يمكننا أن ندّعي أن من إيجابيات جائحة كورونا أنها لفتت الانتباه إلى أهمية التثقيف المرتبط بعلم التنظيف، إذ زاد عدد المصطلحات المرتبطة بالنظافة وغدا العلم المرتبط بها معقدًا، فهناك المنظفات، وهناك المعقمات (Disinfect)، والمطهرات (Sanitize)، وتجد أيضًا عبارات على بعض المنتجات مثل: التنظيف العميق (Deep cleaning)، وهناك التنظيف الجاف (Dry cleaning)، وكل هذه المصطلحات لها معان وأغراض مختلفة، ومن الجيد أن نفرق بينها، ولنبدأ بمصطلح التنظيف أول، فما هو المقصود منه؟

قد يظن البعض أن التنظيف يعني إزالة القاذورات والأمور المسببة للأمراض، إلا أن هذا التعريف غير دقيق على الإطلاق، إذ يقصد من التنظيف في العادة إزالة مواد غير مرغوب في وجودها في الموضع الموجودة فيه، فالحبر الذي يتم استخدامه في الكتابة، على الرغم من فوائده الكثيرة، إلا أننا لا نرغب أن نجده فوق الملابس وخاصة البيضاء منها، فهذه الأحبار تسبب بقعا يصعب التخلص منها، كما أن وجود الرمل على شاطئ البحر أمر مرغوب به، ولكننا لا نرغب أن تمتلأ منازلنا بالرمل، وهكذا فالمقصود من التنظيف إزالة مادة ما وجدت في مكان غير مناسب.

ويمكن القيام بعملية التنظيف بالمكنسة مثلا، إذ يمكننا التخلص من الغبار والتراب في المنازل، وقد نلجأ إلى غسل الأسطح بالماء، إذ يعد الماء من أهم المنظفات وأكثرها كفاءة، فالماء يملك قدرة فائقة على تنظيف محاليل السكر والأملاح المختلفة، وفي غالب الأحيان تزيد قدرة الماء على إزالة البقع مع ارتفاع درجات حرارة الماء، إلا أننا يجب أن ننتبه فليس ذلك صحيحا في جميع الحالات، فالسكر مثلا عند محاولة إذابته في الماء فمن المهم ألا تكون درجة الحرارة مرتفعة فتؤدي إلى حدوث كرملة للسكر فيصعب بعد ذلك إزالة البقع بالماء، كما أن إزالة بقع الدم تتم بشكل أفضل في درجة حرارة الغرفة ودون الحاجة إلى استخدام ماء ساخن، حيث إن البروتينات الموجودة في الدم عندما تتعرض للماء الساخن فإنها تتأثر وتتغير طبيعتها فيصعب إزالتها، إلا أن الماء لا يستطيع أن يزيل عددًا من المواد ولذا لابد من استخدام مواد مضافة إلى الماء للتخلص من تلك المواد التي يصعب التخلص منها، أما التعقيم، فالمقصود منه قتل الكائنات المجهرية باختلاف أنواعها كالفيروسات والبكتريا والفطريات بنسبة تقترب من ١٠٠٪، ومن المهم الالتفات إلى أن هناك ملايين الكائنات المجهرية التي توجد على جسم الإنسان وداخله، فالإنسان عبارة عن غابة من هذه الكائنات الحية، والكثير منها لها فوائد عديدة، فهناك مصالح مشتركة بيننا وبينها، ولذا فلا ينصح في الظروف العادية الإكثار من استخدام هذه المعقمات، لأنها تقتل الكائنات المجهرية المفيدة أيضًا.

ويفترق التطهير عن التعقيم، بأن المطهرات كالمعقمات ولكنها أقل كفاءة فلا تصل قدرتها على التخلص من الجراثيم والميكروبات إلى ١٠٠٪.

وهناك التنظيف العميق، حيث يمكن تعريفه بأنه تنظيف لإزالة البقع مع إزالة أصناف كثيرة من البكتريا ولكن لا يتم التخلص منها بنسبة تقرب ١٠٠٪.

أما المقصود بالتنظيف الجاف فهو التنظيف المعتمد على استخدام كيمياويات معينة ولا يشكل الماء إلا نسبة ضئيلة منها أو قد لا يستخدم إطلاقا على عكس عمليات التنظيف التي نقوم بها في المنازل والتي يشكل فيها الماء النسبة الأكبر ومن هنا يطلق عليه التنظيف الجاف.

وتلعب الأحماض والقواعد دورًا مهمًا في الكثير من المنتجات التي ترتبط بالتنظيف سواء في تنظيف الأواني أو أسطح المنازل أو المنظفات الشخصية كالصابون ومنظفات الشعر (الشامبو) وغيرها.

والأحماض هي في العادة محاليل مائية ترتفع فيها تركيز أيون الهيدروجين أما القواعد فتنخفض فيها تراكيز أيون الهيدروجين، وعادة يتم قياس تركيز أيون الهيدروجين بالرقم الهيدروجيني، وقد تجده على مكونات المنتج أيضا، وكلما ارتفع الرقم الهيدروجيني انخفض تركيز أيون الهيدروجين، ولهذا فالأحماض تتميز بأن الرقم الهيدروجيني لها منخفض بينما يرتفع الرقم الهيدروجيني للقواعد.

والرقم الهيدروجيني للماء النقي تماما والذي لا يحتوي على أية أملاح هو سبعة، ولذا فإذا انخفض الرقم الهيدروجيني عن سبعة يعد ذلك المحلول حامضيًا أما إذا ارتفع عن سبعة فيعد محلولًا قاعديًا.

فالرقم الهيدروجيني للخل مثلا أقل من سبعة لهذا يعد محلول الخل محلولًا حامضيًا، بينما الرقم الهيدروجيي للصودا الكاوية أكثر من سبعة ولهذا يعد محلولها قاعديا.

وتنقسم المحاليل الحامضية إلى محاليل حامضية قوية وضعيفة، فالقوية هي التي ينخفض فيها الرقم الهيدروجيني فقد يصل مثلا إلى الصفر، بينما يتراوح الرقم الهيدروجيني للأحماض الضعيفة بين ٢ و٥.

فمثلا الرقم الهيدروجيني لعصير الليمون يصل إلى حوالي 2.5، والرقم الهيدروجيني لعصير الطماطم يتراوح بين 4 و 4.5، أما المياه الغازية والتي يضاف لها غاز ثاني أوكسيد الكربون فقط دون أية إضافات أخرى فرقمها الهيدروجيني يتراوح بين 5 و6، وعموما فإن الرقم الهيدروجيني لأغلب محاليل المواد الغذائية هو أقل من سبعة أي أنها حامضية.

وبالمقابل فإن من أشهر القواعد المستخدمة في المنازل الصودا الكاوية، ويتراوح الرقم الهيدروجيني للصودا الكاوية في العادة بين ٨ و٩.

وأغلب المنظفات المنزلية قاعدية (الرقم الهيدروجيني أكثر من 7)، كغسيل الصحون و غسيل الملابس، فالقواعد لها قدرة على إزالة الكثير من البقع الزيتية، بينما يكون الرقم الهيدروجيني لمنظفات الشعر أقل من 7، وكذلك لمنتجات العناية بالبشرة عموما.

وتحتوي المنظفات أيضًا على مواد تُعرَف بأنها خافضة للتوتر السطحي وتتكوّن هذه المواد من نهايتين إحداهما كارهة للماء والأخرى محبة للماء، والنهاية الكارة للماء تكون في العادة سلسلة هيدروكربونية، أما النهاية المحبة للماء فهي عبارة عن مجموعة موجبة الشحنة أو سالبة الشحنة أو متعادلة الشحنة، ولكون هذه المواد تحتوي على نهايتين إحداهما محبة للماء وأخرى كارهة له فهذه المواد تتميز بقدرتها على الذوبان في الماء والزيت معا، حيث يوجد على السطح الفاصل بين الماء والزيت، فالجزء المحب للماء يذوب في الماء بينما الجزء الكاره للماء يذوب في الزيت.

وعندما يرتفع تركيز المواد الخافضة للتوتر السطحي في الماء فإنها تتجمع على شكل مجموعات تسمى (micelle) حيث يكون الجزء المحب للماء في الخارج متوجهًا نحو جزيئات الماء، أما الجزء الكاره للماء فيتجه للداخل محاولا إيجاد بيئة زيتية صغيرة جدًا بعيدًا عن جزيئات الماء، وتقوم هذه البيئة الجزيئية الصغيرة بإذابة المواد الزيتية.

ومن المهم التأكيد هنا أن الزيوت الطبيعية التي تستخدم في الصابون الصلب لا توجد على طبيعتها الزيتية المعروفة، فسواء كان مصدر الصابون السدر أو جوز الهند أو غيرهما فإن هذه الزيوت تتحول إلى مواد مختلفة، إذ إنها تخضع لتفاعلات كيميائية تتحول من خلالها إلى مواد مخفضة للتوتر السطحي، وتُعرَف هذه العملية بالتصبن، ولهذا فمن الخطأ الاعتقاد بأننا نستفيد من وجود تلك الزيوت في الصابون.

وكثيرًا ما تتم إضافة مواد تُعرَف بـ(chelating agent) في المنظفات المختلفة، وهي مواد كيمياوية لها القدرة على الارتباط بالمعادن التي قد توجد في الماء المستخدم في التنظيف، فلا شك أنك لاحظت صعوبة التنظيف عندما تقوم بتنظيف يديك بماء مالح، والسبب في ذلك أن فاعلية المنظفات تقل بصورة ملحوظة عند وجود المعادن في المياه، وللتخفيف من أثر هذه المعادن، تتم إضافة (chelating agent)، والتي تقوم بالارتباط بالمعادن الذائبة في الماء، وبالتالي توفر بيئة مناسبة للمنظفات للقيام بوظيفتها، ومن أشهر وأهم هذه المواد مادة تُعرَف باسم (EDTA)، وهي مادة لها قدرة كبرى على الارتباط والتفاعل مع المعادن المختلفة الذائبة في المياه، واسمها العلمي هو (Ethylenediaminetetraacetic acid).

وكثيرا ما يتم استخدام بعض البروتينات الطبيعية في المنظفات وخاصة تلك المخصصة لتنظيف الملابس، ولكن ما السر وراء استخدامها؟

هناك عدد من البروتينات الطبيعية تُعرَف بالإنزيمات وتتميز بعض هذه الإنزيمات بأن لديها القدرة على تقطيع الروابط الكيميائية في المركبات الكبيرة ومن ثم تحويلها إلى مركبات صغيرة؛ فهي تعمل كمقص كيميائي يقوم بقطع الروابط الكيميائية، ويتميز هذا النوع من الأنزيمات بأنه يقوم بقطع الروابط الكيميائية لصنف معين من المركبات الكيميائية، فهناك إنزيم البروتيس (Proteases) ويقوم بقطع الروابط في البروتينات الكبيرة، لذا فالبقع التي تحتوي على البروتينات كالمواد الغذائية والدم مثلا، فإن هذا البروتين يقوم بتحويل تلك البروتينات إلى مركبات صغيرة، ومن ثم تقوم المواد الخافضة للتوتر السطحي بإزالتها بسهولة ويسر، لكن من المهم الانتباه إلى أن الصوف والحرير يتأثران سلبا بهذا الإنزيم؛ لأنهما يتكونان من بروتينات طبيعية ولهذا فطبيعتهما الكيميائية تشابه الشعر، والكثير من منظفات الشعر يمكن استخدامها لتنظيف ملابس الصوف والحرير، وهناك إنزيم آخر يُعرَف بأميليس (Amylases)، يقوم بتقطيع الروابط الموجودة في الكربوهيدرات المعقدة، كالنشا مثلا التي توجد في الأرز والكاكاو والحلوى العمانية، وهناك إنزيم ثالث يُعرَف بليباسيس (lipases)، وهو يقوم بتقطيع الروابط الكيميائية في الدهون والشحوم، كما أن هناك إنزيمًا آخر يستخدم في التنظيف أيضًا وهو إنزيم السليلايس (cellulases)، وهذا الإنزيم يقوم بإزالة طبقة رقيقة من القماش القطني الذي تترسب عليه البقعة.

وهناك أصناف من البقع التي لا بد من استخدام المبيض لإزالتها، مثل بقع القهوة وبقع الصلصات كصلصة المعكرونة، فما طبيعة المبيض وكيف يقوم بوظيفته؟

الواقع أن المبيض كما يُطلَق عليه، لا يزيل البقع ولكنه ومن خلال التفاعل الكيميائي يحولها إلى مادة غير مرئية وفي بعض الأحيان يقوم بتكسير عدد من الروابط الكيميائية مما يساعد المواد الخافضة للتوتر السطحي على إزالتها، ومن هنا فهو يؤثر على الملابس الملونة أيضا، وهناك صنفان من المبيضات: الأول يتم فيها استخدام مادة تسمى بـ(sodium hypochlorite)، وهذه المادة عند إذابتها في الماء تتحول إلى حمض ضعيف جدا (الرقم الهيدروجيني مرتفع ولكنه أقل من 7)، لكن هذا الحمض الذي يُعرَف بـ(Hypochlorous acid)، يعَد مادة مؤكسدة قوية، ولهذا يتفاعل مع الشحوم والزيوت والبقع الملونة وحتى الألوان التي توجد على الملابس، ولا يقتصر الأثر السلبي للمبيض على الملابس الملونة بل يؤثر على الملابس القطنية أيضا ويقصّر من عمرها الافتراضي ولذا فلا يُنصَح باستخدامه بصورة مكررة.

تعَد مادة (sodium hypochlorite) مادة معقمة يمكن استخدامها لتعقيم الأسطح، لكن من المهم الانتباه إلى عدم تعريض المعادن لهذه المادة؛ لأنها مادة مؤكسدة وقد تسبب تكّون الصدأ على المواد المعدنية.

ومن المهم الانتباه أيضا إلى أهمية عدم خلط المبيّض مع مواد أخرى موجودة في المنزل؛ لأن المادة الفاعلة الموجودة في المبيّض قد تتفاعل معها بصورة قوية وتسبب ما لا يُحمد عقباه، كما أنه يُنصَح بأن لا يتم تعريض الجسم والعين للتلامس المباشر مع هذه المادة، ولذا فمن الأفضل لبس القفازات والنظارات الواقية أثناء استخدام هذه المادة؛ تحسبا لأي طارئ.

أما الصنف الثاني من المبيّض فيمكن استخدامه حتى مع الملابس الملونة، فهو لا يؤثر فيها سلبًا، وهذا الصنف من المبيض يتكون من مادة (hydrogen peroxide) وهي مادة مؤكسدة لكنها أقل قوة من (sodium hypochlorite)، لكن لكي تؤثر في البقع وتزيلها لا بد من أن يكون الوسط المائي قاعديًّا ودرجة الحرارة لا تقل عن حوالي ٥٠ درجة مئوية، لذا يفضل خلطها مع المنظفات المخصصة لتنظيف الملابس وذلك لضمان توفر الوسط القاعدي الذي تحتاج إليه.

إن التنظيف عند الكيميائيين عملية كيميائية معقدة، تحتوي على عدد من التفاعلات الكيميائية المختلفة، فهي مختبر شبه متكامل يمكنك من خلاله تعلم بعض مبادئ الكيمياء.

أ. د. حيدر أحمد اللواتي كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الموجودة فی على الملابس هذه المواد هذه المادة فی العادة التخلص من فی الماء من المهم أقل من مواد ت إلا أن کما أن

إقرأ أيضاً:

بين عسكرين: حين انحنى السيف المصري واشتعل البركان الباكستاني

في زمن التيه والخذلان، حيث يغدو الظالم بطلا والمظلوم خائنا، تقف تجربتان متناقضتان لعسكرين خرجا من رحم التاريخ ذاته: عسكرٌ مصري انحنى، وعسكرٌ باكستاني انتفض. كلاهما لم يعرف طعم الديمقراطية، وكلاهما صعد إلى الحكم من فوهة البندقية، لكن حين واجه كلاهما اختبار الحياة، ظهرت الفوارق، فاختار أحدهما المجد، والآخر غاص في وحل التبعية.

العسكر لا يعترفون بالصناديق

لم يكن انقلاب الجيش المصري في 2013 حدثا عابرا، بل كان عنوانا لمشهد مكتمل من الردة السياسية، بدعم سخي من الغرب وبعض حلفائه العرب. فما كاد الأمل يطل من نوافذ الثورة، وتفتح صناديق الاقتراع بابا جديدا لمستقبل يكتبه الشعب لا الجنرالات، إلا وانقض هؤلاء الجنرالات بانقلاب عسكري بدعم صريح من قوى إقليمية وغربية، لقطع الطريق على إرادة الجماهير، وإعادة مصر إلى قبضة الحكم الأمني، بل أشد، حيث سُحقت التجربة الديمقراطية الوحيدة في تاريخ البلاد الحديث، ووُئد الحلم الشعبي في مهده. آلاف في السجون، صحافة مُكمّمة، وبلاد يُدار قرارها من الخارج، لا من الإرادة الحرة.

أما في باكستان، كان الجيش دائم الحضور في كواليس السياسة، فالديمقراطية لم تكن يوما أكثر من مرحلة استراحة بين انقلابين. التبعية لواشنطن كانت سياسة لا تخفى، والولاء للخارج كان يعلو على أي التزام وطني. وكل ذلك جرى تحت شعارات "الأمن" و"محاربة الإرهاب"، وهي التبريرات ذاتها التي صُنعت بها الديكتاتوريات في القاهرة وإسلام آباد.

في كلا البلدين، أصبح العسكر أوصياء على الشعب بدعم خفي أو علني من واشنطن، فلطالما كان جيش مصر من بعد اتفاقية كامب ديفيد هو الحارس الأمين للكيان الصهيوني مدلل أمريكا، وجيش باكستان هو بوابتها الاستراتيجية في جنوب آسيا. كان ولاؤهما للبيت الأبيض أقوى من الانتماء للوطن، وتحت تلك الوصاية المزعومة ارتُكبت الخيانات، تحت غطاء دولي للقمع، فصارت الشعوب بين مطرقة الاستبداد وسندان التبعية. وما زاد الطين بلة، أن العسكر في البلدين تغذّوا على الرضا الأمريكي ومساعداته، وارتبطت سياساتهم الأمنية والاقتصادية بتوصيات صندوق النقد، لا بتطلعات الفقراء.

فكان قمع الداخل سياسة محلية، لكن بمباركة دولية. وحين جاءت لحظة الحقيقة، لحظة الماء، سقطت الأقنعة، فبدا من فيهم مستعدٌّ للدفاع، ومن قرر أن لا حياة تستحق القتال.

مصر.. حين خانت السيوف الماء

وُضع جيش مصر أمام اختبار الوجود: النيل، شريان الحياة، الرئة التي تتنفس منها الأرض والناس، القلب النابض لحضارة سبقت التاريخ، فاختار أن يُغلق عينيه، ويصمّ أذنيه، ويسلم البلاد والعباد على طبق من عطش. تحت ستار "الحكمة" و"المفاوضات"، تواطأ على الوطن، وسمح بأن يُختطف النيل أمام عينيه بلا أن يطلق طلقة، بلا أن يُحرك دبابة، بل بلا أن يخرج بيانا يهدد، أو حتى يرفض.

تمسك العسكر بورقة بالية اسمها "الحل السلمي"، وهم يعلمون -ويُعلنون- أن المفاوضات عبث، وأن إثيوبيا تسخر، وأن الغرب يبارك، وأن بعض الأشقاء العرب يصفقون من خلف الستار. فهل هذه حكمة أم خيانة مغلّفة بالأقوال المزينة؟

وقف عسكر مصر يراقبون إثيوبيا تبني السد حجرا فوق حجر، بينما هم مكتفون بإطلاق شعارات الوطنية الفارغة في نشرات الأخبار ومنهمكون في ملاحقة المعارضين في الشوارع والأزقة. فأي جيش هذا الذي يرضى أن يرى شعبه يُحتضر ولا يهزمه الغضب؟

باكستان..

على الطرف الآخر، في باكستان، كانت الأمور مختلفة. فحين هددت الهند منابع المياه، لم ينتظر العسكر تحليلا استراتيجيا من معهد أمريكي، ولا توصية من حليف دولي. السلاح ارتفع، والرسالة كانت واضحة: "لن نُجفف لنرضي أحدا". لم تعنهم المعونات، ولا التصنيفات، ولا الارتباك الدبلوماسي. وُضعت كرامة الأمة قبل أي تحالف، بل وعندما أحسوا بأن الغرب قد مال كلّه إلى صف الهند، حطموا الأغلال وولّوا وجوههم شطر الشرق (الصين)، وبدأوا في بناء قوة تستمد سلاحها من أرضها أو من حلفاء جدد، لا من صانعي القيود.

في مشهد كأنه من ملحمة قديمة، كانت باكستان تصرخ في وجه العالم: "لسنا عبيدا، ولن نُجفّف عطشا كي نُرضي أرباب المال والسلاح".

باكستان، التي طالما عرفت القمع، ارتدى جيشها في تلك اللحظة زيّ الجندية الحقة، ووقف في وجه التهديد كما يجب أن يقف جيشٌ وُجد لحماية وطنه لا لحراسة سلطة.

الحكم بالنار.. والاختبار بالماء

لم يكن عسكر مصر ولا عسكر باكستان مثالا للديمقراطية ولا حُماة لإرادة الشعوب، فكلاهما صعد إلى سدة الحكم على ظهر دبابة، لا على أكتاف صناديق الاقتراع، وكلاهما قادا شعوبهما بالحديد والنار، لا بالعدل والحرية.. قمع، وتنكيل، وتضييق، وسجون امتلأت بأصحاب الرأي والمبدأ، ومجتمعات أُخضعت بالقوة لا بالثقة.

لكن الفارق ظهر جليا حين وقف الجميع عند بوابة الماء؛ حين باتت الحياة نفسها مهددة. هناك فقط تباينت المواقف:

عسكر باكستان أدّوا الدور الحقيقي للجيوش، دافعوا عن حياة شعبهم بلا حساب، ووقفوا كالدرع في وجه كل معتدٍ. أما عسكر مصر، فكانوا في ذروة تخاذلهم، يتفرجون على النيل يُغتصب دون أن يرتعش لهم جفن. نعم، الماء فرّق بين جيش يقاتل من أجل الشعب، وآخر يقاتل الشعب من أجل الكرسي.

وشتان بين من راكم الثروات في القصور، ومن حمل السلاح على الحدود.. شتان بين من يقايض الكرامة بتقرير رضا أمريكي، ومن يقول للعالم: "الماء خط أحمر، والحياة لا يساوم عليها".

لم تُهزم مصر أمام سد، بل أمام جيش باع شرفه مقابل المساعدات، ولم تنتصر باكستان بالسلاح فقط، بل بالقرار السيادي الذي قرّر أن الشرف أغلى من المساعدات.

هنا يظهر سؤال:

إن كان الماء هو الاختبار الذي سقط فيه جيش مصر، فهل ينجح الشعب في اجتيازه وينقذ الوطن؟ وهل يملك من الشجاعة ما لم يملكه من وُكلت إليهم الحماية؟

ختاما..

هكذا يُكتب التاريخ؛ ليس بالشعارات، بل بالدماء.

سلام على كل جيش احترف حب الوطن، وخزيٌ على كل من خان شعبه وباع الأرض مقابل حفنة دولارات وسطرٍ في تقرير أمريكي.

مقالات مشابهة

  • 5 طرق للحصول على الطاقة في الصباح دون شرب القهوة
  • صيام الماء .. تجربة مذهلة ولكن ليست للجميع
  • «الداخلية»: ضبط 4 أشخاص «بدون» بحوزتهم 15 ألف كبسولة ليريكا
  • بين عسكرين: حين انحنى السيف المصري واشتعل البركان الباكستاني
  • ارتفاع درجات الحرارة يستدعي الإكثار من شرب السوائل
  • غسان حسن محمد.. شاعر التهويدة التي لم تُنِم. والوليد الذي لم تمنحه الحياة فرصة البكاء
  • قائمة مرعبة.. 150 مادة مسرطنة في 6 منتجات تجميل شهيرة
  • تدشين الاختبارات النهائية لطلاب المعاهد المهنية والتقنية في الحديدة
  • تدشين الاختبارات الوزارية للمعاهد الفنية والتقنية في حجة
  • الشيوخ يناقش خطة التنمية الاقتصادية والتحكيم في المواد المدنية والتجارية