سودانايل:
2025-05-14@02:43:44 GMT

المثقف التائب: هشاشة الفكر المهزوم

تاريخ النشر: 28th, January 2025 GMT

إبراهيم برسي

٢٧ يناير ٢٠٢٥

“في كل تساؤل يكشف هشاشة الوجود، وكل فكرة تكسر أفق المألوف في سردياته، تنبثق الثقافة ككومضة ضوء في فضاء غارق في الظلام.
ليست الثقافة مجرد مسعى إنساني للبحث عن المعرفة، بل هي الوجيف الخفي الذي يرافق خطواتنا في هذا العالم الهش، الذي لا يطيق الثبات.
هي القوة التي تهز البنية، تهدم التصورات القديمة وتعيد صياغة الواقع بنظرة جديدة، تلامس الحواف المجهولة من تجربة الوجود.

لكن ماذا يحدث عندما تتخاذل هذه القوة؟ عندما تنقض الثقافة على نفسها بفعل المثقف نفسه، حين يتخلى عن المبادئ التي أنشأتها ونشأت منها، ليبحث عن ملاذات بديلة تحت وطأة الخوف أو الضعف؟
هل تصبح الثقافة مجرد ظلال لروح ضائعة، تعيش في أفق غير مرئي، حيث التبعية تحتفل والمقاومة تسقط؟

الفكر هو مرآة الوجود، لكنه لا يكتفي بعكسه بل يسعى لإعادة تشكيله. والمثقف، في جوهره، ليس مجرد مفسر للواقع، بل هو المبدع الذي يحاول أن يرسم مسارًا جديدًا نحو المستقبل.
لكن السؤال يظل: ما الذي يحدث عندما يخون المثقف نفسه؟ هل يصبح الفكر مجرد ظلال تتبع أقدام صاحبه؟ أم أنه يظل نورًا يتحدى الظلام؟

في مواجهة الواقع القاسي، قد يجد المثقف نفسه في معركة بين الأمل والمقاومة، فتتحول أفكاره إلى تمزقات بين المبادئ والملاذات الزائفة. من هنا يبدأ صراع بين المثقف المبدئي، الذي يظل ثابتًا رغم العواصف، والمثقف التائب الذي يهرب من معركته ليلتجئ إلى أرض الغيبيات.
إن المثقف، حينما يتنكر لمبادئه، يصبح كالشجرة التي قطعت جذورها بإرادتها، تهيم في فضاء مفتوح بلا هوية، بلا هدف.

“الفكر لا يقف عند حدود الفهم، بل يتجاوزها إلى فعل التغيير؛ وما يربط بين المثقف ووجوده هو قدرته على التأثير في العالم من حوله، وهو اختبار حيوي لا يمكن تجاوزه.”

إن المثقف التائب أشبه بشجرة قطعت جذورها بإرادتها. بعد أن كانت تستمد قوتها من التربة الصلبة للمبدأ، تهيم في فضاء الغيبيات كغيمة خاوية، لا تستطيع أن تُنزل المطر ولا أن تستقر في مكان معين. نرى هذا التراجع جليًا في تحولات بعض المثقفين، سواء كانوا عربًا أو عالميين، الذين انطلقوا من مشاريع تنويرية وعقلانية ثم، بفعل الضغوط أو الإغراءات أو الإحباط، عادوا إلى أحضان الدين أو خطاب الغيبيات. يقول جان بول سارتر، الذي رفض في نهاية حياته نداءات الكنيسة ليتوب عن إلحاده: “لا يمكننا أن نكون نصف أحياء ونصف موتى. الفكرة، مثل الكائن الحي، تموت حينما نتخلى عنها.”

المثقف التائب يخون الفكرة، لكنه يبرر خيانته بحجج “روحية” أو “اجتماعية”. هنا نجد أمثلة واضحة: أنور الجندي، الذي بدأ مشروعه ككاتب حداثي، ثم انقلب مدافعًا عن “التراث” ضد التنوير، يشبه شخصًا هجر معركة في منتصفها ليصبح جنديًا في صفوف العدو. هذه الخيانة لا تحدث علنًا، بل تُقدَّم كمصالحة مع الذات أو اكتشاف لـ”الحقيقة”. التوبة الفكرية، في الكثير من الحالات، ليست سوى ستار يغطي به المثقف عجزه عن مواجهة الواقع القاسي الذي يرفض أن يتغير.

وعلى النقيض، المثقف المبدئي هو من يظل ثابتًا رغم العواصف. هو مثل ماركس الذي قال: “الفلاسفة اكتفوا بتفسير العالم، بينما المطلوب تغييره.” هذا المثقف لا يرى المبادئ كرفاهية أو زينة شخصية، بل كجزء لا يتجزأ من كيانه. إن فرج فودة، الذي قُتل بسبب دفاعه عن العلمانية، وعبد الخالق محجوب، الذي رفض المساومة على العدالة الاجتماعية حتى الموت، هما مثالان على الثبات الفكري الذي لا يتزعزع. المثقف المبدئي هو من يعيش أفكاره حتى النهاية، مهما كان الثمن.

علم النفس الاشتراكي يفسر هذا الصراع بين التوبة والمبدأ في ضوء نظرية الاغتراب التي تحدث عنها إريك فروم. فروم يرى أن المثقف الذي يتخلى عن مشروعه العقلاني يعود إلى الدين أو الغيبيات لأنه يشعر بالاغتراب عن العالم الذي لم يستطع تغييره. هذا الاغتراب يثير في نفسه إحساسًا بالفراغ الروحي، فيسعى إلى ملء هذا الفراغ بطمأنينة زائفة تأتيه من الدين أو الموروثات غير العقلانية. هذه الطمأنينة، رغم أنها تمنحه راحة مؤقتة، إلا أنها في النهاية تقتل الفكرة التي كان يحملها يومًا ما، وتبعده عن مواجهة الواقع.

المثقف التائب يشبه سفينة فقدت بوصلتها، فتبحر عشوائيًا باحثة عن ميناء آمن، حتى لو كان هذا الميناء محاطًا بالصخور. بينما المثقف المبدئي هو كطائر يحلق بلا توقف، يعلم أن التحليق مؤلم ومرهق، لكنه لا يقبل السقوط.
يمكننا أن نستشهد هنا بجورج لوكاتش، الذي ظل ملتزمًا بمبادئه الاشتراكية رغم كل التحديات، وكان يقول: “الحرية ليست أن تختار بين الراحة والمعاناة، بل أن تختار طريقك رغم المعاناة.”

المفارقة العجيبة هي أن المثقف التائب غالبًا ما يجد القبول الاجتماعي سريعًا، بينما المثقف المبدئي يعيش على الهامش. المجتمع يميل دائمًا إلى احتضان من يبرر له الوضع الراهن، بينما يخشى من يطالب بالتغيير. هذا التناقض يذكرنا بكلمات نيتشه: “الحقائق التي تخدم الراحة هي أكاذيب مقنّعة.” المثقف التائب يبيع الوهم المريح، بينما المثقف المبدئي يبيع الحقيقة المزعجة.

في نهاية المطاف، المثقف ليس مجرد مفكر أو كاتب، بل هو روح قلقة تسعى وراء العدالة، الحرية، والحقيقة. إذا تخلى عن هذه الروح، فإنه يتحول إلى ظل باهت لنفسه. وهنا تظهر المفارقة الحقيقية: المثقف المبدئي قد يموت وحيدًا ومهمشًا، لكنه يظل خالدًا في أفكاره، بينما المثقف التائب قد يُحتفى به مؤقتًا، لكنه يموت مرتين: مرة عندما يخون مبدأه، ومرة أخرى عندما يُنسى.

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

انتظام عقد التقييم المبدئي للصفين الأول والثاني الابتدائي بالمدارس بلا شكاوى|صور

استأنفت اليوم المدارس الابتدائية عقد التقييم المبدئي لتلاميذ الصفين الأول والثاني الابتدائي “ الترم الثاني” في جميع المدارس الابتدائية الموجودة على مستوى الجمهورية.

وأكدت الإدارات التعليمية انتظام عقد التقييم المبدئي لتلاميذ الصفين الأول والثاني الابتدائي “ الترم الثاني” في المدارس اليوم بلا شكاوى 

ومن المقرر أن يستمر التقييم المبدئي لتلاميذ الصفين الأول والثاني الابتدائي “ الترم الثاني” في جميع المدارس الابتدائية الموجودة على مستوى الجمهورية حتى الخميس 15 مايو 2025 .

وزير التعليم: تسخير كافة الإمكانيات لتحقيق العدالة والنزاهة في امتحانات الثانويةأشعر بالامتنان.. أول تعليق من وزير التعليم السابق بعد تكريمه من رئيس الوزراءالتعليم تكشف حقيقة إلغاء الصف السادس الابتدائي بداية من العام القادمقرار عاجل من وزير التعليم لرفع كفاءة الأداء في المدارستقييمات الصفين الأول والثاني الابتدائي  يقوم نظام تقييم الصفين الأول والثاني الابتدائي على قياس الأداء والسلوك الفردي والجماعي للتلميذ من خلال المهام الفردية والجماعية بأنواعها (التحريرية - الشفوية - المهارية ) يتم تحفيز الطلاب على تحسين أدائهم من خلال استخدام أنماط تحفيزية مناسبة لهذه المرحلة العمريةيجب حضور التلميذ بالصفين الأول والثاني الابتدائي بنسبة لا تقل عن 60% بالفصلين الدراسيين ، وفي حالة عدم حضور هذه النسبة لا ينقل إلى الصف الأعلى إلا بعد اجتياز البرنامج العلاجي الذي تقوم المدرسة بإعداده في نهاية العام الدراسي ، وفي حالة عدم حضور البرنامج العلاجي لا ينقل الطالب إلى الصف الأعلى.


يتم احتساب متوسط درجات التلميذ في كل فصل دراسي، وتكون درجة التقييم الشهري 100 درجة، تقسم كالتالي:

 المهام التحريرية.. 20 درجة لكراسة الأداء الصفي ويدون بها التلميذ الممارسات الصفية اليومية وتقيم أسبوعيا + 20 درجة للمهام التحريرية المنزلية وتقيم بشكل أسبوعي من خلال كراسة الواجب، و20 درجة للتقييم الأسبوعي في صورة أسئلة قصيرة. المهام الشفهية.. تكون من خلال تفاعل التلميذ مع المعلم داخل الحجرة الدراسية عن طريق ممارسة إلقاء الأسئلة والحوار والمناقشة ويتم تسجيلها بدفتر تحضير المعلم بشكل أسبوعي. المهام المهارية.. تكون من خلال ممارسة التلاميذ للمهارات الحياتية المتعلق بنواتج تعلم المادة الدراسية بشكل أسبوعي مثل استخدام البازل في تكوين الاشكال الهندسية، وتحديد الاتجاهات الجغرافية ، ومهارات التواصل وعلاقة التلميذ بزملائه .. إلخ الحضور والمواظبة.. 5 درجات يتم تسجيلها بدفتر 5 سلوك بشكل منتظم.

ويلتزم المعلم بتسجيل درجات هذه المهام لكل تلميذ في سجل يعده المعلم، ويتضمن توقيع موجه الصفوف الأولى ومدير المدرسة، وفي نهاية كل فصل دراسي، يتسلم ولي الأمر تقريرا يعبر عن أداء التلميذ طوال تلك الفترة، وتحفظ صورة منه في ملف التلميذ، وذلك باستخدام الأداء المتدرج، على النحو التالي:

 يفوق التوقعات دائما.. من 85% الى 100% ويعبر عنه باللون الأزرق. يلبي التوقعات.. من 65% لأقل من 85% ويعبر عنه باللون الأخضر. يلبي التوقعات أحيانا.. من 50% لأقل من 65% ويعبر عنه باللون الأصفر. أقل من المتوقع.. أقل من 1% إلى اقل من 50% ويعبر عنه باللون الأحمر. طباعة شارك التقييم المبدئي الصفين الأول والثاني الابتدائي الأول والثاني الابتدائي الترم الثاني

مقالات مشابهة

  • الصواريخ اليمنية تهز أمن إسرائيل وتكشف هشاشة الدفاعات الأمريكية
  • «معلومات الوزراء» يستعرض دور مراكز الفكر في السياسات العامة ودعم مسيرة الإصلاح الاقتصادي
  • بينما كانوا يستمتعون بالسباحة.. فاجأتهم غرامة في شانلي أورفا!
  • إعلان نتائج القبول المبدئي لوظائف للرجال للعمل بقطاعات وزارة الداخلية
  • منظمات أممية: سكان غزة يموتون بينما الإمدادات على بعد دقائق
  • اليمن وغزة.. إخفاقاتٌ تكشفُ هشاشةَ التحالف الأمريكي “الإسرائيلي”
  • مستشار أمني: مركز «اعتدال» له دور كبير في مواجهة الفكر الضال إلكترونيا
  • انتظام عقد التقييم المبدئي للصفين الأول والثاني الابتدائي بالمدارس بلا شكاوى|صور
  • برلمانية: قانون تنظيم الفتوى سد منيع لحماية المجتمع من الفكر المتطرف
  • بينما خيول الجنجويد الهمجية تموتُ على أسوار الفاشر، كان البجا يقتلون الخوف القادم من السواحل!