود،

بانتظارك كهل في يده حفنة تراب، وقطن،

وبانتظارك طفل يتنفس غياب الأهل..حزن،

بانتظارك..كل أحلام العذارى سجن،

ومن ينادي باسمك الحاضر..صلاة،

عود لأشعارك لأطفال الشوارع..للحياة»)

إن هذه الإسقاطات المتتالية على تلك الميثولوجيا الإنسانية، كان له أثر واضح في تكوين الشخصية الشعرية لحمد، وما كانت تلك الملحمة سوى أحد المفاتيح لفهم التأثر الواضح بالأسطورة، التي كانت تبحث عن الخلود، حد الموت.

إن هناك الكثير من الكلام الذي يمكن قوله، أو تتبعه في أثر الراحل حمد الخروصي، وهناك الكثير من المفاتيح التي يمكن التقاطها، للدخول إلى الذات الشعرية والإنسانية للشاعر، ولعل ذلك يحتاج إلى متسع كبير من الجهد، والوقت، والبحث، ولذلك سنترك لذلك متسعا آخر ذا بوح.

وفي الملخص العام، فإن معظم نصوص الشاعر حمد الخروصي هي غربة ذات يحملها أينما كان، يحاول أن ينفثها على شكل قصيدة، ويعيد تشكيلها، ويسير في ظلالها إلى رمقها الأخير، وهذا ما لا يخفى على من يقرأ الديوان، ومن يشعر بروح الشاعر، وأثر الشعر، وروح الكتابة ـ لذلك عاش حمد الخروصي غريبا، ومات غريبا، فطوبى للغرباء، والصادقين من الشعراء، رحل في صمت، كما عاش في صمت، رحل دون أن ينهي عزلته، وغربته في عام 2015م، وكأنه يستحضر المثل الذي يقول «الملائكة يموتون صغارا»، رحمه الله وأدخله فسيح جناته، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان، والعزاء للشعر، لكل الشعر الذي نثره على سفوح القصيدة، وعبير الأرواح، وعطر القلوب.

مقالات مشابهة

  • عالم بوزارة الأوقاف: الشك ليس مذمومًا في ذاته إذا انضبط بضوابط العلم
  • على المقاعد الخشبية
  • بعد الانكسار
  • منتخب عربي يواجه روسيا وديا استعدادا لكأس العالم 2026
  • بن حبتور يعزّي اللواء صالح الشاعر في وفاة ابن أخيه
  • حمد الخروصي.. غربة الذات وإنسانية النص
  • الرهوي يعزي اللواء صالح الشاعر في وفاة ابن أخيه
  • جريمة غامضة.. رجل ينحر زوجته ويسلم نفسه للشرطة في البصرة
  • جريمة غامضة.. رجل يقتل زوجته ويسلم نفسه للشرطة في البصرة
  • غيرة ووفاء وانتماء