ذُهان الذَّاكِرة بين العَرَب وإسرائيل
تاريخ النشر: 15th, February 2025 GMT
في كتابه «تكوين الطَّبَقة العاملة الإنجليزية» الذي نُشِر1963م، استخدم المؤرخ البريطاني تومبسون (إدوارد بالمر،1993م) تعبير «الاقتصاد الأخلاقي» وذلك في معرض تحليله للاضطرابات التي تتخذ بعدًا جماعيًا مجردًا، مثل نهب المتاجر وكسر أقفال المستودعات خلال فترات ارتفاع أسعار الخبز والأزمات الاقتصادية المختلفة، ليقول بضرورة قراءة هذه الأحداث في سياق يبتعد قليلا عن القانوني ويقترب منها باعتبارها مسألة ذات بعد أخلاقي، ولذا فإنه يضفي بعض الشرعية على هذه الأعمال من خلال التأكيد على حقيقة دوافع التخريب، أي أن ثمة تبرير أخلاقي عند المحتجين دفعهم إلى اتخاذ أساليب عنيفة لكنه عنفٌ جدلي، إذ صدر نتيجة سياسات جائرةً مسَّت قُوْت الناس.
والحقيقة أن ليس كل الغرب يرى ما تراه الولايات المتحدة الأمريكية، فكثيرة هي الأصوات التي لا زالت تؤمن بالحق الفلسطيني في الأرض، وأهم هذه الأصوات المفكر الفرنسي ريجيه دوبريه (ولد 1940م)، والذي عرُف منذ ستينيات القرن الماضي حين بدأ اشتراكيًّا فوضويًّا وانضم إلى المناضل الأشهر تشي جيفارا في بوليفيا سنة 1967م، ثم انتهى به الأمر سجينا، وهناك في ظلمة الزنزانة يتبلور كتابه «نقد العقل السياسي» وهو ثمرة تأمل وتنظير كشف عن تحولات كبرى في وعيه، ولابد من الإشارة إلى أن دوبريه وقت كان يشغل منصب المستشار السياسي للرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران (حكم 1981-1995م) كان جوهر شغله الحد من تأثير السياسة الأمريكية على بلاده. وللرجل رأي جدير بالنقاش حول القضية الفلسطينية.. وهذه بعض الملامح.
يرى دوبريه بأن فكرة إنشاء دولة فلسطينية لم تعد ممكنة في الوقت الراهن، والسبب يعود إلى وجود 400 ألف مستوطن في القدس الشرقية والضفة الغربية «يشير إلى مستوطنات مثل: موديعين عيليت، ومعاليه أدوميم وغيرها، والجدير بالذكر أنه قد تقدم مؤخرًا عدد من المشرعين الجمهوريين في مجلس النواب الأمريكي بمشروع قانون يحظر استخدام مصطلح - الضفة الغربية - في الوثائق الحكومية الأمريكية واستبداله بعبارة - اليهود والسامرة - فتأمل!». وبالعودة إلى دوبريه فإن محاولة إزالة هذه المستوطنات أمر لا يمكن تصوره، وإن فكرنا نحتاج إلى أحداث شديدة العنف لتحقيق ذلك؛ لأن الذي يحكم السياسة الإسرائيلية هو الهوس بالأمن ما نقل سياساتها من منطق القَضْم (اقتطاع أراضي الفلسطينيين بالتدريج) إلى الضم الخالص (الاستيطان) ويبدي صاحبنا أسفه للرفض الذي قابلت به إسرائيل الخطة التي طرحها الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز (2000م) والتي تقوم على «السلام مقابل الأرض» أي أن تنشأ دولة فلسطينية على حدود 1967م تتبعها عودة لللاجئين مقابل الاعتراف والتطبيع مع إسرائيل من جانب الدول العربية، وليدلل على ثمانة هذه الفرصة يقول إن عددًا كبيرًا من المفكرين اليهود رأوا فيها مجالا ممتازًا لتسوية القضية، وأنها تحقق لإسرائيل أمنها المهدد باستمرار، وفشلها يعود إلى الصدام بين الديني والسياسي في إسرائيل. حتى باتت إسرائيل تعيش حالة تراجع مستمر من كونها دولة في المنطقة إلى ترميزها في «قلعة» معزولة، وهذا يفيد هيمنة فكرة الخطر، وجدلية البوابات المغلقة أمام منطق الدولة المرشحة للتفاعل مع بيئتها السياسية كحالة طبيعية لأي مجال سياسي.
وفيما يتعلق بالتأييد المطلق للولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل فإن تحليل دوبريه يتحرك أعمق ناحية بنية اللاوعي الديني الرابط بين الدولتين، إذ يرى أن أمريكا مرتبطة لاهوتيًّا وعاطفيًّا بالشعب العِبري، وأنها ترى نفسها مدغمة في تاريخ الشعب اليهودي باعتباره «شعبًا مختارًا» كونها قد تشكلت في سياق مقارب، وهذا ما يزيد من تعقيد فهم العلاقات الأمريكية/الإسرائيلية. وحتى المحاولات التي اتخذها البيت الأبيض في فترة حكم الرئيس جورج بوش «الأب» ووزير خارجيته جيمس بيكر لصالح تقييد الهيجان الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين والمنطقة فإنها لم تكن إلا حالة استثنائية في تاريخ هذه العلاقة، فالولايات المتحدة لن تخاطر أبدًا بالدخول في مواجهة دبلوماسية مع إسرائيل، كون الرابط الجوهري بينهما يتغذى على ما يسميه دوبريه ببنية «اللاوعي اللاهوتي» ومن مظاهر حضور هذا الهذيان اللاهوتي هو تغلغل الأحزاب الدينية الصغيرة في النظام السياسي الإسرائيلي بهدف ممارسة الابتزاز الدائم على أي حكومة منتخبة تتولى السلطة في إسرائيل، وبالطبع تتم هندسة ذلك بترتيب أمريكي/إسرائيلي غير مُعلن. وبذلك فإن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية لن تخرج عن حدود الطاعة لإسرائيل، هذا أمريكيًّا، أما أوروبا فهي عاجزة تمامًا عن مواجهة إسرائيل كون سياساتها لا زالت مشلولة بثقل ذكريات المحرقة، ومبتزةً بآثامها المفترضة بسبب السكوت عن اضطهاد اليهود.
هذا إسرائيليًّا، أما عربيًّا فلدوبريه تحليل حول فشل أية محاولة لإحلال السلام في المنطقة والسبب هو «تَدييَّن» القضية، أي النظر إليها باعتبارها قضية دينية وليست مسألة جيوسياسية، ولذا فإنه يوجه نقده لحركة حماس ويبدي تعجبه من زيادة نفوذها، إذ والحال كذلك فإنه لا يمكن من وجهة نظره حل المسألة والوصول إلى تسوية كونها انتهت في الوعي الجمعي إلى حرب لا نهائية، وأن حالة الخضوع للمعنى الديني في القضية ليست مسؤولية العرب فحسب، فقد فشل الغرب في توفير الحد الأدنى من الإنصاف في هذه المنطقة، مما غذى اليأس وسمح باستقرار القضية في سياقها الديني أكثر من السياسي، وبذا فإن المسألة الفلسطينية في ظل هذا الوضع لن تراوح مكانها أبدًا، بسبب ما يسميه «ذهان الذاكرة» فهناك عَمَى سياسي من الجانب العربي نحو البنية الأم في الوعي اليهودي - «المحرقة» - كونها غير موجودة، وهذا ما يجعل فهم العرب مغلوطا للمواقف الغربية والأمريكية تجاه إسرائيل، فالذاكرة متضخمة في الطرف الإسرائيلي وتمد عنفه السياسي والمادي بأسباب الحضور، وضامرة على الجانب العربي.
إن أي محاولة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط وإيجاد نهاية عادلة للمعاناة في فلسطين ستظل مهمة شبه مستحيلة، كون الطرفان يحتكمان إلى رؤى متعارضة ومؤسسة على المخاوف المتبادلة، والحاجة ماسة إلى معالجة جذرية تمس الوعي بين الطرفين في حال استقرت رغبة صادقة لتحقيق سلام حقيقي على الأرض.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
تشيلي على حافة الزلزال السياسي وصعود اليمين يحبس الانفاس
توجه الناخبو في تشيلي لحسم جولة فاصلة قد تعيد رسم خريطة الحكم بالكامل حيث تتقاطع مخاوف الامن والهجرة مع تراجع الثقة في الخيارات المطروحة وسط أرقام قياسية للجريمة واستقطاب ايديولوجي حاد يضع الدولة امام اختبار تاريخي لمسارها الديمقراطي
الانتخابات الرئاسية في تشيلي تفتح الباب لأقصى اليمينتدخل تشيلي يوم الحسم وسط ترقب واسع لما ستسفر عنه الانتخابات الرئاسية في تشيلي التي تضع البلاد على اعتاب احتمال انتخاب اكثر الرؤساء ميلا لليمين منذ نهاية الحكم العسكري حيث يتقدم المرشح المحافظ المتشدد خوسيه أنطونيو كاست على منافسته اليسارية جانيت جارا في جولة فاصلة تعكس تحولا عميقا في المزاج العام للدولة الواقعة في امريكا الجنوبية
تبدأ المعركة الانتخابية بتأكيد ان خوسيه أنطونيو كاست مرشح الحزب الجمهوري بات الاقرب للفوز وفق اتجاهات التصويت بينما تخوض جانيت جارا مرشحة تحالف وحدة تشيلي السباق مدعومة من التيار الحاكم بعد تفوقها الضيق عليه في الجولة الاولى التي جرت الشهر الماضي
تظهر الارقام ان قوى اليمين بمختلف اطيافها حصدت نحو 70% من الاصوات في الجولة الاولى غير ان كتلة كبيرة من الناخبين الوسطيين بقيت بلا تمثيل فعلي بعدما دعم جزء منهم مرشحا وسطيا شعبويا قدم نفسه بديلا لما وصفه بتطرف كاست وهو ما يضع شرعية التفويض الشعبي على المحك ويجعل هامش الفوز عاملا حاسما في توصيف المرحلة المقبلة في تشيلي
تصاعد خطاب الامن والهجرة في تشيلييركز خوسيه أنطونيو كاست في حملته على ربط الهجرة غير النظامية بتصاعد الجريمة متعهدا بترحيل اكثر من 300000 مهاجر دون وضع قانوني وخفض الانفاق العام بقيمة 6 مليارات دولار خلال 18 شهرا دون المساس بالمزايا الاجتماعية الى جانب توسيع صلاحيات الجيش لمواجهة الجريمة المنظمة وهي وعود تثير حساسية تاريخية في دولة لا تزال ذاكرة دكتاتورية أوجستو بينوشيه بين 1973 و1990 حاضرة بقوة
يواجه كاست تحديا مؤسسيا يتمثل في غياب الاغلبية البرلمانية لحزبه الجمهوري ما يفرض عليه التفاوض مع قوى يمينية معتدلة قد تعارض بعض مقترحاته الامر الذي قد يخفف من حدة برنامجه او يهدد تماسك قاعدته التي تنتظر تنفيذا سريعا لتعهدات فرض النظام
يرتبط صعود كاست ايضا بتراجع شعبية حكومة اليسار بقيادة الرئيس جابرييل بوريك الذي تولى الحكم في 2021 متعهدا بتغيير النموذج الاقتصادي غير ان ولايته شهدت في 2022 وهو عامه الاول رقما قياسيا لجرائم القتل بالتزامن مع استغلال شبكات عابرة للحدود مثل ترين دي أراجوا لمسارات الهجرة غير الشرعية بعد اغلاق الحدود خلال الجائحة
يسجل المشهد ان نسبة الرضا عن بوريك هبطت الى 30% رغم اقدام حكومته على ضخ استثمارات في قوات الامن وتشديد العقوبات على الجريمة المنظمة ونشر الجيش لتعزيز الحدود الشمالية وانشاء اول وزارة للامن العام في تشيلي وهو ما ساهم في تراجع معدل القتل ليصبح قريبا من مستوى الولايات المتحدة دون ان يبدد شعور انعدام الامان
استقطاب حاد قبل جولة الحسمتؤكد المؤشرات ان القلق من الجريمة والهجرة طغى على باقي القضايا وهو ما اجبر جانيت جارا وزيرة العمل السابقة في حكومة بوريك على تعديل خطابها متعهدة بتشديد الرقابة الحدودية وتسجيل المهاجرين غير النظاميين ومكافحة غسل الاموال وتكثيف مداهمات الشرطة رغم نجاحها السابق في تمرير اهم سياسات الرعاية الاجتماعية
توضح المقارنات الدولية عمق الفجوة في الشعور بالامن اذ يشعر اكثر من 70% من سكان ليبيا بالامان عند السير ليلا وفق مسح شمل 144 دولة بينما لا تتجاوز النسبة في تشيلي 39% وهي قريبة من الاكوادور التي تشهد موجة عنف مرتبطة بالمخدرات
يتفادى كاست خلال حملته القضايا التي اشعلت انتقادات سابقة مثل ماضي والده الالماني المرتبط بالنازية او مواقفه من زواج المثليين والاجهاض مكتفيا بالقول ان قيمه لم تتغير مع استهداف اصوات كانت قد ابتعدت عنه سابقا بسبب محافظته الاجتماعية
تشهد الساحة ايضا تفاعلات رمزية مثل ظهور لافتات تحذر من مستقبل الدولة وصور تجمع كاست مع رئيس الارجنتين خافيير ميلي في سياق تحذيري بينما يواصل المرشح اليميني عد الايام المتبقية حتى تنصيب الرئيس في 11 مارس في اشارة الى حتمية التغيير
تختتم الصورة الانتخابية بتباين حاد في الثقة بين المرشحين حيث يعول كاست على صورة الرجل الخارج عن المؤسسة والقادر على فرض النظام مستلهما خطابا مشابها لنهج دونالد ترامب في حين تحاول جارا اثبات قدرتها على التوازن في دولة تتجه بكامل ثقلها نحو معركة هوية سياسية ستحددها نتائج الانتخابات الرئاسية في تشيلي
رصاص على الرمال الأسترالية يحول شاطئ بوندي إلى ساحة دم ونار ميسي يحرق المدرجات في الهند وغضب جماهيري يسيطر على كلكتا زلزال جماهيري يهز ملعب كولكاتا بعد زيارة ميسي للهند “تعليم أسيوط” تنفذ ورشة عمل لمسؤولي البرامج العلاجية للطلاب ضعاف التحصيل إصابة 5 عمال إثر انقلاب تروسيكل في ترعة بمركز الوقف شمال قنا تصادم سيارتين على الطريق الدولي الساحلي في شمال سيناء وإصابات متفاوتة تفاصيل انهيار عقار بولاق الدكرور يهز الجيزة وإصابات وخسائر تفاصيل انهيار منزل بالأقصر يحصد أسرة كاملة مستشفى سوهاج العام يستقبل طفلين مصابين في حادثين منفصلين مصر تحت صدمة جرائم قتل ست الحبايب وسط فجوة حماية مخيفة