تُعد الطوابع البريدية إحدى أهم وسائل التواصل والتفاعل بين الناس، فهي رسالة ثقافية مسؤولة عن نقل الأحداث وتوثيقها من ناحية، وتأصيل العديد من التجارب والخبرات، وتسويق الأمكنة والأزمنة التاريخية، كما أنه يتماس مع الكثير من الظواهر الإنسانية في كافة المجالات (السياسية، والتاريخية، والاجتماعية وغيرها). إنه تمثيل رمزي بأبعاد فنية وجمالية، قادرة على تجسيد الأحداث وتأريخها وتحليلها وفق معطيات بصرية مركَّزة.
ولقد ارتبطت الطوابع البريدية بالفنون التشكيلية وقدرة الفنانين على تصوير الأحداث وتمثيلها، ولذلك فإنها تمثِّل قيمة فنية رمزية ومعرفية وحضارية، إضافة إلى قيمتها النفعية، ولهذا فإنها مسؤولة عن تجسيد ثقافة المجتمعات وتاريخ حضارتها وإبراز تنوعاتها الفكرية والثقافية، في قالب جمالي يعكس الأبعاد الفنية التجريبية أو الوجودية أو غيرها، فهذه الطوابع ليست مجرد صور بأحجام صغيرة بقدر كونها رسالة فنية وفكرية تعكس تاريخ الأمم وثقافتها.
ولأن الطوابع البريدية مرتبطة بالفنون التشكيلية فإنها تقدِّم رؤية فنية وإبداعا جماليا يقوم على مجموعة من التوليفات الرمزية، التي تشكِّل تجسيدا للقيم والمعايير الفنية التي تعتمد عليها، إضافة إلى قدرتها على تمثيل تلك الرؤية التي تعكس تاريخ البلدان وأحداثها التي تبتغي إبرازها وتقديمها إلى العالم، فهذه الطوابع تظهر باعتبارها تكوين جمالي له دلالات حسية ورمزية، تجسِّد قيم الشعوب ومكونات ثقافتها، وتعبِّر عن حسيَّة الفنانين ووجدانهم من حيث ترميزاتها الفنية والجمالية.
لقد أسهمت الطوابع البريدية منذ أن ظهرت في القرن التاسع عشر، في تسجيل العديد من الأحداث وتوثيقها، وسرد التاريخ الحضاري للبلدان، وكذلك تكريم الشخصيات التاريخية المؤثرة على مر العصور؛ حيث استطاعت أن تنشر الثقافات وتسوِّقها، وقدمت وصفا عن تنوُّعات الثقافة والموارد الطبيعية والوراثية ، بل نقلت كل ما يتعلَّق بذلك التنوُّع حتى على المستوى الحضاري، الذي يكشف التقدُّم التنموي الذي تحرزه الدول، فالطوابع البريدية بطاقات تعريف بحضارات الدول.
لذلك فإن إنتاج الطوابع البريدية يحتاج الكثير من الحرص من الناحية الفنية والحضارية؛ فليست كل الأحداث يمكن تجسيدها باعتبارها فنا، وليس كل الظواهر يمكن أن تمثِّل إضافة ذات قيمة جمالية مؤثرة، ولهذا فإن انتقاء الأحداث والظواهر والمناسبات التي تستحق إصدار طوابع بريدية خاصة بها، يُعد من بين المعايير التي يتم من خلالها إنتاج تلك الطوابع، ذلك لأن الصور التي تجسدها تعبِّر عن جوهر الطوابع وقيمتها الثقافية والحضارية، التي تنطلق منها قيمتها الرمزية.
ولأن عُمان واحدة من تلك الدول التي اعتنت بالطوابع البريدية، ليس باعتبار ارتباطها بالقيمة النفعية الخاصة بالمراسلات الورقية، بل أيضا لرمزيتها وقدرتها الفنية، التي ارتبطت بالفنون التشكيلية والبصرية، وقيمتها الحضارية التي أرَّخت للعديد من الأحداث التاريخية العمانية، ورمزت للكثير من الشخصيات العمانية التي أسهمت في تنمية حضارتها على مر التاريخ، كما صورَّت ترميزات إيحائية لأحداث مرَّت على عُمان وكان لها تأثير اجتماعي ونفسي مباشر.
يخبرنا كتاب (إصدارات الطوابع البريدية في سلطنة عمان)، الصادر عن هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، أن الطوابع البريدية ظهرت في عُمان منذ عام 1944، ثم مرحلة الاستقلال البريدي في عام 1966، حيث بدأت عُمان تُصدر طوابعها البريدية التي تُعد سجلا لأهم الأحداث التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي مرَّت على عُمان، كما خلَّدت ذكرى شخصيات أسهمت في تأسيس مراحل الحضارة العمانية وكان لها دور في تاريخ الدولة الحديثة.
ففي أبريل 1966 تم إصدار أول مجموعة طوابع عمانية باسم (مسقط وعُمان)، تتكوَّن من 12 طابعا متنوِّعا لرموز مثَّلت صور من عُمان (القلاع العمانية، وصور الشعار الوطني)، ثم صدرت أوَّل مجموعة طوابع تذكارية في عام 1969 للاحتفال بتصدير أول شحنة من النفط، وهكذا توالت الإصدارات من الطوابع العمانية التي جسَّدت رمزيات الحضارة والثقافة والتنمية الحديثة في عُمان، ولقد شهدنا تدشين العديد من الطوابع البريدية، التي مثَّلت الكثير من تلك الرموز سواء أكانت في المناسبات الوطنية أو تجسيدا لأبرز منجزات النهضة، أو إبراز التنوُّع البيولوجي والبيئي الذي تتميَّز به عُمان، إضافة إلى تجسيد المناسبات الإقليمية والدولية، التي تمثِّل ما تؤمن به عُمان في علاقاتها الدولية القائمة على التسامح والتعايش والسلام.
وبعد أول طابع مثَّل تذكارا بمناسبة مرور 200 عام على حكم أسرة البوسعيد لسلطنة عُمان وصدر في عام 1944، ها هي عُمان تدشِّن طوابع تذكارية بمناسبة مرور 280 عاما على حكم أسرة البوسعيد، لتمثِّل إحدى ظواهر التوثيق التاريخي المرتبط بالفن التشكيلي البصري، الذي يرمز إلى هذه المناسبة، باعتبارها ذكرى تاريخية ترتبط بمؤسِّس الدولة البوسعيدية الإمام أحمد بن سعيد، التي تسرد تاريخ الأئمة والسلاطين البوسعيديين الذي توالوا على حكم عُمان منذ عام 1744م، وحتى حكم السلطان هيثم بن طارق.
تظهر الطوابع البريدية الخاصة بهذه المناسبة التذكارية في مجموعة من الأشكال سواء أكانت تلك التي ترمز للدولة البوسعيدية في لوحة رمزية تمثِّل (رأس الخنجر البوسعيدي)، الذي يرمز إلى العزة والفخر والشهامة العمانية، إضافة إلى البطاقة التذكارية التي تقدِّم السرد التاريخي للأئمة والسلاطين، والطوابع البريدية التذكارية التي تستعرض صور أولئك السلاطين والقادة، والبطاقات البريدية ثلاثية الأبعاد، التي تجسِّد تلك الشخصيات التي توالت على حكم عُمان منذ بدء الدولة البوسعيدية.
إن تدشين هذه الطوابع التذكارية لا يمثِّل توثيقا لجزء أصيل من التاريخ العماني الممتد عبر الحقب الحضارية وحسب، بل أيضا تأصيلا للدور الذي قدمته أسرة البوسعيد في توحيد الدولة، ودحر الغزاة والمستعمرين من ناحية، وما قدَّمه الأئمة والسلاطين خلال فترات حكمهم لعُمان، وما أصَّلوه من مبادئ وقيم إنسانية وحضارية ما زالت راسخة في ذهنية الشعب العماني، وقد أصبحت تمثِّل قيمة حضارية وفكرية قائمة على التسامح والتعايش والسلام.
إن الطوابع البريدية ليست صورا فنية تذكارية وحسب، إنما توثيق حضاري يمثِّل قيمة ثقافية لها امتداد معرفي يرتبط بالدولة وتاريخها من ناحية، وقدرتها التنموية من ناحية أخرى؛ فالدول التي تهتم بالطوابع تعكس مدى احترام ثقافتها وتسويق تلك الثقافة عبر منافذ فنية ما زالت لها جماهيريتها رغم التحولات التقنية الواسعة الانتشار، فالطوابع الحديثة استفادت من تلك التقنيات خاصة على المستوى الفني، وذلك ما تعكسه الطوابع التذكارية في إفادتها من تقنيات ثلاثية الأبعاد، وتقنيات التصميم الفني، التي تظهر في الكثير من الخطوط الفنية المعتمدة، إضافة إلى فنيات الصور وغيرها.
فالطوابع البريدية اليوم تظهر في حُلة جديدة من النواحي الفنية والثقافية، بما تقدمه من قيمة جمالية لمحتوى الصور والرموز والعلامات التي تؤسِّس محتوى بصري له تاريخ فكري، لا يوثِّق لليوم وحسب، بل يؤرِّخ تاريخا للأجيال، الأمر الذي يجعل اهتمام عُمان المتزايد بها يمثِّل الوعي بأهمية تلك الطوابع وفنيتها وقيمتها التي ترسِّخ ليس فقط للأحداث وإنما تقدِّم عمقا تاريخيا واجتماعيا يعيد أمجاد عُمان ويذكِّر بهذا العمق الحضاري الممتد.
إن الإنتاج الفني للطوابع البريدية يقدِّم وعيا فنيا وجماليا، يعبِّر عن فكر المجتمع ويرسِّخ الوعي الجماعي القائم على العمق التاريخي والحضاري الذي تتميَّز به عُمان، فهذه الطوابع لوحات فنية ومحتوى بصري فكري قيِّم، يعرفه الشغوفون بجمع الطوابع البريدية؛ أولئك الذين يوثِّقون هذا الفن ويؤرِّخون إنتاجه الفني، ويقدِّمونه باعتباره قيمة حضارية وفنية، والذين يؤِّكدون لمن يشكِّك في صمودها في ظل التطورات التقنية، أنها فن مستدام قادر على الاستفادة من تلك التطورات وتقديم محتويات بصرية إبداعية متجددة.
إن الطوابع البريدية تخبرنا عن تاريخ الدولة وثقافتها، وتطورها، وفكرها المتجدِّد، وصمود شعبها وقوته، كما تعكس تطوراتها الفنية والتقنية التي تظهر في الثيمة البصرية.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الطوابع البریدیة إضافة إلى الکثیر من من ناحیة على حکم من تلک التی ت
إقرأ أيضاً:
هل على نتنياهو أن يخشى من جيل الأطفال الذي شهد الإبادة؟
بعد ساعات طويلة من انتظار الحصول على حصّته من المياه، يقف طفل لا يتجاوز الـ12 من عمره أمام غالونين كبيرين مليئين بالماء، لا وقت للإرهاق الآن، فالحصول على المياه النظيفة الشحيحة شيء، والعودة بها للخيمة أو المنزل المهدم الذي يعيش فيه مع أسرته شيء آخر تماما. يحاول الطفل رفع الغالونين عدّة مرات دون فائدة، فالحمل ثقيل لجسد صحيح، فما بالك بجسد منهك من الحرب وقلة التغذية.
محاولات الطفل غير الناجحة جعلته يدرك أن مقدار وزن الغالونين رُبما يفوق وزنه هو شخصيا، وحينما أدرك الصغير حجم ما يواجه، رفع وجهه إلى السماء ثم قال: "أعطني القوة يا الله". تنفس ملء رئتيه، وتمكن بالفعل من حملهما والسير بهما لخطوات عدة وثّقتها الكاميرا لترصد نزرا يسيرا من هول ما يعيشه أطفال غزة تحديدا وعموم قاطني القطاع المحاصر.
في وقت سابق، نشر ستيفن جوزيف، وهو أستاذ في كلية التربية بجامعة نوتنغهام الإنجليزية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، ورقة بحثية ناقش فيها النمو النفسي خلال مرحلة ما بعد الصدمة أو التجربة المؤلمة، وقد استهلّت الورقة البحثية عنوانها بـ"ما لا يقتلنا".
عمل ستيفن مع عديد من الناجين من الصدمات وأهوال النزاعات، ولديه مسيرة طويلة في دراسة ما تُعرف بـ"النمو بعد الصدمة"، وكتابه الشهير: "ما لا يقتلنا: دليل للتغلب على الشدائد والمُضي قدما"، حاول فيه توظيف بعض النظريات والممارسات النفسية لاستكشاف ماذا يجري بعد الصدمة، وكيف يمكن التغلب على الشدائد لخلق معنى وهدف جديدين في حياتنا.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2صور أطفال فيتنام غيّرت العالم فلماذا لا يهتز لصور أطفال غزة؟list 2 of 2ما الذي تغير ليرفض الغرب حرب الإبادة على غزة؟ ولماذا الآن؟end of list إعلانوضّح جوزيف أن الدراسات النفسية المتعلقة بالصدمات قد تغيرت مؤخرا، خاصة مع إدراك الباحثين أن الشدائد والمواقف بالغة الصعوبة لا تؤدي بصورة حتمية إلى خلق شخص مضطرب نفسيا أو مكتئب، إذ بدأت اتجاهات البحث النفسي العلمي ترى أن هناك جانبا من "النمو الإيجابي" قد يتحقق خلال مرحلة ما بعد الصدمة والتجارب القاسية ويمكن أن تمثّل نقطة انطلاق لبناء مستويات أقوى من الصلابة النفسية.
وهذا ما عبرت عنه بجلاء الورقة التي نشرتها يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 الأستاذة الأسترالية ميشيل بيس في المعهد الأسترالي للشؤون الدولية بعنوان "الغزيون: شعبٌ يتمتع بشجاعةٍ لا تُقاوم، وإيمان، ولطف" ، وأشارت فيها إلى نمط حياة شعب غزة في فترة ما قبل الحرب، وكيف أنهم "رغم الحصار والتضييق الخانق من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، كانوا يجدون وسائل للتكيف مع واقعهم المُعاش ووسائل بناء شبكات تضامن اجتماعية تسيّر حياة المجتمع"، وأن هذه الديناميات والقدرات أسهمتا بصورة أو بأخرى في رفد المجتمع بأساليب وأدوات للبقاء والصمود، وقد زادهم صلابة تتالي الحروب وتنوع وسائل القتل والتدمير التي لم تتخلف عن القطاع طوال الفترة الماضية.
ومن المداخل التفسيرية التي لا تستحضر كثيرا في الدراسات النفسية وإن كان لها دور في تعضيد هذه القراءات، ونقصد بذلك المدخل الإيماني الذي يلعب دورا واضحا في الكيفية السلوكية التي يتعامل بها الأفراد تجاه المصائب التي يواجهونها، إذ تشكّل الأرضية الإيمانية -التي يستند إليها الفرد أو المجتمع- عاملا أساسيا في محددات الحالة الشعورية التي تلي المعاناة، فضلا عن الحالة النفسية في أثناء الأزمة، ولا يمكن فصل هذا العامل عن تحليل المشاهد الواردة من غزة، إذ يمكن ملاحظة حضور المفاهيم الدينية والإيمانية في خطاب وسلوك الغزيّين.
إعلانفي الدين الإسلامي مثلا، البلاء يتطلب صبرا، وللصابرين مثوبة جزيلة، وجانب من التكوين الإيماني للمسلم قائم على أن البلاء مرحلة مرّ بها المؤمنون على مدار التاريخ، حيث يسوق القرآن وتسوق الأحاديث النبوية الكيفية التي تعاملت بها المجتمعات المؤمنة التي تعرضت للبلاء، وما يلي ذلك من ثواب من الله لا يقتصر على ما يراه الفرد في هذه الدنيا.
بالطبع لا يسعى هذا التقرير إلى أسطرة الإنسان الغزي (أي جعله أسطورة)، بل يحاول البحث في الديناميات والقدرات النفسية الحقيقية التي يقاوم بها سكان القطاع، في محاولة للنجاة من الأهوال التي يقاسونها يوميا، ليس على صعيد النجاة من الموت فحسب، بل أيضا عبر المجاهدة في تفاصيل يومهم كافة، بدءا من شربة الماء، وصولا إلى محاولة النوم، وليس انتهاء بالعيش وسط مجتمع لا يمتلك أدنى مقومات العيش الكريم، وأساسات الحياة التي اعتادها لعقود.
أما عن مصطلح "اضطراب ما بعد الصدمة" فهو أحد أكثر المصطلحات النفسية شيوعا في العالم العربي، وقد أخذ رواجا على إثر الانتكاسات السياسية والاقتصادية وما تلاها من تمزّقات شملت البنى الاجتماعية في عدد من المجتمعات العربية، وكانت ارتدادات تلك الانتكاسات حاضرة بثقلها على المساحة الشعورية للأفراد والمجتمعات على السواء، وفي ظل هذا الواقع، حضر مصطلح اضطراب ما بعد الصدمة كمحاولة لتفسير آثار التغيرات التي برزت على سطح المجتمع وعمقه.
وكما الحال في العلوم الاجتماعية والإنسانية، فإن المفاهيم عادة ما تنشأ في سياق زماني وجغرافي محدد، ثم تكون عرضة للتبدل والتغير، عندما تتعرض لتفسير وفهم مستجدات جديدة، فامتزاج النظرية بسياقات ثقافية مختلفة عن البيئة التي نشأت فيها، يحتم عليها أن تتجاوب مع المتغيرات حتى يمكنها، اخراج تفسيرات ملائمة. وقد أسهمت غزة في خلق تحديديات كثيرة أما العديد من الأفكار والنظريات الاجتماعية.
إعلانأما عن سياق نشأة وظهور مصطلح "اضطراب ما بعد الصدمة"، فنجده مرتبطا بالجمعية الأميركية للطب النفسي عام 1980، وقبل سك هذا المصطلح، كان هذا الاضطراب يُعرف قد انتشر خلال الحرب العالمية الأولى باسم "صدمة القذائف"، وكان يُعتقد أنه يؤثر على الجنود فقط. وتعرّفه جمعية علم النفس الأميركية بأنه اضطراب نفسي يحدث عندما يعيش أو يشهد شخص ما حدثا يشعر خلاله بتهديد حياته أو سلامته الجسدية، فتكون المشاعر المسيطرة على الشخص خلال هذا الحدث هي الخوف أو الرعب أو العجز.
بمرور الوقت، جذبت أعراض هذا الاضطراب انتباه الباحثين والعلماء، وبدأت البحوث المتتالية ترصد وتوثق أثر التعرّض للصدمات في تغيير حياة الإنسان وإفسادها، وذلك لما تتركه الصدمات من تأثيرات وتغييرات نفسية سلبية بعد تعرض الشخص لحادث صادم. وقد اعتقد الباحثون أن هذه التغييرات النفسية السلبية مردّها عائد إلى رغبة العقل في حماية الشخص من التعرض لمزيد من "التجارب الخطرة" أو من تلك التجارب التي يمكن أن تضع الفرد في موقف فيه تهديد، حتى وإن كان متخيّلا.
في البدء، طغى اتجاه طبي ينحصر تركيزه في توثيق التأثير السلبي للتعرض للصدمات، دون الالتفات كثيرا إلى الملاحظات -كانت قليلة حينها- التي تناولت التأثير الإيجابي الذي يُمكن أن تُحدثه الصدمات في حياة وشخصية الأفراد الذين يتعرضون لها.
لكن قد يكون السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: "هل كل مَن يتعرض لحادث مؤلم مُهدِّد للحياة، يُعاني بعد النجاة منه اضطراب ما بعد الصدمة؟".
النمو بعد الصدمةرغم الاهتمام بالجوانب السلبية، فإن بحث جوزيف، السابق الإشارة إليه، يرى أن الاهتمام العلمي في المجال النفسي بالتغيرات الإيجابية التي قد تعقب تعرض الشخص للصدمات والشدائد، أخذ في التزايد، بعدما أظهرت مجموعة من الدراسات -التي أُجريت أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات- أن هناك مجموعة من التغيرات الإيجابية التي شهدتها شخصيات قاسوا أحداثا مأساوية أو صدمات شديدة القسوة.
إعلانحين رُصدت نتائج الدراسات السابقة، بدأ الاهتمام خلال تسعينيات القرن الماضي بدراسة الكيفية التي تتحول فيها صدمة إلى عامل "محفز" للتغييرات الإيجابية، وأثر ذلك في تعضيد التكوين الشخص النفسي. هنا بدأ يظهر مفهوم "النمو" بعد الصدمة، حتى أصبح مجالا بحثيا يجذب اهتماما دوليا واسعا من الباحثين والعلماء، وخلال السنوات العشر التالية لظهور هذا المفهوم، أصبح نمو ما بعد الصدمة أحد الموضوعات الرئيسية التي تندرج ضمن موضوعات علم النفس الإيجابي.
يُشير موقع "سيكولوجي توداي" إلى أنه في أوائل التسعينيات، صاغ عالِما النفس ريتشارد تيديشي ولورانس كالهون مصطلح "النمو بعد الصدمة" (PTG)، ويقوم هذا المصطلح بشكل أساسي بوصف التغييرات الإيجابية التي يمكن أن تحدث لشخصية الفرد أو نفسيته بعد تعرضه لأزمة كبيرة أو حادث مُهدِّد للحياة أو صدمة قاسية.
وأن التغييرات الإيجابية الملحوظة يمكن أن تحدث للشخص الذي تعرض للصدمة خلال الأيام أو الأشهر أو حتى السنوات التي تلي تعرضه لهذه الصدمة. وبالنسبة للناجي من الصدمة، يمكن أن تكتسب الحياة معنى جديدا يمنح الفرد القدرة على إعادة تشكيل معتقداته وأولوياته وأهداف حياته والقيم التي ستشكل هويته.
مشروع مقاوم أكثر صلابةخلال شهر مايو/أيار الجاري، أعلنت وزارة الصحة بقطاع غزة، أن 16 ألفا و503 أطفال فلسطينيين قتلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال الإبادة الجماعية في غزة، في إحصائية صادمة تجسد حجم الاستهداف المباشر والممنهج لأضعف فئات المجتمع.
عرف الأطفال، الذين يُمثلون ما يقرب من نصف عدد سكان قطاع غزة خلال أكثر من 20 شهرا، معنى أن يتركوا بيوتهم مرغمين مذعورين قبل أن تُهدم فوق رؤوسهم، ومعنى أن يذوقوا ألم فقدان أهاليهم وأقربائهم وأصدقائهم وجيرانهم، ومعنى أن ينتظروا الموت، فلا يعلمون ما إذا كانت هذه آخر مرة يضع فيها الواحد منهم رأسه المنهك على الأرض كي ينام، أو أن يرقبوا بأعينهم من وراء الركام ويشموا بأنوفهم رائحة الدماء التي تعني حتما ارتفاعا يوميا في أعداد الشهداء والمصابين، حتى يصبح الموت حاضرا وماثلا وجاثما على امتداد القطاع.
إعلاناختبر هؤلاء الأطفال معنى أن تسترد وعيك في المشفى كي ترى طرفا من أطرافك قد بُتر. ناهيك عن الإصابات غير المرئية، كأن تنخفض قدرة طفل على السماع على إثر قذيفة سقطت في منطقة مجاورة لمكان تواجد الطفل، وهذه إصابة حقيقية لها شواهدها.
بالعادة، وفي سياقات مشابهة، تبدو نتيجة الضرر النفسي البالغ حتمية على كل طبقات المجتمع، فما ظنّك بالأطفال؟ بالتأكيد هناك من عانى من ويلات الحرب وألمت به مشاعر الاكتئاب والقلق واليأس والحزن والاستياء والغضب والخوف، لكن هذا ليس أمرا جاريا ومضطردا في كل الأحوال.
فبعض التغييرات العنيفة والأحداث بالغة القسوة التي شهدها الطفل الغزاوي، وفقا لمفهوم "النمو" بعد الصدمة والتي تمتزج مع المركّبات الإيمانية للمجتمع الغزيّ، قد لا تقود إلى نتيجة حتمية مفادها الانهيار -وإن كان ذلك حاضرا ولا يمكن إنكار حدوثه اليوم أو احتمالية ظهوره في المستقبل القريب- لكنها في المقابل قد تجعل منه شخصية تتسم بالصلابة والقوة النفسية، ورُبما يكون الصبي الذي شهد كل هذا العنف في الغد القريب مقاوما أكثر صلابة من سابقيه، فكثير من مقاومي اليوم هم من أهالي الشهداء والأسرى والمصابين، وهم ممن قاسوا شخصيا، أو قاسى أهلهم المباشرون حروبا وتهجيرا وتضييقا ممنهجا حتى وجدوا في المقاومة خيارا ضروريا لاسترداد الحق.
في السياق ذاته، قبل أن يتغير موقف الملياردير الأميركي إيلون ماسك من حرب إسرائيل على غزة، فإنه كان قد تساءل في مقابلة مصورة في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أي بعد شهر تقريبا على طوفان الأقصى وبدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة: "مقابل كل عضو تقتله من حماس كم خلقت من الأعداء؟ وإذا كان ما خلقته أكثر مما قتلت فأنت لم تنجح". كان هذا التساؤل المشروع قبل أن يحرك نتنياهو ترسانته لاستمالة ماسك الذي بدا جليا تغير خطابه ومواقفه بعد هذه المقابلة تحديدا.
إعلانقد تخلق الظروف القاسية إنسانا مضطربا، وقد تساعده على اكتشاف مكنوناته وقدراته الداخلية. قد يتألم الانسان الموجوع، ولكن من الممكن أن يشتد عوده وتصلب إرادته، وعندما يعتاد مجتمع ما الحرب والصراع وترتبط ذاكرته بالاستعمار والانتهاكات، فليس أمامه إلا طريقان: أن يستسلم، أو يقاوم، وغزة بالتأكيد تقاوم.
ووسط كل هذا الركام والدموع المنهمرة، قد يتخلق شيء إيجابي وفق تصورات علم النفس، وأن هذا النمو المتوقع، أو التغير الإيجابي المرتقب لا يحدث بضغطة زر، وليس نتيجة حتمية للتعرض للصدمة، لأنه يتطلب تحديا واستعدادا نفسيا عاليا يصحبه المرء أثناء خوضه معركة بقائه. وهنا يوضح ستيفن جوزيف أن النمو بعد الصدمة هو "عملية تغيير وليس فقط نتيجة تلقائية للتغيير"، فهي لا تحدث إلا للأفراد الذين تأهلوا لذلك.
وهذه "الآثار الإيجابية" قد تزور الفرد بعد أعوام من الحرب، فيكتشف الحكمة من ورائها، ويسبر أغوار الآثار النفسية العميقة التي تركتها التجربة، وكل هذه أمور قد لا تحدث لآخرين. كما أن ثمة بعدا آخر في تشكيل هذا المقاوم الأكثر صلابة، وهي أن القاتل أو المجرم لم يترك "للضحية" مساحة ولا خيارا آخر، فإما أن يغرق في ظلمات الاكتئاب فيصبح الدم المسفوك لا معنى له سوى ندبة غائرة وجرحا نازفا في نفس وذهن الشخص، أو أن يقف على قدميه متحديا كل الأعباء، نافضا عنه غبار العاصفة الثقيل، كعنقاء تخرج من رمادها، ثم يقاوم، كي يسترد بعضا من حقه، أو يُقتل وهو يحاول، فـ "علَى هَذِهِ الأَرْض مَا يَسْتَحِقُّ الحَياةْ"، كما يقول محمود درويش.