يوم في "عودة الماضي"
تاريخ النشر: 20th, August 2023 GMT
خالد بن سعد الشنفري
زُرتُ مُؤخرًا موقع "عودة الماضي" بالحافة، الذي أصبح أهم موقع لمناشط وفعاليات موسم خريف ظفار لهذا العام، وفي الحقيقة لم أكن أتوقع أن يكون وفق ما رأيته على أرض الواقع، خصوصًا وأن فترة الإعداد والتجهيز للشق الغربي من أرض الموقع لم يتم البدء فيها إلّا قبل فترة قصيرة من بدء المهرجان، وذلك بعد الانتهاء من التشطيبات النهائية لمشروع سوق شاطئ الحافة التراثي.
إنِّه لأمر مُفرح وبهيج أن ترى هذه الحشود الغفيرة من العائلات والزوار من مواطنين ومقيمين ومن مختلف مناطق دول مجلس التعاون، والطيف العربي الذي بدا ملحوظًا حضوره، وهذا لا شك مؤشر على أنَّ ظفار في خريفها قد أصبحت مقصدًا للسياحة العائلية بامتياز؛ رغم بعض النواقص هنا وهناك، في البنية الأساسية والشوارع التي لم يعد مأمولًا من الجهات المسؤولة أن يتم الالتفات لها؛ بل أصبح التوقف عندها بحزم واتخاذ قرارات لتكتمل منظومتنا السياحية، وأصبح هذا غاية لا بديل عن تحقيقها، وبأسرع وقت ممكن، إذا أردنا أن نؤسس لسياحة فاعلة ترفد الدخل القومي والاستفادة من هذا الموسم الاستثنائي، والهِبة الربانية علينا بمناخ وطبيعة استثنائية ونادرة على مستوى عُمان وشبه الجزيرة العربية وحتى العالم العربي بأسره.
هنا لا يفوتني أن أتقدم بالشكر لصاحب السمو السيد مروان بن تركي آل سعيد محافظ ظفار، والذي وعد مشكورًا بالبدء بعد هذا الموسم مباشرةً بتنفيذ عدد من المشروعات التي تخدم السياحة، وذلك خلافًا لما تعودنا عليه خلال عقود مضت، أن لا تتم أية إضافات أو تطوير في هذا الجانب إلا قبل الموسم بفترة قصيرة جدًا، وهذا يتسبب بالفعل في زيادة الاختناقات لا تخفيفها في الشوارع في هذا الموسم.
وكوني أحد أبناء منطقة الحافة، وبالتالي ابن البيئات الظفارية الثلاثة (البدوية والريفية والحضرية) في الموقع، وابن الموروث الظفاري الفني المادي وغير المادي المُميز، يُمكنني القول إن أبناءنا أبدعوا فعلًا في تقديم الموروث على مدى أيام الموسم السياحي، وأمتعوا زائريه بذلك أيما إمتاع، وهذا ما حصل لي بالفعل.
إنَّ قضاء يوم في موقع "عودة الماضي" بشاطئ الحافة في هذا الفصل الخريفي وسمائه الملبدة بالغيوم؛ لتنثر رذاذها بدلًا من حرارة الشمس الملتهبة حول العالم، لشيء قل أن تجد له مثيلًا.
كل هذا وسط التنقل في أرض عودة الماضي بين بيئاتها الثلاثة؛ فتنتقل من البيئة البحرية في كل جوانبها حتى ما يتعلق باحتفالات استقبال المسافرين بحرًا في السفن الخشبية القديمة، إلى البيئة الريفية وألحان النانا والدبرارت الشجية، وأهازيج أبناء الريف بزيهم التقليدي القديم، ورقصات السيوف والتروس، وكذلك البيئة البدوية، ورائحة البُن من مواقد دلالهم وصناعاتهم التقليدية من الخوص والجلود وخلافه، إلى دكاكين وحوانيت سوقها التراثي الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة حتى الحجامة إلّا شملها العرض، ليمنح النفس بحق راحة وسعادة يحتاج لها وسط زخم الحياة العصرية التي نعيشها.
شكرًا للأخ والزميل والمسرحي الكاتب القدير الدكتور عماد الشنفري، الذي يعد أول من أطلق مسمى "عودة الماضي"، وسعى لها ونفذها في العام الماضي، وإن كانت متواضعة وعلى استحياء، لكن ما أضيف عليها من تطوير هذا العام يجعلنا نثق أن الموسم المقبل وكل المواسم، ستكون أفضل وأفضل، وهذا ماعهدناه بشبابنا الغيور المجتهد والمثابر في كل المجالات. فقط علينا أن نوفر لهم ولو الحدود الدنيا من التشجيع والحاضنات ليُعطوا المزيد والمزيد، فعلًا لقد عشت في ذلك اليوم ملحمة تراثية في الماضي الجميل بكل جوانبه، وشتى مناحيه، في هذه الزيارة، ونقلني هؤلاء الشباب بامتياز إلى ذلك الزمن الماضي، بصورة عصرية حديثة في أجمل تزاوج بين الأصالة والمعاصرة؛ حيث هناك مساحة لا تقل أهمية؛ وهي السوق التراثي بكل ما حواه من أحدث المقاهي وألعاب التسلية ولعب الأطفال؛ ليشبع رغبات كل أفراد الأسرة كبارًا وصغارًا.
لم افتقد إلّا عدم وجود معمل أو منفذ بيع للحلوى الظفارية، التي تتميز نوعًا ما عن الحلوى العمانية المعروفة، وكذلك لا وجود للتنانير الأرضية لخبز القالب ولا الخبازات من النسوة؛ فالحلوى وخبز كعك القالب يعتبران من أهم الأشياء التي يحرص إخواننا من بقية محافظات عماننا الحبيبة على أخذها معهم في عودتهم كهدايا، إضافة بالطبع إلى البخور الظفاري الشهير واللبان وأشياء أخرى.
نتمنى أن يتلافى القائمون على أمر الفعاليات، مثل هذه الأمور مستقبلًا، رغم بساطتها.
وكل خريف وأنتم مع عودة ماضٍ جديدٍ.. وكل عام وأنتم بخير وسلامة.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بلال قنديل يكتب: بين الماضي والحاضر
الإنسان كان وما زال كائناً متغيراً، يتأثر بزمانه ومكانه، وتتبدل اهتماماته وأولوياته مع تغير العصور وتطور المجتمعات.
فما كان يشغل عقل الإنسان في الماضي، لم يعد بنفس الأهمية اليوم، وما كان يعتبر رفاهية أصبح ضرورة، والعكس صحيح. بين الماضي والحاضر مسافة طويلة، تروي حكاية تطور الإنسان في اهتماماته وطباعه وأساليب حياته.
في الماضي، كانت اهتمامات الإنسان تدور حول البقاء وتوفير الأساسيات من مأكل وملبس ومأوى. كان الجهد ينصب على الزراعة أو الرعي أو الحرف اليدوية. العلاقات الاجتماعية كانت أعمق، والروابط العائلية أقوى، وكان الناس يتشاركون لحظاتهم بقلوب مفتوحة، بعيداً عن التعقيدات التكنولوجية.
أما في الحاضر، فقد تغير المشهد تماماً. أصبح الإنسان أكثر ارتباطاً بالتكنولوجيا، وأصبح الهاتف الذكي جزءاً لا يتجزأ من يومه. اهتماماته اتجهت نحو الاستهلاك، والبحث عن التميز الفردي، واللحاق بركب التحديث المستمر. حتى العلاقات أصبحت في كثير من الأحيان افتراضية، والشعور بالوحدة أصبح شائعاً رغم كثرة وسائل التواصل.
تغيرت أيضاً مفاهيم النجاح والسعادة. في الماضي، كان النجاح مرتبطاً بامتلاك أرض أو بيت أو عائلة مستقرة. اليوم، أصبح النجاح يقاس بعدد المتابعين، أو الإنجازات المادية، أو حتى بمدى الظهور في وسائل الإعلام. تغيرت الأولويات، وتغير الإنسان نفسه، فأصبح أكثر قلقاً وأقل صبراً.
لكن رغم كل هذا التغير، يبقى هناك خيط رفيع يربط بين الماضي والحاضر. الإنسان في جوهره لا يزال يبحث عن الأمان، عن الحب، عن التقدير، وعن معنى لحياته. قد تتغير الوسائل، وقد تختلف الطرق، لكن الجوهر يبقى كما هو.
بين الماضي والحاضر، هناك تطور واضح، لكنه ليس دائماً تطوراً إيجابياً. فربما علينا أن نتأمل في ماضينا لنستعيد بعض القيم التي فقدناها، ونوازن بين ما نكسبه من تقدم وما نخسره من إنسانيتنا.