لجريدة عمان:
2025-12-14@22:19:08 GMT

الفلسفة في مواجهة التطرف

تاريخ النشر: 13th, January 2025 GMT

يؤدي التطرف في العالم العربي والإسلامي دورًا محوريًا في صناعة الأحداث السياسية والاجتماعية، ولم يبدأ الأمر في السنوات الأخيرة فحسب، بل كانت له امتداداته التاريخية السابقة. راح ضحيته الكثير من الأبرياء، وفي الجانب المقابل أيضا كان ضحيته الشباب المغرَّر بهم للالتحاق بالجماعات المتطرفة التي تخدم أجندة معينة.

في هذا السياق يأتي الدور المهم -الذي كثيرا ما يتم تجاوزه في العالم العربي- للعلوم الإنسانية، على الرغم من الدور الذي يمكن أن تؤديه في هذه المسألة، إذ إن العلوم الإنسانية قادرة -إذا لم تكن مجرد حشو معلوماتي «لأن رأسا وُضب بكيفية جيدة يبقى أفضل من آخر جد ممتلئ» كما يذكر الدكتور الطاهر سعود- على تحليل الواقع الاجتماعي وما يصاحبه من مشكلات وتقديرها بحيث يتم استباق ضربات المتطرفين بخطوة إذا كان هناك تحليل اجتماعي وواقعي جيد وبناء أكاديمي ومنهجي يتوافق مع العصر ولا يهمّش العلم الإنساني في سبيل إعلاء العلوم التقنية أو الطبيعية بحجة التنمية والتقدم وغيرها.

إن السبيل في تحقيق التقدم والتنمية الحقيقيين هو أن يكون العلمان يسيران بتوازِ مع بعضهما، دون إنقاص من واحد وإعلاء الآخر، لأن ذلك يحتم أن تكون هناك فجوة معينة يجب معالجتها، أما التوازن بين الاثنين وإعطاؤهما حقهما يمنح التطور المعرفي في المجتمع البشري.

واحدة من العلوم الإنسانية -بل أم العلوم كما يصفها ديكارت- المهمة في هذا السياق هي الفلسفة. تربي الفلسفة لدى الدارسين التفكير النقدي الذي يجعلهم يقيسون الأمور بمقياس العقل، وقد تكون النتيجة في المحصلة خاطئة لكنها على الأقل مرت بمرحلة تمحيص وتفكير، ولذا فإن احتمالية إعادة التفكير فيها مرة أخرى وبحثها أكبر من احتمالية بحث فكرة ترسخت في العقل دون نقدها في البداية، ولسنا نُعنى هنا بقياس أهمية الفلسفة لدى الدارس فذاك مبحث آخر بحاجة لزيادة تفصيل، لكن المعني هنا هو الإجابة عن سؤال: كيف يُمكن أن توضع الفلسفة في مواجهة التطرف؟

في مقال لها حول الموضوع، تطرح البروفيسورة أنجي هوبز مسألة التلقين وعلاقتها بصناعة التطرف، لذلك فإن الفلسفة تمنح مرانا عقليا للوصول إلى حالة من التفكير النقدي والتحليل والنظرة الواقعية للأمور، وقد يعترض على هذه المسألة بأن فيلسوفا كبيرا مثل هابرماس على الرغم من نتاجه الفلسفي، إلا أنه وصل إلى نتيجة مساندة إسرائيل، نقول: إن ذلك لا ينفي ما تمنحه الفلسفة من تفكير نقدي وتحليل، لكن لا يعني ذلك أيضا أن تكون موصلة للنتائج الصحيحة دائما، سواء كانت أخلاقية أو معرفية، لأن ذلك يتحدد بمدخلات أخرى متعلقة بالسياسة والسوسيولوجيا وغيرها، لكن في المنظور العام فإن التاريخ والواقع الفلسفي يشيران إلى أنها قادرة على زيادة التفكير النقدي بما يتناسب مع الوضع المعاش. وحتى من الجانب البراجماتي، فإن الحرب التي يعيشها العالم اليوم هي حرب أفكار، وتستخدم فيها أدوات كثيرة للسيطرة على الأفكار والخيال والسلوكيات، بما يتناسب مع أجندة الدول الكبرى وأيديولوجياتها، لذلك فإن وجود الفلسفة وربطها بالمكوّن الثقافي يُمكن أن يطور من آليات الدفاع الفكري عن النفس في مجابهة الأفكار المرسلة أو محاولة السيطرة على العقل دون أن يمر ذلك بعملية نقد أو تمحيص.

لخلق هذه الحالة من التفكير النقدي لدى جيل الشباب لابد أن تكون دراسة الفلسفة مقرونة بالمناهج المدرسية، إذ إن هذه الدراسة قادرة على صنع نوع من المعرفة بالتاريخ الفلسفي أولا ثم معرفة المفاهيم الفلسفية التي تكوّن معرفة بالمعقول بجانب المعرفة التقنية، عليه فإن صنع المناهج الفلسفية في المدارس يُمكن أن يبدأ من الصفوف الإعدادية (من الصف السابع إلى الصف التاسع) ويُمكن أن تكون هذه المرحلة معنية بالتاريخ الفلسفي المبسط على أن تكون بأسلوب ممتع وثري، وليس فقط حشوا معلوماتيا يجعل الطلاب يتهربون من دراستها أو استثقالها. فعلى سبيل المثال، جاءت رواية عالم صوفي لتؤسس مثل هذه المعرفة بطريقة روائية بسيطة وممتعة، تُعرّف القارئ بالتاريخ الفلسفي الغربي خصيصا، وقد أضاف لها الكاتب العماني محمد رضا اللواتي التاريخ الإسلامي أو الشرقي في روايته (البعد الضائع في عالم صوفي)، فيُمكن الاعتماد على مثل هذه الروايات المبسطة لبناء المناهج في هذه الصفوف المتقدمة من أجل دراسة مسلية للتاريخ الفلسفي. أما في المراحل الثانوية، وهو الحال في مناهج معظم الدول التي تعتمد مقرر الفلسفة حتى في دول الخليج، فيُمكن أن تكون المناهج في القسم الأدبي، على أن تكون المناهج مركزةً على النظريات المعاصرة والمفاهيم الفلسفية البسيطة المتعلقة بالتفكير النقدي والعلمي وكذلك بعض الوحدات في المنطق. وجود المنطق في المنهج يضفي بُعدا آخر من تقويم التفكير، إذ أن المنطق بما هو أداة لعصمة الفكر من الوقوع في الخطأ، كما أن النحو يعصم اللسان من الخطأ، يجعل التفكير الفلسفي يقوم على أدوات منطقية قادرة على تقويم الأفكار وتقييمها. وكما أسلفنا فيجب أن يكون هذا التعليم متناسبا مع روح العصر وأدواته في التدريس، فإن المنطق -على السبيل المثال- علم آلة وغالبا ما يكون ثقيلا على النفس، ولعل في هذا يُمكن قياسه بالنحو، فكثير من الطلبة يهرب من دراسة اللغة العربية بسبب ثقل علوم الآلة مثل النحو، لأن طرق التدريس تركز على العلم الحرفي الجامد دون ربطه بالمعاني أو بالصور الكبرى له، لذلك فإن دراسة المنطق يجب أن تربط بالمعاني وبالأمثلة الواقعية المعاصرة كما أنها يجب أن تكون سهلة دون تعمق كبير مثل تعمق الدارسين فيه.

هذه المرحلة من دراسة الفلسفة في المدارس، يجب أن توافقها أيضا دراسة الفلسفة في الجامعات، وقد كان هذا موجودا قبل إغلاق قسم الفلسفة في جامعة السلطان قابوس، لكن بعد أن تم ربط الدراسة في الجامعات بسوق العمل وبما يُمكن للتخصص أن يفيد سوق العمل، تم إغلاقه، وليس هذا هو المفترض في الدراسة الأكاديمية، إذ أن العلم يُتعلم لأجل ذاته لا لأجل استخدامه في الوظائف، وعلى الرغم من ذلك، فإن خدمة الفلسفة في سوق العمل يسيرة، فيُمكن أن تكون المناهج المدرسية خالقة للوظائف للمتخصصين في الفلسفة والمنطق، فضلا عن أن هذا يقود لزيادة التخصصات في الفلسفة، فيُمكن لبعض الدارسين التخصص في تدريس الفلسفة للأطفال (بي فور سي) أو غيرها من التخصصات. كما أن فتح الأقسام في الجامعات يُمكن أن يخلق وظائف أخرى، من معيدين ومحاضرين وأساتذة، في دائرة متكاملة، إضافة إلى إمكانية عمل المتخصصين في الفلسفة في المراكز البحثية سواء الخاصة أو الحكومية، وكل هذا ينصب في عملية البناء والتقدم، ولا يضر بها، بل على العكس، فإنه إذا تم تدريس الفلسفة بالطريقة الصحيحة مع وجود المتخصصين فيها والمهتمين بها، وفي حالة تأديتهم لرسالتهم العلمية، فإن هذا قادر على خلق تطور معرفي في المجتمع يُمكن أن يزيد من تسارع عملية التقدم والبناء.

في الأخير، في الخطاب السامي الأخير لحضرة صاحب الجلالة أكد على «استيعاب طاقات أبنائنا الشباب وفتح آفاق العمل والإبداع أمامهم ووجهنا مؤسسات الدولة المعنية بمراجعة منظومة التشغيل وربطها بالقطاعات الاقتصادية والاجتماعية»، ولذلك فإن من فتح آفاق الإبداع الفكري وربط منظومة التشغيل بالقطاعات الاجتماعية، أن يعود الطلبة لصفوف الفلسفة، بما يمنح الفلسفة فرصة لأن تكون حائطا منيعا-بالإضافة للأسباب الأخرى بالطبع- أمام صناعة التطرف، من خلال أدواتها، وما تشكله في العقل من تفكير نقدي، وتحليل ونظرة واقعية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التفکیر النقدی الفلسفة فی ی مکن أن أن تکون ذلک فإن فی مکن یجب أن

إقرأ أيضاً:

خطيب الأوقاف: التطرف الرياضي مذموم شرعا ويجعل صاحبه يستحل الحرام

قال الشيخ بلال رمضان، الخطيب بوزارة الأوقاف في مسجد الهادي البديع، إن التطرف الرياضي يحمل نفس السمات للمتطرف لحزب أو مذهب أو جماعة، فالتطرف مذموم كله مهما اختلفت صوره وأشكاله، وأبرز مخاطر التطرف الرياضي أنه يجعل صاحبه يستحل الحرام، فتراه يسخر من المخالفين ويطلق لسانه بالسب والقذف وهتك الاعراض. 

وأضاف بلال رمضان، في خطبة الجمعة اليوم، من محافظة الإسكندرية، أن الوسطية أبرز وأعظم خصائص الأمة الإسلامية التي تدفع أهلها إلى الالتزام بمنهج الإسلام، فيقيمون العدل ويحققون البر وينشرون المعروف ويعمرون الأرض.

النبي حذر من الغلو والتطرف

ولفت إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حذر من الغلو والتطرف بكل أشكاله وبكل صوره، لأن الغلو والتطرف والتعصب مرض إذا تفشى في مجتمع كان ذلك إيذانا لهلاكه وهوانا.

الوسطية أمر ثابت

ونبه على أن الوسطية أمر ثابت قرره القرآن الكريم في أكثر من آية وأكدت عليه سنة النبي في أكثر من حديث، مستشهدًا بقوله تعالى: «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» وقوله تعالى: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا» وقوله تعالى: «وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا».

وواصل: ولما سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها، عن أخلاق النبي فقالت "كان خلقه القرآن" منوها أن علماء الأمة وقفوا أمام هذه النصوص القرآنية والنبوية فجعلوها أساسا منه ينطلقون وبه ينطقون وإليه يرجعون ويحتكمون، جعلوها المنهج والوسيلة والأسلوب والغاية.

دعاء يوم الجمعة للرزق.. اغتنمه وردده الآن يصب الله عليك الخير صباعاطل يدعي تعرضه للتهديد بالشرقية.. الداخلية تكشف الحقيقة

وجاء نص خطبة الجمعة اليوم التي أقرتها وزارة الأوقاف في المساجد، كالآتي:-

   التطرفُ ليسَ فِي التديُّن فقط


الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، فطرَ الكونَ بِعَظَمَةِ تَجَلِّيه، وأنزلَ الحقَّ على أنبيائِه ومُرْسلِيه، نحمدُه سبحانَهُ على نعمةِ الإسلامِ، دين السماحةِ والسلامِ، الذي شرعَ لنا سُبلَ الخيرِ، وأنارَ لنا دروبَ اليُسرِ، وَنَسْأَلُه الهُدَى وَالرِّضَا وَالعَفَافَ وَالغِنَى، ونَشْهَدُ أنْ لَا إلهَ إِلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، ونَشْهدُ أنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وَحَبِيبُهُ، صَاحِبُ الخُلُقِ العَظِيمِ، النَّبِيُّ المُصْطَفَى الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَيهِ، وعلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَومِ الدِّينِ، وَبَعْدُ:

فالتطرفُ ليسَ ظاهرةً قاصرةً على النصوصِ الدينيةِ ، أو محصورةً في الزوايا الشرعيِّةِ ، بل هو انحرافٌ سلوكيّ ، واقتتالٌ فكريّ، يظهرُ حيثما يختلُ ميزانُ العدل ، ويغيبُ  سندُ الاعتدال ، فالغلوُ حالةٌ تنشأُ حينما يُصَادَرُ الفهمُ ، ويُهمل العقلُ ، فيظهرُ في أماكنِ العبادة ، وملاعبِ الرياضة ، والخلافاتِ العائلية، والنَّعَراتِ القبليَّة ، فالمتأملُ يلحظُ تشابهًا في الجذورِ،  وإنْ تباينتِ الألوانُ ، وتعددتِ المظاهرُ ، والتعصبُ لفريقٍ يحملُ سماتَ التشنجِ لمذهب، وكلاهُما مرضُ الذهن، وعلةُ البصيرةِ، التي تُحوِّل الاختلافَ إلى خصامٍ ، والرأيَ المخالفَ إلى سُمٍّ زُعَافٍ، فالآفةُ ليست في حكمٍ مُنَزَّلٍ ، ولا رأيٍ معتبرٍ ، بل في نفسٍ لَمْ تَتزِنْ، وعقليةٍ لَمْ تُوَجَّهْ ، وصَدَقَ اللهُ القائلُ في محكمِ آياتِهِ مُرسِّخًا لِرِسَالةِ التوازنِ والأمانِ: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾.  

سادتي الكرام: أَلَمْ يَكُنْ منهجُ النبوةِ عنوانهُ: «خيرُ الأمورِ أوسَطُها»؟،  أَلَمْ يُحذِّرْ الجنابُ المحمديُّ من الوقوعِ في مظاهرِ الغلوِ ودعاوى التعصبِ؟، لقد أضاءتْ تعاليمُ الإسلامِ بنورِها الوضَّاءِ، وحَمَلتْ أَخْلاقاً رصينةً وآداباً مَتينَة، وحَذرتْ من مزالقِ التطرفِ بِشَتى طرقِهِ وأصنافِهِ، فجاءتْ نصوصُ الوحيينِ صافيةً في دعوتِها، مُحْكَمَةٌ في غايتِها، تدعو إلى الوسطيةِ منهَجاً، والاعتدالِ سِراجَاً، فالإسلامُ يرسخُ فينا ميزاناً دقيقاً، يحفظُ للإنسانِ سكينَتَهُ وتوازُنَه، ويُجنِّبُه مغبةَ الانْدفَاعِ، وعواقبَ الانْقطَاعِ، حتى نكونَ شُهُوداً لله في الأرضِ على الحقِّ واليَقِين، لا على النِّزاعِ والتَّلوين، إنَّ هذا المنهجَ القويمَ يَتَجلى في أَبهى صُوَرِه، كَمَا أشَارَ إِليهِ الحقُّ سبْحانَهُ في وصْفِ عِبادِ الرَّحمنِ بقولِهِ سبحانه:  ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾.

أيها النبلاء: إنَّ الانتماءَ المحمودَ فِطرةٌ إنسانيَّةٌ أصيلة، واعْتِزازٌ بالمحَلِ والمنشأِ والأصل، فاعتزازُ المرءِ بِقَبيلتِهِ أو وطنِهِ دون أنْ يُقصِيَ الآخرَ فعلٌ محمودٌ، وغرضٌ مقصودٌ، فمتى تجاوزَ الحدَّ، يَصيرُ تَعصُّبًا أعْمَى أو حميةً جَاهِليةً مذمومةً تقودُ إلى الشقاقِ والمفاصلةِ، واستدعاءِ العُصْبَةِ للنِزاعِ والمغَالبةِ، ليتحولَّ بذلكَ منْ شُعُورٍ طبِيْعيٍّ بالوحدةِ إلى داءٍ مقيتٍ يَقطعُ أَوَاصرَ الإيمانِ والمحبةِ، ويَصرفُ عن الهدفِ الأًسْمى وهو التعارفُ والتَّكامُل، ويستبدلُ ميزانَ التقوى والحقِّ، الذي هو أساسُ التفاضلِ، بِباطلِ الأحقادِ ودواعي التفرقةِ، وقَدْ كانَ هذا السلوكُ الانْحرافيُّ دعوةً جاهليةً، بعناوينَ قَبَلِيَّة، استنكرها الجنابُ المعظَّمُ  أشدَّ الاستنكارِ وقال متسائلًا:  «َبِدعوىَ الجاهليةِ وأنا بينَ أظهرِكُم؟»

الخطبــة الثانية

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على خاتمِ الأنبياءِ والمرسلين، سيدِنا محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ، وبعدُ:

فالتطرفُ الرياضيُّ بمظاهرِهِ المُنْفلتَةِ، وبعصبيتِهِ المفرطةِ، هو انحرافٌ خطيرٌ عن سننِ الاعتدالِ، يضعُ صاحبَهُ في مواجهةٍ مباشرةٍ مع المحظوراتِ الشرعيةِ والآدابِ الأخلاقيَّةِ، والسلوكياتِ البغيضةِ التي تشملُ السخريةَ المهينةَ، والتنابزَ بالألقابِ المشينةِ، وإطلاقَ عباراتِ السبِّ والشتمِ، وصولًا إلى الاحتقارِ الذي يهدمُ أساسَ الأخُوَّةِ والكرامةِ،  ولا يقفُ الأمرُ عندَ الإيذاءِ اللفظيِّ، بل قد ينجرفُ هذا التعصبُ إلى ما هو أشدُّ وأخطرُ، من اشتباكٍ بالأيدي واعتداءٍ جسديّ؛ لتخرجَ الرياضةُ من إطارِها النبيلِ كوسيلةٍ للتنافسِ الشريفِ والترفيهِ المباحِ، وتصبحَ بؤرةً للخصومةِ والصراعِ المذمومِ، فالمؤمنُ الحقُّ المستنيرُ بتعاليمِ الوحي، يدركُ أنَّ حفظَ اللسانِ وصونَ الأعراضِ من أهم الثوابتِ التي لا يجوزُ المساسُ بها تحتَ أيِّ ذريعةٍ، فالرياضةُ في أصلِها لا يمكنُ أنْ تكونَ مسوغًا للتعدي على حقوقِ الآخرينَ، أو تجاوزَ ضوابطَ السلوكِ القويمِ، قال تعالى:  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.

أيها المكرمون:

اغْرِسوا في عقولِ شبابِ الأمةِ أن روحَ الشريعةِ الإسلاميةِ هي روحُ الألفةِ والوئامِ، فهي تُرَغِّبُ دائمًا في كلِ ما يجمعُ القلوبَ ويقيمُ الروابطَ، وتغرسُ في النفوسِ معاني الألفةِ بدلَ البغضاءِ والخصام، فالإسلامُ يقفُ موقفَ الرفضِ والتحذيرِ من كلِّ سلوكٍ يثيرُ العداوةَ أو يقطعُ وشائجَ العلاقاتِ الاجتماعيِّةِ، ويدعو إلى الاعتصام بحبلِ الوحدةِ ونبذِ الفرقةِ، فالتنازعُ يُبدّدُ الطاقاتِ، ويُضْعِفُ المجتمعاتِ، ويُذْهِبُ ريحَها، ويُوهِنُ قوتَها، فمهما كانت محبةُ المرءِ للرياضةِ، يجبُ ألا تُخرجَهُ هذه المحبةُ عن حدودِ الشريعةِ وواجباتِ الأخلاقِ وضوابطِ السلوكِ، فالرياضةُ كاشفٌ دقيقٌ لمعدنِ الخُلقِ الحقيقيِّ الذي يُظهِرُ مدى التزامِ الإنسانِ بضوابطِ الاعتدالِ، وعلاجُ التعصبِ الرياضيِّ يكمنُ في ضبطِ اللسانِ، واحترام المنافسِ، وتعميقِ الوعيِ بمقاصدِ الرياضةِ الأصيلةِ كأداةٍ لبناءِ الجسدِ والروحِ؛ ليظلَّ ميزانُ التفاضلِ هو التقوى والأخلاقُ الحسنةُ، لا التعصبُ الأعمى والانتماءاتُ الزائلةُ، قال تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ  وَاصْبِرُوا  إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.. اللهم احفظْ بلادَنا من كلِّ مكروهٍ وسوءٍ، وابسُط فيها بِسَاطَ اليقينِ والأمنِ والأمانِ.

طباعة شارك التطرف الرياضي التطرف الشيخ بلال رمضان الأوقاف خطبة الجمعة خطبة الجمعة اليوم

مقالات مشابهة

  • مدرب “الأخضر”: مواجهة المنتخب الأردني لن تكون سهلة.. وهدفنا بلوغ النهائي وإسعاد الجماهير
  • الفلسفة ليست ترفًا… بل مقاومة يومية ضد التفاهة
  • "سِفر عاديم"
  • كاكه حمه: من الأفضل أن تكون مباحثات تشكيل الحكومة مع الشيعة
  • التفكير في الطلاق.. الإفتاء تحذر الزوجين من اعتباره حلا لـ5 أسباب
  • الفجيرة تستضيف الملتقى الفلسفي لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية وبيت الفلسفة
  • نقابة العلاج الطبيعي تكرم نقيب الأشراف لدوره في محاربة التطرف
  • خطيب الأوقاف: التطرف الرياضي مذموم شرعا ويجعل صاحبه يستحل الحرام
  • موعد أذان الظهر.. موضوع خطبة الجمعة اليوم 12 ديسمبر 2025
  • دراسة: الأنظمة الغذائية النباتية قد تكون صحية للأطفال.. ولكن بشروط