حمد الخروصي.. غربة الذات وإنسانية النص
تاريخ النشر: 4th, August 2025 GMT
(1)
الحياة ليست مجرد رقم، إنها الأثر الممتد من المهد إلى ما بعد اللحد، إنها ذلك الخيط الشفيف الذي يربطنا بالخلود الأبديّ، فحين تسقط جميع أسلحتنا يبقى الأثر الطيّب هو الحبل السريّ الذي يربطنا بأبديتنا الغائرة في تخوم اللا زمان، وهكذا يكون الشاعر ذا أثر غير عادي، يتركه في خطوات شِعره، وبين ثنايا قصائده، وفي أيدي قافيته، وفي كل من حوله، يتبعه حيث كان، وأينما كان، وهذا ما كانهُ حمد الخروصي، في حياته، وبعد مماته، شاعر توحّد مع قصيدته، وعشق الحياة، وسار معها، واستطاع أن يكسر ذلك القيد النفسي الذي يفصل الشاعر عن قصيدته، حتى لكأنك تقرأ شخصية حمد في نصوصه، وبين ثنايا أبياته، وهذا ما يفعله القلة من الشعراء الذين لا يفصلون شعرهم عن قيمهم، مبادئهم، وحياتهم.
(2)
لم يكن حمد الخروصي -رحمه الله- مجرد شاعر عابر، بل كان ذا أثر واضح على من حوله، وكان ذا طاقة إيجابية متجددة، ولديه الكثير من العطاء، رغم أنه في أحيان أخرى تجده يعيش في عزلته المختارة، يبني وحدته، ويخاطب ذاته، ويحاول أن يكون «هوَ» أينما كان، غير منفصل عن واقعه، وغير قابل للكسر في وجه الحياة، كانت تجربتي معه في مجلس الشعر الشعبي تجربة ثرية، وكشفت لي الكثير من الجانب الشخصي لحمد، ذلك الشاب الطموح الذي يحاول أن يعطي للآخرين، أكثر مما يأخذ، ظهر ذلك في تنظيمه لفعاليات كثيرة للمجلس رفقة بقية الشعراء المنتمين للكيان الشعري الوحيد الذي ظل مترابطا إلى آخر رمق له؛ حيث ظهرت الروح الإيجابية للشعراء، وبانت الكثير من المواهب الكتابية الكامنة التي ظهرت على ملحق «المجلس» الذي كان يصدر عن جريدة «الوطن»، وكان حمد الخروصي أحد أولئك الشعراء الذين أسهموا بجهد مهم في نبش مواهب الشعراء، والإشراف على تبويب الملحق، بمشاركة الشاعر فيصل العلوي، كانت تلك الروح الوثابة واضحة، وكان حمد شعلة عطاء لا تنطفئ، واستطعنا معا، ومع بقية أعضاء مجلس إدارة المجلس تشكيل ساحة شعرية حقيقية وفاعلة لا يمكن تكرارها بسهولة.
أذكر لحمد «الصحفي» أنه هو من أطلق عليّ لقب «عرّاب الساحة»، في لقاء أجراه معي لصالح مجلة «وهج» التي كان يتعاون في تحريرها، وما زال هذا اللقب - الذي لا أدّعي شرفه - حاضرا في معظم تقديم الآخرين لي في أي فعالية، أو لقاء يُجرى معي.
(3)
ولنتوغل سريعا في «أثر» الشاعر حمد الخروصي، حيث تجد شخصيته الحياتية، و«كاريزما» شاعريته، حاضرين في ذلك الإصدار، وتشعر بتلك الذات المغتربة، ذلك الصوت الهامس، تلك الشفافية التي لا يمكنك إلا الوقوف أمامها طويلا، تكتشف في نصوصه كثافة شعرية غير عادية، وإسقاطات اجتماعية عميقة، وكشفا ثقافيا يربطك بذهنية شعرية عالية، كما أن قصائده ما كانت لتخلو من مفردات البيئة، وهمسات البحر، وهمهمات الليل، والتقاطات الدهشة، التي تعطي للنص ثراءه، وهيبته، وجديته، ولذلك كانت للنص الشعري لدى حمد الخروصي دلالات متعددة، وإيحاءات قد لا تكشف عن نفسها للوهلة الأولى بسهولة، رغم أن الفكرة تبدو للعين المجردة نصا قابلا للفهم، إلا أن تلك القناعة قد تتفتت في القراءة التالية، وأن ذلك الوضوح الذي يغرينا في البداية، ما هو إلا غموض يقودنا نحو «غابة كباريت»، قد تنفجر في أي لحظة.
(4)
كما اعتمد حمد في نصوص أخرى على «الشعر اللقطة»، القصير، والمكثف، وذي الدلالات المتعددة، وغير القاطعة، بينما أظهر نفسا حكائيا، وقدرة على مسرحة النص، وتلوين المكان، وتداخل الأصوات، وتعددها في النص الواحد، وهذا ما يعطي للقصيدة بعدا مسرحيا، وحسّا قصصيا عاليا، وشعورا باتساع النص، ولجوءه أحيانا إلى النهايات المفتوحة، التي تتيح للمتلقي مساحات من التخيّل لما تؤول إليه القصيدة، لقد لخصت نصوص «أثر» نظرته للحياة، والموت، والأشياء من حوله، حتى لكأنك تتبع خيطا يقودك نحو مفاتيح شخصيته التي يعيشها، ويكشفها دون اكتراث، ويسقطها على الأنا، والآخر.
(5)
في قصيدة «حياة» يلخص حمد نظرته المزدرئة للحياة:
(يا حياةٍ ما تساوي عود كبريت، وسجارة.
يا مماتٍ لو يريح الروح من هذي المرارة!!)
هذه هي كل القصيدة!!، تكثيف عالٍ، ونظرة غير مكترثة بمباهج الأشياء، ومفردات بسيطة، وواضحة، ولكنها تشي بما يشعر به تجاه الحياة بكل تفاصيلها.
في نص آخر ينظر حمد إلى النخلة كرمز للحياة، والعطاء، ولكنه يرى أنها فقدت قيمتها، فيرثيها في نص «جذوع الجمر»:
( أنا نخيل الأرض،
أمّ الناس، جارة مريم العذرا،
ما عاد لي حتى جريد، أظلل أولادي عليه..
ما عاد لي تمر وعذوق،
مقطوعة من طين الحياة).هل كانت النخلة رمزا للوطن في نظره، أم هي الأنثى، والعطاء، أم كانت كيانا مجردا؟..لا شيء يقطع بأي من تلك التأويلات.
وكانت الأنثى لدى الشاعر حمد الخروصي رمزا لكل التناقضات، والحكايات، ومركزا للقوة، والضعف، والأمان والغدر، والوفاء والخيانة، يقول في نص «أحباب وأصحاب»:
(كل حب وله زمن،
كل غلطة لها ثمن،
بس أنا عندي سؤال:
إنتي لمن..رحتي لمن؟
لصاحبي؟..هو صاحبي، ما غدى هو صاحبي إلا عشانك،
وأنا أتمنى مثل ما خانني يكون خانك..)
إن هذا الخلط الواضح بين المفاهيم، بين الخيانة، والصديق، ما هو إلا تلخيص آخر لنظرة الشاعر لتلك العلاقات الباهتة بين الناس الذين يحاولون التملق من أجل مصلحة ذاتية، ويتلونون في صورة الأصحاب، ثم تكتشف خيانتهم، وبشاعتهم، ولكن ذلك غير مهم في نظره؛ لأن الأهم هو أن الأقنعة سقطت.
ويحضر المكان بقوة في نصوص حمد الخروصي في نصوص سمّى قصائده باسمها (مطرح، الربع الخالي، مسقط، زنجبار، دبي، الكويت..وغيرها) وهو في كل تلك النصوص يزرع غربته الذاتية، ويلتقط صوره المدهشة، ويراقب المشاهد المتحركة لكي يعطي لنصه الحياة، والحيوية، يقول في نص «مطرح»:
(«لا أحد غير الضباب،
يصافح الشارع، ودخان البواخر، والغياب،
يا هي مدينة مغلقة،
قدامها البحر، وخلفها هالسلاسل،
مطرح مدينة للحصار، الانتظار،
مطرح مدينة للسهر، والشِعر،
مطرح مدينة للخيال، وللسحر، وللقوافل»)
مشهد تفصيلي، تصويري، وصفي لما يشعر به الشاعر، وليس ما يراه فعليا، إحساسه الخاص، وتوحدّه مع المشهد الليلي لمدينة «مطرح»، وتلك الإسقاطات التاريخية، والثقافية، والذاتية التي يسقطها على المكان، والزمان.
هناك الكثير من الثيمات التي ضمها الديوان، ولعل ثيمة الموت هي الأبرز في مجمل نصوص الإصدار، فالموت هو المقابل للحياة، وهو المصير المحتوم، الذي نسير معه، ونعايشه، ونثق فيه، ونراوغه، ونلعب معه، ونتألم معه، ويعيدنا إلى نقطة البدء، ورحلة الانتهاء، ولذلك كانت ثنائية الموت / الحياة حاضرة، ومتلازمة بقوة في نصوص الراحل حمد الخروصي، في نص بعنوان «رحلة الموت لاستعادة الحياة»، والتي يستحضر فيها الشاعر «ملحمة جلجامش» يقول مخاطبا «جلجامش»:
(عود للرحلة إلى أرض الخلود،
بانتظارك كهل في يده حفنة تراب، وقطن،
وبانتظارك طفل يتنفس غياب الأهل..حزن،
بانتظارك..كل أحلام العذارى سجن،
ومن ينادي باسمك الحاضر..صلاة،
عود لأشعارك لأطفال الشوارع..للحياة»)
إن هذه الإسقاطات المتتالية على تلك الميثولوجيا الإنسانية، كان له أثر واضح في تكوين الشخصية الشعرية لحمد، وما كانت تلك الملحمة سوى أحد المفاتيح لفهم التأثر الواضح بالأسطورة، التي كانت تبحث عن الخلود، حد الموت.
إن هناك الكثير من الكلام الذي يمكن قوله، أو تتبعه في أثر الراحل حمد الخروصي، وهناك الكثير من المفاتيح التي يمكن التقاطها، للدخول إلى الذات الشعرية والإنسانية للشاعر، ولعل ذلك يحتاج إلى متسع كبير من الجهد، والوقت، والبحث، ولذلك سنترك لذلك متسعا آخر ذا بوح.
وفي الملخص العام، فإن معظم نصوص الشاعر حمد الخروصي هي غربة ذات يحملها أينما كان، يحاول أن ينفثها على شكل قصيدة، ويعيد تشكيلها، ويسير في ظلالها إلى رمقها الأخير، وهذا ما لا يخفى على من يقرأ الديوان، ومن يشعر بروح الشاعر، وأثر الشعر، وروح الكتابة ـ لذلك عاش حمد الخروصي غريبا، ومات غريبا، فطوبى للغرباء، والصادقين من الشعراء، رحل في صمت، كما عاش في صمت، رحل دون أن ينهي عزلته، وغربته في عام 2015م، وكأنه يستحضر المثل الذي يقول «الملائكة يموتون صغارا»، رحمه الله وأدخله فسيح جناته، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان، والعزاء للشعر، لكل الشعر الذي نثره على سفوح القصيدة، وعبير الأرواح، وعطر القلوب.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکثیر من وهذا ما فی نصوص
إقرأ أيضاً:
الرهوي يعزي اللواء صالح الشاعر في وفاة ابن أخيه
الثورة نت /..
بعث رئيس مجلس الوزراء أحمد غالب الرهوي، برقية عزاء ومواساة إلى اللواء صالح مسفر الشاعر، في وفاة ابن أخيه خالد الشاعر.
وعبر الرهوي، في البرقية عن خالص العزاء والمواساة للواء صالح الشاعر وإخوانه وآل الشاعر كافة بهذا المصاب .. سائلا الله عز وجل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته ومغفرته ويسكنه فسيح جناته وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
” إنا لله وإنآ إليه راجعون “.