التنظيف بين الكيمياء والتقنية: ما الذي لا نعرفه ؟
تاريخ النشر: 19th, March 2025 GMT
يمكننا أن ندّعي أن من إيجابيات جائحة كورونا أنها لفتت الانتباه إلى أهمية التثقيف المرتبط بعلم التنظيف، إذ زاد عدد المصطلحات المرتبطة بالنظافة وغدا العلم المرتبط بها معقدًا، فهناك المنظفات، وهناك المعقمات (Disinfect)، والمطهرات (Sanitize)، وتجد أيضًا عبارات على بعض المنتجات مثل: التنظيف العميق (Deep cleaning)، وهناك التنظيف الجاف (Dry cleaning)، وكل هذه المصطلحات لها معان وأغراض مختلفة، ومن الجيد أن نفرق بينها، ولنبدأ بمصطلح التنظيف أول، فما هو المقصود منه؟
قد يظن البعض أن التنظيف يعني إزالة القاذورات والأمور المسببة للأمراض، إلا أن هذا التعريف غير دقيق على الإطلاق، إذ يقصد من التنظيف في العادة إزالة مواد غير مرغوب في وجودها في الموضع الموجودة فيه، فالحبر الذي يتم استخدامه في الكتابة، على الرغم من فوائده الكثيرة، إلا أننا لا نرغب أن نجده فوق الملابس وخاصة البيضاء منها، فهذه الأحبار تسبب بقعا يصعب التخلص منها، كما أن وجود الرمل على شاطئ البحر أمر مرغوب به، ولكننا لا نرغب أن تمتلأ منازلنا بالرمل، وهكذا فالمقصود من التنظيف إزالة مادة ما وجدت في مكان غير مناسب.
ويمكن القيام بعملية التنظيف بالمكنسة مثلا، إذ يمكننا التخلص من الغبار والتراب في المنازل، وقد نلجأ إلى غسل الأسطح بالماء، إذ يعد الماء من أهم المنظفات وأكثرها كفاءة، فالماء يملك قدرة فائقة على تنظيف محاليل السكر والأملاح المختلفة، وفي غالب الأحيان تزيد قدرة الماء على إزالة البقع مع ارتفاع درجات حرارة الماء، إلا أننا يجب أن ننتبه فليس ذلك صحيحا في جميع الحالات، فالسكر مثلا عند محاولة إذابته في الماء فمن المهم ألا تكون درجة الحرارة مرتفعة فتؤدي إلى حدوث كرملة للسكر فيصعب بعد ذلك إزالة البقع بالماء، كما أن إزالة بقع الدم تتم بشكل أفضل في درجة حرارة الغرفة ودون الحاجة إلى استخدام ماء ساخن، حيث إن البروتينات الموجودة في الدم عندما تتعرض للماء الساخن فإنها تتأثر وتتغير طبيعتها فيصعب إزالتها، إلا أن الماء لا يستطيع أن يزيل عددًا من المواد ولذا لابد من استخدام مواد مضافة إلى الماء للتخلص من تلك المواد التي يصعب التخلص منها، أما التعقيم، فالمقصود منه قتل الكائنات المجهرية باختلاف أنواعها كالفيروسات والبكتريا والفطريات بنسبة تقترب من ١٠٠٪، ومن المهم الالتفات إلى أن هناك ملايين الكائنات المجهرية التي توجد على جسم الإنسان وداخله، فالإنسان عبارة عن غابة من هذه الكائنات الحية، والكثير منها لها فوائد عديدة، فهناك مصالح مشتركة بيننا وبينها، ولذا فلا ينصح في الظروف العادية الإكثار من استخدام هذه المعقمات، لأنها تقتل الكائنات المجهرية المفيدة أيضًا.
ويفترق التطهير عن التعقيم، بأن المطهرات كالمعقمات ولكنها أقل كفاءة فلا تصل قدرتها على التخلص من الجراثيم والميكروبات إلى ١٠٠٪.
وهناك التنظيف العميق، حيث يمكن تعريفه بأنه تنظيف لإزالة البقع مع إزالة أصناف كثيرة من البكتريا ولكن لا يتم التخلص منها بنسبة تقرب ١٠٠٪.
أما المقصود بالتنظيف الجاف فهو التنظيف المعتمد على استخدام كيمياويات معينة ولا يشكل الماء إلا نسبة ضئيلة منها أو قد لا يستخدم إطلاقا على عكس عمليات التنظيف التي نقوم بها في المنازل والتي يشكل فيها الماء النسبة الأكبر ومن هنا يطلق عليه التنظيف الجاف.
وتلعب الأحماض والقواعد دورًا مهمًا في الكثير من المنتجات التي ترتبط بالتنظيف سواء في تنظيف الأواني أو أسطح المنازل أو المنظفات الشخصية كالصابون ومنظفات الشعر (الشامبو) وغيرها.
والأحماض هي في العادة محاليل مائية ترتفع فيها تركيز أيون الهيدروجين أما القواعد فتنخفض فيها تراكيز أيون الهيدروجين، وعادة يتم قياس تركيز أيون الهيدروجين بالرقم الهيدروجيني، وقد تجده على مكونات المنتج أيضا، وكلما ارتفع الرقم الهيدروجيني انخفض تركيز أيون الهيدروجين، ولهذا فالأحماض تتميز بأن الرقم الهيدروجيني لها منخفض بينما يرتفع الرقم الهيدروجيني للقواعد.
والرقم الهيدروجيني للماء النقي تماما والذي لا يحتوي على أية أملاح هو سبعة، ولذا فإذا انخفض الرقم الهيدروجيني عن سبعة يعد ذلك المحلول حامضيًا أما إذا ارتفع عن سبعة فيعد محلولًا قاعديًا.
فالرقم الهيدروجيني للخل مثلا أقل من سبعة لهذا يعد محلول الخل محلولًا حامضيًا، بينما الرقم الهيدروجيي للصودا الكاوية أكثر من سبعة ولهذا يعد محلولها قاعديا.
وتنقسم المحاليل الحامضية إلى محاليل حامضية قوية وضعيفة، فالقوية هي التي ينخفض فيها الرقم الهيدروجيني فقد يصل مثلا إلى الصفر، بينما يتراوح الرقم الهيدروجيني للأحماض الضعيفة بين ٢ و٥.
فمثلا الرقم الهيدروجيني لعصير الليمون يصل إلى حوالي 2.5، والرقم الهيدروجيني لعصير الطماطم يتراوح بين 4 و 4.5، أما المياه الغازية والتي يضاف لها غاز ثاني أوكسيد الكربون فقط دون أية إضافات أخرى فرقمها الهيدروجيني يتراوح بين 5 و6، وعموما فإن الرقم الهيدروجيني لأغلب محاليل المواد الغذائية هو أقل من سبعة أي أنها حامضية.
وبالمقابل فإن من أشهر القواعد المستخدمة في المنازل الصودا الكاوية، ويتراوح الرقم الهيدروجيني للصودا الكاوية في العادة بين ٨ و٩.
وأغلب المنظفات المنزلية قاعدية (الرقم الهيدروجيني أكثر من 7)، كغسيل الصحون و غسيل الملابس، فالقواعد لها قدرة على إزالة الكثير من البقع الزيتية، بينما يكون الرقم الهيدروجيني لمنظفات الشعر أقل من 7، وكذلك لمنتجات العناية بالبشرة عموما.
وتحتوي المنظفات أيضًا على مواد تُعرَف بأنها خافضة للتوتر السطحي وتتكوّن هذه المواد من نهايتين إحداهما كارهة للماء والأخرى محبة للماء، والنهاية الكارة للماء تكون في العادة سلسلة هيدروكربونية، أما النهاية المحبة للماء فهي عبارة عن مجموعة موجبة الشحنة أو سالبة الشحنة أو متعادلة الشحنة، ولكون هذه المواد تحتوي على نهايتين إحداهما محبة للماء وأخرى كارهة له فهذه المواد تتميز بقدرتها على الذوبان في الماء والزيت معا، حيث يوجد على السطح الفاصل بين الماء والزيت، فالجزء المحب للماء يذوب في الماء بينما الجزء الكاره للماء يذوب في الزيت.
وعندما يرتفع تركيز المواد الخافضة للتوتر السطحي في الماء فإنها تتجمع على شكل مجموعات تسمى (micelle) حيث يكون الجزء المحب للماء في الخارج متوجهًا نحو جزيئات الماء، أما الجزء الكاره للماء فيتجه للداخل محاولا إيجاد بيئة زيتية صغيرة جدًا بعيدًا عن جزيئات الماء، وتقوم هذه البيئة الجزيئية الصغيرة بإذابة المواد الزيتية.
ومن المهم التأكيد هنا أن الزيوت الطبيعية التي تستخدم في الصابون الصلب لا توجد على طبيعتها الزيتية المعروفة، فسواء كان مصدر الصابون السدر أو جوز الهند أو غيرهما فإن هذه الزيوت تتحول إلى مواد مختلفة، إذ إنها تخضع لتفاعلات كيميائية تتحول من خلالها إلى مواد مخفضة للتوتر السطحي، وتُعرَف هذه العملية بالتصبن، ولهذا فمن الخطأ الاعتقاد بأننا نستفيد من وجود تلك الزيوت في الصابون.
وكثيرًا ما تتم إضافة مواد تُعرَف بـ(chelating agent) في المنظفات المختلفة، وهي مواد كيمياوية لها القدرة على الارتباط بالمعادن التي قد توجد في الماء المستخدم في التنظيف، فلا شك أنك لاحظت صعوبة التنظيف عندما تقوم بتنظيف يديك بماء مالح، والسبب في ذلك أن فاعلية المنظفات تقل بصورة ملحوظة عند وجود المعادن في المياه، وللتخفيف من أثر هذه المعادن، تتم إضافة (chelating agent)، والتي تقوم بالارتباط بالمعادن الذائبة في الماء، وبالتالي توفر بيئة مناسبة للمنظفات للقيام بوظيفتها، ومن أشهر وأهم هذه المواد مادة تُعرَف باسم (EDTA)، وهي مادة لها قدرة كبرى على الارتباط والتفاعل مع المعادن المختلفة الذائبة في المياه، واسمها العلمي هو (Ethylenediaminetetraacetic acid).
وكثيرا ما يتم استخدام بعض البروتينات الطبيعية في المنظفات وخاصة تلك المخصصة لتنظيف الملابس، ولكن ما السر وراء استخدامها؟
هناك عدد من البروتينات الطبيعية تُعرَف بالإنزيمات وتتميز بعض هذه الإنزيمات بأن لديها القدرة على تقطيع الروابط الكيميائية في المركبات الكبيرة ومن ثم تحويلها إلى مركبات صغيرة؛ فهي تعمل كمقص كيميائي يقوم بقطع الروابط الكيميائية، ويتميز هذا النوع من الأنزيمات بأنه يقوم بقطع الروابط الكيميائية لصنف معين من المركبات الكيميائية، فهناك إنزيم البروتيس (Proteases) ويقوم بقطع الروابط في البروتينات الكبيرة، لذا فالبقع التي تحتوي على البروتينات كالمواد الغذائية والدم مثلا، فإن هذا البروتين يقوم بتحويل تلك البروتينات إلى مركبات صغيرة، ومن ثم تقوم المواد الخافضة للتوتر السطحي بإزالتها بسهولة ويسر، لكن من المهم الانتباه إلى أن الصوف والحرير يتأثران سلبا بهذا الإنزيم؛ لأنهما يتكونان من بروتينات طبيعية ولهذا فطبيعتهما الكيميائية تشابه الشعر، والكثير من منظفات الشعر يمكن استخدامها لتنظيف ملابس الصوف والحرير، وهناك إنزيم آخر يُعرَف بأميليس (Amylases)، يقوم بتقطيع الروابط الموجودة في الكربوهيدرات المعقدة، كالنشا مثلا التي توجد في الأرز والكاكاو والحلوى العمانية، وهناك إنزيم ثالث يُعرَف بليباسيس (lipases)، وهو يقوم بتقطيع الروابط الكيميائية في الدهون والشحوم، كما أن هناك إنزيمًا آخر يستخدم في التنظيف أيضًا وهو إنزيم السليلايس (cellulases)، وهذا الإنزيم يقوم بإزالة طبقة رقيقة من القماش القطني الذي تترسب عليه البقعة.
وهناك أصناف من البقع التي لا بد من استخدام المبيض لإزالتها، مثل بقع القهوة وبقع الصلصات كصلصة المعكرونة، فما طبيعة المبيض وكيف يقوم بوظيفته؟
الواقع أن المبيض كما يُطلَق عليه، لا يزيل البقع ولكنه ومن خلال التفاعل الكيميائي يحولها إلى مادة غير مرئية وفي بعض الأحيان يقوم بتكسير عدد من الروابط الكيميائية مما يساعد المواد الخافضة للتوتر السطحي على إزالتها، ومن هنا فهو يؤثر على الملابس الملونة أيضا، وهناك صنفان من المبيضات: الأول يتم فيها استخدام مادة تسمى بـ(sodium hypochlorite)، وهذه المادة عند إذابتها في الماء تتحول إلى حمض ضعيف جدا (الرقم الهيدروجيني مرتفع ولكنه أقل من 7)، لكن هذا الحمض الذي يُعرَف بـ(Hypochlorous acid)، يعَد مادة مؤكسدة قوية، ولهذا يتفاعل مع الشحوم والزيوت والبقع الملونة وحتى الألوان التي توجد على الملابس، ولا يقتصر الأثر السلبي للمبيض على الملابس الملونة بل يؤثر على الملابس القطنية أيضا ويقصّر من عمرها الافتراضي ولذا فلا يُنصَح باستخدامه بصورة مكررة.
تعَد مادة (sodium hypochlorite) مادة معقمة يمكن استخدامها لتعقيم الأسطح، لكن من المهم الانتباه إلى عدم تعريض المعادن لهذه المادة؛ لأنها مادة مؤكسدة وقد تسبب تكّون الصدأ على المواد المعدنية.
ومن المهم الانتباه أيضا إلى أهمية عدم خلط المبيّض مع مواد أخرى موجودة في المنزل؛ لأن المادة الفاعلة الموجودة في المبيّض قد تتفاعل معها بصورة قوية وتسبب ما لا يُحمد عقباه، كما أنه يُنصَح بأن لا يتم تعريض الجسم والعين للتلامس المباشر مع هذه المادة، ولذا فمن الأفضل لبس القفازات والنظارات الواقية أثناء استخدام هذه المادة؛ تحسبا لأي طارئ.
أما الصنف الثاني من المبيّض فيمكن استخدامه حتى مع الملابس الملونة، فهو لا يؤثر فيها سلبًا، وهذا الصنف من المبيض يتكون من مادة (hydrogen peroxide) وهي مادة مؤكسدة لكنها أقل قوة من (sodium hypochlorite)، لكن لكي تؤثر في البقع وتزيلها لا بد من أن يكون الوسط المائي قاعديًّا ودرجة الحرارة لا تقل عن حوالي ٥٠ درجة مئوية، لذا يفضل خلطها مع المنظفات المخصصة لتنظيف الملابس وذلك لضمان توفر الوسط القاعدي الذي تحتاج إليه.
إن التنظيف عند الكيميائيين عملية كيميائية معقدة، تحتوي على عدد من التفاعلات الكيميائية المختلفة، فهي مختبر شبه متكامل يمكنك من خلاله تعلم بعض مبادئ الكيمياء.
أ. د. حيدر أحمد اللواتي كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الموجودة فی على الملابس هذه المواد هذه المادة فی العادة التخلص من فی الماء من المهم أقل من مواد ت إلا أن کما أن
إقرأ أيضاً:
ما حكم الوضوء بماء المطر وفضله؟.. الإفتاء توضح
تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا يقول صاحبه: حينما ينزل المطر أحرص على أن أتوضأ منه، فما حكم الوضوء من هذا الماء؟ وهل لهذا الماء فضيلة؟.
وأجابت دار الإفتاء عن السؤال قائلة: ماء المطر ماءٌ مطلق يجوز الوضوء به ما لم يختلط بشيء يغيّره تغيرًا كثيرًا يمنع من إطلاق اسم الماء المطلق عليه، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن له فضلًا عظيمًا، فقد وصف في القرآن بالرحمة والبركة والطهورية، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَتَعرَّض له عند أول نزوله رجاء بركته، وصورة التعرض المستحب ملاقاة المطر البدن مباشرة أثناء نزوله.
حكم الوضوء بماء المطر
من المقرر شرعًا أنَّ الطهارة لا تكون إلَّا بالماء الطهور المطلق، وهو الباقي على أصْلِ خلقته؛ إذ الماء المطلق طاهرٌ في نفسه مُطهِّرٌ لغيره، وهو الذي يُطلق عليه اسم الماء بلا قيدٍ أو إضافة، ومن الماء المطلق: ماء البحار، والأنهار، والعيون، والآبار، وماء المطر، كما في "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني الشافعي (1/ 116، ط. دار الكتب العلمية).
ولا خلاف بين العلماء في أن مياه الأمطار من الماء المطلق، والتي يجوز الطهارة بها، ما لم تختلط بشيء يغيّرها تغيرًا كثيرًا يمنع من إطلاق اسم الماء المطلق عليها، كأن تختلط بماء ورد أو مسك، والأصل في جواز الوضوء بماء المطر قوله تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنفال: 11]، وقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48].
قال الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (13/ 41، ط. دار الكتب المصرية): [المياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطُعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها] اهـ.
وقال الإمام البغوي في" تفسيره" (3/ 448، ط. إحياء التراث): [﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ والطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره] اهـ.
وقال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (1/ 83، ط. دار الكتب العلمية): [الماء المطلق، ولا خلاف في أنه يحصل به الطهارة الحقيقية والحكمية جميعًا؛ لأن الله تعالى سمى الماء طهورًا بقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48]، وكذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غير لونه، أو طعمه، أو ريحه»، والطهور: هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره] اهـ.
وقال الإمام ابن رشد الجد المالكي في "المقدمات الممهدات" (1/ 85-86، ط. دار الغرب الإسلامي): [فالأصل في المياه كلها الطهارة والتطهير، ماء السماء وماء البحر وماء الأنهار وماء العيون وماء الآبار، عذبة كانت أو مالحة] اهـ.
وقال الإمام الرملي في "نهاية المحتاج" (1/ 60، ط. دار الفكر): [قال: (قال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48] أي: مطهرًا، ويُعبر عنه بالمطلق، وعدل عن قوله تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ [الأنفال: 11] وإن قيل بأصرحيتها؛ ليفيد بذلك أن الطهور غير الطاهر، إذ قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [الفرقان: 48] دل على كونه طاهرًا؛ لأن الآية سيقت في معرض الامتنان وهو سبحانه لا يمتن بنجس] اهـ.
وقال الإمام شمس الدين الزركشي الحنبلي في شرحه على "مختصر الخرقي" (1/ 115، ط. دار العبيكان): [كل طهارة -سواء كانت طهارة حدث أو خبث- تحصل بكل ماء هذه صفته سواء نزل من السماء، أو نبع من الأرض على أي صفة خلق عليها، من بياض وصفرة، وسواد، وحرارة وبرودة، إلى غير ذلك، قال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾] اهـ.
فضل ماء المطر
أما عن فضيلة هذا الماء فتظهر من وصف الله تعالى له بأوصاف متعددة في مواطن كثيرة من القرآن، حيث جاء وصفه مرة بأنه رحمة، ومرة بأنه طهور، ومرة بأنه مباركٌ، قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ [ق: 9]، وقال جل شأنه: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48]، وقال تعاظمت أسماؤه: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الشورى: 28]، والرحمة المقصودة في هذه الآية هي البركة الناتجة عن المطر، كما قال الإمام النسفي في تفسيره "مدارك التنزيل وحقائق التأويل" (3/ 255، ط. دار الكلم الطيب): [﴿وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ﴾: أي بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب] اهـ.
ولذا كان من السنة التعرض للمطر، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يَتَعرَّض له بجسده الشريف، ولما سُئل عن ذلك قال: إنه -أي: ماء المطر- حديث عهد بربه، فعن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى» رواه مسلم.
فأفاد استحباب التعرض للمطر عند نزوله، قال الإمام النووي في "شرح مسلم" (6/ 195-196، ط. دار إحياء التراث): [معنى "حسر": كشف، أي: كشف بعض بدنه، ومعنى حديث عهد بربه، أي: بتكوين ربه إياه، ومعناه أن المطر رحمة وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها فيتبرك بها، وفي هذا الحديث دليل لقول أصحابنا أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف غير عورته ليناله المطر] اهـ.
وعلى هذا النهج سار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فكانوا يتعرضون للمطر؛ لينالوا من بركته، اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعن عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ الْمَطَرَ خَلَعَ ثِيَابَهُ وَجَلَسَ، وَيَقُولُ: «حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْعَرْشِ» رواه ابن أبي شيبة.
وأوضحت بناءً على ذلك: أن ماء المطر ماءٌ مطلق يجوز الوضوء به ما لم يختلط بشيء يغيّره تغيرًا كثيرًا يمنع من إطلاق اسم الماء المطلق عليه، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن له فضلًا عظيمًا، فقد وصف في القرآن بالرحمة والبركة والطهورية، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَتَعرَّض له عند أول نزوله رجاء بركته، وصورة التعرض المستحب ملاقاة المطر البدن مباشرة أثناء هطوله.