صحيفة المناطق السعودية:
2025-06-01@23:00:22 GMT

التـداوي بالتـاريـــخ..

تاريخ النشر: 20th, December 2024 GMT

*عبدالرحمن الشقير

تعاني الشعوب من أوجاع تاريخية كثيرة، مثل: قراءة التاريخ بروح مثقلة بمعاني الحروب بين المدن والغزو بين قبائل البادية، أو وصم المجتمع بالجهل والظلم، واختزال إنجازات الآباء والأجداد في معاني سلبية، وعدم تقدير الإنجازات العظيمة في التعليم والبناء والزراعة والتجارة والأمن والتراث المادي وغير المادي، وتكثيف المعاني حول الكوارث الطبيعية ومواسم الأوبئة.

لذلك فإن تناوله في هذا السياق يحتاج إلى مراجعة وتصحيح، قبل أن تتحول تلك الأوجاع إلى طاقة سامة تسري في روح المجتمع.

أخبار قد تهمك مكافحة الفساد: مسؤولية مجتمعية تبدأ من الفرد وتنتهي بالدولة 10 ديسمبر 2024 - 12:41 مساءً السعودية لم تقصر .. أنتم المقصرون .. وأنتم المسؤولون ! 19 يونيو 2024 - 1:03 مساءً

وعلى ذلك فإن أوجاع الماضي المسكوت عن كثير منها، يتطلب علاجها مواجهتها وتشخصيها وتضميد جراحها، من أجل غد صحي للأجيال، لكي تستطيع أن تتجاوز الأمراض التي تسير بقوة التاريخ.

وتكمن أهمية الموضوع الآن بسبب صعود أفكار فردية جديدة تتضمن تصورات خاطئة عن الدين والمجتمع والدولة ناتجة عن معنى الحياة والوجود والتقليل من دور التاريخ في فهم الحاضر؛ بسبب كثرة المتغيرات الجديدة والمستحدثة والمعقدة.

ما التداوي بالتاريخ؟

التداوي بالتاريخ هو استخدام الأحداث الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والثقافية بشكل عام، باعتبارها مادة خام لفهم المشكلات النفسية للشعوب والجمعات والأفراد، وإيجاد الحلول لها أو التصالح معها بتحليلها ووضعها في سياقات سليمة.

ومن طبيعة الشعوب أن تبحث عن أمل أو ترجو فرج قريب من خلال تأمل الأحداث الماضية وإسقاطها على الواقع. وتجد في القصص والأحداث ملاذًا بهدف التعرف على الواقع لتجاوز تناقضاته وللتأثير المعنوي في نفسيات الشعوب، من خلال إبراز القيم الاجتماعية والمعاني الفلسفية.

ويخف القلق من المجهول كلما كانت الأزمات مشتركة بين الشعوب والأفراد رغم اختلاف الزمان أو المكان، فمن طبيعة الإنسان أن تهدأ وحشته إذا وجد من يشبهه في أزماته. فالتاريخ، بوصفه موضوعًا للتأمل، يسهم بشكل فاعل في تنظيم أفكارنا، وتزويدنا بالحكمة والاعتداد بالخبرات المبنية من الداخل.

ويوجد فرق كبير بين التداوي بالتاريخ باستخدام الأحداث وسيلة وأداة للفهم الفلسفي بهدف إيجاد معاني، وبين استخدامه بوصفه غاية لتسلية العامة والمتعة المجردة من معاني التداوي والفلسفة.

ووظيفة التاريخ العلاجية تكمن في دراسته كما وقع، وتنقيته من الخرافات والأكاذيب التي سعت إلى أدلجته، لتفعيل دوره الكبير في تحقيق التجانس الاجتماعي، وتقوية الروابط الاجتماعية بتذكر الأحداث التي وحدت المجتمع أو الدولة، ومحاولة إلقاء الضوء على أسباب الصراع أيا كانت، لمنع تكرارها.

وبالتالي فإن التفكير النقدي والتأمل الفلسفي من أبرز مناهج قراءة التاريخ وإيجاد معاني جديدة له ترتبط بالواقع، وتساعد على فهم الذات أولًا ثم معرفة قوانين التغير الاجتماعي.

إيجاد المعنى للتاريخ

تتداوى الشعوب بالتاريخ بالوقوف على المعاني العميقة من قراءته، وقيم الإنجاز في كافة مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والثقافية؛ وذلك عبر الوسائل المتاحة من روايات ومؤلفات تاريخية أو سير ذاتية أو أفلام تاريخية أو حتى سماعه مباشرة من رواته.

وقد استخدم القرآن الكريم التداوي بالتاريخ بشكل موجه ومقصود، لأغراض الدعم النفسي للدعوة النبوية والمحافظة على تماسكها باستدعاء القصص المشابهة عند الأزمات “وكلًا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك”.

وفي عام الحزن الذي توفيت فيه خديجة، زوجة النبي، وعمه أبو طالب، وهما من أبرز داعميه في بدايات بعثته، نزلت سورة يوسف لمحاكاتها التعرض للأزمات وغياب المؤيد، ثم الانتصار في الأخير.

ومن المهم كتابة التاريخ بروح العصر الذي جرت فيه الأحداث، والتعرف على القوانين الاجتماعية ومصفوفة القيم التي تحرك سلوك المجتمع وتبني علاقاته، والنأي به عن إثارة العصبيات.

ويمكن ملاحظة الفرق بين من يفاخر بالغزو القبلي، ومن يفاخر بالإنتاج العلمي والاقتصادي والعمراني والزراعي، ثم اختزال التاريخ في القوة الخشنة، بسبب كثافة توثيقها نثرًا وشعرًا، وإهمال القوة الناعمة.

ويمكن الإفادة من التاريخ في صياغة الهوية وبناء صورة ذهنية جديدة، مما يمنح الثقة الشعبية وتقدير منجزات الأسلاف، وبناء أجيال متكافئة الفرص.

دروس من تجارب الشعوب

يعد العالم اليوم معملًا ضخماً لإعادة إنتاج التاريخ، حيث أكدت بعض التجارب على قدرة المجتمعات ذات الإرث الحضاري الخالد أن تمنح الشعوب تماسكاً يساعدها في تجاوز أزماتها وحروبها.

ويوجد تجارب عالمية نموذجية في قدرة الشعوب على تجاوز أزماتها الكبرى والتصالح مع الجانب المظلم من تاريخها وتحويله إلى قوة، مثل: تجربة اليابان في تجاوز كارثة هيروشيما وناجازاكي، وخروج ألمانيا بعزيمة البناء بعد الحرب العالمية الثانية، والمصالحة الوطنية العظيمة في راوندا بعد مذابح عرقية كانت كفيلة بجرها إلى حروب طويلة الأمد.

وتعتبر تجربة المغرب في تجاوز الماضي من خلال مواجهة أوجاعه وحث المجتمع على قراءة ما كتب عنه، من أجل بناء علاقات مجتمعية مبنية على الثقة، من التجارب الرائدة؛ حيث تأسست “هيئة الإنصاف والمصالحة” (2004- 2006) بهدف معالجة حالات انتهاك حقوق الإنسان في “سنوات الرصاص” التي امتدت بين عامي (1956- 1999).

وفي العصر الحديث يشعر المصريون بالتماسك إذا استذكروا أن مراكز الشرط لم تسجل حالات جنائية في المجتمع أثناء حرب 6 أكتوبر 1973؛ وذلك لأن الوحدة الشعبية أثناء الحرب زادت من تماسك المجتمع، واستشعر الجميع مسؤولياته الوطنية، وتوقفت حالات الاعتداء والثأر وتوقف اللصوص.

وكل هذا الاستدعاء يجسد الفهم العميق في علم نفس الشعوب، ويمارس دوره العلاجي المتمثل في رفع الروح المعنوية الشعبية، وتعزيز تحمل الأزمات تأسيًا بسيرة الآباء المؤسسين.

الرواية: ذاكرة التاريخ

تشكل الروايات الأدبية ذاكرة جمعية وتجارب شعبية، وفي كتاب “الروايات التي أحب” ترجمة لستة لقاءات روائية، كانت الأولى بعنوان: لماذا نحب الرواية؟ وقد جاءت الإجابات متسقة مع التداوي بالتاريخ، وأبرزها:

أن الرواية تمثل نوعًا من الذاكرة الجمعية المميزة لكل جغرافية بشرية، فهي عبارة عن “خزانة الحكايات” التي يمكن من خلالها الإطلالة على العادات والتقاليد وأساليب العيش ونمط الحياة اليومية وفنون الطبخ والأزياء في كل عصر، فالطلاب عادة ينسون ما تعلموه في المدارس، ولا ينسون التاريخ والأدب.

كما تؤدي الرواية الآن وظائف الأسطورة قديمًا، وهي البديل الأمثل للأساطير التي كانت تسهم في تعزيز الصلابة الداخلية للفرد وتقوية بنيانه الذهني والنفسي، وتمكينه من العيش بسلام بعيدًا عن التخاذل والانهزام أمام المصاعب.

وتعتبر الرواية وسيلة ترتقي بالخيال البشري، وتمنع انزلاقه في هوة الركود، خاصة بعد هيمنة الإنجازات العلمية والتقنية التي تنمّط الحياة وتحولها إلى سلة خوارزميات محددة بشكل مسبق، مما يهدد العقل التحليلي الذي هو ميزة فريدة للعقل البشري.

وتبرز رواية “طوق الحمام” لرجاء عالم جوانب من التعقيد الثقافي في مكة من خلال المرأة والدين وقيم التقليد والتحديث، وتلقي رواية “مدن تأكل العشب” لعبده خال الضوء على المهمشين والهامشيين في المدن الحدودية على الأطراف، وتسهم رواية “سقف الكفاية” لمحمد حسن علوان في استيعاب التحولات النفسية والاجتماعية أثناء التغيرات التنموية في السعودية.

وهذه الروايات تواجه الماضي بشجاعة، وتسهم في معالجة المشاعر السلبية المتراكمة عبر الأجيال، وتفسر بعض مظاهر التهميش الناتج من سياقات تلقائية، والظروف البيئية التي تفرض أنواعا من السلوك والعادات مما أوجد تنوعا ثقافيا بتنوع الجغرافيا.

ويعد التاريخ من أبرز محركات الذهنية الشعبية، وخاصة ما يشيع بينهم من أحداثه وأبطاله، فيحفظونه عن ظهر قلب، ويرددونه على مسامعهم في المنتديات والجلسات العامة والخاصة، ويورثونه الأجيال، وتتحقق كثير من مكانات الأفراد الاجتماعية استناداً إلى مكانة تاريخ بلدانهم وأسرهم ومؤسساتهم وحضارتها ومنجزات أهلها، وحسن إدارة المعلومات والاستثمار فيها يحقق عوائد رمزية تنعكس تلقائياً إلى عوائد مادية غير مباشرة.

نحو قراءة جديدة للتاريخ

يؤكد الفيلسوف فولتير، على أن الاهتمام بالتاريخ مظهر من مظاهر الاهتمام بالإنسان؛ لا بمجرد الماضي، بل لأن دراسة الماضي تزيدنا خبرة وتجربة بالحاضر، وبالتالي الاهتمام بالإنسان وحياته.

وقد حدث تغيير جذري بالفعل في طرق الكتابة التاريخية، فلم يصبح مجرد سرد لأحداث المعارك وسير الملوك وأخبار البلاط؛ وإنما شمل شتى مظاهر النشاط الإنساني، من عادات ومعتقدات، وتشريع وعلم وفلسفة، وفن وتكنولوجيا وتجارة وصناعة، إن نشاط الشعب في مجالات العلم والفن والفلسفة والأدب والتكنولوجيا تفصح عن تقدم الشعوب أكثر مما تفصح عنه الحروب.

فالتاريخ يعمل على تقوية الذاكرة الجماعية، وهكذا تصبح الأحداث التي يسردها المجتمع عن نفسه عقيدة تتغلغل في نفوس أبنائه، حتى يتحول إلى أيديولوجيا تمثل بالنسبة للممارسة الجماعية ما يمثله الدافع بالنسبة لسلوك الفرد، مدفوعة دائما بإرادة بيان أن المجتمع الذي يمثلها له الحق في أن يكون على ما هو عليه.

ختام

يقدم التاريخ مادة خام عظيمة في ترميم نفسية الشعوب المثقلة بالأوجاع، ويتيح فرصًا كبيرة لالتقاط جماليات الأحداث، ومنع خداع الذهن بالآلام وإيقاف تغذيته بسلبياتها.

والظروف متاحة الآن لإعادة قراءة التاريخ وصياغته بمنهجيات نقدية وفلسفية جديدة تستلهم قيم الإنجاز وتقبل الأخطاء، ودعم الفن والأدب في كتابة التاريخ، وتحويل الأزمات والجرائم إلى قصص ملهمة.

وسوف يسهم الذكاء الاصطناعي في جودة صناعة التاريخ منهجيًا وفنيًا؛ بحيث يمكن توظيفه في قراءة المستقبل وصناعة أفلام وثائقية متخيلة في ضوء عدم اليقين ونقص المصادر، واستخدامه في تبسيط تاريخ العلوم بجميع تخصصاتها في مناهج التعليم.

*نقلاً عن: alriyadh.com

المصدر: صحيفة المناطق السعودية

كلمات دلالية: مقالات من خلال

إقرأ أيضاً:

حين ظهرت مكة والمدينة في خريطة أميركا.. قراءة في التسمية والنسيان

مكة مهبط الوحي ونشأة رسول الإسلام وقبلة المسلمين اليومية في صلاتهم حيث بيت الله الحرام ومتَعلَّق القلوب للعمرة والحج، تلك هي مكة الحجازية ولكن ما لا يعرفه أغلب الناس أنّ اسم مكة ليس مقصورا على مكة البيت الحرام بل هو مبثوث في كثير من بلاد الأرض، والأغرب من ذلك أن أكثر دولة بها مدن أو قرى بهذا الاسم هو الولايات المتحدة الأميركية حيث تغطّي "مكة" كل الجغرافيا شرقا وغربا شمالا وجنوبا.

من مكة الحجازية إلى مكة الأميركية ننظر في تاريخ تسمية المكان لنحفر في تاريخ الإسلام في أميركا تأصيلا لمشاركة المسلمين التأسيسية التي لا تزال تفتقد التثمين من السرديّة الرسمية للتاريخ الأميركي. وليكن مثالنا مكة في أوهايو الأميركية.

في بداية القرن الـ19 نشأت بلدتان بمسمى مكة في ولاية أوهايو (تأسست سنة 1803). كانت البلدتان في مقاطعة "ترامبول" (Trumbull) ثم لاحقا بقيت واحدة في نفس المقاطعة وأصبحت الأخرى مقاطعة بذاتها. لكن بسبب وجود اسمين متماثلين غيّر مجلس مقاطعة مكة الآخرة اسمها إلى مسمّى جديد أكثر دهشة لأذهاننا، ذلك الاسم هو "المدينة". لنا الآن في أوهايو مدينتان واحدة بمسمى مكة وأخرى بمسمى المدينة وقد كانت سابقا تُسمى مكة.

إعلان

تلاحظ الرواية الرسمية أنّه لا معلومات عن سبب هذه التسمية فأرشيف مكة في مقاطعة ترامبول قد فُقد تماما فلا يُعرف على وجه التحديد أسماء أعضاء مجلس مكة المسؤول عن التسمية، أما مجلس مقاطعة مكة/المدينة فمعروفون ولكن ليس من بين الأسماء اسم عربي أو قريب منه بل لا اسم عربي في قائمة الرواد المؤسسين لهذه المقاطعة، كما أن الوضع الديني بحسب الرواية الرسمية يتمثل في 6 كنائس لطوائف مسيحية مختلفة ولا ذكر لمسجد، لكن تنفلت من هذه الرواية الرسمية ملاحظة لافتة أنه "لسبب ما، كان لأجزاء من مقاطعة المدينة تراث عربي قد يكون مرتبطا بالشرق الأوسط".

مكة أوهايو

"مكة" هي مركز (معتمدية) من مراكز مقاطعة ترامبول، أوهايو، الولايات المتحدة. يسكنها 2319 نسمة حسب تعداد عام 2020. تأسست مكة عام 1821. ورغم أنها شهدت في ستينيات القرن الـ19 التنقيب عن النفط، إلا أنها بلا صناعة مهمة، ولا خطوط سكك حديدية، ويعمل سكانها بشكل رئيسي في الزراعة.

شارع إيست واشنطن في ميدينا، أوهايو (غيتي)

تنقسم مكة إلى جزأين غير متساويين، يفصل بينهما نهر موسكيتو. وتغلب عليها الأراضي المستنقعية مما جعلها منطقة غير جاذبة لروّاد المستوطنين. ولولا الصيغة المغرية لتملّك الأرض من خلال إمكانية عدم دفع أصل المبلغ للمقاول طالما تم الحفاظ على دفع الفائدة، ما كان لعديد الروّاد أن يأتوا إلى بلدة "مكة" خاصة أنها قبل القدوم إليها كانت فيها مستنقعات واسعة وطرق غير معبّدة وانقطاع عن بقية العالم. لم يكن تاريخ الاستيطان في "مكة" مثيرا للدراسة وبسبب هذا التأخر في الاهتمام لم يُدرَس أصل التسمية وأسبابها.

المدينة/مكة.. أوهايو

تطوّر المُسمّى من بلدة تابعة لمقاطعة ترامبول ثم تابعة لمقاطعة بورتاج المُقتَطعة من مقاطعة ترامبول، إلى مقاطعة قائمة بذاتها، كما تطوّر الاسم من مكة إلى المدينة لوجود بلدة باسم مكة تابعة لمقاطعة ترامبول. كان اسم مكة يُطلق على قطعة الأرض المخصصة لبناء البلدة قبل بنائها ثم تحوّل الاسم في 1818، وحسب الرواية الرسمية لم يكن ثمة مسلم في البلدة.

إعلان

يسكن "المدينة" 26 ألفا و94 نسمة بحسب الإحصاء السكاني لعام 2020، بنسبة كثافة 839 شخصا لكلّ كيلومتر مربع. وتُعدّ "المدينة" أحد أفضل المدن للعيش وللسياحة في أوهايو بطابعها المعماري الفيكتوري الذي اكتسبه وسط المدينة بعد إعادة بنائه بالكامل تقريبا بعد أن أتى عليه حريق كبير سنة 1870.

وبالبحث في أصل التسمية تعترضنا فرضيات عديدة أولاها أنّ السكان هم من سمّى المكان. ويؤكد هذه الفرضية وليامز وبرو إذ يذكر أنّ " بلدة "غرين" (Greene) احتضنت -عندما تمّ تنظيمها عام 1806- أراضي البلدات الحالية: غرين ومكة، بالإضافة إلى البلدات المجاورة الأخرى. وبحلول عام 1821، كان العدد السادس من النطاق الثالث يضم عددا كافيا من السكان لتكوين بلدة متميزة، وهكذا تم تنظيمه تحت اسم مكة. لقد فقدت جميع السجلات المبكرة، لذلك لا يمكن تقديم قائمة بمسؤولي البلدات الأوائل".

وبالعودة إلى تركيبة السكان في مرحلة التأسيس من خلال ذكريات أحد السكان القدامى يذكر وليامز وبرو أنّ مكة، ترامبول كانت عام 1819 مكوّنة من 14 عائلة. ويلاحظ أنّ أسماءها تعود إلى تقليد مسيحي ويهودي، ولا وجود لاسم عربي أو إسلامي يشي بوجود مسلمين من بين تلك الفئة التي واكبت حدث التسمية أو كانت فاعلة في اختيار اسم المكان.

يؤرّخ وليامز وبرو لوجود 3 كنائس لذلك العدد القليل من المستوطنين، وهو مؤشّر لأمرين: الأول: تديّن هذه الفئة من المستوطنين، وثانيا: عدم وحدتهم الطائفية. إضافة إلى هذه المعطيات الدينية فإنّ الحالة الاقتصادية للمستوطنين في مكة يوحي بعدم الثراء، خاصة إذا استحضرنا عدم جاذبية المكان وانعزاله عمّا حوله، كما أن الحالة الثقافية للرواد لا تظهر وعيا بالأديان وخاصة بالدين الإسلامي الذي تلفه صور سلبية نتيجة حملات من التشويه امتدت لقرون حفرت في العقل العامي الأوروبي عداء مستحكما ضد الإسلام ورموزه.

لا تدعم هذه المعطيات فرضية حدوث تسمية مكة من السكان المستوطنين للمكان، إلا أن يكون الرواة والمؤرخون قد تواطؤوا على التعمية عن وجود إسلامي ما. وينطبق هذا الاتجاه في التحليل على مدينة "المدينة"، في مرحلة تسميتها "مكة"، إلا أن الظروف الحافة بتغيير الاسم من مكة إلى المدينة يبقى إشكاليا.

إعلان

الفرضية الثانية في التسمية هي أنّه فعل قام به المسّاحون للأرض التابعون لشركة أرض كونيتيكت. ليست هذه فرضية بل هي الافتراض التاريخي لهذه العملية الاستيطانية. فقد كان من مهام المساحين -إضافة إلى مسح الأراضي- تسميتها. ويؤكد هذا الأمر أنّ قطعة الأرض التي كانت مخصصة لبناء بلدة كان اسمها مكة قبل أن تُبنى. ولا نعلم على وجه التحديد الشروط الضابطة لهذا الفعل الاسمي ولا من يمكنه التدخّل فيه أو ما هو المسار الرسمي لتثبيت تلك الأسماء بشكل نهائي.

ما لا نعلمه أيضا هويات المسّاحين واتجاهاتهم ومعتقداتهم ومستواهم العلمي وأفقهم الثقافي. وما نعلمه يقينا في هذا الشأن أن موقعين في أوهايو كانا في نفس المقاطعة لهما نفس الاسم وهو "مكة". لقد كان سكان البلدتين يعرف أحدهما الآخر ويعلمان بتماثل اسميهما، والدليل على ذلك تغيير مجلس إحدى البلدتين لاسم بلدته من "مكة" إلى "المدينة". وتعني هذه المبادرة بتغيير الاسم أسبقية التسمية في البلدة الأخرى على ما يبدو، وقد لا تعني ذلك ضرورة. من المهمّ ملاحظة الحضور المكثف للأسماء الإسلامية الرمزية في هذه الرقعة من الأرض الأميركية: (ورود اسم "مكة" مرتين، ثم استبدال اسم "مكة" باسم "المدينة") ما يعني تواصل التأثّر بالرموز الإسلامية، مما يستدعي السؤال عن الهوية الحقيقية لسكان البلدتين في بداية القرن الـ19.

لا نعتقد أنّ المسّاحين واقعون تحت تأثير استشراقي عميق، كما لا نعتقد بذات التأثير في نفوس مستوطني تينك البلدتين على افتراض أنهم سكان أوروبيون مسيحيون، وحركة تبديل اسم مكة إلى المدينة في البلدة المجاورة يزيد هذا الاحتمال شططا مما يجعلنا نفكر في فرضية ثالثة نحاول بها فكّ سر التسمية.

الفرضية الثالثة هي أن التسمية سابقة لعملية المسح التي أخذ بها المساحون وأنها في الحقيقة تسمية مستوطنين مسلمين هاجروا إلى أميركا في القرن الـ18 أو في زمن أسبق من ذلك أو هي تسمية السكان الأصليين.

إعلان

إذا كان المسّاحون أو المالكون للأرض أو السكان -بحسب ما تخبرنا الوثائق عن هوياتهم- لا تتوفّر فيهم شروط تسمية أراضي المستوطنات بـ" مكة" ابتداء، فإن النظر يتّجه إلى توارث هذا الاسم من سابقين أطلقوه على المكان. ولا يبعُد -والحال أن المكان قصي عن العالم ومعزول عنه- أن تختاره جماعة من الناس وجدوا في هذه السمات المكانية ضالتهم، والمعنى أنهم فئة من الناس تبحث عن ملجأ يحميها من مخاطر تتهددها، ولا يبعُد أن يكونوا عبيدا آبقين قد فروا من مستوطنات البيض.

ولا يبعد أن يكون بعض العبيد المسلمين الفارين من ربقة الاضطهاد الجسدي والديني قد لجؤوا إلى بعض الأماكن القصيّة عن أسيادهم ليؤسسوا لهم فيه موطنا يحفظ عليهم دينهم وكرامتهم سمّوه "مكة" قبلتهم في كل صلاة ثم ما لبثوا أن هجروا مستوطناتهم بسبب صيادي العبيد أو رجال الشرطة الفدرالية والقوانين التي تسمح بتعقب العبيد واستعادتهم إلى أسيادهم. لقد كانت ولاية كنتاكي (تأسست في الأول من يونيو/حزيران 1792) عامرة قبل ردح من الزمن وكان يسكنها عدد هائل من العبيد، وكانت مناطق واسعة مما أصبح فيما بعد ولاية أوهايو المجاورة لها (تأسست في الأول من مارس/آذار 1803) خالية من المستوطنين البيض، ما يجعلها وجهة مثالية للعبيد التائقين للحرية.

وليس من المستبعد أن المساحين الذين رقّموا قطع الأرض قد استأنسوا بما وجدوه من تسمية من دون أن يدركوا رمزيتها الدينية، ولا يبعد من هذه الجهة في النظر، أن يكون ثمة تراث إسلامي مادي أو ثقافي -كما بيّنا سابقا- قد تركه هؤلاء المستعبدون المسلمون في البلدتين قبل أن يغادروها أو يُبعَدوا مع السكان الأصليين عند قدوم الملاك الجدد لأراضي أوهايو التي اشتروها من شركة أرض كونيتيكت، وهو تراث مادي قد يكون طُمس مع قدوم الرجل الأبيض.

وليس مستبعدا أن يكون من بين عناصر "شبكة السكك الحديدية تحت الأرض" (اسم أُطلق على مجموعات مناهضة للعبودية ساعدت على هروب العبيد وإيوائهم حتى الوصول إلى ملاذ لآمن) مسلمون أفارقة محررون أو مهاجرون مسلمون من الشرق وحتى سكان أصليون مسلمون. وهذه الفرضية تدعمها الروح التحررية لدى المسلمين عبيدا كانوا أو مهاجرين وكذا الوضع الاقتصادي والديني التمييزي ضد المسلمين في الأرض الجديدة، وأيضا السبق التاريخي للمستعبَدين الأفارقة المسلمين في محاولة الفرار أو الثورة، فقد دشّن العبيد المسلمون بشكل خالص أول ثورة للعبيد في العالم الجديد سنة 1521.

إعلان

ما يهمّنا هنا أن اتجاه الهروب كان من الجنوب إلى الشمال ومن المناطق المأهولة إلى المناطق النائية. يهمّنا أيضا ملاحظة أن طريق الهروب كان محاذيا للأنهار التي تشق البلاد من الشمال إلى الجنوب وأن مسار الهروب كان يمر بالمستنقعات والغابات حيث يصعب تعقب الأثر ويعقد عمل صيادي العبيد.

ما يدعم هذا الاتجاه أنّ منطقة غرب الوسط (أصبحت لاحقا: أوهايو وإنديانا وإينوي) كانت منذ البداية (أي 1789 وما قبلها) إما مستعمرة حرة أو ولاية أميركية حرة. وكذلك ساحل الغرب الأميركي (واشنطن وكاليفورنيا وأوريغون) وهو ما يفسّر هروب كثير من العبيد إلى تلك المناطق، وربما يفسّر وجود أماكن في تلك الولايات تسمى مكة.

لقد تقاطعت حركة الفرار من الاستعباد ومحاولات التمرد التي قام بها العبيد وخاصة المسلمون منهم مع حركة فرار السكان الأصليين من الاستعباد والحروب التي دارت بسبب نزع أراضيهم واستيلاء المستوطنين البيض عليها وتهجيرهم قصرا إلى مناطق أخرى أقل خصوبة، مع الفعل الاحتقاري والازدرائي الذي عاناه المسلمون المهاجرون القادمون في القرن الـ18 والـ19 من الشرق الإسلامي وغربه من المستوطنين البيض بعدم التعامل أو التزاوج معهم.

هذا التقاطع الثلاثي لحال العبيد، وخاصة المسلمين منهم، ولحال السكان الأصليين، ولحال المهاجرين الجدد أنتج إحساسا بوحدة المصير ما دفعهم إلى التحالف للدفاع المشترك وإعانة بعضهم بعضا، والتقارب بالمصاهرة.  ويمكن أن تكون الكثير من الوقائع التاريخية التي سردناها في كتابنا "مكة من الحجاز إلى أميركا" دليلا على ذلك وأثرا لذلك التقاطع وذلك التقارب والمصاهرة والدفاع المشترك غير أننا نزعم أنّ المستوطنات من العبيد السود المسلمين الهاربين والتائقين إلى الحرية، وكذا مستوطنات المسلمين القادمين من الشرق في القرنين الـ18 والـ19 لم تكن هي سبب الوحيد في وجود "مكة" اسما لبعض الأماكن المأهولة في القارة الأميركية ونخصّ هنا ما هو في حدود الولايات المتحدة الأميركية بل يمكن أن نضيف سببا آخر يتمثل في التواجد الإسلامي الأفريقي أو الأندلسي السابق للاستيطان الأوروبي للأراضي الأميركية، وهو أمر أشار إليه كولومبوس نفسه في ملاحظاته، كما أنّه أمر أثبته الكثير من الدراسات في تاريخ الملاحة البحرية وفي صناعة الكرتوغرافيا وفي الأنثروبولوجيا المهتمة بتاريخ السكان الأصليين لأميركا، وأثبته أيضا مسرد الألفاظ العربية في المعجم الشفوي لعديد القبائل الأصلية، وهذا السبب الأخير قد يفسّر لنا وجود قبيلة من سكان أميركا الأصليين اسمها "مكة"، قبيلة حُشرت في محمية بولاية واشنطن بالشمال الغربي للولايات المتحدة على ساحل المحيط الهادي، وقد يفسّر لنا تسمية بعض قبائل أميركا الأصليين لأبنائهم وبناتهم بأسماء: مكة ومكي ومكاوي.

إعلان

وربما يفسّر لنا هذا السبب الأخير شيئا من العلاقة المتشعبة بين ولاية كونيتيكت التي كانت تملك أراضي المحمية الغربية (التي تقع فيها مكة والمدينة بولاية أوهايو حاليا) التي باعت جزءا منها إلى شركة أراضي كونيتيكت وبين طريق "شبكة السكك الحديدية تحت الأرض" لتحرير العبيد الذين من بينهم عبيد مسلمون وبين قبيلة الموهيغن الهندية التي خاصمت مستوطنة كونيتيكت التي استولت على أراضيهم مما اضطر الكثير منهم إلى المغادرة بحثا عن أرض جديدة، تلك القبيلة التي تزعمها في الثلث الأول من القرن الـ18 الساشيم (الزعيم) محمد بن محمد بن أوينيكو صاحب السيرة الخلافية والدرامية التي كانت وراء تسمية بلدتين في أميركا باسم "محمد"، وتلك قصة أخرى.

باحث بمركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية (السيراس) بتونس الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

 

مقالات مشابهة

  • وزير الأوقاف يستقبل مديرة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية
  • استعدادا لمبادرة صحح مفاهيمك.. وزير الأوقاف يستقبل مديرة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية
  • حين ظهرت مكة والمدينة في خريطة أميركا.. قراءة في التسمية والنسيان
  • قراءة إسرائيلية في رد حركة حماس.. لم تصل إلى مرحلة الانهيار
  • وقفات يومية..المغاربة في صدارة الشعوب الداعمة للمقاومة الفلسطينية والرافضة للتطبيع
  • ضيوف برنامج خادم الحرمين يشيدون بالخدمات.. برنامج العمرة والزيارة رسالة إنسانية في سياسة السعودية
  • هزة أرضية وألسنة نار وعنف مفاجئ.. أبرز الأحداث العالمية التي تصدرت العناوين اليوم!
  • شوف الشخصيات المسيطرة على شاشة الأحداث المهمة هذا الأسبوع
  • أبرز أبرز المُكرمين مصطفى بكري.. منظمة تضامن الشعوب الأفريقية والآسيوية تحتفي بـ«عيد الإعلاميين»
  • عطا الله: الأحداث الأخيرة في ليبيا لها طابع واحد هو تهاوي السلطة المركزية