د. أبوبكر الصديق على أحمد مهدي
المرحلة الأولي - علم اللاهوت ((Theology
أنا نجمة الصباح
عندما سطع ضوئي في كبد السماء
ومن ظلام دامس لم يتمكن ضوء آخر
أن يضاهيه أو يتسلط عليه...
"في الواقع، يجب أن يكون كل شخص لاهوتياً. وفي الحقيقة، كل شخص هو لاهوتي - بشكل ما أو بآخر، وهنا تكمن المعضلة. وليس هناك حرجاً في أن تكون لاهوتياً هاوياً أو لاهوتياً محترفاً، ولكن هناك المصيبة الكبرى والمعضلة العظمى في أن تكون لاهوتياً جاهلاً أو لاهوتياً قذراً.
"ما أعجب السير في الضباب!
الحياة وحدة..
فليس هناك انسان يعرف الآخر، كل انسان وحيد." Hermann Hesse
...انه... الضياع!
مقدمة
في هذه الحالة، يفترض العقل البشري، الذي يتابع الطبيعة الأساسية للوجود، والأسباب الأولى والنهائية (الأصل والغرض) لجميع التأثيرات -باختصار، المعرفة المطلقة- أن جميع الظواهر ستُصنع وتُخلق من خلال الفعل الفوري للكائنات الخارقة للطبيعة.
علم اللاهوت "Theo-God؛ - كلمة، تكلم، اقرأ، اكتب، فكر، ادرس". دراسة الاله أو دراسة الله، لماذا نحن كبشر نحتاج لأن ندرس الله؟ ندرس عن الاله من خلال كلمته "الكتاب المقدس أو الكتب المقدسة"، قد أظهر الاله نفسه لنا، وكشفها لنا، وعرفنا بها.
ولكن وبمجرد الخطيئة والسقوط، تنفصل البشرية كلها جمعاء عن الاله الخالق. وقد خاطبنا الله وتكلم معنا عن طريق الأنبياء ومن خلال الرسل، بالكلمات التي أراد أن يلخصها ويسلمها ويوصلها لنا لنعرفه ولنفهمه ولنؤمن به ومن ثم نعبده.
ونادى علينا ابن سيناء قائلاً:
نزل اللاهوت في ناسوتها
كنزول الشمس في أبراج يوح
قال فيها بعض من هام بها
مثل ما قال النصارى في المسيح
هي والكاس وما مازجها
كأب متحد وابن روح
تعريفات
1. أحياناً تكون الكلمة مقصورة على معناها الاشتقاقي، "خطاب يتعلق بالإله" "خطاب عن الله". لقد تم تسمية أورفيوس* وهوميروس* باللاهوتيين بين الإغريق لأن قصائدهم عالجت طبيعة الآلهة.
وقد صنف أرسطو العلوم تحت مظلات أو عناوين الفيزياء والرياضيات واللاهوت، أي أولئك الذين يتعاملون مع الطبيعة ومع العدد، وهؤلاء الذين يهتمون بالإله "الله".
فلنتوقف قليلاً لنري ونقرأ ونسمع ماذا قالت النحلة في أسطورة "أورفيوس والنِّحلة الأورفية"، في أصل العالم، وخلق الكون، وحقيقة الإنسان، لقد قالت:
في المبدأ كان الزمان، وهو المبدأ الأول.
ويروي إيديموس أن الليل هو المبدأ الأول.
ويذهب هيرونيموس وهيلانيكوس إلى أن المبدأ الأول هو الماء، تكوَّن منه التراب أو الطين، وهو الذي تجمَّد فيما بعدُ فأصبح الأرض. ومن الطين خرج الزمان.
وكان الزمان وحشاً مخيفاً في صورة ثعبان له رؤوس ثلاثة:
رأس ثور، ورأس أسد، ووجه إله بينهما.
وكان يُسمَّى أيضاً هرقل.
ونشأت مع الزمان الضرورة Ardastcia، وهي قانون القضاء والقدر الذي يُسيطر على الكون بأسره ويضم أطرافه.
ثم أنجب الزمان: الأثير (الهواء)، والعماء Chaos، والظلام Erebus، أو كما تُحدِّثنا الأسطورة: الأثير، ثم خليج هائل من الماء، يُحيط بهما الظلام.
ثم يُشكِّل الزمان بيضةً في الأثير، وتتفتح البيضة فيخرج منها فانس أو النور Phanês.
وفي رواية أُخرى أن البيضة انفلقت نصفَين فصار أحدهما السماء، والآخر الأرض.
وفي رواية ثالثة أن القشرة ذهبت فأصبحت قبة السماء، واتحد الأثير مكان الغرقى. أمَّا المُحُّ الذي يُمثِّل الخصب فهو السحاب. وهكذا!
2. ويُنظر إلى علم اللاهوت باستمرار، وبصورة دائمة، على أنه علم ما وراء الطبيعة. ومع ذلك، ما هو الخارق للطبيعة؟ وتعتمد الإجابة عن هذا السؤال، على المعنى المرتبط بمصطلح الطبيعة.
فإذا كانت الطبيعة تعني الكون الخارجي، وهذا الكون محكوم بقوانين ثابتة، فإن أرواح البشر، والكائنات الروحية الأخرى، لا يتم تضمينها أو احتواؤها تحت مظلة أو عنوان هذا المصطلح.
وفي مثل هذا الاستخدام لمصطلح الطبيعة ومفهومها، يتوافق ما هو خارق للطبيعة مع الروحانيات واللاهوت، ومثال لذلك علم الخوارق. وإذا نجح هذا الرأي، فسيصبح علم النفس أحد فروع علم اللاهوت، وعلى اللاهوتي، على هذا النحو، وفي هذا المسار، تدريس وتعليم الفلسفة الفكرية.
3. ومصطلح الطبيعة، مع ذلك، يستخدم بانتظام، وبمعنى أوسع، لاحتواء وتضمين الإنسان. وهذا يعني أن لدينا عالم طبيعي وروحي أيضاً. وعلاوة على ذلك، فإن الطبيعة الخارقة تحوِّل الطبيعة بهذا المعنى بحيث يصبح ما هو خارق للطبيعة جوهرياً أيضاً هو قوة بشرية خارقة أو خارق بشرياً.
ومع ذلك، فهو ليس ملائكياً في الأصل ولا في الأساس. ومرة أخرى، قد تعني الطبيعة كل شيء خارج عن الاله.
إذاً، ما هو فوق الطبيعي، حتماً هو لاهوتي أو ديني، والاله هو القضية الشرعية الوحيدة في علم اللاهوت، أو في العلم الديني. ومع عدم وجود طعم أو مذاق للكلمة، فإن علم اللاهوت هو علم ما وراء الطبيعة.
يقول هوكر2 (Hooker2)، "اللاهوت هو علم الأشياء المقدسة." وإذا كان يقصد بالأشياء المقدسة، أو "أشياء الاله"، الأشياء التي تهم الاله، فإن اللاهوت يقتصر على "الحديث عن الاله، عن الله". وإذا قال العناصر التي يعرضها الله ويطرحها، بناءً على تشبيه عبارة "أشياء الروح".
4. التعريف الواسع لعلم اللاهوت، ولا سيما في وقت النهار، هو أنه علم الدين. ومصطلح الدين، مع ذلك، غير واضح، وغير مفهوم بصوره شاملة. وأصله مشكوك فيه.
ويُنظر إلى "الدين"، على أنه حفظ ومراعاة الورع، لا سيما ما يشير إلى عبادة الله وخدمة الله. فالأديان والمتدينين مخلصين وأصحاب ضمير. وكلمة "ديني"، بمعناها الجيد الخير، مشابهة لمصطلحنا الديني بمعناه الشرير، فهذا وهذا يعنيان الأساطير وأيضاً يعنيان الخرافات.
أما فيما يتعلق باللاهوت الطبيعي، فهناك وجهتا نظر متعمقات. الأولي هي أن أعمال الطبيعة لا تقدم أو تطرح إعلاناً صادقاً عن كيان الله وكماله؛ والأخرى، أن هذا الكشف واضح جداً، وشفاف جداً، وشامل تماماً، بحيث يستبعد جوهر أي وحي خارق للطبيعة.
اذن، "علم اللاهوت هو" علم الأشياء الإلهية". وهي تنبثق من كلمتين يونانيتين: "Theos" والتي تعني "الاله" و "logia" والتي تعني "الخطاب أو الكلام".
ومسار المعرفة، في الأزمنة المعاصرة، هو الذي ينوع السعي العلماني للمعرفة من المحدودية بسبب نقطة البداية: تبدأ جميع التحقيقات أو الدراسات الزمنية بالعقل وبالخبرة، بينما يبدأ اللاهوت بالإيمان.
من وجهة النظر الأكاديمية والمهنية، اللاهوت هو النظام الذي يسعى إليه شخص مهتم بالانضمام إلى الخدمة المسيحية أو غير المسيحية، دعونا نقول عنها الخدمة الدينية، بدوام كامل، بعد أن استشعر دعوة الله.
... وعوض الكريم موسى، لا يمل من ترديد انشودته عن الله في نشوة وفي خشوع...
... الله هنا..... الله الآن
.. يوم الدينونة.. فينا آن
وأتى يسعى.. وهو المسعي
وله رجعى... كل الأكوان
وهو المولى... وهو الأولي
كان الأعلى.. والأعلى كان
كنز اللاهوت.. إرث الناسوت
وله الرهبوت... وهو السبحان
هذا الخفاق... مثوى الإطلاق
سر الآفاق.... أنس الإنسان
معنى علم اللاهوت
بالنسبة لنا، حضور الله ووجوده هو القبول العالي والرفيع لعلم اللاهوت. فلا طعم ولا مذاق للحديث عن الاله، وعن معرفة الاله، إلا أنه قد يبدو أنه حاضر وأنه موجود بشدة. ويعتبر قبول اللاهوت المسيحي من النوع الخاص الاستثنائي.
والافتراض ليس فقط أن هناك شيئاً ما، أو فكرة ما أو نموذجاً ما، أو قوة أو اتجاهاً محدداً، من المحتمل أن ينفذ اسم الاله. وبالأحرى، هو كائن فردي قائم بذاته، وواعي بذاته، وهو مصدر كل الأشياء، ويتجاوز الخليقة بأكملها، ولكنه في نفس الوقت متأصل في كل جزء منها.
ويمكن إجراء التساؤل حول ما إذا كان هذا افتراضاً منطقياً، وقد يكون لهذا السؤال إجابة في المقابل. ومع ذلك، فإن الافتراض لا يعني أبداً أن وجود الاله هو إنجاز لإثبات منطقي، لا يترك وراءه مجالاً أو حيزاً للشك.
ومع ذلك، فهذا لا يعني أبداً أنه بينما يمكن الوصول إلى حقيقة وجود الاله أو وجود الله عن طريق الإيمان، فإن هذا الإيمان يعتمد على معلومات موثوقة. بينما يعتبر اللاهوت المصلح وجود الاله افتراضاً عقلانياً بالكامل، فإنه لا يدعي القدرة على إثبات ذلك من خلال الجدل المنطقي.
يتحدث الدكتور كويبر (Dr. Kuyper) على النحو التالي عن محاولة القيام بذلك: "محاولات إثبات حضور ووجود الاله، إما أن تكون غير مثمرة أو غير فعالة. ومن غير المجدي أن يعتقد الباحث أن الاله هو جائزة لمن يسعون وراءه"...
و... أنا الذي من بدء الخليقة
.. الي اليوم.. أسحب ورائي
جميع جثث الماضي وكل الدماء
.. واضطهادات الزمن والتاريخ
آلاف جروح أحدثتها السيوف والرماح
تلك التي غرسوها في فؤادي...
... وللسيرة سلسلة متتابعة من الحلقات...
* أورفيوس باليونانية: (Ὀρφεύς) وهو كاتب وموسيقي أسطوري إغريقي ونبي في الديانة اليونانية القديمة وفي الميثولوجيا الإغريقية.
* غذت ملاحم هوميروس وغيرها من القصص الميثولوجية الأخرى الأدب في مراحل اليونان القديمة والكلاسيكية والهلنستية.
bakoor501@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: عن الاله من خلال ومع ذلک مع ذلک الذی ی
إقرأ أيضاً:
في اليوم الذي يسمونه يوم القدس
في اليوم الذي يسمونه "يوم القدس"، لا يتم الاحتفاء بالقدس وإنما تتعرض البلدة القديمة للتدنيس، حيث تتحول مسيرة العلم الإسرائيلي، التي تنظم سنوياً تحت راية الفخر القومي إلى مشهد من مشاهد الكراهية التي لا حدود لها.
وهذا العام انحطت إلى قعر الخسة والفجور.
أوردت صحيفة هآريتز أن الفتيان الإسرائيليين انطلقوا في مسيرة عبر الحي الإسلامي وهم يهتفون "الموت للعرب"، "امسحوا غزة"، "لا توجد في غزة مدرسة، لم يبق فيها أطفال". كانت صواري الأعلام تدق في الأبواب العتيقة، بينما ينهال المشاركون في المسيرة بالسباب والشتائم على النبي محمد ويسخرون من ذكرى فلسطين.
لم يُلق القبض على أحد بتهمة التحريض.
في يوم القدس يتم فعلياً تجميد قانون التحريض، وتصبح الكراهية سلوكاً تحض عليه الدولة. ما تنطلق به الحناجر من شعارات ليس هتافاً موجهاً ضد حماس، وإنما إعلان حرب على العرب والمسلمين – وعلى روح المدينة نفسها.
وعلى النقيض من المزاعم بأن هذا من فعل مجموعة هامشية، تبدو الحقيقة أكثر بشاعة. فكما يلاحظ صحفي هآريتز نير حسون، الهاشميون ليسوا العنصريين، وإنما أولئك الذين يرفضون الانضمام إليهم.
وحتى المنظمات المتحالفة مع التيار اليميني السائد، مثل إم ترتوز المنتسب إلى الليكود، انطلقت عناصرها وهي ترفع لوحات كتب عليها "لا نصر بلا نكبة". تلقى مسرح الكراهية هذا تمويله بشكل مباشر من بلدية القدس، التي خصصت 700 ألف شيكل (ما يعادل 200 ألف دولار) – بدون مناقصة عامة – لدعم منظمي المسيرة.
الغزو والتطهير
هذه ليست فورة عاطفية، وإنما عقيدة قيد التطبيق، واستعراض للاهوت يقوم على الاعتقاد بالتفوق العنصري على الآخر، تتواجد في القلب منه رؤية تنبؤية ليس من أجل إقامة السلام أو التعددية وإنما من أجل الغزو والتطهير.
من أبرز مهندسي هذه الرؤية الحاخام إسحق غينزبيرغ، الأب الروحي لما يسمي "شباب رؤوس التلال"، وهي مليشيا مكونة من المستوطنين، تمارس العنف قتلاً وإفساداً في مختلف أرجاء الضفة الغربية. يشيد غينزبيرغ علانية بباروخ غولدستين الذي ارتكب مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل في عام 1994 وأزهق أرواح 29 فلسطينياً بينما هم ركوع في صلاة الفجر بالحرم الإبراهيمي. بل نشر غينزبيرغ كتابات يحض فيها على قتل نساء وأطفال غير اليهود.
وكان غينزبيرغ قبل عقدين اثنين من الزمن قد ألقى خطبته الشهيرة بعنوان "حان الوقت لكسر الجوزة"، حيث شبه إسرائيل بثمرة محاطة بأربعة أغلفة – تتكون من الدولةل العلمانية ومؤسساتها – كانت لها من قبل غاية ومبررات، ولكنها باتت الآن عقبة تعيق الخلاص.
أعلن في خطبته أنه ينبغي تدمير هذه الأغلفة، ألا وهي الإعلام، والقضاء، والحكومة، والميثاق الأخلاقي للجيش. فقط من خلال القضاء عليها يمكن أن يبرز اللب الخالص للتفوق اليهودي ويمكن للعهد المهدوي أن ينطلق.
هذه ليست حالة من الفوضى وإنما عملية منظمة قيد تنفيذ.
إن الهتافات التي تردد صداها في طرقات القدس هذا العام لم تكن تشوهات، بل أعراضاً لمنظومة تخلصت من رداء الديمقراطية العلمانية. وما تبقى منها غير قومية عرقية ومهدوية معراة، رؤيتها مستمدة من سفر الرؤيا، وتوجهاتها تشي بارتكاب الإبادة الجماعية.
من الوزراء اليمينيين المتطرفين إيتامار بن غفير وبيزاليل سموتريتش، لم تعد النزوة مقصورة على الهمس، بل باتت تذاع على الملأ. في هذه الأثناء، انطلق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عبر نفق "طريق الحاج" تحت المسجد الأقصى، معلناً أمام طلاب المعاهد الدينية اليهودية: "سوف تنطلقون من هناك وتخرجون [إلى الهيكل]."
إلا أن سموتريتش، كعادته، كان أكثر صراحة، فقد أعلن في نفس ذلك اليوم، متحدثاً أمام جمهور من الأتباع المتحمسين: "بعون من الرب، سوف نوسع حدود إسرائيل، ونحقق الخلاص التام، ونعيد بناء الهيكل ههنا."
إن الدعوة إلى بناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى ليست مجرد انتهاك للوضع القائم، وإنما هي إعلان شامل للحرب الدينية، الأمر الذي يتبدد معه وهم التعايش، وذلك أن المشروع الصهيوني ليس إعلان حرب على المسلمين فقط، وإنما هو حرب معلنة على المسيحيين كذلك. ها هو الوجود المسيحي في القدس – بكل عراقته وأصالته وقدسيته – يتعرض للاستئصال بشكل منتظم.
حقبة جديدة
في وقت مبكر من عام 2023، أي قبل شهور من السابع من أكتوبر، حذر زعماء الكنائس من الهجمات المتصاعدة، ومن الاستيلاء على الأراضي، ومن الحصانة من المساءلة والمحاسبة التي تمنح لمن يرتكبون ذلك.
أعلن الأب دون بيندر، من كنيسة القديس جورج، قائلاً: "إن العناصر اليمينية المتطرفة عازمة على تهويد البلدة القديمة." أما الكاردينال بيتزابالا فقال إن عام 2024 كان "أسوأ فترة عشتها على الإطلاق." وبحلول عام 2025، مُنع المسيحيون من حضور الصلوات في عيد الفصح، وارتفع منسوب المضايقات التي يواجهونها والاعتداءات التي تتعرض لها ممتلكاتهم وأعمال التخريب. وغدا البصق على المسحيين روتينا، بحث عليه بن غفير ويصفه بأنه "تقليد يهودي".
هذه ليست أعمالا معزولة، بل جزءا من حملة منظمة. فالصهيونية لا تسعى فقط إلى الهيمنة على المدينة، وإنما إلى مسح خصائصها العربية والإسلامية والمسيحية كذلك.
ما نشهده ليس مجرد عنصرية، بل تهويد، مشروع الغاية منه إعادة تشكيل المدينة لتجسد عقيدة التفوق العرقي اليهودي.
ومع ذلك ثمة نموذج آخر ينبع لا من القهر بل على التعايش. في القرن السابع، كانت القدس المدينة الوحيدة التي شد إليها الخليفة عمر بن الخطاب الرحال لتسلم مفاتيحها، نزولا عند طلب زعيمها الديني المسيحي البطريرك صوفرونيوس. رفض عمر الصلاة داخل كنيسة القيامة خشية أن يراه المسلمين فيستحوذوا عليها لاحقا، وأدى الصلاة بدلاً من ذلك بتواضع على الدرجات في الخارج، ثم ألصدر مرسوماً بتحريم مصادرتها.
بل سمح العهد الإسلامي الجديد في القدس لليهود بالعيش في المدينة بعد أن كان ذلك محظوراً عليهم لعقود تحت الحكم البيزنطي. في كتابه بعنوان "التاريخ المقتضب لإسرائيل"، يلاحظ المؤلف بيرنارد ريتش أنه "منذ بداية الحكم الإسلامي، استؤنف التواجد اليهودي في القدس، ومُنح المجتمع اليهودي الإذن بالعيش تحت "الحماية"، وهو الوضع المتعارف عليه لغير المسلمين في ظل الحكم الإسلامي، والذي يصون حياتهم وممتلكاتهم وحريتهم في العبادة، مقابل دفع جزية خاصة وضرائب على الممتلكات."
بعد ذلك بقرون، وفي ظل تنازع الطوائف المسيحية على أحقية الإشراف على الكنيسة، عهد السلطان صلاح الدين بمفاتيح نفس تلك الكنيسة إلى عائلتين مسلمتين، آل جودة وآل نسيبة، ظلتا على مدى 850 عاماً هما من يفتح ويغلق أبوابها بكل إخلاص ونزاهة.
"القلق الصليبي"
هذه هي القدس كما ينبغي لها أن تكون، مدينة الأمانة لا الهيمنة، والتوقير لا التطهير.
إلا أن المعركة على روح القدس لم تنته، بل إنه الصراع الأكثر رمزية على الإطلاق، بين الغزاة وأهل البلاد، بين دعاة الإقصاء ودعاة الاستيعاب، بين عقيدة استيطانية استعمارية تعبد النقاء الخالص عبر العنف، ومدينة كانت عظمتها ذات يوم ثمرة تعدديتها المقدسة.
ثمة تشابه مع الحروب الصليبية. ففي عام 1099، اجتاحت جيوش الصليبيين القدس وذبحت الآلاف من المسلمين واليهود. واليوم، ها هم الصهاينة يرددون نفس منطق الصليبيين، ويستعيدون صورهم، وينهجون سبيلهم. من إيماءات نتنياهو حول الهيكل إلى عقيدة الإبادة التي يحملها غينزبيرغ، ها هي الصليبية تنبعث من جديد.
إلا أن ممالك الصليبيين تهاوت. فقد حرر صلاح الدين القدس من الصليبيين بعد ثمانية عقود من الاحتلال، وانهارت المغامرة الصليبية بأسرها خلال قرنين، تاركة خلفها ندوباً عميقة، وفي نفس الوقت عزماً قوياً وثابتاً على مقاومة الغزاة.
يشعر الجنود الإسرائيليون أنفسهم بهذه المقارنة. كتب المؤرخ ديفيد أوهانا يقول إن "القلق الصليبي" يطارد النفسية الإسرائيلية – إنها الخشية الدفينة من أن الصهيونية، كما كان حال سلفها في القرون الوسطى، قد تنتهي ذات يوم وكأنها لم تكن من قبل. وهذا حق، لأن القدس لا تجوز لمن ينتهكون حرمتها.
قد تحترق غزة، وقد تنزف الضفة الغربية، ولكن تبقى القدس هي درة التاج. مهما بلغ توحش الصهيونية، فإنها لن تتمكن من طمس ما تشكل بفعل التاريخ والجغرافيا والعقيدة. تعيش فلسطين في قلوب الملايين، والقدس ليست على الهامش من ذلك، بل إنها تتربع في القلب من العالمين العربي والإسلامي.
مهما حفر الصهاينة من أنفاق، ومهما رفعوا من أعلام، ومهما بثوا من أحقاد، سوف يستمر الفلسطينيون في الإنشاد، كما غردت ذات يوم المغنية اللبنانية المسيحية فيروز "يا قدس، يا مدينة الصلاة. عيوننا إليك ترحل كل يوم. تدور في أروقة المعابد، تعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد .... وبأيدينا سنعيد بهاء القدس، بأيدينا للقدس سلام."
قد تكون مسيرة الكراهية صاخبة اليوم، ولكنها سوف تصمت يوماً لا محالة. وفي ذلك اليوم سوف تتحرر القدس من الاحتلال ومن الغلو ومن العنصرية، وسوف تعود إلى أهلها، لم تنكسر روحها، ولم تُنتقص قدسيتها.