النصب باسم «الإسقاط النجمى»
تاريخ النشر: 28th, December 2024 GMT
خبراء علم النفس: هلاوس بصرية وسمعية تؤد للجنونعلماء الدين: الإسلام لا يعترف بهذا الهراء.. ومدع معرفة الغيبيات كافرقانونيون: مطلوب سن تشريعات تجرم ممارسة كافة أشكال الطاقة
فضول الإنسان وتطلعه لمعرفة المستقبل والسيطرة عليه، يجعله لا يدخر جهدا فى سبيل ذلك، سواء بالعلم والدراسات، أو الجهل والتكهنات، وبين الحقيقة والخيال والمعرفة والوهم، برزت علوم غريبة منها علم الفلك والإسقاط النجمى، والعلاج الروحانى.
السفر عبر الزمن، والبحث فى الماضى ومحادثة الموتى، والاطلاع على المستقبل، خرافات وخيالات تحيط بالإسقاط النجمى، وعن تحرر الجسد من طبيعته المادية، وتنفيذ خطط بأمر الجن، وادعاءات بأنها أوامر إلهية.
البعض يغوص فى عالم الإسقاط النجمى، يسلم روحه للشياطين تتلاعب به، يقتل ويغتصب بأمرهم، وبرز هذا جليا فى واقعة مضيفة الطيران التونسية، التى وقفت أمام المحكمة، تبرر إزهاق روح طفلتها بأنها كانت تطيع أوامر السماء، إذ أحكمت حزام حقيبة حول عنق طفلتها، وضغطت بقوة، تستعجل موتها، لتفارق الصغيرة الحياة، اتنظر الأم إلى السماء، وتهمس بعبارات غير مفهومة وتشرع فى التخلص من حياتها، ظنا منها أنها ستنتقل إلى الجنة برفقة الضحية البريئة، قبل أن ينقذها زوجها، ويتم القبض عليها لتمثل أمام العدالة، ويرتفع صوتها فى ساحة المحكمة «أنا خبيرة طاقة»، وهو الأمر الذى يدق ناقوس الخطر، خاصةً مع انتشار بيزنس العلاج بالطاقة خلال الفترة الأخيرة، والذى بات يلقى رواجاً كبيراً.
«الوفد»، فى السطور التالية قررت فتح هذا الملف الشائك، ومواجهة واحدة من أشهر خبراء الطاقة فى مصر، بهذه الخرافات، واستطلعت آراء رجال الدين والقانونيين وخبراء علم النفس حول هذه الظاهرة الخطيرة.
فى رحلة البحث عن الحقيقة حول «الإسقاط النجمى والعلاج بالطاقة»، كان فى البداية من الضرورى التعرف عن قرب على التفاصيل الكاملة لهذه الظاهرة من خلال خبيرة الطاقة حنان زينال، والتى جاءت تصريحاتها صادمة ومثيرة للجدل ومتناقضة فى كثير من الأحيان.
ترى «زينال»، أن «الإسقاط النجمى أشبه بالحلم دون نوم، مثل إحساسك بشىء، ويحدث بالفعل، ويعتبر هذا أبسط تفسير له، وأن الشخص الذى يمارس الإسقاط النجمى يحرر الجسم الأثيرى، ويتجاوز به الزمان والمكان، ويتأثر الجسد المادى بما يحدث للأثيرى، فإن تعرضت لأذى تعود بإصابات ظاهرة على جسدك».
وأوضحت أن «الهالة لدى الإنسان تتكون من 7 أجزاء، الجزء الأساسى منها الجسم المادى الذى تعيش فيه، والجزء الأخير الروح وهى من أمر الله، ولا أحد يستطيع أن يعلم كينونتها إلا هو، ويتخللهم الجسم الأثيرى، والجسم العاطفى، والضمير الحى، والبصيرة».
وعن تجربة الإسقاط النجمى، أدعت أنها «قد مارست هذه الطقوس فى مركز ماساج ورأت الجالسين خارج المركز، والمارة فى الشارع، دون أن تتحرك من مكانها»، مشيرة إلى أنها عندما أفاقت وجدت الأشخاص الذين رأتهم أثناء استرخائها».
وزعمت بأن هناك تحضيرات يحتاج إليها الجسم حتى يستطيع أن يمارس الإسقاط النجمى منها أن «يكون الجسم فى حالة استرخاء، وتكون المعدة فارغة قبل التجربة، ولها أوقات معينة مثل الصلوات، ويرتدى ملابس قطنية».
وقالت حنان زينال إن وقوع أى أخطاء يهدد بفقدان الوعى، ويحتاج الشخص أن يعيده من هذا العالم الغامض بطريقة معينة، ويفضل أن يكون خبير طاقة، ويكون بهزة بطريقة بسيطة حتى لا يدخل فى صدمة، ذلك ينصح ألا يتم إيقاظ أحد بالخضة، لأنه قد يصاب بانهيار عصبى، أو جلطة، أو نزيف فى المخ، ومشاكل صحية أخرى.
وأضافت خبيرة الطاقة: العالم كله مفتوح أمام الجسم الأثيرى، يتنقل إلى أى مكان فى الأرض، أو يسافر خارج الكوكب والمجرات، ويستطيع المعالج بالطاقة، أو الخبير فيها التبين من مصداقية المتحدث أو المدعى أنه طار بعيدا عن الأرض.
وحذرت «زينال»، أن هناك حالات يمنع فيها ممارسة الإسقاط النجمى، وهى مع الأجسام الحساسة، والأشخاص سريعى الخوف والقلق، لأنه قد يتيه، ويفقد بوصلة الرجوع إلى العالم الواقعى، أو قد يتمسك بذلك العالم الغريب، لشعوره بالأمان هناك ويأبى العودة.
ولفتت خبيرة الطاقة، أنه من مخاطر الإسقاط النجمى، أنه ممكن أن يغوص الشخص بجسمه الأثيرى، ويضل الطريق، ولا يعود مرة أخرى، وبالنسبة للجسم المادى يدخل فى غيبوبة وفقدان وعى مستمر حتى الموت، أو الوقوع فى حب الإسقاط النجمى ويخرج عن الحياة الطبيعية، فيكون مدمنا للعيش فى العالم الغريب، والسفر عبر الزمن.
وأكدت أن 99% من الحالات المترددة على مراكز الطاقة، هم أشخاص لا يحبون أنفسهم، لم يتعودوا على حب الذات، وليست الأنانية، وقد ينتج هذا بسبب ثقافة المجتمع، ومعظمهم سيدات، يشعرن بالعار، والخجل من كونهن إناثاً، مثل وضعها فى مقارنات مع ذكور، أو التنمر فينمو بداخلها عدم حب النفس، وهذا يؤدى بها لحالة تمرد عالية أو خجل أو تعلق.
غير أنها نصحت فى النهاية بعدم استخدام الإسقاط النجمى كطريق للعلاج، لأن الله صنع لنا أدوات فى مدة النوم، فتتذكر أحداثا معينة، أو يوجه لك رسالة معينة، ومواقف عندما تراها تشعر وكأنك عشتها، أو على علم بها من قبل.
وعن وجود دليل علمى على وجود الإسقاط النجمى، أوضحت «زينال»: الأحلام هل يستطيع أن يثبتها، أو يصدقها أو يكذبها، وهناك أشياء تخص الروح والماورائيات، لا يستطيع العلم المادى الفيزيائى أن يفسرها.
واستطردت «زينال» إلى أن خبراء الطاقة على علم بأضرار الإسقاط النجمى وفوائده، لكنهم يخفون مخاطره، ويعتبرونها تجارة مربحة ويلعبون على وتر الفضول عند الناس ويستولون على أموالهم، فأسعار جلسات الطاقة غالية جدا، وبالنسبة لأساور الطاقة والخواتم والسلاسل والأحجار الكريمة، لا تساعد الشخص إلا بنسبة 25%، وتتفاعل مع الجسم والذبذبات الخارجة عنه، لكن لا تشعر به إلا عند خلعه، وهناك مدارس كثيرة على مستوى العالم فى علوم الطاقة والعلاج بها، وأكثر مدرستين منتشرتين، الأولى الثيتل الأمريكية، وتكون عبارة عن ذبذبة فى الدماغ مثل ذبذبة الألفا والبيت والجام، وفيها يستطيع الإنسان أن يتوصل بعقله الباطن للصدمات القديمة التى تسببت له بمشاكل، والثانية مدرسة التريكى، وفيها يتم توجه الجسد لمعالجة نفسه، نضع أيدينا على مناطق معينة ونوجه طاقة الجسم عند هذه المناطق بمعنى «جسمك هو الذى يعالج نفسه».
وتابعت خبيرة الطاقة أن هناك طريقة أخرى للعلاج، وهى الألوان وتعتمد على حاسة النظر، وكل عضو من أعضاء الجسد لون. وبالتالى يؤثر خبير الطاقة أو المعالج بالزيادة أو النقصان، مثل النصح بارتداء وتناول طعام ذى لون معين.
كشفت خبيرة الطاقة، أن الدجالين يلعبون على نواقص الشخص الذى قصدهم، والوهم الذى تخاف منه، والشىء الذى تطمع فيه، ويمتلك الدجال نوعا من الفراسة يستطيع أن يعرف ماذا تريد، ويكون هذا مدخله حتى يخطفك ويظهر لك أنه أقوى وأكثر علما حتى عن نفسك.
وأضافت :تعليقى على واقعة مضيفة الطيران التونسية التى قتلت طفلتها، وشرعت فى التخلص من حياتها، وادعت أنها تلقت أمرا إلهيا بإزهاق تلك الروح البريئة، بأنه كلام فارغ، لأن ربنا لا يمكن أن يأمر بقتل نفس، فزوال الكعبة أهون عند الله».
وأضافت أن مضيفة الطيران التونسية التى قالت إنها خبيرة طاقة، تلقت أمرا شيطانيا، أو دخلت فى مرحلة الجنون أو اختلط عليها الأمر، خلال ممارستها الإسقاط النجمى، ضحك عليها الشيطان، واختلطت عليها الكائنات الظلامية، فلم تستطع التمييز، لذلك أنا أحذر منه.
علقت الدكتورة سوسن فايد أستاذ علم النفس، على واقعة الطبيبة التونسية بأنها تعانى من اضطرابات نفسية، لأن أولا الله لن يأمر بقتل أحد، وهذه أم، وعلم الرغم من ذلك، الأمومة ضعفت أمام المرض النفسى، فلا يمكن أن تنهى حياة صغيرتها وهى فى حالة اتزان.
وقالت أستاذ علم النفس، إنه انطلاقا من العلم والدين والتاريخ، لم نسمع بالإسقاط النجمى، ولا له تأثير لدرجة أن تقتل سيدة طفلتها، لأن الأمومة أقوى غريزة.
وهناك فى علم النفس ما يسمى بالهلاوس البصرية والخيالات، فمن الممكن أن تأتى فكرة تسيطر على الحالة وتتوهم بأن هناك ما يحدثها ويأمرها، هذه أمراض معترف بها فى علم النفس، وكذلك الانفصام كأن تنفصل عن هذا العالم، وتتوحد مع عالم خاص صنعه عقلها، فأنا أرى أن هذا مرض نفسى.
وذكرت «فايد»: أنا غير مقتنعة بالغيبيات والطاقة، يتفوق على غريزته، ويعيش فى أوهام وتدعى مضيفة الطيران التونسية بأنها السيدة مريم العذراء، فهذا ليس علما، ولم نر خلال دراساتنا أن هناك علما يساعدك للاطلاع على الغيب، وفى الوقت الحاضر هواجس تدعو للتجهيل والتضليل والإلحاد، وقد يكون سبورة وعملا يمتهنه ضعاف النفوس، لنشر الخرافات.
قالت إيمان سليم استشارى الصحة النفسية، إن نظرتى للإسقاط النجمى أنه باب من أبواب الدجل، وهى تجربة فى عالم الشيطان، ويدعى خبراؤها وممارسوها بأنها رحلة روحية.
وليست هناك فوائد للإسقاط النجمى، فقد تعددت مخاطرها، فنجد من خبراء الطاقة من يحرضون الناس على ممارسته ويعددون من مزاياها لكن فى باطنهم خبث يريدون للآخرين أن يخوضوا تجربتهم السيئة ويمرون بالآلام التى عانوا منها، أو للنصب عليهم وممارسة الدجل عليهم.
وأشارت إلى أن هناك شخصا ما خاض التجربة ومدحها ثم عدل عن كلامه، وقال إنه كان يريد أن يتعرض الآخرون لذات المخاطر التى تعرضت لها، فالصادقون ممن مارسوا الإسقاط النجمى أكدوا أنهم مروا بحالات هوس، وتخيلات وسماع أصوات مرعبة، كادت أن تقودهم للجنون، ومنهم من ساءت حالته النفسية. وشددت «سليم» على أن الإسقاط النجمى قد يؤدى بصاحبه للجنون، لذا ننصح بعدم خوض هذه التجربة، ومن انغمس فيها عليه الإقلاع فورا.
وعن فصل الروح عن الجسد والسفر عبر الزمن، فأنت بهذه الطريقة تسلم نفسك للشيطان ليعبث بها.
وبالنسبة لمضيفة الطيران التى قتلت ابنتها وادعت بأنه أمر من السماء، علقت إيمان سليم استشارى الصحة النفسية، أن هذا خير دليل على مخاطر الإسقاط النجمى، فيجلب الخراب والمشاكل النفسية، فالمتهمة تخيلت بأنها تلقت أمرا إلهيا بقتل صغيرتها، بعدما تلاعب بها الشيطان.
قال حسن شومان الخبير القانونى، يعاقب القانون مضيفة الطيران التونسية حال كونها متزنة، فهى ارتكبت جريمة قتل عمدا، فتكون عقوبتها الإعدام، أما إذا كانت مريضة تعانى من اضطرابات نفسية، فحسب أى مدى يؤثر هذا المرض على العقل والتصرفات، آخرها الجنون، وفى هذه الحالة تُعفى من العقوبة، وتنقل إلى مستشفى الأمراض النفسية والعصبية.
وبالنسبة لظاهرة الإسقاط النجمى أوضح شومان، أن أى شخص غير مختص يحرض آخر أو يدفعه لوصفة علاجية، واستجاب لتعليمات المعالج، وترتب عليه أذى، فقد ارتكب جريمة يعاقب عليها القانون.
وأشار إلى أن العقوبة على الخبير أو المختص، حسب الجريمة، فإن مات مثلا، يعاقبه القانون كمرتكب جريمة القتل.
ونوه الخبير القانونى، بأنه لا يوجد غطاء قانونى يعمل فيه خبراء الطاقة، وعلماء الفلك، والمتخصصين فى الإسقاط النجمى، لكن معظمهم يعمل بتراخيص كـ«ناد صحى».
وفى واقعة المضيفة، أشار إلى أن النيابة لو رأت أن طقوس الأم هى الدافع الرئيسى لها أن تطالب بضبط الدجالين التى تعلمت منهم، وتوجه لها تهمة على القتل.
وتابع «شومان»: أى شخص يعطى نفسه رتبة أو مكانة أو صفا، دون شهادة تفيد ذلك، يكون قد ارتكب جريمة انتحال صفة ويعاقبه القانون، ولا توجد جهة فى مصر تمنح شهادات مثل هذه الشهادات، لكن الأقرب بالنسبة لهذه العلوم، وهو الطب النفسى، ويعاقب أيضا الطبيب النفسى أيضا إذا شذ عن القاعدة وتسبب فى إيذاء أحد.
ويعاقب القانون خبراء الطاقة المزعومين والدجالين بتهمة النصب، على أموال الناس دون وجه حق، وهذا تطور لأعمال السحرة قديما، منذ زمن سحرة فرعون، أوهموا الناس بأشياء غير الحقيقة.
وطالب «شومان» بسن قانون ينظم عمل الأندية الصحية، وتقييد المذكور والممنوح لها فى الرخصة من الجهات المختصة، مع تجريم صراحة طقوس الداخلين وخبراء الطاقة والإسقاط النجمى وغيرها.
قال الشيخ محمد خالد سالم، من علماء الأزهر الشريف، إن الإسلام أمرنا بعدم الاستعانة بالجن ولا نؤمن بهذه الأشياء، لأنها أمور غيبية وخارقة للعادة، لا يستغلها المسلم، وعلمنا القرآن فى قوله «وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً».
وأوضح «سالم» أنه من يستعين بالجن يخرج من الإسلام، وكلها أفعال محرمة فهم يلجأون لاستخدام اللبن فى الحمام، ودهس المصحف الشريف فى أماكن قضاء الحاجة، فليس هناك فى الإسلام ما يسمى بالطاقة الروحانية.
وأكد عالم الأزهر الشريف أن الإسلام لا يعترف بالإسقاط النجمى، فهو عبارة عن خيالات، وأشياء غير صحيحة، فلا أحد يعلم الغيب إلا الله.
فعندما يدعى الخبراء بأنهم قادرون على السيطرة على العقل أو الانتقال عبر الزمان والاضطلاع على الغيب، فكله غير صحيح خاصة للمسلم المتمسك بكتاب الله تعالى، فالأمر لا يتعدى غير الاستعانة بالجن، والجن يستعين بالقرين لمعرفة معلومات عن شىء أو شخص ما، لكن بعيدا كل البعد عن الاضطلاع على الغيب ومعرفة المستقبل.
وأشار «سالم» إلى أنه من آمنت قدرته على الاضطلاع على الغيبيات وأنه بقدرته على الاستعانة بالجن قادر على التحكم فى الكون وآمن أن مقاليد الأمور تمشى بها فقد كفر، ولكن إذا كان فى شك منها فيستتاب ويتوب، ولا يجوز للمسلم أن يلجأ لخبراء الطاقة والسحرة والدجالين، أو أى أحد يزعم معرفة المستقبل، ومن أراد أن يعالج الجانب الروحى لديه فعليه بالقرآن.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: العلاج الروحانى
إقرأ أيضاً:
ملحمة ضاع حقها..!
كلما حل الاحتفال بذكرى انتصار 6 أكتوبر العظيم، تنتابنى مشاعر مختلطة من الفخر والألم فى وقت واحد، الفخر لأنى عايشت فرحة هذا النصر وأنا طفلة، وأدركت رغم سنى الصغيرة حينها أن بلدنا رفعت رأسها عاليًا بهذا العبور من الهزيمة للنصر واستردت كرامتها بعد سنوات من الانكسار وصنع رجال مصر ملحمة تاريخية عظيمة بأرواحهم وبتضحيات رائعة تصلح لأن تكون موسوعة تروى عن أبناء شعب عريق صبر على الشدة واستمات فى حرب شرسة ليفوز بالنصر على عدو كان يظن نفسه أسطورة لا تقهر. مشاعر الفخر التى أعيشها وغيرى من أبناء جيلنا بذكرى انتصارنا أقول إنها مختلطة بالألم لأن ملحمة أكتوبر العظيم لم تأخذ حقها أبدا الذى تستحقه حتى تظل حاضرة فى حياة وذاكرة الأجيال التى لم تعاصر تلك المرحلة العظيمة، بل هذه الأجيال قرأت فقط بعض السطور الهزيلة المقتضبة فى كتب التاريخ عن النصر، أو شاهدت احتفاليتها السنوية مكررة المشاهد دون تجديد يذكر عبر أجهزة التلفاز، فلم تلتفت إليها وغيرت مؤشر التليفزيون لقناة أخرى بها ترفيه أكثر جاذبية من كلاسيكية السرد المتكرر الذى يشبه البيانات العسكرية، لأن هذه الأجيال لم تختبر أغوار هذا النصر، لم تعرف بوضوح قصص التضحيات التى قدمها أبناء الجيش العظيم ولا بطولات الفدائيين. وبنظرة حيادية إلى الإعلام، الأعمال الفنية والثقافية التى تناولت انتصار أكتوبر، نجدها فى مجملها هامشية لا تذكر، فكم قصة نعرفها عن أبطال الحرب والانتصار، عن تفاصيل تضحياتهم واستشهادهم، وما آل إليه حال أسرهم وأبنائهم، للأسف قليل القليل جدًا هو ما نعرفه.
فى ذكرى الاحتفال بالنصر تذيع القنوات التليفزيونية ثلاثة أفلام مكررة تناولت هامشيًا بعض من صور الحرب فى قالب درامى سطحى وانتهى الأمر، وهو أمر محزن، وأتساءل، هل عقمت أقلام الكتاب، المؤرخين، والمؤلفين عن كتابة قصص وسيناريوهات حول هذه البطولات؟، هل أفلس المنتجون فأعرضوا عن إنتاج أفلام ومسلسلات تبرز قصص هذه البطولات؟ وأين جحافل المخرجين والممثلين عن الاهتمام بقصص تلك الملحمة؟
وأتساءل أيضًا: لماذا لا يتم عمل معرض أو متحف حول انتصار أكتوبر فى كل محافظة من محافظات مصر على غرار بانوراما أكتوبر بمدينة نصر، لماذا لا يتم تخصيص جناح بكل متحف مصرى لعرض نماذج من كل ما يتعلق بحرب أكتوبر؟ لماذا لا تقوم قصور الثقافة فى كل محافظة بتقديم مهرجان وأعمال فنية بصورة دائمة عن حرب أكتوبر يدعى إليها التلاميذ والطلاب؟ ليس بالضرورة أن يتم هذا فى موعد الاحتفالية السنوية، بل بصورة دورية لتظل ملحمة النصر دومًا فى اهتمام وذاكرة هذا الجيل؟، لماذا لا يتم عمل مسرحيات دائمة ومتنوعة على المسرح القومى وكل المسارح المصرية الصغيرة حول قصص أبطال أكتوبر يحضرها الجمهور بصورة مجانية، لماذا لا يتم عمل مهرجانات دائمة فى كل وسائل الإعلام حول انتصار أكتوبر ولا يتم حصرها فى مرة واحدة كل عام.
ما أحوجنا الأن إلى إحياء روح أكتوبر أكثر مما مضى، إلى تبصير كل أبناء الجيل بهذه البطولات والتضحيات، إلى إنعاش الأجواء المفعمة بالعطاء والوطنية وروح التكاتف والمساندة بين بعضنا البعض، ملحمة أكتوبر تحتاج إلى تخليد حقيقى وتذكير دائم بها لدى أبناء هذا الجيل الذى يكاد يفقد بالكامل هويته.
وأقارن فى أسف بين ملحمة اكتوبر التى ضاع حقها فى كتب التاريخ وفى مجالات الثقافة والفن والإعلام، وبين الأفلام والأعمال الفنية التى يقدمها الغرب عامة ويتم فيها صناعة بطولات لجيوشهم لإظهارهم بمظهر «رامبو» القوى الذى لا يهزم، وما يرافق هذه الأعمال من قصص إنسانية وتراجيدية تكسب تعاطف العالم مع هؤلاء رغم أنهم غزاة ومستعمرون ولا يستحقون أى احترام أو تعاطف، لكنهم يجيدون إدارة آلة الإعلام العالمى والتى نعلم تمامًا من يتحكم بها للسيطرة على أفكار وعقول ومشاعر كل أجيال العالم الصاعدة، وأقارن هذا بما حدث لملحمة أكتوبر وأتعجب، نحن لا ينقصنا مؤرخون، كتاب، مؤلفون، سيناريست، مخرجون، إعلاميون وطنيون، ولكن ينقصنا إرادة وطنية وجهات إنتاج وطنية لتقديم وإبراز بطولات أبناء مصر كما ينبغى وتدوين قصصهم فى كتب للتاريخ لتصل لكل الأجيال.
الغرب يصنع بطولات وهمية لهم من فراغ، ونحن لدينا بطولات تستحق ان نقدمها من أرض الواقع، وأكاد أقسم أن أغلب هذا الجيل لا يعرف شيئًا تقريبًا عن خلفيات نصر أكتوبر وكيف نجحت قواتنا المسلحة فى عمل المستحيل باقتحام خط بارليف المنيع، والتغلب على نيران النابالم المستعرة التى كانت تهدد بإحالة مياه قناة السويس إلى نار يشوى من يقترب منها وأن أبطالنا حملوا جسور عبورهم وعبور الآليات العسكرية الثقيلة على أكتافهم وتسلقوا بها الساتر الرملى المنيع، كم من أبناء هذا الجيل يعلمون قصة ابن الشرقية محمد محمد العباسى أول بطل رفع علم مصر على خط بارليف عقب العبور ولم يهاب الأسلاك ولا الألغام وأطلق النيران على جنود اسرائيل الذين كانوا يحرسون الدشمة وكيف استشهد وهو يحتضن العلم ويأبى ألا يسقط العلم من يده، أو قصة أول شهيد فى حرب أكتوبر الرقيب محمد حسين ابن الإسماعيلية الذى كان فى مقدمة صفوف المدرعات المصرية وهى تعبر جسر الصناعى لقناة السويس وانفجر فيه لغم أرضى فانقلبت المدرعة فى المياة واستشهد الجندى محمد فيما أكمل رفيقه فى المدرعة السير برًا فى بسالة فريدة حتى أستشهد هو الأخر بنيران العدو، أو قصة الجندى عبدالعاطى، إبن احدى قرى الشرقية والذى دمر وحده 23 دبابة اسرائيلية وأطلق عليه صائد الدبابات، وغيرهم الآلاف، فى الواقع أرى أن ملحمة أكتوبر لم تأخذ إلا هامشًا مما تستحقه من الاهتمام، وظهور أجيال لا تعرف عن هذا الانتصار وأبطاله إلا العناوين فى تصورى خطيئة وطنية لن يغفرها التاريخ لكل المعنين بهذا الأمر.
[email protected]