ما الذي يمكن أن تغيره انتصارات سوريا وغزة بالمشهد المصري؟
تاريخ النشر: 19th, January 2025 GMT
في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، نجحت المعارضة السورية في الإطاحة بحكم بشار الأسد الذي فر إلى روسيا وتولى رئيس هيئة تحرير الشام أحمد الشرع الإدارة الجديدة، التي لاقت اعترافا دوليا وتلقت اتصالات واستقبلت وفودا من أغلب دول العالم، وبينها السعودية والإمارات ومصر على مضض.
كما أنه وبعد نحو 470 يوما من حرب الإبادة الدموية الإسرائيلية على قطاع غزة نجحت المقاومة الفلسطينية في فرض هدنة بوساطة دولية على الكيان المحتل، تبدأ الأحد، في تطور اعتبره مراقبون خضوعا من تل أبيب وانتصارا للمقاومة، وهزيمة لمحور التطبيع العربي.
وهو ما عبر عنه الكاتب الصحفي وائل قنديل في مقال له، بعنوان: "انتصار غزّة... هزيمة العرب"، مؤكدا أن انتصارها حال "دون سقوط ضحايا جدد في بئر التطبيع"، وأعاد "إعمار الروح العربية".
سياسيون ومعارضون ونشطاء مصريون تحدثوا لـ "عربي21" عن ما يمكن أن تغيره انتصارات سوريا وغزة بالمشهد المصري، واحتمالات أن يغار النشطاء والمعارضين المصريين مما حققته معارضة سوريا، وما تلى نجاحها من خضوع الإمارات والسعودية ومصر للأمر الواقع.
وأشاروا إلى تأثير الظروف الإقليمية والدولية على الحالة المصرية ومدى قبول العالم لمصر ولرئيس نظامها عبدالفتاح السيسي بما قبله لبشار الأسد وسوريا، مشيرين إلى معوقات تكرار المعارضة المصرية انتصارات سوريا وغزة.
ورصدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقريرها السنوي، انتهاكات النظام المصري في حقوق الإنسان، مؤكدة أن حكومة السيسي دخلت عقدها الثاني في السلطة وسط مواصلة سياسة القمع الشامل، باعتقال ومعاقبة المنتقدين والنشطاء السلميين بشكل ممنهج، وتجريم المعارضة السلمية.
"أضعف من الأسد والكيان"
وفي تقديره لما يمكن أن تغيره انتصارات سوريا وغزة بالمشهد المصري، قال السياسي المصري أحمد عبد العزيز،إن "انتصار الثورة السورية، بإزاحة جزار الشام الطائفي بشار الأسد، وانتصار المقاومة الفلسطينية على عدد من القوى العظمى بالعالم، وإرغام العدو الصهيوني على الخروج من غزة بشروط المقاومة، حدثان عظيمان فارقان".
المستشار الإعلامي للرئيس الراحل محمد مرسي، أضاف لـ"عربي21" أن ما حصل في سوريا وغزة "جاء بعد إحباطات وانكسارات متتالية دامت لأكثر من عقد؛ إذ رفعَ الحدثان كثيرا من معنويات المصريين، وأحيَيَا بنفوسهم الأمل بإمكانية الخلاص من سلطة الانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب الدكتور مرسي، فلا نظام السيسي أقوى من الأسد الذي أخضع السوريين 60 عاما، ولا أقوى من الكيان الصهيوني وداعميه مجتمعين".
وتابع: "قطعا يغار المصريون من أشقائهم السوريين، وأرجو أن يستفيد مناهضو الانقلاب في مصر من تجربة الثورة في سوريا، مع الإدراك الكامل لاختلاف البيئتين، السورية والمصرية، في كثير من الأمور الجوهرية؛ من حيث الجغرافيا، والطبوغرافيا، والتركيبة الاجتماعية، وإمكانية العمل المسلح من عدمه... إلخ".
وفي تقديره لما يمنع المعارضة المصرية من تكرار انتصارات سوريا وغزة، قال: "إذا بقي مناهضو الانقلاب في مصر يصرون على وصف أنفسهم بـ(المعارضة) فلا يمكنهم أن يحذوا حذو الأشقاء السوريين والغزيين".
وأوضح أن "المعارض لا يجوز له الخروج على النظام الذي يعارضه؛ لأن المعارضة هي الوجه الآخر للنظام الذي يتطلع للوصول إلى السلطة عبر الوسائل الدستورية".
وواصل: "أما (الثائر) فهو لا يعترف بالنظام القائم، وإنما يسعى، بكل الوسائل الممكنة لإسقاطه؛ لأن هذا النظام (في نظر الثائر) أخل ببنود العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين السلطة والمجتمع، ومن ثم فهو نظام خارج على الدستور والقانون، أي فاقد للشرعية".
وفي نهاية حديثه، يعتقد أن "واجب الوقت على المعارضة المصرية الآن، أن تتخلى عن وصف (المعارضة)، وتنتهج مسار الثورة".
"عواصف تغيير وجب استغلالها"
وفي قراءته، قال الباحث السياسي يحيى سعد: "بلا شك سيكون لما حدث بغزة وسوريا انعاكسات وارتدادات على المنطقة كلها"، مضيفا لـ"عربي21" أن "سنة التدافع سنة كونية فضلا عن كونها سنة إلهية حتى لا تفسد الأرض".
وتابع: "كما أن الأحداث الكبرى في التاريخ تؤثر بوجدان الشعوب وتغير من قناعاتها وميولها وثقافتها"، مؤكدا أن "الثورات فعل اجتماعي يرتبط طرديا بدوافع اجتماعية واقتصادية وسياسية، كما أن الشعوب تراقب التجارب المجاورة وتتعلم منها".
ولفت إلى أن "ما حدث في 2011 يصدق على تلك النظرية؛ حيث انتقلت شرارة التغيير التي انطلقت في تونس إلى أقطار أخرى كمصر وليبيا واليمن وسوريا".
وأكد أن "الروح واحدة، والغاية واحدة، وهي التخلص من الاستبداد والتبعية، والتطلع نحو الحرية والكرامة والعدالة وامتلاك الإرداة؛ غير أن الوسائل والآليات تحكمها اعتبارات كثيرة ومعقدة".
ويرى أن "كل ما تشابهت ظروفه وتوفرت معطياته يمكن أن يُستنسخ، والعكس صحيح؛ فربما نجحت تجربة في قطر من الأقطار لتوافر معطياتها ولكن لم تنجح في قطر آخر لانعدام تلك الظروف والمعطيات".
وختم بالقول: "نحن أمام موجة جديدة من رياح وعواصف التغيير، ومن لم يستثمرها ويحسن إدارتها من الطامحين إلى التغيير فلا يلومن إلا نفسه وعجزه".
"طرق التغيير ثلاثة"
وأكد السياسي المصري والقيادي في حزب "الأصالة" حاتم أبوزيد، أن "جديد مشهد الذكرى هذه المرة أنه يأتي مصحوبا بحالة تفاؤل عارمة بعد نجاح الثورة السورية في الإطاحة بالنظام الحاكم، وتعززت بنجاح غزة في معركة الصمود والتصدي للعدوان الصهيوني".
وأضاف لـ"عربي21": "إضافة لحالة بؤس يحياها الشعب نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية وسوء الإدارة، أو بالأحرى أن الإدارة لا تراهم من الأصل"، ملمحا إلى أن "واقع حال المعارضين والحالمين بالتغيير يشير إلى أنه لا جديد لديهم سوى المراهنة على لحظة انفجار الغضب المكتوم والظلم المتراكم".
وقال: "كثيرون يتحدثون عن التغيير والثورة، ولكن لا أحد يجيب بوضوح عن السؤال: كيف يتم ذلك؟"، مؤكدا أن "التغيير سواء كان للأسوأ أو الأفضل له 3 طرق، الأولى: بالنظم المستقرة المتوافقة مع مواطنيها وشعوبها؛ ويجري عبر الانتخابات، وهذا طريق مغلق في مصر لما يزيد على 75 عاما".
وبين أن "الانقلاب الأخير وتصرفاته تؤكد على استمرار ذات النهج"، موضحا أن "الذهاب إلى خيار الانتخابات أو إجبار النظام على الخوض فيه بطريقة عادلة؛ فبقدر ما يحتاج لجهد وبناء داخلي فهو بحاجة أكبر لرضا دولي وإقليمي، ومن ثم ففي الغالب هذا التغيير لن يكون المأمول".
ويرى أبو زيد، أن "الطريق الثاني: طريق الثورة الشعبية الجماهيرية العارمة، وهو يحتاج لقيادات وزعامات ذات فكرة أيديولوجية متصالحة مع أغلبية الجمهور وقادرة على التواصل معهم وبناء حالة من الوعي، تدفعهم للنضال والتضحية".
ولفت إلى أن "الحالة السورية ظلت أعواما تناضل وتقاوم، والفعل الفلسطيني الذي صبر على الأدواء أكثر من 15 شهرا لم يكن وليد لحظة بل سبقه عمل وصبر وتضحيات، فالنجاحات ليس مردها للتفاؤل أو البذل في ساعة من نهار، بل نتاج جهد وعمل ومتواصل".
وأشار إلى ضرورة "النظر في التجارب والاستفادة منها، لأن العمل الثوري يحتاج لجهد ووقت وتخطيط حتى يؤتي ثماره، ويحتاج إلى جماهير مؤمنة بما تعمل ولديها وعي حتى تثبت في الانكسارات، وتصبر على الشدائد".
وعن الطريق الثالث، قال السياسي المصري أنه "التغيير عبر التسلل لمؤسسات القوة واستخدامها في انتزاع السلطة بالقوة، وفي النهاية بصورة أو أخرى ستضطر القوى الإقليمية والدولية للرضوخ بقدر ما أمام الحالة الجديدة".
وأكد أن "السلطة إما أن تُنتزع بقوة الجماهير أو بسطوة السلاح كما فعل النظام القائم حاليا، وهناك طريق رابع لكنه ليس بمحل للطرح لأنه خارج عن الإرادة الداخلية للشعوب أو الحكام على السواء"، مضيفا: "ولعل طوفان الأقصى الذي هبط عام 2023، وما آل إليه يصبح بداية وخارطة طريق نحو الحرية والتخلص من الاستبداد والهيمنة الخارجية".
وختم مبينا أن "الأمر يحتاج إلى عمل جاد وضروري لأننا أمام حالة تشكيل صورة جديدة للمنطقة (شرق أوسط جديد)؛ فإما أن نكون أحد أطرافها الفاعلين، أو نظل في وضع الخاضع المشاهد لما يجري من حوله".
"معنى الثورة ومعنى التغيير"
وقال السياسي المصري وعضو حزب "الوسط" المصري المعارض وليد مصطفى: "هناك 14 عاما من ثورة يناير ولنعترف أن الثورة محاولة لإحداث التغيير وليست التغيير، وبثورة يناير نجح الشعب والقوى السياسية في الضغط على النظام وفرض مسار الديمقراطية حتى 11 شباط/ فبراير 2011؛ لكن بعدها الشعب والقوى السياسية لم يكونا على نفس القدرة لإحداث التغيير، ولم يكن لديهم الخبرة، ولا القدرة على مواجهة تغلغل النظام بأركان الدولة".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أكد أن "القوى السياسية بمختلف أطرافها التي وصلت للسلطة أو التي رفضت وصول غيرها للسلطة، كلاهما كان لديه مشكلة، فالأول عندما وصل كان لديه طمع بالسلطة وحلم أنه القادر على ذلك ولما اكتشف أنه غير قادر فشل التغيير، والطرف الثاني مشكلته وحتى الآن أن غيرهم لا يصل للسلطة، دون أن يفكروا في تجهيز أنفسهم ويحصدوا نقاط قوة، والنتيجة أن المحاولة الثورية نجحت ولكن الثورة فشلت".
ولفت إلى أنه "بعد 13 عاما جاء أمل (طوفان الأقصى) عندما أذهل الشعب الفلسطيني العالم وكشف حقيقة العالم، وبين أن الشعب صاحب الحق عندما ينظم نفسه جيدا يقدر، لولا اعتقاد المقاومة الخاطئ بأن الأنظمة العربية الحالية رغم أنها امتداد لدكتاتوريين ستقف معهم وفوجئوا بأنها وقفت مع العدو وبذلت كل جهد كي لا تنجح".
وأوضح أحد نشطاء ثورة يناير، أنه "بعد الربيع العربي اختلفت الأرض والأنظمة العربية ترى محاولة أي شعب للتحرر، حتى ولو من محتل، خطر عليها، وأن مكاسبهم مع المحتل؛ ولكن الشعوب العربية في المقابل رأت القوة والقدرة ورأت النذالة والخسة في الوقت ذاته".
ويرى أن "من توابع (7 أكتوبر) وانتصار الثورة السورية وفرار بشار الأسد الذي لا يقل عن أي نظام ديكتاتوري عربي يتغلف بالقوة المجحفة أنه في وجود مقاومة حقيقية من الشعب يصبح الديكتاتور مجرد ورقة هشة، ويتراجع دعم باقي الديكتاتوريين له، كما أن الأنظمة علمت أن الشعوب رأت نتائج (طوفان الأقصى) الثورة السورية، والدول الكبرى والحليفة السابقة تقبل بالإدارة الجديدة لدمشق".
"تأخير مكلف"
وعن الحراك المصري والثورة المصرية، يعتقد مصطفى، أن "كل يوم يمر مع عدم البدء في التغيير يكلف مصر والأجيال القادمة سنوات من ضياع الدور والانهيار الاقتصادي والديون وإعادة الإصلاح وإعادة بناء اللحمة الوطنية".
وأكد أنه "لو ما زلنا نفكر بنفس الطريقة فهذه مشكلة، يعني أن الثورة بدأت 25 يناير فلابد أن يكون التغيير في 25 يناير فهذه مشكلة في التفكير، أو أن تتخذ نفس الطريقة بالمظاهرات أو التغيير المسلح كما دعا البعض فهذه مشكلة".
ويرى أن "المعارضة المصرية لم تعد نفسها حتى الآن للتغيير؛ وخاصة معارضة الخارج، وخاصة أقوى قوة بالمعارضة، حيث أنه منذ 11 عاما لم يتم الإعداد للتغيير وأي حدث يحدث نقول سوف يتغير المشهد لدينا كما غيرنا لكن لا يحدث التغيير".
وقال إن "المعارضة توجه اللوم للشعب؛ والحقيقة أنها لم تعدّ للتغيير حتى يسير الشعب خلفها؛ فالتغيير تقوم به قوى المعارضة بإعداد نفسها للتغيير ولقيادة الدولة وليس بدعوة الناس للخروج على الحاكم، ولكن عندما تكون المعارضة قادرة على اتخاذ قرارات مماثلة لما قامت به المقاومة الفلسطينية والمعارضة السورية وأعدت نفسها".
وأوضح أنه "يتكلم هنا عن الإعداد وليس عن وسيلة التغيير السلمية أو المسلحة"، مؤكدا أن "الأخيرة لا تصلح أبدا في مصر رغم أن النظام فاشي ومستبد، لأن الجيش المصري في بيت كل مصري، وهو منا، ومحاولة إغراقه بجريمة فض اعتصام رابعة العدوية والخصومة مع الشعب لن يكون مقابلها الكفاح المسلح".
"هذا هو الطريق"
واستدرك: "ولكن طريقنا هو الإعداد للمعارضة وزيادة جاهزيتها لتولي الحكم، وفي هذا الوقت يقدر الشعب على رؤيتها، وهنا يحدث التغيير في الوقت الذي تحدده المعارضة"، مبينا أن "كل مقومات التغيير في مصر موجودة وجاهزة منذ أعوام 2017 و2018".
وأشار إلى أنه "على المعارضة أن تفهم أن النجاة جماعية ولا يمكن لأي فصيل في الظروف الطبيعية أن يقوم وحده بمهمة حكم مصر، وفي الظروف الحالية أي فصيل أو 2 أو 3 يظنون أنهم قادرون على الحكم فهذا مستحيل لأن النجاة جماعية".
ولفت إلى أنه "إن لم تتكلم المعارضة بشكل جدي، وتكون الرموز الفقيرة في أفكارها قادرة على التواصل مع الغير، وتقدم مصلحة الوطن على أي شيء؛ سيتم استبدالهم لأن من كانوا في ثورة يناير 2011 بعمر العشرينات، الآن هم في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات".
وألمح إلى "خروج أجيال جديدة قد تتعاون سويا وتتخلى عن أيديولجياتها التي تؤمن بها؛ لأنهم سيرون الوضع بصورة أفضل عندها، وعندما يكون هناك شكل أفضل سيرى الشعب أشخاصا تدعو للتغيير وليس الثورة ولكن تغيير ما بعد الثورة".
وختم بالقول: "سيرى الشعب أنهم قادرون على إحداث هذا التغيير وأنهم سيكونوا بديلا لهذه السلطة وقادرون على العبور بهذا الوطن للأمان خلال فترة انتقالية ودستور انتقالي وعدالة يظهر فيها الجميع قدراته في خدمة الوطن، وقتها التغيير يأخذ وقتا أقل من وقت تغير المشهد السوري، ولكن على المعارضة أن تعد نفسها".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية غزة مصريون سوريا ثورة يناير سوريا مصر غزة ثورة يناير المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المعارضة المصریة السیاسی المصری الثورة السوریة مؤکدا أن إلى أنه یمکن أن کما أن فی مصر
إقرأ أيضاً:
مشروع الانبعاث الحضاري وصناعة الوعي.. مشاتل التغيير (29)
من الأهمية بمكان أن نشير إلى أن المشاريع الحضارية الكبرى لا بد أن تقترن بالوعي وصناعته؛ إنها من أعظم المهام خاصة إذا ما وصفنا الوعي بالحضاري، إننا أمام مفهوم مركب شديد التعقيد يعبر عن منظومة كلية ونموذج شبكي تتحرك فيه ومنه وبه عمليات صناعة الوعي على مستويات عدة.
الوعي هنا عملية تتشكل من أصل الكدح الحضاري "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحا فَمُلَاقِيهِ" (الانشقاق: 6)؛ الوعي يرتبط بثلاثية وهي الوحي (المرجعية)، والوعي (الشامل) والسعي (الفاعل). الوعي الحضاري يعني "إعادة تشكيل الذهن، وتعميق التصور، وتنمية الفكر نحو الرسالة الحضارية للإسلام بكل شمولها للمجالات العبادية والعمرانية، وعمومها للزمان والمكان والأفراد".
والسبب في البدء بالوعي أولا؛ لأن أي تحضر لأمة من الأمم لا بد أن يُسبق بفكرة تنطبع في أذهان أصحابها إلى درجة الاعتقاد الجازم المفضي إلى البناء المشترك والعمران الحضاري، وفي هذا يقول مالك بن نبي: "إن حضارة ما؛ هي نتاج فكرة جوهرية تُطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر؛ الدفعة التي تدخل به التاريخ". فكما يقول أحدهم في التحليل اللغوي: "الصِّناعة في اللّغة هي فنُّ الاشتغالِ على موادّ معيّنةٍ وإِخْضاعها لِعملياتٍ مُعقدّةٍ، تأخذُ على إثْرِها أشكالا جديدة ومبتكرة ونافِعة". وإذا كانت مادة الصناعة هي الوعي الحضاري الشامل والمتكامل؛ فإنّ "من أهمّ أسباب نُهوض الأمم، سِيادةُ وعي جماعيّ يُوحِّد المُنطلقَ ويرسُم الأهداف ويُحدِّد الواجباتِ ويُبيِّن الخُطواتِ الواجب اتِّخاذُها في طريقِ الرُّقيّ، وذلك ضِمن القِيم والمَبادِئ الأصيلةِ الّتي لا بدّ أن تَسِير في إطارِها مَسِيرة النَّهضة".
الوعي حركة اجتهادية وتجديدية يرتبط بكل مراحل الاجتهاد والذي يعبر عنه بـ"الفقه" لا بالمعنى الاصطلاحي، ولكن بالمعنى الذي يتعلق بالفهم العميق والدقيق والمتواصل
إن مسألة الوعي تتحرك على ما يرى الأستاذ محمد المبارك في مقالته "نحو وعي إسلامي جديد"؛ ضمن منظومة تتعلق بالوعي بالذات، والوعي بالغير عبر الذات وفاعليتها، والوعي بالموقف وما يتبعه من أحكام، وأفعال، وتصرفات، وسياسات. إن منظومات الوعي التي تنداح في دوائر متحاضنة لا متناقضة؛ تبدأ بالوعي للإنسان الفرد وعي بالكينونة ووعي بالدور، وينتهي بوعي الإنسان بالإنسانية ويدور مع الدوائر معرفة وفهما وتدبرا ووعيا للمقتضيات والشروط واللوازم المتعلقة بها؛ إن كان في الأسرة أو في أي تكوينات جمعية صغيرة أو محلية إلى تكوينات أوسع قد ترتقي إلى الدولة والأمة، هذه التكوينات والدوائر تعد ساحات ومساحات للوعي بكل صوره وبكل شروطه وأدواره. ويتكامل مع هذا حينما يتحرك الوعي عبر الوعاء الزمني والتاريخي فيفرض الاهتمام بمستويات الوعي وارتباطاتها الزمنية، فهناك الوعي الآني (بالحال)، وهناك الوعي الممتد (في الزمن المتراكم) وهناك الوعي بالمآل والاستقبال الذي تترابط فيه حلقات الوعي بحلقات الزمان (الماضي والحاضر والمستقبل)، والوعي بالتاريخ والذاكرة، والوعي بحركة الواقع ومعطياته، والوعي بالمستقبل والمآلات.
الوعي حركة اجتهادية وتجديدية يرتبط بكل مراحل الاجتهاد والذي يعبر عنه بـ"الفقه" لا بالمعنى الاصطلاحي، ولكن بالمعنى الذي يتعلق بالفهم العميق والدقيق والمتواصل؛ "فقه الحكم" و"فقه الواقع" و"فقه التنزيل"، فضلا عن المنهج الرابط والناظم والضابط، ومن ثم يعتبر الوعي الحضاري مرتبطا بالفقه الحضاري وأصوله وعمليات الاجتهاد، وهو يرعى كذلك فقه الواجب وفقه الواقع في اتصال فعال. وهو فضلا عن هذا، حالة ذهنية ونفس جماعية مستدامة تفرض حالة التنبه الدائم والاستنفار الكامل للقدرات والإمكانات؛ الوعي على مستوى التفكير، والوعي على مستوى التدبر والتدبير، والوعي على مستوى التغيير، وكذلك الوعي على مستوى الفعالية والتأثير، عمليات بعضها من بعض تحقق التراكم الفعال ما بين وحي المرجعية ووعي العملية وسعي الفاعلية.
الوعي والمنهاجية متلازمان، ولذلك اقترن الوعي بالمنهج عند أستاذتنا المرحومة مني أبو الفضل، فكان هذا النحت المتعلق بالوعي المنهجي؛ الوعي المنهجي ناظم لكل حركة عامة تشكل إدراكا للحظات تمر بها الأمة في محطاتها المختلفة؛ إنها تكتشف تلك اللحظات النماذجية بكل أحوالها وفي كل أطوارها، فهي تقف مع اللحظة الكاشفة فتكشف إمكان الأمة ومكانتها، وهي تحول الكشف والوعي باللحظة الى اللحظة الفارقة والمفارقة، وهي من خلال المراجعة والمحاسبة تتحول الى حالة ناقدة ومقومة، وتحول كل تلك الإدراكات الى عملية فرقانية متكاملة؛ وإلى استشراف حقيقة اللحظة البانية للأمة ضمن مشروع انبعاثها ونهوضها، إنه الوعي المتراكم الناظم بين هذه الحلقات جميعا ضمن إدراك حضاري وإعداد واستعداد وعدّة؛ وإرادة وإدارة ووعي وسعي يستند ويلتزم بترشيد وعي وتسديد سعي.
الوعي التاريخي والسنني أمر في غاية الأهمية في منظومة الوعي الحضاري؛ إذ يولد الوعي التاريخي؛ الوعي بالتاريخ تعريفا وتوظيفا، يعد فهما وتدبّرا للأوضاع التاريخية وآثارها في الحاضر والمستقبل، والوعي بالتحدّيات المزمنة والقدرة على مواجهتها وفق أصول علمية ومنهجية. ويُعدّ سؤال التاريخ ومسألة الوعي التاريخي حقيقة خلدونية، فالتاريخ في مفهوم ابن خلدون له وجهان ظاهر وباطن؛ ظاهره يخبر عن الأيّام والدول والسوابق من القرون الأولى، وتنمو فيه الأقوال والأمثال المضروبة، أمّا باطنه فالنظر، والتدقيق، وتعليل الكائنات، والعلم بكيفيّة الوقائع، وأسباب حدوثها. وبذلك يكون التاريخ عريقا، وعميقا، وجديرا بأن يكون علما يوقفنا على أخبار الأمم الماضية وأخلاقها، وسير الأنبياء، والملوك في سياساتهم ودولهم، وذكر أخبار تعود لعصر وزمن معيّنَين.
كما يخبر التاريخ عن الاجتماع الإنساني، فموضوع التاريخ في نظر ابن خلدون يدور حول الإنسان وأعماله، وما تحمله من أسباب ومبرّرات ونتائج، ولذلك كان واعيا برصد أسباب أخطاء المؤرّخين، ومن أهمها الاعتماد على النقل فقط، وعدم أخذهم طبيعة العمران، وكذا الأسباب المتعلّقة بالمنهج، والابتعاد عن الاستقامة والعدل والوقوع في التحيّزات إلى مذاهب وآراء معيّنة.
من أهم المخاطر والمزالق في الأمم ما تصادفه الأمم من تزييف الوعي الذي يأتي من خلال السيطرة على الوعي الجمعي، من خلال تزييف الإدراك والتصورات التابعة له، ثم التحكم فيه، وبالتالي توجيهه وفق رؤى وأفكار وتوجهات تخدم الفئة المسيطرة على ذلك الوعي
والمقصود بالوعي التاريخي، كما يحدّده توفيق الطيّب، في مقاله المهم "الوعي التاريخي وقضاياه: كيف دخلنا التاريخ وكيف خرجنا منه وكيف نعود إليه"، أنه "الفهم العقلي والذهني والتعايش الوجداني والمعنوي الذي يحوّل الذاكرة التاريخية والحضارية الخاملة إرادة واعية للهُويَّة، فيرسم بذلك الخريطة الحضارية للأمة، تلك الخريطة التي تصون ماضيها وتضيء حاضرها وتحدّد استراتيجيات مستقبلها، وينشأ عن ذلك الوعي الفعل المجذّر تاريخيا، على طريق صناعة المستقبل".
ومن أهم المخاطر والمزالق في الأمم ما تصادفه الأمم من تزييف الوعي الذي يأتي من خلال السيطرة على الوعي الجمعي، من خلال تزييف الإدراك والتصورات التابعة له، ثم التحكم فيه، وبالتالي توجيهه وفق رؤى وأفكار وتوجهات تخدم الفئة المسيطرة على ذلك الوعي، وأغلب الأمور يراد بها باطل. من هنا تأتي أهمية تحرير العقل من سلطان الوهم والخداع؛ ليصبح قادرا على فضح التزييف والتشويه المتعمد بعد عمليات متتابعة ومتراكمة من صناعة الحيرة والتشتيت والتدليس، فتشكله ما استطاعت، وتحركه ما أرادت، وتوجه عناصر تفكيره إلى ما هدفت بالتزوير والتعتيم والتغرير، وهذه واحدة من درجات ما يمكن تسميته بغسيل المخ الجماعي.
إن أخطر ما يهدد بقاء الأمم والشعوب قوية هو غياب الوعي أو تزييفه؛ لا صناعته على أسس علمية وفي سياق يعبر عن الإرادة الجماعية، وكلما كانت الشعوب واعية ومدركة بما يحيط بها كانت قادرة على تجاوز كل التحديات التي تواجهها، وممتلكة القدرة على الذهاب نحو المستقبل والمشاركة في صناعته. يقول الكواكبي: "إن الإنسان الواعي الذي يملك رؤية فكرية ونقدية ويتميز بضمير اجتماعي ينسجم مع الآخر".
هذه المقدمات حول الوعي تضعنا على عتبات ما يمكن الإشارة إليه بـ"الوعي الحضاري" كصناعة ثقيلة في هذا المقام لبلوغ الانبعاث الحضاري، والمشروع الذي يمثله هذا الانبعاث هو في حقيقة أمره معركة النفس الطويل والتي تضعنا في قلب عمليات التغيير والفاعلية والتأثير، وتدفع وتستنفر معا نحو عمق المهمة الحضارية في إقامة دين الله في الأرض استخلافا وعمرانا؛ تغييرا ونهوضا، وهو ما نجعله موضوعا لمقال قادم بحول الله؛ نستعرض فيه أهم مكونات هذا المشروع.
x.com/Saif_abdelfatah