السلطان الفرغل عظيم بلاد الصعيد.. مقام الحمى وملجأ الفقراء
تاريخ النشر: 3rd, January 2025 GMT
حكى لي والعهدة على الراوي.....
طاولة وثلاثة مقاعد خشبية .ديسمبر، الضيف الخفيف المعلن انقضاء الأزمنة، والمبشر بلملمة أيام العام ،برودة تتسلل من تحت المعطف ،البخار الصاعد من كوب الشاي ،أنا ويجاورني هو ...متأملا قبة ضريح الولي الذي يتوسط جغرافيا مدينتنا ،ويضحي هو سببا في ارتزاق محلات تجاور مقامه ،بمنطق السببية أو بمفهوم أقرب لفلسفة المادية الجدلية ،إذ أن لكل ظاهرة سبب ومسبب ،ومن يدير السبب والمسبب والأسباب والسببية هو رب الأكوان متفرد في مقام ربوبيته وواحد في ألوهيته .
تنوعت ألقاب ولي مدينتنا الهادئة ،فهو شيخ العرب وهو ابو فراج وهو منجد العيان وهو السيد أحمد البدوي ،صاحبي يجاورني متأملا قبة الولي وأنا أراقب البخار المتصاعد من كوب الشاي وسط برد وليل ديسمبر ...يقطع صاحبي تأمله وقد استدار لي قائلا:"دولة أولياء الله ...دولة عظيمة أوي وجميلة " ..أنتبه لوقع الكلمات ،ثم أجدني بدافع الاكتشاف محاولا التعمق لفهم ما سمعته أذني ...أقول له :"ولكن لماذا استخدمت مصطلح دولة ؟" فيقول لي :"هل سألت نفسك عن بعض الالقاب التي تشاع بين أهل الطريق والمتصوفة ،مثلا رئيسة الديوان ،الإمام ،طبيب المبالي ،شيخ العرب،نفيسة العلوم ...أليست هذه المسميات تحمل معنى الدولة للمنكسرة قلوبهم ؟ .
حكي لي والعهدة على الراوي ...ذات مساء نام بطل قصتنا ،كان فؤاده متعلق بضريح هذا الولي الذي نجلس أمامه الآن ،هو لا يعرف غيره في عالم الأولياء ،شب طفلا بداخله رغبة ملحة أن يتسلل خيفة ويذهب لمقام سيدي أحمد البدوي ،ذلك الطفل لم يكن يعلم سر ارتياحه لهذا المكان وداخل غرفة المقصورة التي تتشرف بضريح هذا الولي ،هل كانت المراوح والجو البارد هروبا من حرارة الصيف؟ ،هو لا يعلم ..هل كان يجد متعة في مشاهدة الزوار تأتي فلا ينقطع الضجيج أو الرجاء ؟،لا يعلم ..هو فقط يعلم ويتيقن أن ثمة سكينة من نوع أليف كانت تتسرب إلى روحه ،وحين يسأله أبوه أين كان؟ ..يخبره أنه كان في المسجد ويكتفي ...ولم يخبر أحدا بجنته الخاصة على الأرض ،ربما كان يجد في تواجده أنسا لم يألفه في مكان آخر ،ومع الوقت أستشعر أن الولي الصالح كان يكافئه على حفاظه على زيارته له ،فتمثلت المكافأة ب"قرصة بسمسم" يجدها ملقاة بين يديه من سيدة توزع "القرص " أو قطعا من الحلوى تدور بها الست "عزيزة " رحمها الله على الأطفال المتواجدين بالضريح ،ثم مرة أخرى بكيس لحم وجده بين قدميه فلما نظر إلى صاحب العطاء كانت سيدة ذات ملابس راقية ،قالت له :"اعطها لوالدتك تطهيها لك وأخبرها أن السيد أحمد البدوي يهديها هذا اللحم " فلما ذهب الطفل إلى أمه محملا بكيس اللحم ،نهرته أمه قالت له :"نحن مستورون وابوك من إغنياء المدينة كيف تقبل بهذا؟ "ثم أخذت اللحم واعطته للخادمة في المنزل تطهيه لأولادها ،ومرت ساعات النهار ،ثم خلد الجميع إلى النوم ،حتى إذا مرت سويعات قلال فتصحو الأم مفزوعة جارية نحو فراش ابنها فتجد الجسد يرتجف فتتحسسه فتستشعر بيدها نارا تسرى في جسد الصغيرا فتحمله مهرولة إلى مستشفى الحميات ،ومع فحص الطبيب المتكرر لا يجد سببا للحرارة ،فالحلق غير ملتهب وربما كان منبت الحرارة هي المعدة أو جوف الغلام ،فوضع يده يتحسس بطنه فيجدها باردة رغم أن مؤشر قياس الحرارة يتجاوز ال39 ونصف ،فعادت الأم بمجموعة اقراص تحاول تخفيض حرارة جسد الصغير ،كان الفجر قد انتهى ،وبداية تسلل ضوء نهار يوم جديد ،وإذ بالأم تلتقي الجارة المسنة ،فتمسكها من يدها ،تهمس في أذنها بكلمات لا يعيها الصغير ،لكنه وجد أمه تصرخ "كيس اللحمة "...وتنتظر بصبر الخادمة لترجوها أن ترد إليها كيس اللحم وستعوضها غيره ،فجاءت باللحم وطهته الأم وأطعمت الفتى ...فتبددت حرارة الجسد .
حكي لي والعهدة على الراوي ....هل سمعت يوما عن السلطان ؟....أقول لمحدثي مجيبا "تقصد سلطان من سلاطين التاريخ ؟" فيقول لي لا ،سلاطين التاريخ ربما يحمل التاريخ من أثرهم ورقة أو وريقات ،لكن السلطان الذي أقصده له مقام مشهود وذكرى طيبة بين رعيته ،أقول له:" ماذا تقصد ؟ فيقول: "سلطان الصعيد " السلطان الفرغل ..ملجأ الفقراء والأمراء "...استمع بشغف الى صاحبي ..
تخيل معي رجل من أهل الله ولد بأرض مصر ومات ودفن بأرضها ،واختار في بلدة بصعيد الوطن أن يكون مسكنه وترحاله ثم مرقده ومقامه "أبو تيج ..أسيوط".ورغم أن لقبه السلطان إلا أنه كان يحيا زاهدا متواضعا بين خلق الله ،حيث ولد في قرية اسمها بني سميع تتبع أبو تيج .وتذكر كتب التاريخ أن مولده كان في عام 809هجرية وينتسب لأبوين شريفين حيث ينتهي نسبه إلى الإمام جعفر الصادق ومنه إلى الإمام الحسين ثم إلى حضرة رسول الله صلى الله عليه واله وصحبه وسلم من جهة الأم بينما ينتهي نسبه من ناحية الأب إلى الإمام الحسن رضي الله عنه.
إلى هنا تتوقف حكاية صاحبي ويتوقف حديثه ،مجتهدا أنا بما أثاره الصاحب من فضول أن أقتفي أثر هذا الولي الصالح ،ووجدتني متوجها إلى محافظة اسيوط غير مؤمن بمعلومة معلبة يمكن الإتيان بها عبر صفحة أو منشور مثبت داخل الشبكة العنكبوتية ،حاولت اقتفاء الأثر وتتبع الخيط لإكمال نسج الحكاية ،حكاية السلطان الفرغل ...
داخل مقام السلطان .مقصورة نحاسية بلون ذهبي ،يتواجد بها ضريح الولي ،لا فتة باعلى الضريح مكتوب عليها "هذا مقام الحمى مقام الجناب ،والكهف الأظل ،الجليل المعظم ،ملجأ الفقراء والأمراء ومحط رجال الفضلاء والكبراء،مجمع الاحباب حضرة مولانا السلطان الفرغل "...
ألحظ منذ دخولي المسجد رجلا في العقد السادس من عمره ،يرتدي معطفا ثقيلا ،كان الوقت بين الظهيرة والعصر ،يخلو المسجد من رواده ،على ظهري حقيبة سفر خفيفة تكفي للحاسب الشخصي واغراض بسيطة ،يبتسم لي الرجل ،فابستم له ،يقوم من جلسته ويأتي فأقف تأدبا لتوقير سنه ،يقول لي وقد مد يده :"حمدا لله على سلامتك ...أنتظرك هنا منذ الظهيرة قطارك فات على موعد قدومه ساعة "..أندهش من كلام الرجل الذي يبدو أنه كان يعرف بموعد وصولي ،أو ربما يعرف بموعد القطار الذي ركبته من مدينتي ،يخالجني شك أن يكون صاحب المقهي قد هاتفه وأخبره بقدومي ،لكن لم أخبر صاحبي بموعد القطار أو موعد تحركي ..يربت الرجل على كتفي محاولا طمأنتي ،أنت ضيفي فلا تقلق ،ولنا عند شيخ العرب عزومة ،يتبدد ثباتي الانفعالي في هذه اللحظة ،أقول للرجل ،:"هو حضرتك تعرفني أو التقتني من قبل أو أنك من طنطا ووتعرفني وتعرف أسرتي "يبتسم الرجل ويقول :"يا ولدي أنا رجل صعيدي على باب الله "بصمجي " ولا أعرف شيئا".يمضي بي نحو الضريح ويتركني .
هنا في حضرة السلطان الفرغل ،محاولا استجماع بعضا من تاريخ هذا الولي الصالح ،اللوحة الورقية المعلقة تخبرني أن السلطان من أب أسمه السيد أحمد شفيق السيد مخيمر "جد الأشراف بابو تيج " وأمه هي السيدة فاطمة شقيقة الشيخ علي الشهير بالشيخ "علي الفيل "وينتهي نسبها إلى الولي الصالح " أبي الحجاج الأقصري".
عمل سلطاننا في بداية حياته بحرفة الرعي ،وقد اشتهر بين أبناء الصعيد بأمانته وأن قطيعه الذي يرعاه لا يقرب أكل العشب الحرام من أراضي الفلاحين ،وروي عنه أن من كراماته صغيرا أن أغنام الفرغل لم تكن لتقربها ذئاب صحراء الصعيد ،ثم عقب حرفة الرعي تولى مهمة حراسة صوامع الغلال في الوقت الذي كانت فيه قد انتشرت سرقات المحصول فتبدت الكرامة الأشهر والتي بينت سر الولي وولايته ،حيث تقول المصادر التاريخية أن يوما في الليل جمع السلطان الفرغل بقايا محصول من القمح وبعض شوائب السنابل ثم وضعها على اجران القمح وقام باشعال النيران فيها ،فخرج اهل القرية مسرعين متطلعين لمحصولهم الذي هلك بفعل النيران ،فوجدوا الولي الصالح واقفا يخاطب النار ان تتوقف عن الحرق وتكتفي بحرق زوائد السنابل فقط وتنقضي بلهيبها بإذن الله ،وهو الأمر الذي أدركه ولم يصدقه الحاضرون ،فلما علموا بأمر سره تجمع حوله الناس ليتباركوا به ،فأخذ يبتعد ويكثر المشي والترحال مخافة أن تتعاظم نفسه ،حتى أن نعاله كانت تبلى من كثرة السياحة في أرض الله . ولذلك أطلق عليه لقب الكرار ،وقد قيل ان "زربونه "أي حذائه" كان ممزقا ويحوي بداخله الرمال والحصى نتيجة كثرة تجواله وسيره في أرض الله ".
السلطان حصل على لقب السلطان داخل قلوب مريديه كونه لم يخش في الحق لومة لائم وفي ذلك قصته مع حاكم مصر إبان الدولة المملوكية وكان اسم الحاكم "جقمق" وهي قصة أوردتها المصادر التاريخية مفادها أن ولي الله السلطان الفرغل ،التقى بأمير البلاد بناء على اتهام قد وجه له أنه متهم بأن الحمام الذي يملكه أكل من محصول البلدة فأرسل أمير البلاد ليستدعيه كونه قد ذاع صيته ومخافة أن يؤلب الناس على حاكمهم ،وأتى ولي الله إلى بلاط سلطان الدنيا ،ولما ذبحوا الحمام المملوك للفرغل رضي الله عنه وجدوا أن حويصلة الحمام بها بقايا ثمار الفلفل الأخضر فتم تبرأة ولي الله مما نسب إليه ،فلما هم بالرحيل قال ولي الله لأمير البلاد :"انت وليت على البلاد فاعدل بين العباد" فكان رد سلطان البلاد على ولي الله:"سمعا وطاعة يا سلطان الأولياء "وقد روت بعض المصادر أن السلطان "جقمق" كان له ابن مريض فمسح ولي الله الفرغل على جبهته فتعافى بإذن الله .
مرة أخرى إلى حياة السلطان الفرغل الذي تزوج من ابنة صديقه "ابي بكرالشاذلي " ولهذا الأمر قصة تثبت كراماته وولايته وسره وتعففه وتشرعه ،فالقصة التاريخية تقول :"أن السلطان الفرغل بسبب كثرة تجواله وتمزق نعاله ،أشفقت أم صديقه "ابي بكر الشاذلي "عليه فطلبت من الفرغل أن تأتي بحفيدتها لكي تمسد قدم الولي فرد عليها الولي بأنه لا يقبل هذا فلا يقربه غير حرمته فطلبت الأم من ابنها أن تزوج حفيدتها للفرغل ،وكان الرجل راعيا فقيرا،فطلب الفرغل من نسيبه أن يلتقيه صبيحة اليوم الثاني عند ساقية الماء ويمسك "مخلاة الفر س " ما يشبه المقطف ،فلما التقيا ،ركب ولي الله على ظهر الدابة التي تدير الساقية ،وقال بصوت مرتفع يا ساقية هاتي مهر صفية ابنة ابي بكر لكي أتزوجها بشرع الله ،فكان القادوس الأول يفيض بالذهب ثم القادوس الثاني يفيض بدل الماء فضة . كان للشيخ زاويتان، واحدة بأبو تيج والأخرى بدُوينة، وهى قرية تابعة لمركز أبو تيج أيضا.توفى – رضى الله عنه – بأبوتيج ودُفن بها سنة 850 هـ ، وروي عنه أنه كان يقول:" أنا من المتصرِّفين فى قبورهم، فمن كانت له حاجة فليأت مقابل وجهى ويذكرها فإنها تُقضى إن شاء الله تعالى".
السلطان الفرغل عظيم بلاد الصعيد 22222222 - 1K JPEG ٢٠٢٠٠١٢٢_١٢٣٤٤٣ - 1K JPEG ٢٠٢٠٠١٢٢_١٢٣٦١٩ - 1K JPEG ٢٠٢٠٠١٢٢_١٢٣٧٠٥ - 1K JPEG ٢٠٢٠٠١٢٢_١٢٣٧١٧ - 1K JPEG ٢٠٢٠٠١٢٢_١٢٤٠١٣ - 1K JPEG
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أسيوط هذا الولی ولی الله أنه کان
إقرأ أيضاً:
المسيحيون في المشرق (بلاد الشام): جذورٌ راسخة وهويةٌ لا تُمحى
#المسيحيون في #المشرق ( #بلاد_الشام): جذورٌ راسخة وهويةٌ لا تُمحى
المهندس محمود “محمد خير” عبيد
في قلب المشرق، حيث تلاقت الثقافات وتداخلت الأديان، لا يمكن أن نفهم الحاضر دون العودة إلى عمق التاريخ. ففي ظل الأصوات المتعصبة التي تنادي بالإقصاء، وفي ظل محاولات التهميش التي تطال مكونات أصيلة من نسيج هذا المشرق المبارك، يتعين علينا أن نتأمل في ماضي هذه الأرض لا كحدث تاريخي محض، بل كمرآة تعكس واقعنا اليوم. لا بد أن نعود إلى التاريخ، ليس لنتحسر على ما مضى، بل لنفهم الحاضر ونصونه من أي تشويه قد يطال هويته.
عندما دخل الخليفة عمر بن الخطاب القدس، لم يكن وحده من حمل روح التسامح، بل وجد أمامه قلوبًا مفتوحة وأذرعًا ممدودة من رهبان كنيسة القيامة وأهل القدس المسيحيين. استقبلوه بوقار ومحبة، لا بخوف ولا تهيّب، بل بإيمان مشترك بالقيمة الإنسانية وحرمة الأماكن المقدسة. كانوا يعلمون أن هذا القائد لم يأتِ ليُهين، بل ليصون، ولم يأتِ فاتحًا مستبدًا، بل أمينًا على عهد بين الأديان. الرهبان الذين خرجوا لاستقباله لم يكونوا غرباء عن روح الأرض التي جمعت بين أنبياء الله وكتبه، بل كانوا أمناء على تراث روحي عميق، وممثلين لحكمة دينية عرفت كيف تفتح قلبها للحوار لا للصراع. وبذلك، سُطّرت واحدة من أروع صفحات العلاقات الإسلامية المسيحية في التاريخ، حيث ساد التفاهم واندحر التعصب.
مقالات ذات صلةولم تكن تلك اللحظة استثناءً، بل كانت جزءًا من روحٍ عميقة تحكمت في التفاعل بين الإسلام والمسيحية. فالنبي محمد ﷺ نفسه، الذي عاش مع أهل الكتاب بسلام، كان قد تزوج ماريا القبطية، المسيحية المصرية، التي ظلت على دينها وكانت أم ولده إبراهيم. لم يُكرِهها على الإسلام، ولم يُقصها، بل أحبها وكرّمها، في دلالة واضحة على روح التسامح التي تمثل جوهر دعوته. فالمسلمون لم يأتوا لفرض دينهم بالقوة، بل ليدعوا إلى التسامح والاحترام المتبادل.
أما المسيحيون في المشرق وبلاد الشام، فقد كانوا جزءًا أصيلاً من هذه الأرض منذ العصور الأولى. لم ولن يكونوا يومًا ضيوفًا على هذه الأرض، بل هم أبناءها وأصلها. هم من شاركوا في بناء هذه الحضارة، في تمازج عميق مع التاريخ. فعلى سبيل المثال، كان عرب مؤتة من قبائل النصارى قد انتصروا للمسلمين في معركة مؤتة، ووقفوا معهم ضد الروم ليس من باب الدافع الديني، بل وفاءً للعهد وانتصارًا للحق.
اللغات والهوية الثقافية في المشرق كانت انعكاسًا لهذا التمازج. لقد كانت اللغة الآرامية، ومن تفرعاتها السريانية، هي اللغة السائدة في المشرق، وقد استخدمها المسيحيون في طقوسهم وكتاباتهم اللاهوتية. لا يزال هذا التراث حياً في بعض الكنائس حتى اليوم، ويحمل بين طياته ذكريات عميقة عن تاريخ هذه الأرض. المسيحيون السريان، الآشوريون، والكلدان قد ساهموا في الحفاظ على هذا التراث اللغوي والروحي العريق، مما أضاف بُعدًا هامًا للهوية الثقافية للمشرق.
وفيما قبل الفتح الإسلامي، كانت بلاد الشام والعراق جزءًا من الإمبراطورية البيزنطية والفارسية، حيث كانت المسيحية هي الديانة السائدة. كانت الكنائس قائمة، والأديرة منتشرة، والمدارس اللاهوتية نشطة، خصوصًا في مناطق مثل الرها، نصيبين، وقنسري. في تلك الحقبة، شهدت هذه الأرض تفاعلًا خصبًا بين الفلسفة اليونانية والفكر المسيحي المشرقي، مما أسهم في إثراء الثقافة الإنسانية، وأدى إلى نقل المعارف إلى اللغة العربية في العصور العباسية، حيث لعب المسيحيون دورًا حيويًا في نهضة العلوم والفلسفة.
وبعد الفتح الإسلامي، أصبحت بلاد الشام جزءًا من الدولة الإسلامية. ورغم انتمائهم إلى النظام الجديد، حافظ المسيحيون على درجة من الاستقلالية الدينية والثقافية بموجب نظام “الذمة”، الذي منحهم حماية وحرية دينية. ومع مرور الوقت، استمرت مساهماتهم الفاعلة في المجالات المختلفة مثل الطب، الترجمة، والعلوم، حيث لعبوا دورًا محوريًا في نهضة الحضارة الإسلامية المبكرة. لا يمكن لأي شخص عاقل أن يتجاهل الدور الكبير الذي قام به المسيحيون في تطوير الفكر والعلم في العصر الذهبي للإسلام.
وفي هذه الحقبة التاريخية، لا يقتصر الحديث عن المسيحيين على الماضي فحسب، بل يتعداه إلى الحاضر. المسيحية في الشام جزءٌ لا يتجزأ من الثقافة المشتركة في هذه المنطقة. هؤلاء المسيحيون كانوا دائمًا جزءًا حيويًا من هذه الأرض، وكانوا في قلب التفاعلات الثقافية والدينية. لقد كانوا وما زالوا يساهمون في بناء هذا المجتمع بروح التعايش والتسامح.
إن من يسعى اليوم لتهميشهم أو تهديدهم، إنما يتجاهل حقيقة تاريخية لا يمكن محوها. فالمسيحية ليست دخيلة على هذه الأرض، بل هي أحد أعمدتها الراسخة. إن هذه الأرض، التي شهدت لحظات عظيمة من التعايش بين الأديان والثقافات، لا يمكن أن تكتمل هويتها دون احتضان جميع أبنائها، من مسلمين ومسيحيين وغيرهم.
إن التاريخ ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو طيف من الذكريات التي تسهم في تشكيل الحاضر. لذا، فإن واجبنا أن نقرأ هذا التاريخ بعين منصفة، بعين تبحث عن الحقيقة، لا بعين متعصبة. وإذا أردنا أن نعيش في هذا المشرق، فلا بد أن نؤمن بأن هذا المكان لا يكون مشرِقًا إلا بتعدديته، وبكل أبنائه، الذين كتبوا معًا قصة حضارة عظيمة، لا تفرّقها العقائد، بل تجمعها العدالة والانتماء.
إن أرض الشام، هذه الأرض المباركة، كانت حية قبل الإسلام بقرون. كانت تعرف أن هناك من يعبد الله، ويقيم الصلاة. ربما لم يكن يعبدوه حسب الشريعة الإسلامية، لكنهم كانوا يؤمنون بالمسيح الذي هو من أنبياء أولي العزم، والذي كان ركنًا من أركان الإيمان عند المسلمين.
فكيف يمكن لأحد أن ينكر أن دمشق كانت مركزًا مسيحيًا عظيمًا؟ وأن أنطاكية كانت مقرًا لبطريركيات الشرق؟ وأن كنيسة القيامة في القدس كانت مقصد الحجاج قبل أن توجد حتى الكعبة كقبلة للمسلمين؟ كيف يمكن أن يتجاهلوا الرهبان والعلماء والمترجمين واللاهوتيين الذين أسسوا مدارس وأديرة، وعيشوا حياة الزهد والتقوى، وعبدوا الله حين كان الشرك يملأ جزيرة العرب؟
المسيحيون في المشرق لم يكونوا، ولن يكونوا أبدًا، رعايا أو غرباء على هذه الأرض. بل هم أهلها، هم من زرعوا فيها جذورهم قبل أن يُولد الخلفاء أنفسهم. عندما اعتنق أهل الحيرة، والرها، والأنباط، والسريان، والموارنة، والكلدان المسيحية، لم يكونوا غرباء، بل كانوا جزءًا حيًا من المشرق، من أهل هذه الأرض التي شهدت نزول الأديان وجمعت بين الناس على تفاوت عقائدهم.
لذا، حين نذكر الأمويين، يجب أن نذكرهم كمرحلة من مراحل متعددة مرت على بلاد الشام، لم تتجاوز تسعين عامًا من سبعة آلاف عام من تاريخ هذه الأرض العريقة. فمن الخطأ الفادح أن نلغي دور الرومان والبيزنطيين والآراميين والأنباط والغساسنة من هذا التاريخ. هل نُسقط كل الحضارات والديانات التي نشأت في هذه الأرض؟ هل نلغي أن المسيحيين هم من ترجموا كتب الطب والفلسفة والنجوم والرياضيات، وأسّسوا مدارس علمية في وقت كان فيه البعض يطوف حول الأصنام؟
بلاد الشام كانت دائمًا بوتقة انصهرت فيها حضارات عدة. ومن دون المسيحيين، لا يمكن الحديث عن الشام بشكل كامل. الإسلام نفسه لم يكن لينهض في المشرق لولا جهود المسيحيين في الترجمة، والتعليم، والطب، والفلسفة. فمن الحتمي إذًا أن نحافظ على هذا الإرث، لأن ما يجعل هذه الأرض مُشعّة ليس فقط الأديان التي سادت، بل التفاعلات الإنسانية والدينية التي أزهرت فيها على مر العصور.
رسالة أخيرة لأولئك الذين يسعون إلى تهميش المسيحيين و ترهيبهم في بلاد الشام وسوريا, مهما حاولتم، ومهما كانت محاولاتكم للتشويه والتزوير، فإنكم لن تستطيعوا أن تنتزعوا التاريخ عن هذه الأرض المباركة. المسيحيون في بلاد الشام ليسوا مجرد عابرين في تاريخها، بل هم جزء لا يتجزأ من جذور هذه الأرض العميقة. لا يمكن لأي محاولات للتفرقة أن تمحو وجودهم التاريخي، أو تلغي دورهم الريادي في بناء الحضارة. هؤلاء هم من أسسوا الكنائس والأديرة، هم من حافظوا على التراث اللغوي والعلمي، هم من حملوا مشعل العلم والفكر في أوقات كانت فيها هذه الأرض تلتقي فيها الأديان والثقافات.
إنهم أبناء الشرق الحقيقي، الذين عاشوا مع أنبيائه وأديانه قبل وبعد الإسلام، وشاركوا في حروبها ومعاركها، وبنوا حضارتها جنبًا إلى جنب مع إخوانهم من المسلمين. كانوا معًا في معركة مؤتة، وقادوا دروب العلم والفلسفة، وكانوا جزءًا من أولى لحظات التعايش بين الأديان.
إن المسيحية في الشام هي جزء من هوية هذه الأرض، جزء من كل زاوية وحجر فيها. ليس من حق أحد أن يحاول محو هذا التاريخ أو تغييره. المسيحيون في بلاد الشام وسوريا هم جزء أصيل من هذا النسيج، وهم أبطال الحوار والتسامح الذين ساهموا في توجيه المنطقة نحو التقدم والازدهار.
فلا يمكن لأحد أن يزعم أن التاريخ يبدأ مع لحظة معينة أو مع دين واحد فقط. التاريخ لا يُكتب بالأيدي المتعصبة، بل بالأيدي التي تبني وتقيم وتوحد. وفي هذه الأرض التي نحبها جميعًا، تظل المسيحية جزءًا راسخًا لا يُمحى، جزءًا من الهوية المشرقية التي لا يمكن لأي محاولات محو أن تُغفلها.
إن هذا التاريخ ليس مجرد ذكرى نعيشها في الكتب، بل هو حقيقة حية في كل زاوية، وفي كل حجر، وفي كل قصة تحكيها هذه الأرض المباركة. وعليه، فلن ينجح أي من يسعى لتهميش أو إنكار هذه الحقيقة في سعيه، لأن المسيحيين في بلاد الشام وسوريا هم جزء أصيل من هذا الوجود، ومن تاريخنا المشترك الذي لن يتغير مهما مرت الأيام.
المسيحيون هم جزء من هذا النسيج، ومهما حاولتم تغييره، سيظل تاريخهم راسخًا في أعماق هذه الأرض.