سودانايل:
2025-05-09@09:08:11 GMT

الحداثيون: ما عسانا نفعل بهذا الإسلام!

تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT

عبد الله علي إبراهيم

ملخص
يرهن كثير من الناس عندنا وعند غيرنا إنهاء الحرب حقاً بموارد وطنية تأخذ بناصيتها وتبلغ بها شط الأمان كما لا يفعل غيرها في العالم. وهو فأل حسن ولكن تمامه رهين بفحص دقيق لهذه الموارد التي انتخبنا منها هنا صفوة الرأي والقلم لنقف على ما بوسعها القيام به لوقف الحرب.
في يوم الجمعة قبيل استقلال السودان عام 1956، جاء المدير السوداني الأول لمديرية كردفان مكاوي سليمان أكرت إلى مسجد المدينة بجلبابه وعمامته ونزل بسيارته الحكومية يرفرف على جانبيها العلم.

ولم يصدق الناس عيونهم. فللمرة الأولى منذ عام 1898 يصلي حاكمهم كما يصلون لوجه الله. وكتب محرر جريدة كردفان، الفاتح النور، أنه في اليوم التالي للجمعة الغراء زاره مولانا محمد الأمين القرشي، قاض شرعي وابن القرشي أستاذ الإمام المهدي، ومن صادم الإنجليز كثيراً في أمور الدين، وقال له "قل لصاحبك المدير ما ينقطع عن صلاة الجمعة، وقول ليه صلاتك أمس صحت المسلمين ورفعت معنوياتهم، وأحس ضعاف الإيمان والسذج بعظمة الإسلام بصلاته هذه، ومن واجبنا أن نسايرهم على قدر عقولهم، قول له ما يهدر فرحتهم ولا يتخلف عن صلاة الجمعة أبداً، وإذا كان الوضوء صعب وكان البرد شديداً يجي بس من دون وضوء" (الأيام، 4 يناير 1988).
لا أعرف حكاية جسدت مفهوم "الهوان الأخلاقي الاستعماري" لبازل ديفدسون، المؤرخ النبيل لأفريقيا، مثل مطلب الشيخ القرشي من مدير المديرية في دولة استقلت لتوها أن يمحو عار نازلة الاستعمار بصلاته الجمعة ولو بغير وضوء. فقال ديفدسون إن المسلم يحس بعار هذا الهوان فطرياً لتطاول حكم الكفر، يقضون أمرهم ولا يؤمنوهم في مصلاهم. وزاد ديفدسون بقوله إن الصفوة، خلافاً لعامة الناس، قبلت بهذا الهوان المذل كثمن لا بد من دفعه لاقتناء الحداثة. وخرجت لإزالة هذا العار مشاريع إسلامية أو صحوات مثل "الإخوان المسلمين"، وحتى حركة الجمهوريين لمحمود محمد طه عندنا، لا تزال تخطئ وتصيب، ولكنها جميعاً مما استمد أرقه الثقافي والروحي لتفكيك إرث الاستعمار من هذا الهوان الأخلاقي الاستعماري.

هوية الدولة
سأل أحدهم رمزاً من رموز ثورة ديسمبر 2019 بعد وقوعها بوقت قصير عما يريدون من هوية للدولة التي سينشئونها على أنقاض "دولة الإنقاذ"، وهو سؤال في صميم ما يريدون كثوار لمنزلة الإسلام في تلك الدولة. وقال الرمز إنهم سيعقدون مؤتمراً لنقاش المسألة عن قريب. وها أنت ترى تسويف هذا الرمز الحداثي في موضوع هوية الدولة لا بعد ثلثي قرن من استقلالنا وحسب، بل بعد ثلاثة عقود أيضاً من صراعهم على دولة جازفت بهوية إسلامية للدولة ولم تحسن صنعاً وسقطت بوابل اتهامها بـ "الثيولوجية أو حتى "الظلامية"، في إشارة إلى القرون الوسطى في أوروبا.
ولا يعرف المرء كيف حاربوا مثلها لـ 30 عاماً ولم يتواضعوا على بديل لها استوفى شروطه من جهة الدولة والإسلام وهي المسألة المركزية في السياسة السودانية في أعقاب ثورة أكتوبر 1964.
وتغاضي الصفوة الحداثية عن هوية الدولة من جهة إسلامها قديم واحتالت على هذا بصور مختلفة. فهي إما قالت إن الإسلام السوداني شعبي لا أرثوذكسي خلا من التشدد الشرعي وصح ألا نهجس بهوية الدولة ومنزلة الشريعة فيها، أو أن من جاء بالدين للسياسة جاء به من باب استغلاله لمصالحه، أو انتهز سانحة وجود غير المسلمين في الدولة ليبطل موضوع دينها بالكلية، أو أذاع أن الفصل بين الدين والدولة اكتمل في الغرب ولسنا من يريد اختراع العجلة، أو استجهل القائمين بالصحوة عندنا وأراهم بينات علمه بها ليفحمهم لا لينافسهم بمشروع حسن له فيها.

الحكم والدين
فالاتفاق بين صفوة الحداثة قائم بأن سلطنة الفونج (1504-1821)، الدولة المسلمة الأولى في السودان، اتخذت الإسلام ديناً ولكن وشته بوثنيات جعلته إسلاماً "أفريقيا" شعبياً، ولو نفخت في هذه العبارة تردها إلى أصل لجرجرت أذيالها عائدة لموضعها الأصل في كتاب "الإسلام في السودان" للمبشر الأنغليكاني سبنسر ترمنغهام (1949). وهو الكتاب الذي أصبحت مادته من المعلوم بالضرورة عن إسلام السودان لدى الصفوة يأخذ من معارفه التي على الشيوع حتى من لم يقرأه. وقد راق الحداثيون هذا الفصل بين الدين الرسمي الأرثوذكسي والشعبي لأنه يبيح لهم شجب الإسلاميين وطبقة العلماء باستيحاء دين غير دين أهلهم مما يوقعهم في الشطط الديني والهوس.
وطال بهم الأخذ بهذه الحيلة الفكرية منذ مقاومتهم مشروع الدستور الإسلامي عام 1968 إلى يومنا هذا يرمون الضالعين في بناء الدولة الإسلامية بالغربة عن المعلوم عن تعبد أهل السودان بالضرورة. وظلت صورة هذا المبشر المسيحي للإسلام في السودان متماسكة لا يعتورها شك أو مراجعة على مدى العقود التي تصرمت منذ فترة مضطربة طوال عهد الاستقلال وخلال، طغى فيها موضوع الدين. وصار كتابه العمدة في خطاب الحداثيين عن إسلام السودان وهو الظنين فينا بقوله "إذا ما تحرر السوداني من إرثه الديني فإن تطوير فكره وخياله سيكون أمراً ميسوراً".

مفهوم الأداتية
أما الحيلة الأخرى لتغاضي الصفوة الحداثية عن هوية الدولة ناظرين لإسلام أهلها فهي في رمي كل ساع إلى توطين الدولة على شيء من إسلامها بأنه استغلال للدين وهو ما يعرف بالتفسير الأداتي (instrumentalist) للدين.
وبالنتيجة فقد أعفى مفهوم الأداتية الحداثيين من الغوص في نصوص وديناميكية الدين كما ينبغي لمن تولى، أو سيتولى، قياد شعب كثيره مسلم. فكل الإسلام سياسة بنظر الأداتية. ولا يقع عليه إلا كل مستغل أشرّ. فالدين بحسب هذا المفهوم مطية للصفوة ولغمار الناس "الإسلام الشعبي" الذي خالطته "الوثنية الأفريقية" في رأي ترمنغهام، فلا نفع منه ولا خطر، كما تقدم. ولم تسأل الصفوة الحداثية نفسها إن كان يواتي الدين كل مستغل في كل زمان ومكان، أم أن هناك أشراطاً تقع في المجتمع فتزكي لأهله دينهم كمفتاح للفرج، فيستصحبها "المستغل"؟ فتجد في الولايات المتحدة من أراد استغلال الدين وتوظيفه مثل منكري نظرية التطور، أو مثل القاضي الذي أراد الحكم بالوصايا الـ 10 كفاحاً. ولم ينقد لهم الدين لأن المجتمع لم يتهيأ لهم، وربما تهيأ يوماً كما سنرى.
ولما اكتفينا من تديين الدولة بمفهوم الأداتية الذي يقصر الدين على "غيتوني" (وهو مستغل الدين في عرف الناس) غاب عنّا تديين المجتمع الحر في دورة من دوراته ومطلبه للعدل والسوية من بين صفحات دينه. فحرام على الدين عند الصفوة الحداثية أن يطأ ساحة السياسة وإلا كان في "حال تسلل". ومنعاً لقصر صحوة المسلمين عند صفوتهم، حتى الإسلاميين منهم، فقد رغب ركس أوفاهي، المؤرخ للسودان، أن يقع على وصف للصحوة الإسلامية يذهب في تفسيرها إلى أبعد من ثقافة ونزاعات وتواريخ الصفوة غربية المنشأ. والسبيل إلى ذلك، في قوله، أن ننظر إلى جذورها بين المسلمين كطرف أصيل في الإحياء الإسلامي لا موضوعاً له.
أما الحيلة الثالثة للصفوي الحداثي للتغاضي عن هوية الدولة ناظراً إلى إسلامها فهو استخدامه لوجود غير المسلمين في السودان، وكانوا أمة من الناس قبل انفصال الجنوب، للقول بأن هوية الدولة الإسلامية مما يغمط حقوقهم كمواطنين، وقولهم هذا حق إلا أن في التشريع من الدماثة ووسع الحيلة ليعقد في الحلال حقوق سائر من في الأمة، فليست خطة الإسلاميين في السودان ودولتهم نهاية الأرب.
ونعرض لمزيد من حيل الحداثيين التفاتاً للجهة الأخرى ما طرأ طارئ الدين والحكم.

 

ibrahima@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: هویة الدولة فی السودان

إقرأ أيضاً:

السودان بلا مركز: تعدد السلطات وتفكك الدولة بين الحرب وغياب السيادة

في لحظةٍ مفصلية من تاريخ السودان المعاصر، يتوارى "المركز" السياسي للدولة خلف مشهدٍ دمويّ تتنازعه جبهات مسلحة وسلطات متنافرة، فيما تترنّح المؤسسات السيادية تحت وطأة الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وتغيب الدولة بوصفها كيانًا موحِّدًا. هذا التفكك المتسارع لمظاهر السلطة المركزية لا يعكس مجرد انهيار ظرفي في الحكم

أمجد شرف الدين المكي

سكرتير التحرير ورئيس قسم البحوث والترجمة – سودانايل

خاص – سودانايل

المقدّمة:

في لحظةٍ مفصلية من تاريخ السودان المعاصر، يتوارى "المركز" السياسي للدولة خلف مشهدٍ دمويّ تتنازعه جبهات مسلحة وسلطات متنافرة، فيما تترنّح المؤسسات السيادية تحت وطأة الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وتغيب الدولة بوصفها كيانًا موحِّدًا. هذا التفكك المتسارع لمظاهر السلطة المركزية لا يعكس مجرد انهيار ظرفي في الحكم، بل يُنبئ بتحوُّلٍ هيكليّ يطال طبيعة الدولة نفسها. فالسودان، في امتداد نزاعاته الراهنة، يبدو وقد دخل طورًا من "اللا-مركزية القسرية"، حيث بات الحكم موزعًا بين قوى عسكرية، وحركات مسلحة، وزعامات قبلية، وإدارات مدنية محلية—كلٌّ منها يدّعي شرعية أمر واقع تغذّيها الجغرافيا والسلاح والفراغ.

يتجاوز هذا المشهد حدود التوصيف الأمني أو السياسي العابر، ليطرح تساؤلاً وجوديًا: هل ما نشهده هو إنزلاق نحو "الصوملة"، أي نحو نمط من الدولة المفككة التي تتقاسمها سلطات محلية وأمراء حرب؟ أم أن السودان، رغم هذا التشرذم الظاهر، لا يزال يحتفظ بفرصٍ لإعادة بناء مركز سيادي موحّد، حتى وإن كان ذلك عبر صيغ جديدة من الحكم اللامركزي أو التوافقي؟

تحاول هذه القراءة التحليلية تتبّع ديناميات تعدد السلطات في السودان، في سياق تفكك الدولة المركزية وتلاشي إحتكارها للعنف والقرار، مُسلّطة الضوء على النماذج البديلة للحكم الناشئة في غياب الدولة، وعلى التبعات البنيوية لذلك على وحدة البلاد، ووظائف الدولة، ومعنى السيادة ذاته.

من العاصمة (المركز) إلى الأطراف (الهامش): كيف توزّعت السُّلطة في السودان؟

[caption id="attachment_223643" align="alignleft" width="300"] Sudan[/caption]

منذ اندلاع الحرب في 15 /أبريل 2023 بين الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، شهدت العاصمة الخرطوم انهيارًا غير مسبوق في بنيتها الإدارية والعسكرية والمدنية، إذ سرعان ما تحوّلت إلى مسرح للقتال المباشر، ومن ثم إلى مدينة مهجورة تسودها سلطة السلاح، لا سلطة الدولة. ومع تفكك المركز، تمددت مراكز قوى محلية في أنحاء السودان، لتملأ الفراغ السياسي والأمني، وتقيم سلطاتها الخاصة التي تستند إلى القوة المسلحة والشرعية القَبَلية أو الثورية أو الجهوية.

في غرب البلاد، تسيطر قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة من إقليم دارفور، وتُقيم أنماط حكم شِبه مستقل، حيث تفرض الضرائب علي أشكال "إتاوات" مقابل الحماية الكاذبة، ذات الإضطهاد، والتحرش والتنمر، وتدير نوعاً ما المعابر الحدودية، بل وتعيّن مسؤولين مدنيين في بعض المناطق، في صورة تُشبه إلى حدٍّ بعيد نماذج الحوكمة البديلة التي ظهرت في الصومال بعد انهيار نظام سياد بري، أو في ليبيا بعد سقوط القذافي. في شرق البلاد، تتمركز قيادة الجيش في مدينة بورتسودان، وتدير ما تبقى من وزارات الدولة والمؤسسات شبه المركزية، في وضعٍ يُعبِّر عن سلطة "منفية" تتحكّم باسم الدولة دون أن تسيطر فعليًا عليها وعلي عاصمتها.

إلى جانب هذين القطبين العسكريين، تتوزع السلطة فعليًا بين جهات أخرى، فالحركات المسلحة الموقعة على إتفاق جوبا للسلام تحتفظ بنفوذ كبير، ولو نوعياً في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وتمتلك قوات ميدانية وقيادات سياسية، بعضها يشغل مناصب، قيادية وسيادية في حكومة بورتسودان، بينما البعض الآخر يتخذ مواقف مستقلة أو متذبذبة. كذلك، شهدت بعض مناطق السودان—وخاصة في شمال وغرب البلاد—عودة لافتة لنفوذ الإدارات الأهلية والقيادات القَبَلية، التي باتت تدير الأمن والخدمات، وتحلّ النزاعات بوسائل تقليدية، في ظل غياب كامل للمؤسسات الرسمية.

وفقًا لتحليلات نشرتها دورية foreign Policy   الأميركية، فإن المشهد السوداني الحالي يمثل "تفكيكًا متدرجًا للسلطة المركزية"، يُعيد إنتاج السلطة على أسس محلية، عشائرية، وأمنية، وهو ما يعيد إلى الأذهان نماذج الدولة اللامركزية الفاشلة، التي تهيمن فيها وحدات محلية على حساب الدولة الجامعة.

تفكّك الدولة وتآكل السيادة: هل دخل السودان فعلاً مرحلة الدولة المتفككة؟ أو الصوملة؟

ليس تراجع المركز في السودان محضَ اختلالٍ إداريّ أو اضطرابٍ ظرفيّ، بل هو إنحرافٌ عميق في وظيفة الدولة نفسها، بما هي كيانٌ سياديّ يحتكر أدوات العنف، ويُنظّم الفضاء السياسي، ويضمن وحدة الأرض والسكان. ما نشهده اليوم هو تحوّلٌ تدريجيّ نحو نموذج الدولة المتفككة، حيث تُستبدل الهياكلُ الرسميّةُ بمراكزَ نفوذٍ متعدّدة، كثيرٌ منها يُعيد إنتاج السلطة بناءً على الولاء القبليّ أو الجهويّ أو وفق منطق القوّة المسلّحة.

قد يكون من المُغري، في هذا السياق، إستخدام مصطلح "الصوملة" للإشارة إلى هذا النمط من الإنهيار، لكنّ هذا التشبيه، رغم وجاهته التحليلية، قد لا يُحيط بتعقيدات الحالة السودانية. ففي حين شهدت الصومال انهيارًا مفاجئًا لنظامٍ مركزيّ، فإن السودان ينزلق في مسارٍ تدريجيّ، تغذّيه تراكمات من الانقسامات البنيوية، والنزاعات المحلية، وتعدّد الفاعلين، فضلًا عن الأدوار الإقليميّة والدوليّة المعقّدة.

وبحسب تقرير صادر عن Internation Crises Group, فإنّ السودان يواجه اليوم "واحدةً من أخطر حالات تراجع السيادة في إفريقيا المعاصرة"، حيث تتآكل سلطة الدولة المركزية، لا بفعل انهيارٍ شامل، بل نتيجةً لتوزّع أدوات السيادة على قوى غير حكوميّةٍ تُمارس أدوارًا سياديّة، تتراوح بين فرض الجباية، وإدارة الخدمات، وتنظيم الحدود، وأحيانًا التنسيق المباشر مع أطرافٍ دوليّة عبر ممرات وإشرافات إقليمية.

إنّ أخطر ما في هذا التحوّل، ليس مجرد انقسام سياسيّ أو عسكريّ، بل إعادة تعريف الدولة نفسها: من كيانٍ يحتكر السيادة، إلى فضاءٍ سلطويٍّ تتقاسمه قوى محليّة تتصرّف كأنّها دولٌ مصغّرة داخل الدولة الأم.

الدور الإقليمي والدولي: كيف ساهم الخارج في تفكيك الداخل؟



لم يكن تفكك الدولة السودانية نتاجًا لعوامل داخلية فحسب، بل لعبت التفاعلات الإقليمية والدولية دورًا بالغ التأثير في تسريع الإنهيار وتكريس منطق الحرب بديلاً عن منطق الدولة. فمنذ إندلاع النزاع الأخير، تداخلت حسابات الفاعلين الخارجيين مع مصالح الأطراف المحلية، وتحوّلت الجغرافيا السودانية إلى مسرح مفتوح لصراعات المحاور، وتنافس المصالح، والتدخلات غير المعلنة.

تأتي الإمارات العربية المتحدة في مقدّمة اللاعبين الإقليميين الذين ارتبطت أسماؤهم بالدعم المالي واللوجستي لقوات الدعم السريع، وذلك في سياق إستراتيجيتها الإقليمية التي تعتمد على دعم الوكلاء المحليين لتعزيز النفوذ في مناطق حيوية مثل البحر الأحمر، وإمتداده الإفريقي. وفي المقابل، تحاول مصر الحفاظ على الجيش السوداني كحليف إستراتيجي تقليدي، إنطلاقًا من إعتبارات الأمن المائي في ملف سد النهضة، ومنظورها الأمني المتوجس من احتمالات تمدد قوى غير نظامية على حدودها الجنوبية.

أما روسيا، فتبرز من خلال علاقتها شبه المعلنة مع مجموعة "فاغنر"، التي نشطت في السودان منذ سنوات عبر بوابة الذهب والدعم الأمني، وكرّست نمطًا من الشراكة الرمادية مع الفاعلين غير الرسميين. وقد وثّقت تقارير BBC وReuters، بالإضافة إلى نشرات أكاديمية صادرة عن Chatham House وCarnegie Middle East Center، حجم النفوذ الروسي المتنامي، لا سيما في دارفور، عبر شبكات تهريب الذهب وتمويل الصراعات المحلية.

وفي مقابل هذه المحاور المتنافسة، بدت المنظمات الدولية والمؤسسات الأممية عاجزة عن صياغة مقاربة سياسية أو إنسانية فعالة، حيث فشلت مبادرات مثل "مباحثات جدة" في تثبيت أي وقف دائم لإطلاق النار، فيما إنحسر الدور الأممي في البيانات التحذيرية دون أدوات فعلية للتدخل أو الردع، في ظل انقسام مجلس الأمن، وتراجع أولويات السودان في أجندة القوى الكبرى.

تُظهِر هذه المعطيات أن تفكك الدولة في السودان لا يمكن فهمه بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي، حيث لم يكن الخارج مجرّد متفرّج، بل كان – بدرجات متفاوتة – شريكًا في إنتاج الهشاشة، وتعزيز الانقسام، وتأطير السلطة خارج نطاق الدولة المركزية.

مستقبل الدولة في السودان: هل من أفقٍ لإعادة البناء؟

في خضمّ الانهيار المتعدّد المستويات، يبقى السؤال الجوهري مطروحًا بإلحاح:   هل يمكن إحياء الدولة السودانية ككيان موحِّد؟ أم أنّ البلاد قد دخلت طورًا لا رجعة فيه من التفتت السياسي والمناطقي، تُعاد فيه هندسة السلطة على أساس مراكز قوى محلية، تحكمها شبكات المصالح، ومنطق السيطرة لا منطق الشرعية؟

من الناحية النظرية، يُتيح تاريخ الدولة السودانية—رغم تعقيداته—مجالًا للتعافي وإعادة البناء، خصوصًا في ظل ما يُعرف بـ"النُظُم ما بعد الصراع" (Post-Conflict State Formation)، التي تشهد فيها الدول المفككة عودةً تدريجية للمركز عبر ترتيبات تفاوضية أو إقليمية تُعيد إنتاج الدولة بشكل مغاير. لكنّ هذه الإمكانية مشروطة بعدة عوامل:

أولًا: وقف الحرب بشكل شامل ودائم، وهو شرطٌ لا يزال بعيد المنال، في ظل غياب الإرادة السياسية لدى الأطراف المتصارعة، وتحوّل الاقتصاد السياسي للحرب إلى موردٍ للسلطة والنفوذ.

ثانيًا: إرادة وطنية جامعة تتجاوز منطق الغلبة والانتصار العسكري، وتتأسّس على مبدأ إعادة تعريف الدولة لا بإعتبارها غنيمة أو أداة للهيمنة، بل كعقد اجتماعي يضمن مشاركة عادلة في السلطة والثروة.

ثالثًا: ضمانات إقليمية ودولية جدّية، لا تقتصر على دعم الإغاثة والمساعدات الإنسانية، بل تنخرط في هندسة حلّ سياسي قائم على الشرعية، والمساءلة، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، بعيدًا عن محاور الاصطفاف التي عمّقت الأزمة.

بحسب ورقة صادرة عن The United States Institute of Peace، فإن السودان بحاجة إلى "عملية سياسية شاملة تعيد تعريف العلاقة بين المركز والهامش، وتضع أسسًا جديدة للحكم المحليّ، دون أن تُكرّس الإنفصال أو تنسف وحدة الدولة".

لكن يبقى التحدّي الأكبر في السودان متمثّلًا في غياب الفاعل الوطني الجامع. فالمشهد السياسي بعد الثورة، ثم الإنقلاب، ثم الحرب، أفرز قوى متصارعة ومُشتَّتة، تُنافس بعضها على الشرعية وتفتقر إلى رؤية استراتيجية متكاملة للدولة القادمة.

إنّ مستقبل الدولة في السودان لن يُحدّده ميزان القوى العسكري فقط، بل أيضًا قدرة السودانيين، بمختلف مكوّناتهم، على تجاوز منطق "السلطة كإمتياز" إلى "الدولة كمشروع مشترك". وهذا التحوّل، وإن بدا بعيدًا، يظلّ شرطًا لبقاء السودان كدولة لا كجغرافيا فقط.

آنياً ومن منحي آخر - وفي تطوّر دراماتيكي يُعيد رسم ملامح النزاع في السودان، شهدت مدينة بورتسودان—العاصمة الإدارية المؤقتة ومقر الحكومة المعترف بها دوليًّا—ضربات بطائرات مسيّرة إستهدفت منشآت حيوية ومقار سيادية. هذه الهجمات، التي لم تكن معروفة على هذا النطاق في شرق البلاد من قبل، مثّلت نقطة تحوّل نوعي في سير المعركة، وأظهرت اتساع رقعة الإستهداف وتقدّم قدرات الطرف الآخر، مما قوّض إفتراضات "الملاذ الآمن" في الشرق، وزاد من هشاشة السلطة المركزية هناك.

لكن اللافت أكثر من الهجوم ذاته، هو صمت القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، أو ما يشبه "اللا ردّ" المنظّم. رأى بعض المحللين—كما أشارت تحليلات منشورة في Middle East Eye وAl Jazeera Centre for Studies—أن هذا الصمت ليس غفلةً ولا حيادًا، بل جزءٌ من إستراتيجية غير معلنة للضغط على المؤسسة العسكرية السودانية، لدفعها نحو التفاوض بعد تمسّكها بخيار الحسم العسكري ورفضها لأي حلول سياسية شاملة. فبورتسودان، رغم كونها المقر الرسمي للحكومة، لم تحظَ بأي حزام حماية سياسي أو دعم علني من حلفائها الإقليميين، وهو ما يُقرأ كتلميح ضمني: إمّا التسوية أو المزيد من التعرّي الاستراتيجي.

لكنّ هذه المعادلة—التي تُبنى على توازنات قوى ومصالح إقليمية—تتجاهل الثمن الباهظ الذي يدفعه المواطن السوداني. فبينما تتحرّك المسيرات في السماء لتبدّل موازين القوى، تزداد على الأرض مآسي النازحين واللاجئين والمشردين، الذين طُردوا من ديارهم وأُجبروا على عبور الحدود، أو الإحتماء بمناطق لا تتوفّر فيها أدنى مقومات الحياة. هؤلاء هم الحلقة الأضعف في سلسلة الصراع، لا صوت لهم في المؤتمرات ولا حضور في غرف التفاوض، ومع ذلك فهم من يدفع الكلفة الكاملة.

خاتمة

بين سؤال الدولة وسؤال النجاة

إنّ ما يشهده السودان اليوم لا يمكن إختزاله في حربٍ بين طرفين مسلحين، ولا حتى في صراعٍ على السلطة؛ بل هو أزمة بنيوية عميقة تطال فكرة الدولة نفسها: كيف تُبنى؟ ولمن تُبنى؟ ومن يملك الحق في تمثيلها، وصياغة معالمها، وحماية حدودها الداخلية والخارجية؟ فغياب المركز، وتعدّد السلطات، وتآكل السيادة، وتداخل الفاعلين المحليين، الإقليمميين والدوليين، كلّها ليست أعراضًا عابرة، بل مؤشرات على تحوّلٍ عميق في البنية السياسية السودانية، يهدد وجود الدولة كإطار ناظم للمجتمع.

في هذا السياق، لا تكفي الحلول التقليدية، ولا تنفع التسويات الشكلية، ما لم تُصاحبها رؤية وطنية تُعيد تعريف الدولة لا باعتبارها مركزًا يُخضع الأطراف، بل فضاءً تشاركيًّا يُعبّر عن التعدّد ولا يقمعه. السودان في حاجة إلى ما هو أكثر من وقف إطلاق نار، هو في حاجة إلى مصالحة مع نفسه، ومع تاريخه، ومع هامشه، ومع مواطنيه الذين صارت الدولة بالنسبة إليهم إما سلاحًا في وجوههم، أو ظلًّا بعيدًا لا يقي حرًّا ولا بردًا.

وإذا كانت الطائرات المسيّرة قد وصلت إلى بورتسودان، فذلك لا يُنبئ فقط بإمتداد النيران إلى ما تبقّى من المركز، بل يُعيد طرح السؤال الأهم: هل ستبقى الدولة في السودان ككيان؟ أم سنُعيد تعريفها بوصفها جغرافيا متنازعة تحت إدارة سلطات متعددة، تحكم ولا تُمثّل، وتُسيطر ولا تُوحِّد؟

في الإجابة على هذا السؤال يتحدد مستقبل السودان، لا فقط كجمهورية، بل كفكرةٍ قابلة للإستمرار، أو ككِيانٍ يُعاد رسمه من الخارج، وباسم الداخل، في غياب صوت الداخل الحقيقي: الموطن والمواطن!

كاتب التقرير – أمجد شرف الدين المكي

سكرتيرالتحرير ورئيس قسم البحوث والترجمة – سودانايل

باحث وطالب دكتوارة في العلاقات الدولية

Salve Regina University

amgadss@gmail.com

   

مقالات مشابهة

  • لأول مرة في تاريخ السودان، تتعرض الدولة لاستهداف بهذا الشكل الواضح
  • السودان بلا مركز: تعدد السلطات وتفكك الدولة بين الحرب وغياب السيادة
  • السودان وحرب المسيرات
  • السيناريو “المعقول” إنّه تحصل وساطة دوليّة بين السودان والإمارات
  • روضة الحاج: قريباً سوف تنتصرُ نعم واللهِ يا وطني ستنتصرُ! فلا تحزن
  • كاتب إسرائيلي: هوية الدولة ممزقة بين الليبراليين والمحافظين
  • “ولاية فقيه غريانية”.. لاصيفر يتهم الغرياني بتسييس الدين وتحويل الفتوى إلى سلاح في وجه الخصوم
  • بورتسودان: حين تتعرّى الدولة على سواحلها
  • مصطفى بكري عن قانون الإيجار القديم: هل من المنطقي شحن الناس ضد الدولة؟
  • من خان ضميره لا يُؤتمن على وطن: الحليب الفاسد جريمة لا تُغتفر