«التشريعية والتنفيذية» .. هيبة الدولة
تاريخ النشر: 5th, January 2025 GMT
أتجاوز في هذه المناقشة الحديث عن الصدام التقليدي المعروف بين السلطتين، والذي غالبا؛ ما يفضي -في نهاية المطاف- إلى تفاهمات داخلية بينهما، وتبقى الزوبعة الإعلامية المثارة في لحظات التفاعل تحت قبة المجالس التشريعية هي آخر ما تذروه الرياح بعد ذلك، ولا أكثر من ذلك، وبهذا التجاوز أنظر إلى السلطتين: التشريعية والتنفيذية، على أنهما صمام أمان لكل دولة في أبعادها: الاجتماعية والتنموي على وجه الخصوص، بالإضافة إلى الأبعاد الاقتصادية والسياسية والثقافية، مع التأكيد على الدور المحوري الذي تقوم به السلطة القضائية في حماية التشريعات والنظم والقوانين، التي تقرها السلطتان، ويجري تنفيذها على أرض الواقع بواسطة السلطة التنفيذية، وتأتي هذه القناعة في هذا التقييم على اعتبار أن السلطتين هما المتحملتان للثقل المادي والمعنوي في بعديه الأفقي والرأسي للدولة، والمتمثل في كل ما تحتوي؛ بدءا من عدد السكان، مرورا بالحمولة التاريخية، وانتهاء بالموجدات المادية بكل ما تعنيه مفردة «مادية» ولأن السلطتين بينهما تداخل كبير جدا، ليس فقط من حيث نشأة التشريعات وتنميتها ونموها، وإنما كذلك من حيث أن اللاعب بينهما هو الفرد المواطن الذي ارتضى أن يتحمل مسؤوليته التاريخية في تعزيز القوى الفاعلة لوطنه في مختلف المجالات تحت أي ظرف من الظروف، وعلى اعتبار أن السلطة القضائية مستقلة إلى حد كبير، ولا يسمح لها أن تتداخل مع أي طرفين تداخلا مباشرا يخل باستقلاليتها، ونزاهتها، لأنها الضابط لكل تفاعلات السلطتين، والحامية الأمينة لمجمل أنشطتهما، وما ينتح عن توظيف هذه الأنشطة، في جانبيه السلبي والإيجابي على حد سواء، وبالتالي؛ هي أيضا؛ أعني بها القضائية؛ تظل محافظة على هيبتها المستلة من هيبة الدولة؛ حيث تَمْثُلُ كلا السلطتين أمام منصات السلطة القضائية عند الضرورة، امتثالا لهذه الهيبة.
ولأن المسألة هنا مرتبطة بجوهر العلاقة بين السلطتين: التشريعية والتنفيذية، فإن أي خلل يحدث عن الأولى ينعكس تباعا على الثانية، فإذا كانت التشريعية هي ولادة التشريعات؛ فإن التنفيذية هي الموطن لتوظيف التشريعات، وتكون القضائية هي الحامية لجهد الطرفين، ولأن خلل التنفيذية في عدم احترام التشريعية؛ بتحييد كثير من التشريعات الصادرة، فإن أي خلل هنا يؤثر تأثيرا مباشرا على الغاية الكبرى من تطبيق التشريعات؛ وهي تحقيق هيبة الدولة، فهيبة الدولة ليس فقط فيما تملك من مساحات شاسعة من الـ«جيوسياسية» ولا من تضخم عدد السكان، ولا ما تملكه من موارد طبيعية وصناعية، ولا من تعدد مؤسساتها المدنية والعسكرية والأمنية، ولكن مع كل ذلك هو مستوى الإيمان لدى المواطن في وظيفته أو خارج هذه الوظيفة، بأهمية التشريع، ومستوى إيمان المواطن بأهمية احترام الواجبات المنوطة عليه تنفيذها، ومستوى إيمان المواطن وإحساسه بالمسؤولية الوطنية بأهمية الدور الذي تؤديه مؤسسات السلطة التنفيذية كل في مجال اختصاصه، مع أن كل ذلك أيضا مشروط بأحقية هذا المواطن في أن لا يجد في ممارسات السلطة التنفيذية ما يتصادم مع ما يأمله من تعاون وتكامل مع مؤسسات هذه السلطة والعمل على تحقيقه، وما يأمله من تقديم الخدمة المطلوبة بكل يسر، وبكل احترام، وبكل أمانة وصدق، فكلا الطرفين متكاملان في إسناد بعضهما البعض، وبالتالي فكلا الطرفين مسهمان في تعظيم عائد هيبة الدولة.
تفترض الصورة ذاتها حقيقة غير غائبة في مناقشة هذه العلاقة، وهي أن هناك لاعبا مؤثرا؛ وعلى درجة كبيرة من الأهمية في إرباك هذه الصورة المأمولة للمحافظة على هيبة الدولة، وهي النخب السياسية والاقتصادية على وجه الخصوص في المجتمع، وهذه النخب تؤدي دورا مزدوجا بين طرفي السلطتين: التشريعية والتنفيذية، ومعنى هذا فتأثيرها على مجريات السلطة التشريعية، فإن ذلك حتما سوف يؤثر على مجريات السلطة التنفيذية، فمشكلة النخب؛ عموما؛ وفي كثير من الأحيان ليس لها انتماء محدد يفضي إلى تأصيل العمل في سلطة دون أخرى، وإنما تتحرك وفق مصالحها الخاصة، أكثر من الانحياز إلى الخيارات الوطنية التي تعلي من سهم هيبة الدولة، وهذه إشكالية موضوعية في التأثير على مجريات العمل الوطني لدى السلطتين، لأن مستويات النفوذ الذي تملكه النخب سواء من الجانب المادي، أو الجانب المعنوي «علاقات» يظل سهمه مؤثرا، وهناك من يستمع، ويذعن، وينفذ، وكما جاء في المثل: «اطعم الفم تستحي العين» وفي لحظات هذا الإطعام يتم تحييد المشروع الوطني عن تحقيق أهدافه السامية، حيث يتماهى في المشروع الخاص المؤقت، حتى تنتهي المصلحة، وعندها ليس هناك ما يمنع من التنظير في الجانب الوطني كما جاء أعلاه، والخطورة أكثر في شأن النخب السياسية والاقتصادية، ليس فقط في شأن تموضعاتها المحلية على مستوى الدولة، ولكن عندما ترتبط بعلاقات من خارج الوطن الذي تنتمي إليه، وأثر هذه العلاقات على التأثير في السياسة الداخلية، سواء التدخل في حيثيات العمل في السلطة التشريعية، أو في التدخل في حيثيات العمل في السلطة التنفيذية، ومحاولة رسم مسارات أخرى محققة للمصالح الخاصة، مما يسرع في وقوع الدولة في مأزق ما يسمى بـ«رخوية الدولة».
لذلك عندما ينظر في تقييم السلطة التشريعية كوحدة مستقلة أولا، تذهب المسألة إلى تقييم مرجعية النسيج الاجتماعي، وإلى أي حد يكون هذا النسيج ملتحما بأفراده التحاما يُعَضِّدُ من مسيرة التنمية في الدولة، أو إلى أي حد هو منقسم على ذاته، ويقاس التقييم في شأن النسيج الاجتماعي فيما يرفده إلى حاضنة المجلس التشريعي من الكفاءات المتميزة في حاضنتها الاجتماعية كأعضاء في كل دورة تشريعية معينة.
ولأهمية هذه المرجعية يظهر مستوى الحياد الذي يمارسه الفرد العادي؛ وأشدد هنا على مفردة «العادي» في المجتمع عند اختياره لعضو المجلس التشريعي، حيث يُظْهِرُ الاختيار عدم تماهي قرار الاختيار في القبيلة، أو الأسرة، أو الطائفة، وبالتالي فمتى لوحظ شيء من هذا التماهي إلى هذه المناخات؛ عد ذلك ضربة قاسية لهذا النسيج الذي لم يعد نسيجا متماسكا، ولم يعد نسيجا يعمل لهدف وطني صادق وأمين، حيث لا يزال واقع تحت تأثير مناخاته الخاصة، وهي مناخات غير معبرة عن مستوى الإدراك الذي وصل إليه الفرد في المجتمع، ومقارنته بالأهمية التي يمثلها المشروع الوطني الذي يفترض ألا يقبل المساومة، وفي ذلك بلا شك ضربة قاسية للوحدة الوطنية الأسمى في صميم صدقها وأمانتها، وعدم تحمل المواطن المسؤولية الملقاة على عاتقه، ولا عذر لأي مسوغ يستند إليه في هذا الجانب، فالمسألة متعلقة بمشروع كبير ومهم وحساس، وهو المشروع الوطني السامي المفضي إلى تعزيز هيبة الدولة والتي تأتي على قمة هرم رأس هذا المشروع، وبالتالي فحتى العضو المترشح عندما ينحاز إلى الخيارات الرخيصة لجلب الأصوات يكون بذلك فاسد، معلوم النفاق، ولا يستحق أن يكون تحت قبة المجلس التشريعي، فالشأن الوطني لن يصلحه إلا العضو التشريعي النظيف.
ما يمكن الالتفات إليه -في ختام هذه المناقشة- في العلاقة بين طرفي المعادلة بين السلطتين، هو أن التشريعية لا يمكن أن يكتمل نصابها التشريعي إلا من خلال دعم قاعدة الهرم التي تمثلها الفئة الخارجة من دائرة التصنيفات الاجتماعية المختلفة، وهي الفئات البسيطة في المجتمع، لأنها تمثل الغالبية في المجتمع، أو أنها قاعدة الهرم الاجتماعي، وبالتالي فغالبية الأصوات تكون لدى هذه الفئة، والخطورة في هذا الجانب، عندما يحيل الطامحون إلى الانضمام إلى السلطة التشريعية أغلب هذه الفئة عن المشروع الوطني إلى حالة من الاسترزاق المادي في لحظة زمنية فارقة يتراكم فيها الشعور الوطني بأهمية الممارسة التشريعية كوجه معبر عن هيبة الدولة في ذات الممارسة، ويأتي البعض ممن يمثلون السلطة التنفيذية كذلك لتعميق هذه المادية «الاسترزاق» من خلال تنامي صور الرشاوى في تقديم الخدمات، على اعتبار أن هذه الفئة من المواطنين ليس لهم سند، إلا من خلال هذه الطرق الملتوية، سواء بالرشوة المادية المقبوضة، أو من خلال استغلال الضعف في جوانب أخرى: كالشرف، ولي الذراع، والمماطلة، وعدم الاهتمام، وتبلغ المأساة ذروتها عندما تكون هذه الممارسات الخاطئة علنا، وبدون أي تحفظ، وبدون أي خوف من قانون رادع، أو هيبة من سلطة قضائية ماكنة، هنا؛ يتماهى المشروع الوطني، وبلا شك يؤثر على هيبة الدولة.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التشریعیة والتنفیذیة السلطة التنفیذیة السلطة التشریعیة المشروع الوطنی هیبة الدولة فی المجتمع من خلال
إقرأ أيضاً:
كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟
أمام الهزائم العسكرية والسياسية للأنظمة العربية، كانت الشعوب العربية تفرز أدواتها في المواجهة. فمنذ ثلاثينيات القرن العشرين تحولت القضية الفلسطينية من رخاوة الأنظمة إلى صلابة التنظيمات.
ففي المواجهة لم تسقط الزعامات والأيديولوجيات فقط، بل سقطت أيضا الجيوش النظامية ومعها سقط دورها في التحرير. وخلف عجز الأنظمة كانت تتراءى حماسة الشعوب. وخلف ضعف الجيوش كانت تبرز جسارة القوى الضاربة.
فكأن التنظيمات السياسية والأيديولوجية قد جاءت لملء الفراغ. فقد أحيت نكبة 1948 في الأمة مفهوم الجهاد. وحررت هزيمة 1967 المبادرة الشعبية وأيقظت مفهوم التحرير. وفجرت معاهدة كامب ديفيد 1978 حركات المقاومة مع بداية الثمانينيات. وعلى طول تاريخ القضية الفلسطينية، كانت تتعايش أطروحتان: واحدة للمقاومة، وأخرى للسلام.
النكبةلقد وجدت الجامعة العربية نفسها بعد بضع سنوات من تأسيسها أمام أصعب اختبار لها: القضية الفلسطينية. لم يكن تأسيسها من أجل تحرير فلسطين، بل كان محاولة بريطانية لتجاوز ضغائن الخديعة البريطانية للشريف حسين.
فكان ميلاد الجامعة تعويضا عن دولة الوحدة بوجهيها القومي والإسلامي. ومن ثم لم تكن فلسطين على جدول أعمال تلك المنظمة الإقليمية الناشئة. ولا شك في أن عجز المنظمة وأنظمتها على معالجة المسألة منذ بواكيرها قد دفع نحو تدويل القضية. فكان قرار التقسيم نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 حجر الأساس للكيان الغاصب. لتندلع بعده إحدى أعتى المواجهات.
قررت الحكومات العربية في اجتماع "العالية" 1947 أن تكوّن فصيلا شبابيا حسن التدريب والأداء. وتولت جامعة الدول العربية تأسيس "جيش الإنقاذ" بقيادة فوزي القاوقجي. ولكن الضغط البريطاني كان كفيلا بإسقاط ذلك المشروع. وهو المصير نفسه الذي لقيته لجنتهم العسكرية بقيادة "طه الهاشمي" واللواء إسماعيل صفوت باشا.
إعلانوحتى النجاحات التي حققتها تلك الجيوش في الجولات الأولى للصراع ذهبت أدراج الرياح بفعل المناورات الغربية (الهدنة الأولى والثانية). فكانت نكبة 1948 فاتحة الهزائم العربية. إذ لم تكن الحكومات العربية في حجم القضية.
فما بين العجز الذاتي والارتهان للقرار البريطاني والخيانة الصريحة، كانت الحكومات العربية تُسقط من حسابها أي مواجهة جدية للأطماع الصهيونية في فلسطين، وتتنصل من مسؤولياتها القومية والإسلامية.
فقد خضعت أغلب الحكومات العربية لإرادة الغزاة. وظلت "تستجدي الحلول من القوى الإمبريالية التي كانت ولا تزال تشكل رأس حربة في أزمة القضية الفلسطينية".
ففلسطين لم تكن "المحرك الرئيسي لسياسات الدول العربية، بل كان الدافع وما يزال هو تأمين الأنظمة الحاكمة في الدول الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار". وتلك الحسابات كانت السبب المباشر في تأخير الاستجابة لداعي الجهاد في فلسطين.
التنظيمات الشعبية ونقد الدولةأمام عجز الأنظمة العربية كانت التنظيمات قبل النكبة وبعدها تدخل على خط الصراع. فكتب ميشال عفلق سنة 1946 يقول: "لا ينتظر العرب ظهور المعجزة: فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي". وساد اعتقاد لدى حسن البنا أن الأنظمة العربية ليست جادة في مقاومة الاحتلال.
وأكد كامل الشريف "أنه لا خير يرجى في هذه الحكومات". فالعوائق أو "المصائب" أو "العبث" الذي يجد ترجمته في فساد أنظمة الحكم القائمة، وهيمنة الاستبداد السياسي، واختلاف الدول العربية فيما بينها… كل تلك العوامل في تضافرها كانت "كافية لإيقاع الهزيمة".
وقد كان نقد الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية مقدمة لسحب القضية من الأنظمة ووضعها بين أيادي الفعاليات الشعبية المدنية والعسكرية. ففي فلسطين بادرت "الهيئة العربية العليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني بتشكيل قوات "الجهاد المقدس" بقيادة عبدالقادر الحسيني.
وخلال الأشهر الخمسة الأولى للحرب تمكنت تلك القوات من تكبيد العصابات الصهيونية خسائر فادحة. ولكن مع دخول جيوش الدول العربية فلسطين 15 مايو/ أيار 1948 "ظهرت سياسة إقصاء الفلسطينيين عن ميادين المعركة ومنع الأموال والأسلحة عنهم".
وقد جاء تقرير عبدالقادر الحسيني للجامعة العربية في أبريل/ نيسان 1948 يقطر مرارة وأسى بسبب خذلان لجنتها العسكرية التي ماطلت في إمداده بالمال والسلاح. وفي ذلك التقرير حمّل الجامعة مسؤولية ضياع فلسطين. ليستشهد بعدها بيومين في معركة القسطل.
أما عربيا فقد زحف المتطوعون العرب نحو فلسطين. وبرزت في الأثناء كتائب الإخوان المسلمين كقوة وازنة في الصراع. فرغم تضييق السلطات، نجحت طلائع الإخوان في التسلل إلى داخل فلسطين، حيث تمكنت قوة من المتطوعين بقيادة أحمد عبدالعزيز من الوصول إلى خان يونس. والتحقت بهم قوة أخرى من شرق الأردن بقيادة عبداللطيف أبوقورة. ثم حلت قوة أخرى من سوريا بقيادة زعيم الإخوان مصطفى السباعي.
وفي غزة استقرّت قوة البكباشي عبدالجواد طبالة. وعلى أرض فلسطين أدارت تلك الطلائع معارك ضارية ضد العصابات الصهيونية. وقد علق هيكل على تلك الاشتباكات بالقول: "لقد أثبت بعضهم نفسه تحت نيران القتال". وهكذا فقد كانت الجماهير العربية خلال النكبة متقدمة على حكامها.
إعلان النكسةلقد أجهزت قوات الاحتلال في صباح الخامس من يونيو/ حزيران على القوات الجوية المصرية بضربة خاطفة. فدمرت مئات الطائرات المصرية في قواعدها. وضربت المطارات وعطلت قواعد الصواريخ أرض-جو.
مشهد أجمله أنور عبدالملك في قوله: "كانت القوات المصرية المسلحة قد ضُربت بشكل خطير، واحتلت سيناء، وشلت قناة السويس، ومُحي سلاح الطيران عمليا كوحدة مقاتلة، وتفجرت أعمال الخيانة والإجرام والتآمر، وانتشرت في كل مكان". كل ذلك في سويعات معدودات. وبإخراج القوات الجوية المصرية من الخدمة، فقد تركت بقية القوات في العراء من دون أي غطاء جوي.
وجاء قرار الانسحاب غير المدروس من سيناء ليزيد من الكلفة البشرية للهزيمة. ومع انهيار الدرع الواقي الذي كان يحمي عمق الأمة، فقد أصبح عمق الجغرافيا العربية – فضلا عن أطرافه- مهددا. فزحفت قوات العدو نحو سيناء بعد أن دمرت بقية القوات المسلحة المصرية.
واندفعت نحو الضفة الغربية فاحتلتها واستولت على القدس الشرقية بعد أن انهارت الدفاعات الأردنية في اليوم التالي. وكذلك فعلت في قطاع غزة. أما القوات التي اتجهت نحو سوريا فقد "تمكنت من احتلال مرتفعات الجولان دون مواجهة أي مقاومة تتناسب مع القوات العسكرية الضاربة المحتشدة هناك".
ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن أحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على مساحات جديدة. وحسبنا من القراءات لتلك الكارثة المدمرة وصف هشام شرابي للهزيمة بـ "أيام حزيران السوداء". فكيف انعكست الهزيمة على الاختيارات النضالية للفلسطينيين؟
مثلت هزيمة 1967 منعطفا إستراتيجيا في الوعي السياسي الفلسطيني. وكان من نتائج الهزيمة "ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة وتعاظمها، وبروز الهوية الوطنية الفلسطينية التي قررت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن تبين لها مدى الضعف العربي". فقد قضت الهزيمة على إيمان الفلسطينيين بالحكومات "التقدمية" التي كانت معقد الآمال. "وأثبتت فشل الأنظمة العربية وعجزها عن تحرير فلسطين".
وينقل يزيد صايغ عن خليل الوزير أنه كان يرفض "الاعتماد على الدول العربية وجيوشها". وهكذا فقد ساعدت تلك البيئة على الاعتراف بالحركة الوطنية الفلسطينية كلاعب أساسي في الشرق الأوسط.
ويحسب للحركة أنها نجحت في "فرض نفسها كمعبرة عن الطموحات الوطنية للشعب العربي الفلسطيني". وهو ما أسهم في تشكيل الرؤى السياسية والميدانية للمنظمة. ففي المستوى الأيديولوجي قلبت حركة فتح ذلك الشعار الذي لطالما تغنى به القوميون العرب "الوحدة طريق فلسطين" إلى شعار "فلسطين طريق الوحدة". شعار ستتأسس عليه الكثير من التحولات التكتيكية والإستراتيجية. ومنذ أن استعادت منظمة التحرير المبادرة، اختارت الاستقلال السياسي والتنظيمي عن الجامعة العربية وأنظمتها.
وأما ميدانيا فقد بدأ مفهوم العمل الفدائي يتبلور كبديل من الحروب النظامية. وعلى تلك القاعدة كانت انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع 1965. وساد إجماع لدى أغلب الفصائل الفلسطينية مفاده أن تحرير الأرض لا يكون إلا عبر الكفاح المسلح. وهو المضمون المركزي الذي تبناه "الميثاق الوطني الفلسطيني".
وتفجرت سجالات سياسية حول نظرية التحرر الوطني من خلال دراسة النظريات الثورية وتجارب الشعوب المستعمرة. وهو ما أنتج مجموعة من الأدبيات دارت أغلبها حول حرب الشعب، وحرب التحرير الشعبية وغيرها.
وفي ضوء تلك الأدبيات جرى تأسيس عدة قواعد للعمل الفدائي في أغلب دول الطوق. وكانت ملحمة الكرامة 1968 ترجمة عملية لتلك التوجهات الجديدة. وهو ما زاد في ترسيخ النهج المقاوم حتى أصبح "الكفاح المسلح مصدر الشرعية السياسية ورمز الهوية الوطنية، والمادة الجديدة للمجتمع الفلسطيني المتخيل".
والحقيقة أن الأداء الفصائلي بعد الهزيمة لم يقطع الصلة تماما مع الأنظمة الراديكالية. فغالبا ما كانت التصورات الثورية تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تمر بها الأنظمة. ولكن رياح يونيو/ حزيران بقدر ما أذكت نار الاستنزاف، فقد هيأت للعبور.
إعلان حرب العبورلقد عرفت مصر بعد وفاة عبدالناصر تحولات سياسية مهمة. فالمناخات الراديكالية في مصر والعالم العربي بدأت في الضمور لصالح اتجاه عربي ميّال إلى "الاعتدال" في مقاربة الصراع. وكانت القناعة الحاصلة لدى السادات أن "تدمير الدولة اليهودية هدف غير قابل للتحقيق". وفي تلك السياقات لم تكن حرب العبور إلا عملية جراحية القصد منها الإعداد لمسرح التسوية.
مثلت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 أول انتصار مصري على قوات الاحتلال بعد ثلاثة حروب متتالية. فقد بدأ الهجوم المصري ظهيرة السادس من أكتوبر/ تشرين الأول على مواقع العدو في سيناء قصد تحييدها وحرمانها من أي قدرة على الرد أو الحركة قبل تحقيق العبور إلى شرق القناة. فكان "وقع المفاجأة بنوعيها الإستراتيجية والتكتيكية قد تحقق إلى نهايته".
ومنذ ليلة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عبرت من الجيش المصري نحو شرق القناة خمس فرق مشاة ومئات من الدبابات وعدد من كتائب الصواريخ وأسلحة إسناد أخرى.
استبشر الفلسطينيون بتلك التطورات الميدانية. واعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أن إعلان الحرب على دولة الكيان كان "فرصة عظيمة أمام الفدائيين الفلسطينيين لتصعيد فاعليتهم القتالية".
ولكن العبور لم يعقبه تطوير للهجوم المصري مثلما خُطّط له. فقد جرى الالتفاف على الانتصار المذهل للمصريين بداية الحرب. ومن خلال "الثغرة" التي أحدثها جيش الاحتلال في جدار المواجهة، بدأ في إحراز تفوق ملموس غرب القناة.
وكشفت تلك الأيام الصعبة عن انعدام التناغم بين المؤسسات. فقد أربك تدخل السادات في إدارة المعركة حسابات العسكر. وحكم على حرب العبور ألا تتجاوز خط العبور.
لقد آل النصر إلى لهاث لا ينقطع وراء سراب "السلام". وانتهى تحطيم جدار بارليف 1973 إلى هدم "جدار الكراهية الحديدي" 1977، مثلما كان يتوهّم السادات. فعوض البناء على "العبور" اندفع العرب نحو التسوية.
وقد أدرك كيسنجر مبكرا أن الإجراءات العسكرية التي اتخذها المصريون سوف "تؤدي آجلا أو عاجلا إلى مفاوضات سياسية". والحق أن مآلات العبور لم تكن مثل مآلات النكبتين. فهي لم تدفع إلى السطح بقوى جديدة تتناقض رأسا مع تصورات الأنظمة العربية للقضية.
بل إن كامب ديفيد قد فتحت الباب على مصراعيه نحو التسوية. فهي لم تكن إلا بداية الهرولة العربية نحو الصلح والاعتراف والتفاوض مع دولة الاحتلال.
وهنا تقول حقائق التاريخ إن منظمة التحرير الفلسطينية قد أضحت متماهية مع الرسمية العربية. وإن عرفات لم يكن مختلفا عن السادات. فكلاهما كان ينشد "التسوية". وإن اختلفت التكتيكات والإستراتيجيات.
لقد ظلت الهوة تتسع بين الأنظمة العربية وشعوبها في التعامل مع القضية الفلسطينية. فكلما وهنت الأنظمة قامت الشعوب تنشد التحرير من خلال المقاومة. فمن نكبة 1948 ولدت القوى الشعبية القومية والإسلامية. ومن نكسة 1967 صلب عود منظمة التحرير الفلسطينية.
ولكن حرب العبور كانت فاتحة للتسوية المعممة. تسوية ستستمر مفاعيلها من كامب ديفيد 1977 حتى أوسلو 1993، مرورا بقصر الصنوبر بالجزائر 1989. وردا على مشاريع التسوية كان أسلوب آخر من المقاومة ينضج على مهل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline