في مقابـل نظـرةٍ فلسفـيّة إلى الدّولة، سادت في القرنين السّابع عشر والثّامن عـشر، ودارت على فكـرةِ مـركزيّةِ الحقّ الطّبيعيّ في التّأسيس للـدّولـة ومشـروعيّـتـها، نشـأت نـظرةٌ أخرى مختـلفة تمامًا إلى العلاقة التّـكويـنيّـة بين الظّاهـرتيـن، منصرفـة إلى قلب تلك العلاقة بحيث تصير العِـلّـة معلولًا ويصير المعلـول علّـة.
ارتبط القـولُ بهذه الأطـروحة عن تـبعيّـة الحـقّ للـدّولة بالفيلسـوف الألمانيّ هـيجـل وكتـابـاتـه في العـقـديـن الأوّلـيْن من القـرن التّاسع عشر، لكنّ جذورها تعـود إلى ما قبـل ذلك بما يقارب السّـبعيـن عامًا؛ إلى كـتابات مونـتسكـيو وبالذّات، كتـابه روح القـوانيـن الذي وضعه في عام 1748. وما مـن شـكٍّ في أنّ أعلى تـنـظيرٍ ودرسٍ فـلسفـيّـيْن للحـقّ والقانون هـو ذاك الذي تجلّـى في كـتابات هـذيْـن المفـكّـريْـن. وإذا كان كـلُّ دارسٍ للـفلسفـة السّياسيّـة الحديثة يَـعْـلَم، على القطـع، أنّ منـتهـى التّجريد النّـظريّ والمَـفْـهَـمة والبناء الفـكريّ الصّـارم لنظريّـة الـدّولـة والحـقّ والقانون هـو ما سطّـره هـيجـل في كتـابه مبادئ فـلسفة الحـقّ وقبلـه، في مـوسوعة العلـوم الفـلسفيّـة، فهـو يَعْـلم - في الوقـت عيـنـه - أنّ أساسات ذلك التّـنظير العالي موجودة في كـتاب مونتسكيو المُشار إليه؛ الكتاب الذي كان إطارًا مرجـعيّـًا للعـديد من أطـروحات هـيجـل والفلاسفة الألمان: خاصّـةً حول القانون والـدّستور والحريّـة وعلاقـتها بالـدّولة. أمّا النَّـفَـس التّـجريـديّ لهـيجـل، في ما كتبه في المسألة، فمـردُّه إلى التّـقاليـد النّـظريّـة الألمانـيّـة، مـن وجْـهٍ، وإلى ذهابـه بعيـدًا - من وجْـهٍ ثـانٍ - في طـريق البناء المفهـوميّ والنّـظريّ الصّـارم لموضوعات الفـكر إلى حـدٍّ جاوز فيه، أحيانًا، ما استطاعه إيمانـويـل كَـنت قبله، مـثلًا، في هذا الباب خاصّـةً في كـتابه نـقـد العـقـل بأجزائه الثّـلاثة (النّـظر، العـمل، القـيم).
تنفي هذه النّـظرة الفلسفيّة الثّانية أن تكون الـدّولـة منتوجًا سياسيّـًا لعملِ أفـرادٍ تعاقـدوا، بشكـلٍ حـرٍّ وطوعيّ وبإرادةٍ مستـقـلّة، على أن يقـيموا الـدّولـة ويَكِـلوا إليها وظائفَ مّا. ليست حريّة هؤلاء سابقة للـدّولـة وجودًا وبالتّالي، ليست علّـةً لذلك الوجود، في نظر ممثّـلي هذه الرّؤية، وإنّما هي منتوج سياسيّ من منتوجات الـدّولـة، شأنها شأن سائر الحقوق المدنيّة الأخرى. بعبارة أخرى، ليست الحقوق الطّبيـعيّة هي التي تقـود إلى صناعة كيان الـدّولـة، كما يعتـقـد فلاسفة العـقـد الاجتماعيّ، بل قيامُ الـدّولـة هـو ما يفتح الباب أمام إنتاج حقوق مدنيّة وإقرارِها وحمايـتِها بمنـظومة من القوانين خاصّة. الـدّولة، عند هـيجـل، لا تَدين للأفراد بشيء - فكيف بوجودها؟ - لأنّ الأفراد ليسوا معطًى طبـيعيًّا موروثًا، بل صناعة سياسيّـة وراءها الـدّولـة الوطنيّـة الحـديثة. إنّ هذه الـدّولة هي من أَنْـجَـب الفـرديّـة بعد تفكيك النّـظام الجمعانيّ الموروث، وهي مَـن حـوَّل الفرد إلى وحـدةٍ سياسيّـة يخاطبها القانون ويشـرِّع لها. إنّ الكـليَّ في الـدّولـة هو الذي يحـدِّد الجـزئيّ (الذّات الفرديّـة) ويرسُم له الوجودَ والفاعليّـة وليس العكـس، ولا يمكن لذلك الكليّ والجوهريّ في الـدّولـة أن يَـديـن لأجزائـه.
يستمدّ الأفرادُ حقوقَـهم من الـدّولـة التي تمنحها إيّـاهم بعد أن تُـحْدِثها لهم بوصفهم جزءًا منها خاضعًا لوَلايتها السّياسيّـة والقانونيّـة، وأساسُ هـذه الحقوق - في الـدّولـة الحديثـة - الحريّـة. صحيحٌ أنّ هذه لا تـتأتّـى، عند هـيغـل، إلاّ متى وضع الأفراد أنـفسَهم في خدمة المصلحة العامّـة وأدّوا ما عليهم من واجب تجاه الـدّولـة، إلاّ أنّه ما من إمكانٍ عنـده - وعنـد مونتسكيو قـبله - لافـتراض دولـةٍ حديثةٍ من غير حريّـات. تسلِّـم هذه النّـظرة، إذن، بجدليّـة الحـقّ والواجب، الحريّـة والضّرورة وبتـفاعل حـدَّيْـها الذي يتـولّـد منه تـوازنٌ تُـحْـفَـظ فيه حقوق العامّ والخاصّ؛ حقوق الـدّولـة وحقوق الأفـراد وحقوق المجتمع المـدنيّ (= مجتمع المصالح الخاصّـة عند هـيغـل). خـلافًا للنّـظرة الفلسفيّـة الأولى التي تـفـترض المصالح الخاصّـة (للأفراد) سابقة وجودًا للمصلحة العامّة وتـفترض أنّ الأخيرةَ ليست سوى محصَّـلة للأولى، تـذهب هذه الفلسفة النّـقـديّـة إلى التّـشـديـد على أنّ الأفراد لا يـحقّـقـون مصالحهم الخاصّـة إلاّ من طريـق مشاركتهم في تحقيق المصلحـة العامّـة الجامعة، لأنّ تحقيقَ هذه المحافظة عليها تحقيقٌ للمصلحة الخاصّـة في الوقت عينه. هكذا نلْحـظ كيف أنّ مبْنى العلاقةِ الصّحيحَ هـو أنّ العامّ يُـحـدِّد الخاصّ وليس العـكس.
من النّافـل القول إنّ هـذه النّظرة الفـلسفيّة إلى مسألة الحقوق، التي دشّـنها مونـتسكيو وذهب فيها هـيجـل بعيدًا، تَـقْـلب منظـور فلاسفة العـقـد الاجتماعيّ رأسًا على عقـب، وتميـط النّـقاب عن كثيـرٍ من نقائـضهم ومن رؤاهـم الرّومانسيّـة والمثاليّـة إلى السّياسة والـدّولـة. والحـقّ أنّـه ما كان يمكن الوقـوف على مثـالب الفـلسفـة السّياسيّـة الحديثة إلاّ من طريق وضْـعها موْضـع فـحصٍ نـقـديّ يسائـل منطلـقاتها النّـظريّـة، ومفاهيـمَها، وفـرضيّـاتها الضّـمنيّـة كاشفـًا ما يعـتـورها من خلـل؛ وهذا عيـنُ ما فعـله هـيجـل في مطلع القـرن التّاسع عشر مستـفيدًا، في نـقـده ذاك، من حدثٍ تاريخيّ مفـصليّ بَـدَا مختَـبَـرًا تاريـخيًّا لفحص منظـومات الفـكـر السّياسيّ هو حدث الثّـورة الفرنسيّـة في عام 1789.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الـد ولـة الس یاسی الخاص ـة یاسی ـة خاص ـة
إقرأ أيضاً:
خطوات الوطن الاقتصادية فوق صخب الظنون
محمد بن علي بن ضعين البادي
مع اقتراب التوقيع على اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين سلطنة عُمان وجمهورية الهند، تدخل البلاد مرحلة جديدة من التحولات الاقتصادية التي تتطلب قراءة واعية تتجاوز العناوين السريعة وردود الأفعال العابرة؛ فالاتفاقيات الكبرى لا تُقاس بالصوت المصاحب لها؛ بل بموازين المصالح، وحجم المكاسب، ودقة الإجراءات التي تسبق اتخاذ القرار.
وبينما ازدحمت المنصات بالتحليلات والانطباعات غير المكتملة، تمضي مؤسسات الدولة في إعداد هذا الملف وفق رؤية واضحة تدار فيها التفاصيل الاقتصادية بعيدا عن التهويل أو التبسيط.
الحديث اليوم ليس عن مجرد اتفاقية؛ بل عن خطوة استراتيجية قيد الإنجاز، تبنى على مشاورات متواصلة ودراسات أثر تفصيلية، وتستند إلى سياسة عُمانية راسخة تقوم على تنويع الشركاء، وفتح الأسواق، وتعزيز مكانة الاقتصاد الوطني في شبكة التجارة العالمية. وبين صخب الظنون وهدوء التخطيط، تظهر الحقيقة: أن الوطن يعرف الطريق قبل أن يقطعه.
وفي لحظات التحول الكبرى، حين تتشابك المصالح وتتعالى الأصوات وتتزاحم التحليلات، يظهر الضباب الذي يحجب الرؤية عن كثيرين. وفي خضم هذا الضباب، هناك من يرى الطريق بوضوح، لا لأنه الأعلى صوتًا؛ بل لأنه الأعمق فهمًا والأوسع إدراكًا. وهكذا كانت عُمان دائمًا: دولة تعرف خطاها قبل أن تمشيها، وتعرف وجهتها قبل أن تعلنها.
في زمن تمتلئ فيه الساحات بالظنون والتأويلات، لا تبنى الثقة بالصراخ؛ بل بالعمل الصامت، العميق، المتماسك. ومن هنا يفهم الجدل الدائر حول الاتفاقية المرتقبة؛ فالمشهد الاقتصادي يشبه ساحة واسعة تتقاطع فيها أصوات متعددة، بين من يعمل بصمت، يرسم المسارات بحكمة ودقة، وبين من يرفع صوته لا ليشرح أو يستوضح؛ بل ليزرع علامات استفهام أكبر من حجم الحقيقة نفسها. وبين هؤلاء جميعا، يقف المواطن باحثا عن طمأنينة تستند إلى المعرفة لا إلى التخمين.
خطوات الدولة في هذا الملف واضحة ومتزنة؛ لا اندفاع غير محسوب ولا تردد يربك المسار؛ فالأتفاقيات الاقتصادية لا تُصنع في منشورات عابرة ولا تدار تحت ضغط المزاج العام؛ بل تُبنى على أسس علمية، وتراجع في مراحل دقيقة، وتحدد وفق المصلحة الوطنية العليا.
الشفافية هنا لا تعني كشف كل تفاصيل التفاوض، والسرية لا تعني الخفاء؛ فالتفاوض يحتاج إلى سرية لحماية المسار، بينما يحتاج المواطن إلى وضوح في النتائج والمكاسب، وهذا ما ستقدمه الدولة فور اكتمال مراحل الاتفاقية.
ولأن حماية الاقتصاد ليست شعارًا، فقد بَنَتْ الدولة منظومة متكاملة تشمل قوانين مكافحة الإغراق، وحماية المنتج المحلي، وسياسات التدرج الجمركي، ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ورقابة سوق العمل، وسياسات التوطين، إضافة إلى الصلاحية القانونية لتعديل أو إعادة النظر في أي اتفاقية إذا تعارضت مع المصلحة الوطنية. هذه أدوات تعمل كل يوم، ولا تنتظر التوقيع لتكتسب قوتها.
ومع ذلك، ظلَّ صوت (ربما… لعل… قد…) يتردد بلا توقف. لغة لا تبني مشروعًا، ولا تصنع اقتصادًا، ولا تقدم بديلًا. بينما الدولة تمضي بلغة الأرقام والدراسات والحقائق الممكن قياسها، لا بلغة الشائعات والانطباعات.
وتكتمل الحكاية بحقيقة واحدة: الوطن أكبر من الخوف، وأعمق من الشائعات، وأقوى من الضجيج. النقد حق، والسؤال حق، ولكن تحويل كل خطوة اقتصادية إلى مادة قلق ليس نقدًا؛ بل إضعافًا للثقة؛ فالدولة التي عبرت عقودًا من البناء تحتاج إلى من يفهم مسارها، لا إلى من يسبقها بالظنون.
الاقتصاد لا يُبنى بالصراخ؛ بل بالثقة، والعمل، والمعرفة. وهذا هو سِرُّ تقدم الدولة، حين ينسحب صخب الظنون وتبقى الحقائق وحدها تتكلم.