"روح الأسرة" بعيدا عن "سلطوية العام" و"شكلانية القانون" و"مصلحية الاقتصاد"
تاريخ النشر: 26th, December 2024 GMT
كما أغلب المواطنين والمواطنات، أتابع النقاشات الفكرية والمواقف السياسية، وبعضا من المقالات والتدوينات التي مدارها حول مآل تعديل مدونة الأسرة ومضامين المشروع الذي انتهت إليه اللجنة المكلفة، بعد مشوار من المشاورات العمومية، قُدمت بمناسبته المئات من المذكرات والأوراق، ونُظّم بإزائها العشرات من الندوات والمحاضرات.
في خضم هذه المتابعة، هالني هذا التضخّم الهائل في النقاش القانوني حول الأسرة، بسبب المركب الذي امتطته أغلب التوجهات الفكرية والتيارات السياسية، يستوي في ذلك الحداثيون والعلمانيون بالمحافظين والإسلاميين. وهو ما يثير في نفس المرء وذهنه العديد من التحفظات والاستدراكات.
والحاصل، أن واحدا من بين البواعث على استثارة هذه التحفظات والاستدراكات هو حجم الانزياح الفكري والثقافي الذي جُرفنا إليه في غمرة النقاش حول المدونة، التي هي هنا مدونة للأسرة. فتعلّق الكثيرون بنقاشات القانون بمساطره الشكلية والإجرائية، ومساجلات الحقوق بتجريداتها وتلبيساتها الكلامية، وغاب عنا المفهوم السليم والآمن والمستقر لمفردة « الأسرة » كما خبرناه لقرون من الزمن، وورثناه عن آبائنا وأجدادنا. حيث كانت الأسرة فضاء جامعا، يوفر الحنوّ والعطف والدفئ العائلي، بحكم أنها كيان ووجود وجداني واجتماعي وثقافي مفعم بالمعنى والحياة والروح. كيان ووجود عصيّ عن سياسات التقنين ولغات التنميط التي يسعى رجال السلطة وفقهاء القانون وتكنوقراطيو الدولة وبيروقراطيو الإدارة لفرضها على المجتمع بإنتاج لغة عامة ومجردة مناقضة لحيوية المجتمع وخصوصياته وتفرداته.
ومع كل الأسف، فأغلب من يتصدّى اليوم لسؤال الأسرة، بمن في ذلك المعنيون بالدفاع عنها، يدفع في اتجاه إقحام الأسرة في مجال التداول التشريعي العام، سواء من خلال القول بدسترتها اعتقادا منهم بأنها تحميها وتحصنها، أو من خلال السعي إلى تسييجها بالتشريعات القانونية والسياسات العمومية ظنا منهم بأنها تخدمها وتنميها. والحال، أن الأسرة، من حيث هويتها وطبيعتها وتاريخها، مفارقة لهذا المجال ومناقضة له. فهي كيان ينتمي، أصالة وابتداء، إلى مجال تداولي آخر مؤسس على حساسيات وقابليات ولغات تأبى الاندراج لفضاء الدولة المركزية الشاملة والمحيطة، ولمجال قانونها السلطوي أو لعالم سوقها الجشع. ولأنها كذلك، وبحكم انتمائها لهذا العالم والمجال التداولي، المتميز بخصائصه ومثله ورموزه وأيقوناته الإنسانية الرحبة، استطاعت هذه المؤسسة الاجتماعية أن تنهض بدورها الأبرز في إعادة إنتاج المعنى للحياة، بعيدا عن دوائر الدولة الساعية إلى إنتاج الحياة وصياغة المجتمعات بمعنى سلطوي ولغة الإلزام القهري.
أعتقد أننا اليوم في أمس الحاجة إلى التنبّه إلى أننا نخوض في نقاشات وتعديلات مناقضة لروح الأسرة.. ولمنطق الأسرة.. وللمأمول من الأسرة. ونحن بذلك، نُعرّض هذه المؤسسة الحميمية والتراحمية والإنسانية لجملة من الاختراقات المفاهيمية والقيمية التي لن تفضي إلا إلى تقويضها عن أداء أدوراها ووظائفها، بما هي فضاء قائم على التراحم والتعاضد، بعيدا عن نزعة الصراع والتنافس والتعاقد. لذلك، يبدو أنه حريّ بنا ونحن بصدد نقاش هذا المشروع الذي تقدمت به اللجنة المكلفة، أن نعي، دائما وأبدا، بأن:
1- الأسرة أكبر من أن تكون مؤسسة قانونية:
ذلك أن الموغلين في الدعوة إلى تأسيس الأسرة على لغة القانون لا ينتبهون إلى أن هذه « المؤسسة/الفضاء/البنية » أكبر من مجرد علاقة قانونية ناشئة بين أطراف متعاقدة بمراكز حقوقية متقابلة تربطهم مقتضيات تشريعية وإلزامات متبادلة ومتفاوض بشأنها. كما أنهم لا ينتبهون إلى أن عقد الزواج، بما هو ميثاق غليظ، لا يُناظر غيره من الالتزامات والعقود كما استقرت في نظرية العقد وأسفار القانون المدني. فالأسرة، بخلاف ما يعتقده رجال السلطة والقانون والإدارة والكثير من النخب، وحدة اجتماعية متماسكة قائمة على الرحمة والتوادد، أكثر منها وحدة قائمة على منطق الحقوق والتعاقد.
ولأنها كذلك، استطاعت أن تكفل ذاتيتها وتحفظ استقلاليتها عن تدخلية الدولة وهيمنة المجال العام وتجريدية لغة القانون. ولعل واحدا من الأسباب التي أتاح لها هذه الاستقلالية، هو كونها مؤسسة مشيدة على مقوّم « الحرمة »؛ فالأسرة حرمة، لأنها في المبتدأ مجال خاص مطبوع بالسرية ومحرّم على الآخرين، أفرادا كانوا أو مؤسسات. هي حرمة لأنها حيز وجداني وثقافي ومكاني له أبواب مقفلة وعتبات مغلقة على وشائج حميمية وعلائق معنوية مطبوعة بالخصوصية، ومنفصلة عن كل ما هو « برانيّ » وغريب. هذا الانفصال عن الخارج هو ما يتيح لها، وبالتبع لأفرادها، القدرة على إنشاء الخصوصيات والتفرّدات والأسرار، والمساهمة في تبلور الأذواق والتجارب والخبرات وتعدّدها، ما يمنح الحياة الاجتماعية تنوّعها وزخمها الإنساني.
2- الأسرة أكبر من مجرد مشروع اقتصادي:
وكما أنها وجود متفلت من هيمنة القانون، فإن الأسرة أكبر من أن تكون وحدة اقتصادية، بحكم أنها فضاء قائم على التضحية والبرّ وقيم العطاء بدون مقابل ورفض منطق المحاسبة، خلافا لمنطق السوق وتنافسيته، وللغة الاقتصاد بمصلحيته الضيقة والمباشرة. لذلك كانت الأسرة، وستبقى دائما، مقاومة لكل سعي إلى تحويلها إلى شركة اقتصادية أو مقاولة تجارية، قائمة على حسابات الربح والخسارة، وقوانين العرض والطلب. وتراثنا الثقافي والفكري يقيم الأسرة على مبدأ المكارمة، فالزوج يتعبد الله بالإحسان إلى زوجته، والزوجة تتعبد الله بالإحسان إلى زوجها، والآباء يتعبدون الله بحسن رعاية أبنائهم، كما أن الأبناء يتعبدون الله بحسن البر والطاعة لآبائهم.
3- الأسرة أكبر من مجرد وحدة إحصائية:
ولأنها كذلك، فإن الأسرة تأبى أن تبرز باعتبارها وحدة إحصائية أو معطى حسابيا، متشابهة مع غيرها من الوحدات والمعطيات. فهي مؤسسة اجتماعية متجاوزة لأفرادها، مختلفة عن أعضائها، لها شخصيتها ووجودها المتعاليين عن الشخوص المنضوون تحتها. كما أن البيت الأسري ليس فقط مجرد حيز مكاني أو مأوى جدراني، وإنما هو مكان ثابت ومستقر في الوجدان قبل العمران، وفضاء دائم ومستمر تغمره قيم المحبة، وتعمره ثقافة التضامن والتضحية وقيمهما.
ختم
بمثل هذه المعاني، تبرز الأسرة، كما العائلة والأخوة والبنوة والعصبة والجوار والزواج والمصاهرة والجماعة وغيرها، مفهوما متفلتا من قبضة الحداثة ونزوعاتها التفكيكية، ووجودا مقاوما لصيرورة العلمنة وسياساتها التشييئية، لتظل روح الأسرة وفية لدورها الاجتماعي والحضاري في توليد قيم التضحية والتضامن والتعاضد، وأمينة على وظيفة الحفاظ على النظام الاجتماعي وإعادة إنتاجه إنتاجا تراحميا قائما على مبدإ الالتزام الطوعي (التقوى بلغة القرآن)، خارج نطاقات « سلطوية العام » و »شكلانية القانون » و »مادية الاقتصاد » و »حسابية الإحصاء ».
المصدر: اليوم 24
كلمات دلالية: کما أن
إقرأ أيضاً:
نقلة علمية وتفاعل علمي وجراحات حية في اليوم الثاني لمؤتمر وحدة عائشة المرزوق بمستشفى قنا العام
تواصلت اليوم فعاليات مؤتمر وحدة “عائشة المرزوق” للمناظير مستشفى قنا العام، حيث خُصص اليوم الثاني لجراحات ومناظير النساء والتوليد، بمشاركة نخبة من الأطباء والاستشاريين.
شهد المؤتمر حضور الدكتور محمد الديب نقيب أطباء قنا ومدير مستشفى قنا العام، إلى جانب الدكتور محمد حسن طايع رئيس وحدة “عائشة المرزوق” للمناظير، والدكتور محمود عبد الرحيم داود رئيس قسم النساء والتوليد بمستشفى قنا العام ونخبة كبير من أساتذة النساء والتوليد بكليه طب قنا والجامعات المختلفه.
وقال الدكتور محمد الديب إن المؤتمر يمثل نقلة نوعية في مجال التدريب العملي والتعليم الطبي بمحافظة قنا، مشيرًا إلى أن تنظيم فعاليات علمية بهذا المستوى يعكس الجهد المبذول من فرق العمل داخل المستشفى ووحدة المناظير.
وأضاف أن وحدة “عائشة المرزوق” أصبحت مركزًا متميزًا في مجال مناظير النساء، وتسهم بشكل فعّال في خدمة المرضى ونقل الخبرات للأطباء الجدد، مؤكدًا دعم النقابة والمستشفى لمثل هذه المبادرات الهادفة إلى الارتقاء بمستوى الخدمة الطبية.
وأكد الدكتور محمود عبد الرحيم داود، رئيس قسم النساء والتوليد، أن القسم يعمل بشكل دائم على تطوير الأداء المهني للأطباء، ويولي اهتمامًا خاصًا بمجال المناظير لما له من أهمية كبيرة في التشخيص والعلاج بأقل تدخل جراحي.
وأوضح أن اليوم العلمي شمل تقديم حالات عملية حية باستخدام مناظير الرحم والبطن، مما أتاح الفرصة للأطباء للحضور والمشاهدة المباشرة والتفاعل مع الفرق الطبية، مشيرًا إلى أن هذا النوع من التدريب العملي يعد من أكثر وسائل التعليم فاعلية.
كما ثمّن التعاون المثمر بين وحدة المناظير وإدارة المستشفى في تنظيم هذا الحدث العلمي، الذي يُعد خطوة مهمة على طريق جعل مستشفى قنا العام مركزًا تدريبيًا معتمدًا في هذا المجال.
وقال الدكتور محمد حسن طايع، رئيس وحدة “عائشة المرزوق” للمناظير، إن الوحدة تسعى منذ إنشائها إلى تقديم خدمة طبية متقدمة باستخدام أحدث تقنيات المناظير الجراحية، مع التركيز على الجانب التدريبي والتعليم المستمر للأطباء.
وأشار إلى أن ما يميز هذا المؤتمر هو الدمج بين الجلسات العلمية والعروض الحية للحالات، مما يعزز من استفادة المشاركين ويرفع كفاءتهم العملية.
وأوضح أن وحدة المناظير تعمل على أن تكون نموذجًا يحتذى به في تقديم خدمات طبية وتعليمية متطورة داخل مستشفيات وزارة الصحة.
وفي لفتة تقديرية، قامت نقابة أطباء قنا بتكريم عدد من المشاركين والمتميزين في مجال النساء والتوليد، تقديرًا لجهودهم العلمية والمهنية.
وشمل التكريم اسم الطبيب الراحل الدكتور طارق عبد الحكيم، أخصائي النساء والتوليد، والذي تم تكريم روحه وسط حضور زملائه، تقديرًا لعطائه ومسيرته الطيبة في خدمة المرضى والمهنة.
واختتم الدكتور محمد حسن طايع فعاليات اليوم موجهًا الشكر لكل من ساهم في إنجاح المؤتمر، ومؤكدًا استمرار الجهود لعقد لقاءات علمية مماثلة بشكل