تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

يظل شهر رمضان المبارك شاهدا على أعظم لحظات التاريخ الإسلامي، ليس فقط باعتباره شهرا للصيام والقيام والروحانيات، بل أيضا كفصل حاسم فى سجل الانتصارات والإنجازات العظيمة التى رسمت ملامح الحضارة الإسلامية. فمنذ بزوغ فجر الإسلام، ارتبط رمضان بالفتوحات الكبرى، حيث كانت أيامه المباركة مسرحًا لمعارك خالدة قادها عظماء الأمة، لتتحول إلى محطات مفصلية غيرت مجرى التاريخ وأرست قواعد حضارة امتد أثرها إلى أقصى الأرض.

رمضان.. شهر النصر والعزيمة

لم يكن رمضان شهرا للتعبد فقط، بل كان موعدا لانطلاق الجيوش الإسلامية، حيث سطر فيه المسلمون أعظم الانتصارات، وواجهوا التحديات بروحٍ تفيض بالإيمان والعزيمة. فمن غزوة بدر الكبرى، التى شكلت أول انتصار حاسم فى تاريخ الإسلام، إلى فتح مكة الذى مهّد الطريق لترسيخ دعائم الدولة الإسلامية، ثم إلى الفتوحات الإسلامية الكبرى التى امتدت شرقا وغربا ليبقى رمضان شاهدا على إصرار الأمة وقدرتها على تحقيق المستحيل.
لقد كانت هذه الانتصارات محطات فارقة لم تقتصر على ميادين القتال، بل امتدت إلى مختلف مجالات الحياة، حيث نشر المسلمون العلم والثقافة، وأسسوا دولا وحضارات قامت على العدل والمعرفة. كان رمضان شعلة مضيئة فى مسيرة التاريخ، ووقودا لمعارك لم تكن مجرد انتصارات عسكرية، بل كانت تحولات حضارية ساهمت فى بناء أممٍ وترسيخ قيمٍ خالدة.

فتح الأندلس.. مجد رمضان الخالد

إذا كان هناك انتصار ارتبط اسمه برمضان إلى الأبد، فهو فتح الأندلس، الذى كان من أعظم الأحداث التاريخية التى غيرت وجه العالم. ففى رمضان من عام ٩٢ هـ (٧١١ م)، عبر القائد المسلم طارق بن زياد البحر من المغرب إلى الأندلس، حاملاً لواء الإسلام إلى تلك الأرض التى كانت ترزح تحت حكم القوط. كان جيش المسلمين صغيرًا لا يتجاوز ١٢ ألف مقاتل، فى مواجهة جيش القوط الذى بلغ ١٠٠ ألف مقاتل، لكن الإيمان والعزيمة كانا سلاح المسلمين الذى لا يقهر.
وصل طارق إلى الساحل الجنوبى للأندلس، وألقى خطبته الشهيرة التى خلدها التاريخ، قائلًا: " البحر من ورائكم والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر." كانت هذه الكلمات بمثابة شرارة أشعلت الحماسة فى قلوب جنوده، فانطلقوا بروحٍ لا تعرف التراجع، وحققوا نصرًا ساحقًا فى معركة وادى لكة، حيث لقى الملك القوطى الذى لقى حتفه، وبدأت الأندلس تفتح أبوابها للإسلام، لتتحول إلى واحدةٍ من أعظم مراكز الحضارة الإسلامية على مر العصور.
لم يكن فتح الأندلس مجرد انتصارٍ عسكري، بل كان بداية لعصرٍ جديد من العلم والازدهار. فبعد أن استتب الأمر للمسلمين، عملوا على بناء حضارة زاخرة بالعلوم والفنون والآداب، حيث أصبحت مدن مثل قرطبة، وغرناطة، وإشبيلية مراكز علمية وثقافية يقصدها طلاب العلم من شتى بقاع الأرض. لقد كانت الأندلس جسرا نقل علوم المسلمين إلى أوروبا، وأسهمت بشكل مباشر فى النهضة الأوروبية التى جاءت بعدها بقرون.
بعد الفتح، لم يكن طارق بن زياد مجرد قائد عسكري، بل كان أيضا رائدا فى إدارة شئون البلاد، حيث عمل مع قائده موسى بن نصير على تنظيم الأندلس وتحقيق الاستقرار فيها. وبفضل هذا الفتح، تحولت الأندلس إلى واحدة من أعظم الحضارات الإسلامية، حيث ازدهرت العلوم والفنون والثقافة الإسلامية لقرون طويلة.

رمضان فى ميادين القتال.. من بدر إلى العاشر من رمضان

على امتداد التاريخ، ظل رمضان شاهدًا على انتصارات الأمة، فلم يكن شهرا للراحة، بل كان شهر الإنجازات العظيمة. ففى غزوة بدر الكبرى (١٧ رمضان ٢ هـ)، انتصر المسلمون رغم قلة عددهم، حيث لم يتجاوزوا ٣١٣ مقاتلًا فى مواجهة جيش قريش الذى بلغ أكثر من ألف مقاتل. لكن العزيمة الصلبة والإيمان بالنصر جعلا هذه الغزوة نقطة تحول فى تاريخ الإسلام.
أما فتح مكة (رمضان ٨ هـ)، فكان إعلانا لانتصار الحق، حين دخل النبى محمد مكة فاتحا رافعا راية التسامح والعفو، حيث قال كلمته الخالدة لأهلها: "اذهبوا فأنتم الطلقاء." كان هذا الفتح نموذجا فريدا فى تاريخ الفتوحات، حيث لم يكن فتحا بالسيف، بل بالرحمة والتسامح، لترسخ مبادئ الإسلام القائمة على العدل والمساواة.
وفى العصر الحديث، شهد رمضان نصر العاشر من رمضان (٦ أكتوبر ١٩٧٣)، حين عبر الجيش المصرى قناة السويس، محققًا أعظم انتصار عسكرى فى العصر الحديث، ليبرهن أن روح رمضان ما زالت تلهم الأجيال بصناعة المجد والانتصار.
دروس من رمضان والفتوحات الإسلامية
إن استعراض هذه المحطات التاريخية المضيئة فى رمضان، يثبت أن هذا الشهر لم يكن شهرًا للراحة، بل كان شهر البذل والعطاء والعمل الجاد. فهو موسمٌ لتجديد العزيمة وشحذ الهمم، وهو درسٌ خالدٌ يعلمنا أن الإرادة الصلبة والعقيدة الراسخة قادرتان على تغيير مجرى التاريخ.
ففى كل مرةٍ يقترب فيها شهر رمضان، تتجدد ذكرى هذه الفتوحات، وتبعث فى الأمة روح النصر، ليبقى رمضان مدرسةً للأجيال، تلهمهم بحكايات الأبطال الذين سطروا المجد فى صفحاته، ليظل دائمًا شهر الفتوحات وصناعة المجد.

سعد بن أبى وقاص ومعركة القادسية

يعد القائد المسلم سعد بن أبى وقاص أحد أبرز أبطال الإسلام الذين سجلوا أروع الانتصارات فى شهر رمضان. فهو القائد الذى تولى مسئولية فتح بلاد فارس، وقاد المسلمين فى واحدة من أعظم المعارك فى التاريخ الإسلامي: معركة القادسية، التى كانت بوابة سقوط الإمبراطورية الفارسية وانتصار الإسلام على واحدة من أقوى الإمبراطوريات فى ذلك العصر
كان سعد بن أبى وقاص من أوائل الذين أسلموا، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد كبار قادة الفتح الإسلامي. وقد أدرك أن النصر فى أى معركة لا يتحقق بالقوة المادية وحدها، بل يحتاج إلى إيمان قوي، ووحدة الصف، واستعداد نفسى وروحي، وهو ما عمل على تعزيزه بين جنوده قبل معركة القادسية، مستغلا روحانية شهر رمضان فى تحقيق ذلك.

المواجهة مع الإمبراطورية الفارسية

بحلول عام ١٥ هـ (٦٣٦ م)، كان الإسلام قد انتشر فى الجزيرة العربية، وبدأ المسلمون يتطلعون إلى نشر رسالتهم خارجها. وقد شكلت الإمبراطورية الفارسية أحد أكبر التحديات أمام الدولة الإسلامية، حيث كانت تسيطر على العراق وبلاد فارس بقوة عسكرية ضخمة.
أدرك الفرس خطورة المسلمين، فحشدوا جيشا ضخما قوامه ١٢٠ ألف مقاتل بقيادة القائد الفارسى رستم فرخزاد، بينما لم يتجاوز عدد جيش المسلمين ٣٠ ألف مقاتل بقيادة سعد بن أبى وقاص وقبل المعركة، عمل سعد بن أبى وقاص على إعداد جيشه نفسيا وروحيا، حيث استغل أيام رمضان لتعزيز روح الجهاد والصبر فى نفوس المقاتلين. وكان يكثر من قراءة القرآن معهم، ويذكّرهم بمعارك المسلمين فى رمضان، مثل غزوة بدر. 
كما حرص سعد على أن يكون جيشه موحدا ومتكاتفا، حيث أرسل رسائل إلى القبائل العربية لحثها على الانضمام إليه.
استمرت معركة القادسية لثلاثة أيام، حيث استخدم سعد بن أبى وقاص خططا حربية عبقرية، كان من أهمها على الإطلاق استدراج الفرس إلى القتال فى سهل القادسية، حيث فقدت قواتهم ميزة التفوق العددى واستخدام الإبل كحاجز طبيعى ضد فيلة الفرس، مما أدى إلى اضطراب صفوف الجيش الفارسى والهجوم الليلى المفاجئ، حيث استغل المسلمون ليلة اليوم الثالث من المعركة لشن هجوم خاطف أربك الفرس وأدى إلى مقتل قائدهم رستم، وهو ما أدى إلى انهيار معنويات الجيش الفارسى وهروبه من ساحة المعركة.
بعد انتصار المسلمين فى القادسية، أصبحت العراق تحت سيطرة المسلمين، وبدأت الإمبراطورية الفارسية فى الانهيار تدريجيا، حيث توالت الفتوحات الإسلامية حتى تم القضاء على الدولة الفارسية تمامًا فى معركة نهاوند عام ٢١ هـ.
دروس من القادسية.. رمضان شهر القوة والانتصار
الإيمان والصبر يصنعان النصر: كما صبر المسلمون فى بدر وفتح مكة، صبروا فى القادسية، فكان النصر حليفهم.
التخطيط الذكى أهم من القوة العددية: رغم التفوق العددى للفرس، إلا أن عبقرية سعد بن أبى وقاص قلبت موازين المعركة لصالح المسلمين.

المعتصم بالله بطل معركة عمورية.. نداء امرأة أشعل نصرًا خالدًا

يظل الخليفة المعتصم بالله العباسى أحد أبرز القادة المسلمين الذين كتبوا أسماءهم بحروفٍ من ذهب فى سجل الفتوحات الإسلامية، ويعد فتح عمورية من أهم إنجازاته العسكرية، حيث جاء ردا على نداء امرأة استنجدت به قائلةً: "وامعتصماه!" فلبى النداء بجيش جرّار، محققًا نصرا مجيدا أعاد للأمة الإسلامية هيبتها.
فى القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادي)، كانت الدولة العباسية تمر بمرحلة من القوة والاستقرار، فى ظل حكم الخليفة أبى إسحاق المعتصم بالله (حكم ٢١٨-٢٢٧ هـ / ٨٣٣-٨٤٢م)، الذى تولى الخلافة بعد وفاة أخيه المأمون. كان المعتصم قائدا شجاعا وحاكما قويا، اهتم بتعزيز الجيش وتجنيد الجنود الأتراك، مما جعل جيشه من أقوى جيوش عصره.
فى تلك الفترة، كانت الإمبراطورية البيزنطية بقيادة الإمبراطور تيوفيلوس تحاول استعادة نفوذها فى مناطق الشام والأناضول، وشنت غارات متكررة على المدن الإسلامية. وفى عام ٢٢٣ هـ (٨٣٨ م)، قام الروم بمهاجمة مدينة زبطرة، الواقعة على الحدود الإسلامية، وارتكبوا فيها مجازر بشعة، وقتلوا الكثير من المسلمين، وسبوا النساء والأطفال.

"وامعتصماه".. الصرخة التى هزت عرش العباسيين

يروى المؤرخون أن امرأة مسلمة أسرت فى غارة الروم على زبطرة، فتعرضت للإهانة من أحد الجنود البيزنطيين، فصرخت مستغيثة "وامعتصماه!" فوصل الخبر إلى الخليفة فى بغداد، فاشتعلت فيه روح الحمية والغيرة على الإسلام والمسلمين، وأقسم ألا يهدأ له بال حتى ينتقم للمسلمين وينتصر على الروم. وقال المعتصم حين سمع النداء: "لبيكِ أيتها الحرة!"، وبدأ يستعد لحملة عسكرية كبرى.
لم يكن رد المعتصم مجرد كلمات، بل أعد جيشا ضخما قوامه حوالى ١٠٠ ألف مقاتل، مدعومًا بأفضل الأسلحة والمعدات، وقسمه إلى فرق عسكرية متخصصة.
تحرك الجيش الإسلامى بقيادة المعتصم نحو الأناضول، وخاض عدة معارك صغيرة ضد الروم، إلى أن وصل إلى مدينة عمورية، التى كانت واحدة من أعظم الحصون البيزنطية، وكانت مسقط رأس الإمبراطور البيزنطى تيوفيلوس، مما جعلها هدفًا استراتيجيا بالغ الأهمية
وصل المعتصم إلى أسوار عمورية فى رمضان ٢٢٣ هـ (أغسطس ٨٣٨ م)، وضرب عليها حصارا شديدا، واستمر فى قصف المدينة بالمجانيق حتى انهارت أسوارها، فاقتحمها المسلمون وحققوا نصرا ساحقا.
كان سقوط عمورية ضربة موجعة للبيزنطيين، حيث دمر المسلمون تحصيناتها، وأسروا الآلاف من جنودها، واستعادوا هيبة الإسلام فى المنطقة. وإعادة الهيبة للدولة الإسلامية: أظهر المعتصم قوة الدولة العباسية، وأكد أن المسلمين لن يسكتوا عن أى اعتداء وأيضا كسر شوكة البيزنطيين و فقدت الإمبراطورية البيزنطية أحد أهم معاقلها العسكرية، مما أدى إلى تراجع قوتها أمام المسلمين وخلدت اسم المعتصم فى التاريخ وأصبح فتح عمورية مثالا يضرب فى سرعة الاستجابة لحماية المسلمين.

معارك فاصلة في رمضان

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: التاريخ الإسلامي فجر الإسلام معرکة القادسیة شهر رمضان ألف مقاتل واحدة من فى رمضان من أعظم لم یکن بل کان

إقرأ أيضاً:

منال الشرقاوي تكتب: التتر السينمائي.. حكاية ما قبل البداية وما بعد النهاية

دعني أسألك سؤالًا بسيطًا: متى كانت آخر مرة شاهدت فيها تتر فيلم دون أن تضغط زر "تخطٍ"؟ هل تتذكر شكل الخط؟ اسم المصور؟ أو حتى صوت الموسيقى التي تنساب مع ظهور الأسماء واحدًا تلو الآخر؟ الأغلب – وأقولها بلا لوم – لا يفعل.
التتر صار شيئًا يشبه التحية الواجبة التي نقفز فوقها، كما نقفز فوق مقدمة كتاب مليئة بالإهداءات أو تنويهات الناشر.
لكنني أصدقك القول: التتر ليس مجرد قائمة أسماء.
إنه لحظة تأمل، جسر زجاجي بين الواقع والفيلم، بداية صامتة – أو صاخبة – تقول لك: "اجلس. سنبدأ رحلة صغيرة. تفضل واهدأ." وربما، فقط ربما، يكون التتر هو أجمل ما في الفيلم كله.
في زمن صارت فيه المتعة تُختصر، والقصص تُقضم بسرعة الوجبات السريعة، يظل التتر وفياً لطبيعته المتأنية.
هنا، لن نكتفي بالنظر إلى التتر من الخارج كغلاف أنيق، لكننا سنتسلل إلى قلبه، نفك خيوطه، ونتأمل في تلك اللحظات التي لا يتوقف عندها أحد... إلا من يحب السينما حقًا.
التتر – أو كما يسميه أهل الصناعة "الكريدتس" – هو ذلك المشهد الهادئ نسبيًا، الذي يظهر عادة في البداية أو النهاية، تتوالى فيه أسماء الأشخاص الذين قضوا شهورًا، وربما سنوات، في صناعة الفيلم الذي شاهدته.
أسماء تمر أمامك بسرعة، المخرج، الكاتب، مدير التصوير، مهندس الصوت، مساعد المخرج الثاني، وحتى من أحضر القهوة في الكواليس... الجميع يمر من أمامك، كأنها طوابير الجنود العائدين من المعركة.
لكن الغريب حقًا؟ أنك لا تتذكر معظمهم. وفي الحقيقة، لا أحد يلومك.
التتر لم يُخلق لكي يُحفظ، وإنما وُجد ليكرم من ساهموا في العمل الفني. مثل لوحة تذكارية على جدار طويل، لا يتوقف عندها أحد إلا إذا كان يبحث عن اسمه.
هناك من التترات ما يظهر في البداية، ويهيئك نفسيًا للدخول إلى عالم الفيلم. يضبط الإيقاع، يلعب بالموسيقى والألوان، يخبرك أنك على وشك أن تُفلت الواقع. وهناك تترات تأتي في النهاية، تتدفق معها الأسماء كموجة شكر جماعية، تضع يدها على كتف كل من ساهم في بناء الحلم.

في بدايات السينما، لم يكن هناك ما يُعرف بالتتر على النحو الذي نعرفه اليوم. السينما الصامتة كانت مشغولة بما هو أعقد، كيف تحكي دون صوت؟ كيف تُفهم دون شرح؟ فكانت أسماء الطاقم مجرد معلومات عابرة، بلا فن، بلا اهتمام.
ثم جاء عصر هوليوود الذهبي، وبدأ كل شيء يتغير.
صارت الأسماء تُعرض بخط جميل، والموسيقى ترافقها، وصار هناك إدراك بأن اللحظات الأولى في الفيلم لا تقل أهمية عن أي مشهد درامي داخله.
ثم أتى سول باس (Saul Bass)، رجل لم يكن مخرجًا لكنه غير شكل التتر إلى الأبد. مصمم جرافيك أعاد تعريف البداية السينمائية. جعلها تتحرك، تنبض، وتقول شيئًا من دون كلام. أعماله لأفلام هيتشكوك وكوبريك مثال يُدرس في تحويل التتر إلى قصيدة بصرية قصيرة.
ومع التطور التكنولوجي، بدأ المخرجون يستخدمون التتر كمساحة للتجريب.
في السبعينيات والثمانينيات، صار التتر لوحة فنية مستقلة. وفي التسعينيات، ومع دخول المؤثرات الرقمية، بدأت الألوان تتراقص، والخطوط تنكسر وتعود، والرسائل الخفية تختبئ خلف الصور المتحركة.
اليوم، في زمن المنصات الرقمية، صار التتر يصرخ كي يُرى. لم يعد أمرًا مفروغًا منه، وإنما محاولة للفت الانتباه وسط زحام "تخطِ المقدمة".
بعض التترات تهمس لك بما سيحدث، دون أن تفسد عليك المفاجأة. تأتي كالنبوءة الصامتة، لا تفهمها إلا بعد أن ينتهي كل شيء.
أحيانًا تكتشف بعد مشاهدة الفيلم أن التتر كان يحكي القصة من البداية، لكن بلغة رمزية. مشاهد سريعة، رموز، صور، موسيقى تتغير فجأة... كلها إشارات بأن الفيلم بدأ قبل أن تعرف أنت ذلك.
في بعض الأفلام، التتر هو المشهد الأول بالفعل. لا تمهيد، لا مقدمات... فقط إيقاع بصري وسمعي يأخذك من يدك، ويرميك في قلب الفيلم. وأحيانًا يكون وسيلة المخرج لقول ما لا يستطيع قوله في السيناريو. همسة سرية للمشاهدين الذين يعرفون أن السينما تُقرأ كما تُشاهد.

التتر لن يغيّر العالم، لكنه يظل، في هدوئه، من أصدق لحظات الفيلم.
هو تحية لكل من آمن بالقصة، وعمل على إخراجها للنور.
أن تُشاهد التتر، يعني أنك تُكمل الحكاية حتى آخر كلمة... حتى آخر نبضة.
ولربما، في زمن السرعة والتخطي، أن تكون من الذين ينتبهون للتتر... هو فعل نادر.
في المرة القادمة، قبل أن تضغط زر "تخطٍ"، جرب أن تبقى... فقط دقيقة…
في البداية يُرحب بك التتر، وفي النهاية يودعك... وبين الترحيب والوداع، هناك فيلم، وهناك روح… لا يراها إلا من اختار أن يُشاهد كل شيء، حتى الأسماء.

طباعة شارك الموسيقى التتر الكريدتس

مقالات مشابهة

  • إسبانيا توقف قراراً يقيّد احتفالات المسلمين في الأماكن العامة
  • منال إمام تكتب: وفاء النيل... حين يفيض العشق وتُختبر الذاكرة
  • سر لم يُكشف من قبل.. قصة عبد الغفور البرعي التي غيرت حياة نور الشريف
  • تمرين بسيط يقلل الشخير ويحسن جودة النوم
  • “كشف النقاب”.. ورقة سرية كانت سبب خسارة ليفربول أمام كريستال بالاس (فيديو – صورة)
  • منال الشرقاوي تكتب: التتر السينمائي.. حكاية ما قبل البداية وما بعد النهاية
  • حرارته كانت عالية.. إعلامي يكشف حالة زيزو قبل مباراة مودرن سبورت
  • أبوظبي تكتب قصة نجاح في الذكاء الاصطناعي
  • معارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الاتجاهين الجنوبي والشرقي بدارفور
  • جنات لـ «الأسبوع»: فكرة الألبومات كانت وحشاني.. وتذوق الجمهور للموسيقى رجع تاني