"وكزة"، لكنها لم تكن مجرد وكزة، بل علامة على انهيار الاحترام بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحليفه على الورق فولوديمير زيلينسكي، الرئيس الأوكراني، الذي يستظل منذ سنوات بتحالفه مع الدول الغربية في حربه ضد روسيا.

كان المشهد صادما لكثيرين، فما كان أمس هَمْسا صار خصاما واضحا وخلافا حادا على مرأى ومسمع من الجميع.

جاء دونالد ترامب لتغيير اللعبة إلى الأبد، وهو الذي لا يُخفي حنقه على أوروبا، ولم يعد الأوروبيون بدورهم يتحرَّجون من الحديث عن العلاقة المتوترة مع أميركا بقيادة ترامب.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2رؤوس نووية وقبة حديدية في أميركا.. تعرف على أبرز خطط ترامب العسكريةlist 2 of 2كندا لترامب وأوكرانيا لبوتين وتايوان لشي.. ملامح النظام العالمي الجديدend of list

قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض، كان واضحا من توجُّهاته أنه يرى دعم إدارة جو بايدن لأوكرانيا مُبالغا فيه، وأن الحل هو إيجاد تسوية للصراع بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما تعهَّد به قبل انتخابه، قائلا إنه سيخمد النيران في غزة وأوكرانيا.

في غزة، تصرَّف ترامب بصفته رجل أعمال لا رئيس دولة، وتكلَّم عن مشاريع وصفقات، ثم انتقل الحديث بعد ذلك إلى صفقة أوكرانيا.

في أثناء استضافته زيلينسكي في البيت الأبيض، أعرب ترامب عن امتعاضه ساخرا من رفض الرئيس الأوكراني وقف إطلاق النار، وظهر الأمر على أنه توبيخ من رئيس لمرؤوس، وليس من رئيس دولة لرئيس دولة حليفة، إلى درجة جعلت الأخبار تقول إن زيلينسكي طُرد من البيت الأبيض ولم يخرج اختياريا.

الرئيس الأميركي ترامب أثناء لقائه العاصف بالرئيس الأوكراني زيلنسكي نهاية فبراير/شباط بالبيت الأبيض (رويترز)

في معرض حديثه مع الرئيس الأوكراني، قال ترامب إن كييف في ورطة لأنها لا تنتصر بالحرب، ولأن جنودها يتساقطون مع مرور الوقت، مُذكِّرا زيلينسكي بأنه ليس في الموقف الذي يجعله يُملي شروطه على واشنطن، لأن جميع أوراقه الممكنة مرتبطة أساسا بالدعم الأميركي. بعد هذا الاجتماع، قال ترامب صراحة إن زيليسنكي سيكون مُرحَّبا به في حال كان مستعدا للسلام ووقف إطلاق النار.

إعلان

لم تكن الحادثة لتمر مرور الكرام بالطبع، فقد وجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه مجبرا على الرد، كونه رئيس فرنسا التي لم تعد تختبئ وراء توجُّسها وتخوُّفها من السياسات المتهورة للولايات المتحدة الأميركية وترامب. وقد علَّق الرئيس الفرنسي على المشادة قائلا إن روسيا هي المعتدية وأوكرانيا هي المعتدى عليها، وإنه ينبغي احترام مَن يقاتلون منذ البداية، وإن الغرب كان على صواب في مساعدة أوكرانيا ومعاقبة روسيا قبل 3 أعوام، متعهدا بمواصلة ذلك.

ترامب.. عودة الخصم القديم

"بالنسبة لي، الأمر بسيط، العالم يتكون من آكلي الأعشاب وآكلي اللحوم. إذا قررنا أن نبقى آكلي أعشاب، فسوف ينتصر آكلو اللحوم وسنكون سوقا لهم".

إيمانويل ماكرون – الرئيس الفرنسي

برقيات دبلوماسية وآمال مشتركة بالعمل على الأمن والرخاء والسلم، كلام من قش لا يكاد يصمد أمام الوضع الحرج الجديد الذي تعيشه أوروبا. دونالد ترامب الذي كان قد خرج قبل 4 سنوات من البيت الأبيض بشبه معجزة عاد مرة أخرى، ليس بالحرب ولا بالسلاح ولا بأي شيء غير قانوني، بل بأصوات الناخبين الذين اختاروه ورموا وراء ظهورهم كامالا هاريس، مرشحة الحزب الديمقراطي.

لم يكن الخبر سارا للأوروبيين، ولم يكونوا يخفون ذلك حتى قبل بداية المعركة الانتخابية، وها هي ألسنتهم تُبدي القلق الذي يسكن في القلوب بسبب وصول الرئيس الأميركي الجمهوري إلى قمة أقوى دولة في العالم.

ظهر أول صوت متوجِّس من "بودابِست" عاصمة المجر في قمة المجموعة السياسية الأوروبية العام الماضي، حيث استغل ماكرون الفرصة للحديث عن ضرورة أن يأخذ الأوروبيون قضايا أمنهم الداخلي على محمل الجد بعيدا عن تعهُّدات الأميركيين وتقلُّباتهم المفاجئة.

واعتبر ماكرون أن اللحظة الحالية فارقة وحاسمة بالنسبة للأوروبيين، فالحرب التي يشنها بوتين شرقي القارة، والانتخابات الأميركية، والخيارات الصينية على صعيد التكنولوجيا، تعطي القارة العجوز فرصة كتابة التاريخ بدل مشاهدة أطراف أخرى تكتبه كما تُملي عليها مصالحها. وتساءل ماكرون عمَّن سيدافع عن اختيارات الأوروبيين إن كان الأميركيون قد اختاروا مَن يدافع عن مصالحهم.

إعلان

مَن سيدافع عن الأميركيين حسب قصد إيمانويل ماكرون لن يكون سوى ترامب، الرجل الذي لا يُبدي حماسا كبيرا للأوروبيين. وليس ذلك الأمر بجديد، بل يعود إلى ولايته الأولى.

في مقابلة مع صحيفتَيْ "التايمز" البريطانية و"بيلد" الألمانية في يناير/كانون الثاني 2017، خرج دونالد ترامب بتصريحات أثارت الكثير من الجدل، صوَّب فيها رصاص كلماته نحو أوروبا والناتو، وقال إن أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية السابقة، ارتكبت خطأ كارثيا بعد أن أغرقت أوروبا باللاجئين عقب فتحها الحدود أمام الفارين من نيران الحرب في الشرق الأوسط، وإن على ألمانيا الاستثمار في إنشاء مناطق حظر طيران في سوريا لحماية الشعب السوري من القصف عوضا عن استضافة اللاجئين.

لم يقف هجوم ترامب هنا، بل قال إن الاتحاد الأوروبي برُمَّته ما هو إلا أداة لألمانيا، لذلك دعم قرار بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد. وفي المقابلة نفسها، رأى ترامب أن خروج بريطانيا الذي كان وشيكا من الاتحاد الأوروبي سيكون في صالح دولة صاحبة الجلالة، مُعربا حينها عن رغبته في عقد اتفاق تجاري مع لندن بسرعة.

ويختلف تصريح ترامب هذا جملة وتفصيلا عن تصريح سابق لباراك أوباما، قال فيه إن بريطانيا يجب عليها أن تقبل مكانها في آخر الصف إن غادرت الاتحاد الأوروبي حتى يتسنَّى لها توقيع اتفاقيات تجارية مع الولايات المتحدة. وبعد وصلة حب في بريطانيا التي تنحدر منها والدته الإسكتلندية، اعتبر ترامب أن الاتحاد الأوروبي مصيره إلى الانهيار، لأن دولا أخرى ستنضم إلى القافلة بسبب سياسة الهجرة التي تنتهجها القارة العجوز.

يملك ترامب الآن خطة لوقف الحرب في أوكرانيا، وفكرة تتعلق بإنهاء الصراع مع الصين، لكنه لم يُعطِ نبذة عن هذه الأفكار التي يمكن التنبؤ بأنها لن تعجب كييف ولا باريس ولا برلين. ورغم خطورة أفكار ترامب على حلف الناتو، وبالتبعية على العلاقات بين أوروبا وأميركا، فإن الخلاف في الحقيقة يعود إلى ما قبل ترامب بسنوات.

إعلان

كانت بداية هذا التوتر في عهد جورج بوش الابن، الذي جاء بعده أوباما لإصلاح ما يمكن إصلاحه، دون جدوى. في الحقيقة، لم يكن ترامب أول مَن قال كلاما سلبيا عن ألمانيا، فقد عبَّر رؤساء أميركيون بطريقة دبلوماسية أكثر عن امتعاضهم من عدم إنفاق الأوروبيين، وبالخصوص الألمان، على تسليح جيوشهم بشكل كافٍ، والاعتماد على حلف الناتو.

كمامات وغوَّاصات.. صراعات الغرب تخرج إلى النور

ننظر نحن العرب للغرب على أنه كُتلة واحدة تتكوَّن من شعوب تجمعها الأهداف والنظرة نفسها، وتتطلَّع إلى المستقبل بالهواجس والتوقعات ذاتها.

ولكن التاريخ والحاضر يُخبراننا بأن الغرب ليس دائما على قلب رجل واحد، وأن علاقات الدول فيه غالبا ما تكون براغماتية محضة، فإذا انتفت المصالح المشتركة، ظهر التنافس والشقاق، وربما سيقت تلك الدول فيما بينها إلى حروب عالمية أودت بحياة الملايين ودمرت بلدانا بأكملها، كما حدث بالفعل في الحربين العالميتيْن.

ليس هناك أدل على ذلك مما حدث إبَّان انتشار وباء كورونا عام 2020، حين اندلعت النزاعات على الكمامات وأجهزة التنفس الصناعي بين الدول الغربية.

في هذه الفترة، كانت السلطات الألمانية قد أعلنت رسميا احتجاجها على "سطو" الولايات المتحدة على مئتَيْ ألف كمامة طبية كانت برلين قد اشترتها لمواجهة الوباء، وتكرَّر الأمر نفسه بين أميركا وفرنسا، حينما قالت فاليري بيكريس، رئيسة إقليم "إيل دو فرانس"، إن الأميركيين حصلوا في اللحظات الأخيرة على شحنة من الكمامات كان من المفترض أن يحصل عليها الفرنسيون بعدما ضاعفت واشنطن العرض المالي للجِهة المُصنِّعة.

تبنَّى الأميركيون آنذاك شعار "أميركا أولا"، الذي رفعه ترامب خفَّاقا في وجه الجميع، ولذا لم يكن غريبا أن كرَّرت واشنطن الحركة نفسها مع عدد من الأقاليم الفرنسية، إلى حد الاستيلاء على إحدى الشحنات من مدرج مطار صيني كان من المفترض أن تصل بعد ساعات إلى الأراضي الفرنسية، رغم نفي المسؤولين الأميركيين.

إعلان

كان هذا نموذجا بسيطا لخلافات ممكنة وحاضرة قد تنفجر في أوقات الأزمات بين الدول الغربية، خصوصا بين الدول الأوروبية من جهة والولايات المتحدة من جهة.

في مارس/آذار 2023، أزاحت الولايات المتحدة وبريطانيا الستار عن أكبر صفقة غواصات مع أستراليا، في إطار شراكة "أوكوس" الدفاعية، وبموجبها سيتمكَّن الأستراليون من الحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية.

والهدف من الصفقة، التي تتراوح قيمتها بين 268-368 مليار دولار، هو انضمام أستراليا إلى التحالف الأميركي البريطاني، المعنيّ بتطويق الصين في المحيط الهادي. وقد أدت هذه الصفقة إلى مشكلات كبيرة، إذ إنها لا تستهدف الصين فحسب، بل وفرنسا بدرجة أقل، التي أُبعِدت عن "أوكوس" عمدا.

في سبتمبر/أيلول 2021، رفض سكوت موريسون، رئيس الوزراء الأسترالي السابق، التُّهَم التي وجَّهتها فرنسا له، وجاء الهجوم بعد أن قررت أستراليا إلغاء صفقة غواصات اتفقت عليها سابقا مع فرنسا، بعد أن توصَّلت مع الولايات المتحدة وبريطانيا إلى صفقة أخرى من أجل غواصات أكثر تطوُّرا.

وفي تصريح للصحافة المحلية، أكَّد رئيس الوزراء الأسترالي السابق أن بلاده أخبرت فرنسا بشكوكها حول الغواصات التي اتُّفِق عليها في البداية، وأنها لا تحتوي على الإمكانيات التي يمكن الحصول عليها من دول أخرى، ومن ثمَّ لن تخدم أهداف الإستراتيجية الأسترالية.

خلَّف إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية غضبا في باريس، واستدعى ماكرون سفيره على وجه السرعة، وألغت فرنسا اجتماعا على مستوى وزارتَيْ دفاع البلديْن. وفي تصريح خارج عن اللباقة الدبلوماسية، قال جان إيف لودريان، وزير الخارجية الفرنسي السابق، إن بلاده استدعت سفيرَيْها في كانبيرا وواشنطن لإعادة تقييم الوضع، أما بريطانيا، فلم تكن هنالك حاجة إلى استدعاء سفيرها، لأنها لطالما أظهرت انتهازية في مزاحمة النفوذ الفرنسي.

إعلان

كشف ملف الغواصات بوضوح عن العلاقة المتوترة التي تُخفيها الابتسامات الدبلوماسية، لا سيَّما بين باريس وواشنطن، خصوصا بعد أن خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ضفَّتا الأطلسي.. جذور علاقة مضطربة

تعود العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا إلى قرون مضت، ففي عام 1607، أقامت بريطانيا أعمدتها في أول مستعمرة في جيمستاون بفيرجينيا، وبعد ذلك بدأت أطول حقبة هجرة من أوروبا إلى أميركا الشمالية حتى اندلاع الثورة الأميركية عام 1775.

قَدِم مهاجرون أوروبيون كثيرون من ألمانيا وهولندا، لكن ظل البريطانيون أصحاب نصيب الأسد من الهجرة إلى الولايات المتحدة. لم تكن الهجرات البريطانية ذات دوافع اقتصادية فقط، بل كان لها بعض الدواعي الدينية أيضا، فقد عرفت مناطق مثل ماريلاند ونيويورك وبنسلفانيا هجرات دينية مثل استيطان جمعية الأصدقاء الدينية البريطانية، وتبعتها جماعات من إيرلندا الشمالية وطوائف بروتستانتية ألمانية جاءت من أجل التبشير.

بعد استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا، لم تلعب واشنطن أدوارا مركزية في النظام الدولي واكتفت بتأثيرها في الأميركتين وبعض مناطق شرق آسيا، حتى اندلعت الحرب العالمية الأولى، التي اتخذت الولايات المتحدة فيها موقفا محايدا في البداية ضمن لها التعامل الاقتصادي مع الأطراف المتحاربة، فكانت تمد الجميع بالسلع الغذائية والمعدات الحربية والمواد الأولية، رغم بعض الصعوبات التي لاقتها في تزويد ألمانيا بسبب الحصار البحري على برلين.

واصلت أميركا سياسة ضبط النفس، حتى اعترضت برقية ألمانية كانت متجهة للمكسيك، وكشفت أن الحكومة الألمانية أبدت استعدادها لمساعدة المكسيك في استعادة عدد من الولايات الأميركية (تكساس ونيومكسيكو وأريزونا). لم يكن هناك إجماع داخلي أميركي على قضية الدخول في الحرب العالمية، خصوصا أن عدد الأميركيين من أصول ألمانية كان يتجاوز 4 ملايين مواطن، لكن الحياد لم يدُم طويلا، وبسبب محاولات ألمانيا إنشاء قواعد عسكرية لها في أميركا اللاتينية، وزيادة وجودها في شرق آسيا، قرَّرت واشنطن أخيرا الانحياز للحلفاء.

إعلان

دخلت الولايات المتحدة الحرب عام 1917 على مرحلتين، أولاهما حين أعلن الرئيس الأميركي وودرو ويلسون يوم 3 فبراير/شباط 1917 قطع العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا، وثانيهما إبَّان إعلان واشنطن يوم 6 أبريل/نيسان الحرب على ألمانيا، بعد أن أغرقت الغواصات الألمانية سفنا تجارية تسبَّبت في خسائر مادية وبشرية جديدة.

وقد قلَبَ دخول واشنطن الحرب الموازين، التي انتهت بطلب ألمانيا من أميركا التوسط لدى الحلفاء للتفاوض حول المبادئ الـ14، ومن ثمَّ وُقِّعَت الهدنة يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1918.

في أثناء أشهر الحرب القليلة التي شاركت فيها الولايات المتحدة، تمكَّنت من تحقيق مكاسب لا بأس بها، فقد كانت الدائنة الأولى لأوروبا، كما استولت على ممتلكات الكثير من الألمان الأميركيين بحُجة الاشتباه في تعاطفهم مع ألمانيا.

انتهت الحرب العالمية الأولى بمكسب أهم لواشنطن، وهو أن الدول الأوروبية بدأت تعتمد على واشنطن في الكثير من احتياجاتها العسكرية والمعيشية بسبب الخسائر الكبيرة التي تكبدتها أثناء الحرب بمنتصريها ومهزوميها. ولذا بدأت الولايات المتحدة تتسلَّق تدريجيا سلم الهيمنة العالمية على ظهر الأوروبيين أنفسهم، لكن التربع الكامل على عرش العالم لم يتم بعد، بل كان يحتاج إلى صفحة ثانية فيها الكثير من الخراب والدماء.

اندلعت الحرب العالمية الثانية بسبب غضب الألمان على القيود المفروضة عليهم جرَّاء هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، ومن ثمَّ نشبت جولة جديدة بين ألمانيا وأعدائها على يد الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر، ولم يلبث هتلر أن أعلن الحرب بضم أراضي جيرانه عنوة، ولم يتأخر كثيرا كي يأخذ صورة تذكارية أمام برج إيفل، معلنا وصول قواته إلى قلب باريس. في الوقت نفسه، كانت الولايات المتحدة في الطريق لتبنّي موقف مشابه لما جرى أثناء الحرب العالمية الأولى: حياد في البداية، ثم اشتباك ضروري.

إعلان

في السابع من ديسمبر/كانون الأول عام 1941، شنَّت الجوية والبحرية اليابانية هجومها الشهير على الأسطول الأميركي في جزر هاواي، بعد أن قررت واشنطن قطع إمدادات الوقود عن اليابان. دخلت الولايات المتحدة الحرب، وسرعان ما مالت كفة الحلفاء وتكلَّلت جهودهم بالنصر، لكن الأهم بالنسبة لواشنطن لم يكن الانتصار ذاته، بل ما أتى بعده.

مارشال.. أوروبا تحت مظلة أميركا

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم تكن جميع الأخطار التي تُهدِّد الدول الديمقراطية قد زالت. رحل هتلر، نعم، لكن الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين لم يكن أقل خطورة في نظر الأميركيين. وقد شعر الأميركيون بالقلق من أن يسبقهم الشرق الشيوعي إلى أوروبا المنهكة المدمرة، ولذا عقدوا العزم على تقديم دعم اقتصادي شامل لأوروبا، بحيث يمنح القارة العجوز كل ما تريد من أجل الوقوف على قدميها من جديد.

بدأ هذا الدعم عبر ما سُمي بـ"مبدأ ترومان"، ورعاه الرئيس الأميركي هاري ترومان بوصفه التزاما أميركيا بدعم الديمقراطيات في وجه الأنظمة الاستبدادية، ومن ثمَّ ظهر أهم مشروع اقتصادي عرفته أوروبا بعد الحرب: مشروع مارشال.

لقد أدرك الأميركيون أن ستالين لا يشاركهم تصوُّراتهم الديمقراطية والرأسمالية، وأن أوروبا عاجزة عن مساعدة نفسها لبناء ما دمَّرته نيران الحرب. وطلب الجنرال الأميركي جورج مارشال من الدبلوماسي جورج كِنان وضع خطة مساعدة اقتصادية لأوروبا بحيث تحقق هدفيْن، مساعدة الحليف الأوروبي، ومنعه من السقوط بين يدي الاتحاد السوفياتي في حال انجذب المتأثرون بالأزمة الاقتصادية الأوروبية إلى الخطاب الشيوعي القادم من موسكو.

قد يكون مفاجئا أن نعرف أن خطة مارشال لإنقاذ اقتصاد أوروبا كانت مقترحة أيضا على الاتحاد السوفياتي نفسه، إذ تمنى الفرنسيون والبريطانيون أن ينضم ستالين إليهم في الاستفادة من المشروع خوفا من القطيعة بين شرق أوروبا وغربها.

إعلان

في النهاية، قدَّمت الولايات المتحدة 13 مليار دولار من المساعدات لأوروبا على مدار 4 سنوات، وُزِّعت على 16 دولة. وساعد مشروع مارشال أوروبا على النمو وتحديث الصناعات والبنى التحتية، كما خلق نوعا من التعاون بين الدول الأوروبية، وكذلك بينها وبين الولايات المتحدة.

يمكننا القول إن موازين القوى تغيَّرت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، صحيح أن أوروبا نجحت في القضاء على النازية، لكنها خرجت من الحرب مُقسَّمة، بقسمها الغربي في حاجة إلى المظلة الأميركية، وقسمها الشرقي منجذبا إلى مدار الشيوعية السوفياتية، ومن ثمَّ أنتجت الحرب نظاما ذا قطبيْن: موسكو وواشنطن.

لسنوات طويلة، خيَّمت الحرب الباردة وحساباتها على العالم كله، وكان التخوُّف الغربي من انتشار الشيوعية سببا لتعزيز التحالف بين الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، لا سيَّما فرنسا وبريطانيا وبالتبعية ألمانيا الغربية.

بيد أن حاجة أوروبا إلى الأميركيين لم تسيطر عليها تماما، ففي الستينيات وصل عرَّاب الجمهورية الفرنسية الخامسة، الجنرال شارل ديغول، وأبدى رغبته صراحة في التمرُّد على واشنطن ومحاولة شق طريق ثالث لا يخضع لأميركا ولا ينجذب لموسكو في الوقت نفسه.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ينظر إلى لوحة للرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول (الفرنسية)

ولم تكن هذه الرغبة عند ديغول وحده، وإن كان أبرز مَن نادى بها، فقد انتشرت الدعوة في العديد من الدول الأوروبية من أجل درجة من الاستقلالية، ومنها سياسة "أوست بوليتيك" في ألمانيا الغربية، التي رعاها المستشار الديمقراطي الاجتماعي ويلي براندت، وفتحت باب التطبيع مع ألمانيا الشرقية والتهدئة مع موسكو.

لم تقف أميركا مكتوفة الأيدي أمام هذه التحركات الأوروبية، فقد عملت على إضعاف فرنسا وإجبارها على السير وفق السنن الاقتصادية التي سنَّتها لأوروبا، وقد جاءت الفرصة لتعزيز هذا التوجُّه الأميركي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لا سيَّما وقد جاء توحيد ألمانيا ليُشكِّل قيدا إضافيا على نفوذ فرنسا في قيادة أوروبا.

إعلان

ثم انطلقت واشنطن تُعيد تأهيل وإدماج دول حلف وارسو في نطاق الاتحاد الأوروبي وفق شروط تحوُّل رأسمالي وعلاقات ثنائية لم تُفسِح المجال لنموذج مغاير ترعاه فرنسا المُقيَّدة الآن، أو ألمانيا المشغولة بالوحدة، أو بريطانيا البعيدة عن قلب القارة والأقرب في كل الأحوال إلى واشنطن.

مَن العدو؟ سِجال بين واشنطن وبروكسل

لقد ظهر حلف الناتو في البداية نتيجة رغبة فرنسية وبريطانية بعد الحرب العالمية الثانية. ففي تلك الفترة لم يكن الروس قد خرجوا من الأراضي التي سيطروا عليها، وهو ما شكَّل خطرا بالنسبة للأوروبيين المتوجسين من فكرة عدم خروج روسيا من الأراضي التي كانت قد سيطرت عليها.

في سبتمبر/أيلول 1949، بعد اندلاع الحرب الكورية التي أسفرت عن ظهور دولتيْن كوريتيْن على عداء شرس، سارعت الدول الغربية إلى إنشاء هيكل عسكري متكامل، وكان دور التحالف هو "إبقاء الروس خارج أوروبا، والأميركيين منخرطين داخلها، والألمان فيها تحت السيطرة"، صاغه الجنرال البريطاني هاستينغز إسماي، الأمين العام الأول لحلف الناتو.

أصبحت واشنطن بسرعة العمود الفقري لحلف الناتو، كيف لا وهي التي تساعد أوروبا نفسها على بناء قوتها.

ولكن التوتر وجد طريقه سريعا إلى العلاقات بين أميركا وحلفائها الأوروبيين في أوج حرب الهند الصينية (جنوب شرق آسيا)، إذ طلبت فرنسا حينها من حلفائها تمويل تحرُّكها العسكري تحت مظلة حلف شمال الأطلسي، وقد وافق الأميركيون على ذلك شريطة الرجوع إليهم في كيفية استخدامها، وهو ما لم يعجب باريس.

ظل التحالف ضروريا حتى بعد سقوط السوفيات، ونظرت أوروبا إلى بقاء الأميركيين بوصفه أمرا صحيا لأمنها. ومع ذلك أقدمت أميركا على فك ارتباطها التدريجي بأوروبا عبر إغلاق العديد من قواعدها العسكرية.

حين وقعت هجمات 11 سبتمبر/أيلول عام 2001، ولأول مرة في تاريخه، سيُفعِّل الناتو المادة الخامسة من معاهدة واشنطن، التي تنص على أن جميع أعضاء الحلف يجب أن يساعدوا أي عضو تعرَّض للهجوم. ورغم إسهام الناتو في العديد من العمليات العسكرية، خاصة في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي، ودخوله حرب أفغانستان دفاعا عن واشنطن، فإن الأخيرة فقدت بالتدريج رغبتها في التقيُّد بالناتو.

إعلان

لقد امتلكت الولايات المتحدة قدرات عسكرية فائقة في ذروة خروجها مُنتصرة من الحرب الباردة، ومن ثمَّ اكتشفت مع الوقت أنها تريد بطاقة بيضاء دون شرط أو قيد للتدخُّل حيثما أرادت، وبأي طريقة، مُعتبرة نفسها في حرب مفتوحة مع الإرهاب حول العالم.

كانت حرب العراق عام 2003 تجسيدا صريحا لتلك العقيدة الأحادية الأميركية، إذ مضت فيها واشنطن بدعم من بريطانيا دون الحصول على موافقة فرنسا وألمانيا، بل وتوتَّرت العلاقات مع باريس وبرلين نتيجة إصرارهما على عدم الدخول في الحرب، في حين شاركت بعض دول الاتحاد السوفياتي السابق الهشَّة والمستقلة حديثا خوفا من فقدان الدعم الأميركي في مواجهة العراق، مثل روسيا وجورجيا، كما وافقت هولندا والدنمارك وأستراليا على إرسال قوات إلى العراق.

بحلول العقد الثاني في الألفية الجديدة، بدأت الخلافات تظهر أكثر بين الدول الرئيسية لحلف الناتو، ومع تدخُّل روسيا العسكري في جورجيا عام 2008 وفي شبه جزيرة القرم عام 2014، بات واضحا أن النظام الروسي يسعى لإعادة الاعتبار لحضوره في القارة الأوروبية، وبدأ الخلاف بين أميركا وأوروبا حول ماهية العدو الذي يُهدِّد الحلف، هل هو الإرهاب أم صعود الصين أم التدخُّلات الروسية المتزايدة، وبدأت الدول الأوروبية تعزز تعاونها العسكري فيما بينها، مثل هولندا وألمانيا اللتيْن أسستا ألوية عسكرية تنضوي تحتها قوات من البلديْن، وإيطاليا وفرنسا اللتيْن أسستا شركات تصنيع عسكري منافسة للولايات المتحدة.

مع الغزو الروسي لأوكرانيا، بدأ التحالف يعود للحياة من جديد، فقد وجدت أوروبا وأميركا عدوا مشتركا مرة أخرى، فكانت الفرصة الأكيدة لجمع القدرات وتوجيه النيران في مكان واحد.

لكن هذا التعاون لم يُعِد تشكيل الأولويات الأميركية المشغولة باستقرار النظام الدولي في العموم، وصعود الصين على وجه الخصوص. ومن ثمَّ سرعان ما ظهر تملمُل واشنطن من دعم أوكرانيا، ووصل ذلك إلى ذروته مع رئاسة ترامب الحالية، الذي قال إن القليل فقط من دول الحلف دفعت ما ينبغي لها دفعه، وإن التسوية الطريق الوحيد لإنهاء الحرب.

إعلان

وقد قال "هايكو ماس"، وزير الخارجية الألماني السابق، إن شعار "أميركا أولا" الذي يرفعه ترامب يجب أن يكون أمامه شعار لا يقل وضوحا هو "أوروبا أولا". من وجهة نظر أوروبية، يُشكِّل ترامب خطرا بسحبه السريع لمظلة الأمن الأميركي من القارة، التي تُجبر الأوروبيين الآن على التحرُّك سريعا من أجل تشكيل قوة عسكرية خاصة بهم.

لكن القارة العجوز تعيش الكثير من المشكلات، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، منها صعود تيارات أقصى اليمين، العدو الأول للاتحاد الأوروبي كمؤسسة.

يراهن الاتحاد الأوروبي على الوصول إلى اتفاق في أوكرانيا لا يلعب فيه الأميركيون دور البطولة الوحيد، ويضمن مصالح أوكرانيا الأوروبية، ويضمن أمن القارة العجوز، ويُلجم طموحات بوتين التوسُّعية، خصوصا أن بوتين قد يتشجَّع أكثر بعد وقف ترامب الدعم الأميركي لزيلينسكي، ويتطلَّع إلى دول البلطيق.

وسواء تراجع ترامب أم قرر تجديد الدعم، فليس أمام الأوروبيين سوى خيار واحد، وهو إيجاد طريقة لمواجهة عالم الغد بدون التعويل على حماية واشنطن، التي يبدو أنها تصارع أعداءً بعيدين عن أوروبا، تاركة القارة كي تواجه عدوَّها وحدها.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان أبعاد الحرب العالمیة الثانیة الحرب العالمیة الأولى الاتحاد السوفیاتی الاتحاد الأوروبی الولایات المتحدة الرئیس الأوکرانی الدول الأوروبیة إیمانویل ماکرون الرئیس الأمیرکی الرئیس الفرنسی القارة العجوز الدول الغربیة دونالد ترامب البیت الأبیض أوروبا إلى فی البدایة حلف الناتو بین الدول الکثیر من فی الحرب ل ترامب لم یکن بعد أن من أجل ومن ثم الذی ی التی ت لم تکن

إقرأ أيضاً:

ترامب وأفورقي.. ما تخفيه الرسائل المتبادلة بين إريتريا والولايات المتحدة

كشف الدبلوماسي الإريتري السابق، فتحي عثمان، في مقال نشره في يوليو/تموز 2024، أن الرئيس أسياس أفورقي أحد أبرز خصوم السياسات الأميركية في أفريقيا، وخلال عقدين من حكمه، بعث برسالتين فقط لرؤساء أميركيين.

كانت الرسالة الأولى بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، عزى فيها الشعب الأميركي وأكد وقوف بلاده إلى جانب الولايات المتحدة في "حملتها ضد الإرهاب"، وأما الثانية فكانت رسالة تهنئة لدونالد ترامب بفوزه في انتخابات 2016.

وفي الأول من أغسطس/آب 2024، أضاف وزير الإعلام الإريتري يماني غبريمسقل، عبر تغريدة، رسالة ثالثة إلى القائمة، كاشفا أن أفورقي بعث بتهنئة "حارة" لترامب بمناسبة "عودته التاريخية"، وأن الأخير رد عليها بترحيب لافت. هذه اللفتة تثير التساؤلات حول المكانة الخاصة التي يحظى بها ترامب في أروقة "عدي هالو"، المقر الذي اعتاد أفورقي المكوث فيه.

يزداد هذا التساؤل وجاهة عند النظر إلى أنه عبر ما يزيد على عقدين من العلاقات المتوترة بين واشنطن وأسمرة شهدت ولاية ترامب الأولى نمطا مختلفا من التعاطي بين الطرفين، حتى وصفها الرئيس الإريتري بأنها كانت "فرصة سانحة" لانخراط أسمرة في حوار جوهري ومفتوح قوبل "برد فعل إيجابي" من واشنطن.

وزير الإعلام الإريتري يمان غبريمسقل كشف عن رسالة جديدة من أفورقي إلى ترامب (دويتشه فيله)الرجل القوي

وفي سبيل البحث عن إجابة، يشير بعض المراقبين إلى أنه رغم التباين الكبير بين موقفي إريتريا والولايات المتحدة من العديد من القضايا ومؤشر العلاقة الذي يتذبذب منذ عقدين بين البرود والعداء الصريح، فإن من المفارقات اللافتة للنظر وجود سمات شخصية وفكرية مشتركة تجمع بين كل من أفورقي وترامب، والتي تمهد الأرضية للتقارب بينهما.

يأتي على رأس هذه السمات النزعة الواضحة نحو نموذج "الرجل القوي" وما يرتبط به من شخصنة السياسات، حيث يصف العديد من الدبلوماسيين الإريتريين السابقين عملية صنع السياسة الخارجية في إريتريا بأنها شديدة المركزية ومرتبطة بمكتب أفورقي مباشرة والذي يضع خططها العامة والتفصيلية في بعض الملفات.

إعلان

من جانبه، ورغم عمله في نظام ديمقراطي، فغالبا ما دأب الرئيس الأميركي على النقد المرير لمؤسسات الدولة والدعوة إلى إعادة تنظيمها وفقا لرؤيته الخاصة، وتشير دراسة صادرة عن مجلة "أوروبا الوسطى للدراسات الدولية والأمنية" إلى تعزيز ترامب مركزية القرار في يده وحده عند إدارته للسياسة الخارجية مبتعدا عن الهياكل الرسمية التقليدية.

هذا الإعجاب بنموذج الرجل القوي أشار إليه أستاذ التاريخ بجامعة نورث كارولينا بنيامين سي. ووترهاوس، متحدثا عن أن منتقدي ترامب لاحظوا أنه كان يُشيد باستمرار بالحكام المستبدين والدكتاتوريين الأجانب، بينما يبدو أنه يُسيء إلى حلفائه التقليديين والقادة الأجانب المنتخبين ديمقراطيا، مُعتبرا إياهم ضعفاء وغير فعالين.

ترامب وصف المؤسسات الدولية بأنها "بالية" أو "منحازة" ضد الولايات المتحدة واتهمها باستنزاف موارد بلاده (الفرنسية)سمات فكرية مشتركة

هذا الموقف من المؤسسات الداخلية نجد أصداء شبيهة له في ما يتعلق بموقف الزعيمين من "الخلل" في النظام الدولي ومؤسساته، فأفورقي عرف بانتقاده اللاذع لما يراه هيمنة غربية، واعتباره المؤسسات الدولية، كالأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، غير فعالة في معالجة قضايا التنمية أو الأمن في أفريقيا بشكل عادل.

أما ترامب، فإنه لم يتردد في وصف هذه المؤسسات بأنها "بالية" أو "منحازة" ضد الولايات المتحدة، متهما إياها باستنزاف موارد بلاده دون مردود حقيقي.

جانب آخر من التوافق بين الرئيسين يتمثل في موقفهما من سياسات الحزب الديمقراطي ولا سيما الثنائي أوباما وبايدن، حيث شهدت أسمرة في عهد الأول المساهمة الأميركية في تعرضها لعقوبات دولية لمرتين في حين فرضت إدارة بايدن عقوبات أخرى عام 2021 طالت عددا من كبار الشخصيات في المؤسسات العسكرية والاقتصادية والحزب الحاكم في إريتريا.

هذا الموقف الإريتري من إدارتي أوباما وبايدن يعزوه تحليل على موقع "ديموكراسي إن أفريكا" إلى محاولتها فرض الأجندة المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان من خلال أدوات الدبلوماسية الخارجية، في حين يشير البروفيسور إندرجيت بارمر إلى رفض إدارة ترامب "القاطع" منهجية الليبراليين في تغيير الأنظمة، رغم الانتقائية التي وسمت جهودها.

الخطاب المفعم بالحديث عن أهمية السيادة الوطنية يمثل عاملا مشتركا آخر يربط بين الرجلين، حيث يؤكد أفورقي في مقابلاته وخطاباته على أهمية السيادة الوطنية ورفض التدخلات الخارجية، في حين يمثل "اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" جوهر خطاب ترامب القائم على إعادة تمركز السياسة الأميركية حول المصالح الوطنية والأمن الاقتصادي والسياسي.

أفورقي عرف بانتقاده اللاذع لما يراه هيمنة غربية واعتباره المؤسسات الدولية غير فعالة في معالجة القضايا في أفريقيا بشكل عادل (الفرنسية)نوبل للسلام.. حلم قديم

تبدو دوافع ترامب للتعاطي الإيجابي مع الرسالة الإريترية متعددة ومتشابكة، وفي مقال له يشير قائد فريق أفريقيا لمشروع التهديدات الحرجة في معهد "أميركان إنتربرايز"، وليام كار، إلى أن تصاعد التوترات في شمال إثيوبيا ينذر باندلاع صراع جديد قد يُعرّض أولويات واشنطن في منطقة القرن الأفريقي للخطر.

إعلان

وقد يمثل إحداث اختراق في جدار الأزمة الإريترية الإثيوبية الصلب بطاقة الفوز بجائزة نوبل للسلام التي طالما تطلع إليها ترامب، والتي عبرت عنها صراحة المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفيت قائلة "حان الوقت كي ينال دونالد ترامب نوبل السلام"، موضحة أن ترامب أشرف منذ 20 يناير/كانون الثاني على إبرام "وقف إطلاق النار أو اتفاق سلام في الشهر الواحد".

هذه التطلعات تتجاوب مع "خيبة أمل" قديمة عبر عنها ترامب بنفسه في يناير/كانون الثاني 2020 تعليقا على فوز آبي أحمد بجائزة نوبل للسلام في العام السابق قائلا "لقد عقدتُ صفقة، وأنقذتُ بلدا، وسمعتُ للتو أن رئيس ذلك البلد سيحصل الآن على جائزة نوبل للسلام لإنقاذه البلاد. فقلتُ ماذا! هل لي علاقة بالأمر؟ نعم، لكن كما تعلمون، هكذا تجري الأمور".

من الجدير بالذكر أن اتفاق السلام الإريتري الإثيوبي المبرم عام 2018 تم إبان ولاية ترامب الأولى وهو المعني بكلامه السابق حول جائزة نوبل للسلام.

وكان من المثير للانتباه أن تلميحات لدور ما لترامب في السلام وردت في تهنئة أفورقي للرئيس الأميركي، واصفا انتخابه بأنه "جاء في مرحلة حرجة، حيث أصبح السلام العالمي أكثر أهمية من أي وقت مضى".

ترامب يأمل في الفوز بجائزة نوبل للسلام (الجزيرة)بوادر سياسة أميركية لاحتواء أسمرة

مثلت المواجهة مع الصين ملمحا بارزا في تشكيل إستراتيجيات الشؤون الخارجية لإدارة ترامب الأولى، حيث شكل القرن الأفريقي إحدى الساحات المحتدمة لهذه المواجهة، عندما أطلقت استضافة جيبوتي للقاعدة العسكرية الأولى لبكين بالخارج عام 2017 أجراس الإنذار في واشنطن ودفعت إدارة الرئيس الأميركي إلى إصدار إستراتيجيتها الأفريقية عام 2018.

وبالنظر إلى استحواذ العمل على الحد من النفوذ الصيني في المناطق الإستراتيجية، ومنها القرن الأفريقي، على جانب رئيسي من سياسات ترامب الدولية، فإن العمل على احتواء أسمرة قد يعد إستراتيجية بديلة عن عصا العقوبات التي رفعتها إدارة جو بايدن في وجه النظام الإريتري، الذي وقع عام 2021 على مذكرة تفاهم مع بكين للانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق عقب مغادرة ترامب البيت الأبيض وبعد تأجيل لسنوات.

هذا التوجه الأميركي نحو محاولة احتواء أسمرة والابتعاد عن سياسة العقوبات التي اتبعتها الإدارة الديمقراطية السابقة تجسده تعبيرات رسالة ترامب التي ركزت على "عكس الضرر السلبي والضار الذي أحدثته إدارة بايدن في جميع أنحاء العالم".

في حين أبرزت تداعيات طوفان الأقصى الأهمية الأمنية المركبة للقرن الأفريقي فيما يتعلق بمجموعة من الملفات الإستراتيجية لواشنطن، على رأسها أمن الملاحة الدولية مع الاضطراب الذي أثاره استهداف الحوثيين للمصالح الإسرائيلية العابرة من باب المندب، ومن جهة أخرى كشف استهداف الحوثيين لإسرائيل مباشرة عن التشابك الأمني الوثيق بين جنوب البحر الأحمر والشرق الأوسط.

وفي هذا السياق، كان لافتا إشارة ترامب في رسالته إلى أفورقي إلى استعداد إدارته لإعادة تأسيس علاقة وطنية محترمة ومنتجة بين الولايات المتحدة وإريتريا "على أساس الصدق والاحترام والفرص لتحسين السلام والازدهار في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر".

إريتريا وقعت عام 2021 على مذكرة تفاهم مع بكين للانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق (الجزيرة)دوافع أفورقي

رغم الغموض الذي يحيط بالدوافع المحركة للرئيس الإريتري في محاولة التقارب مع الولايات المتحدة، فإن العديد من المراقبين يرون أن أسمرة قادرة على طرح نفسها كشريك يوصف بأنه جزيرة مستقرة في محيط مضطرب تهدد الحروب فيه الوحدة الترابية لأكبر دولتين في الجوار إثيوبيا والسودان.

ويعيش جنوب البحر الأحمر حالة من القلقلة الأمنية على وقع الهجمات الحوثية، ووسط كل ذلك تنخرط أسمرة بعمق في ملفات المنطقة الساخنة في السودان والصومال وإثيوبيا وحوض النيل.

إعلان

كما أن هذه المرحلة تعد فرصة للتواصل مع واشنطن التي لم تتضح بعد ملامح إستراتيجيتها تجاه القرن الأفريقي وجنوب البحر الأحمر، حيث تواردت الأنباء عن نشاطات دبلوماسية للعديد من الأطراف في المنطقة ساعية لموضعة نفسها ضمن الرؤية الأميركية للمنطقة.

وبالنظر إلى الصراع الإريتري الإثيوبي المزمن والذي تراقص فيه الخصمان على حافة الحرب طوال العام الماضي فإن تحسين العلاقات مع واشنطن وسيلة لإقناع الأخيرة بصحة موقف أسمرة ولقطع الطريق على الأطراف ذات الخصومة معها التي تمارس، وفقا لأفورقي، "ضغوطا نشطة ضد أهدافنا المنشودة، وتُروّج للتشويهات، وتسعى إلى عرقلة أي مشاركة جادة" لبلاده مع الولايات المتحدة.

وكانت صحيفة أديس ستاندارد الإثيوبية نشرت في مطلع يوليو/تموز نداء دبلوماسيا من وزير الخارجية الإثيوبي جيديون تيموثوس إلى نظيره الأميركي ماركو روبيو اتهم فيه إريتريا بـ"الاستفزازات المتكررة" و"الاحتلال الإقليمي" ورعاية وكلاء من الجماعات المسلحة لزعزعة استقرار إثيوبيا، فيما وصفته وزارة الإعلام الإريترية بأنه "خدعة مكشوفة" لتبرير "أجندة حرب طويلة الأمد".

وفي مقابلته مع التلفزيون المحلي قبل أيام من الكشف عن الرسائل المتبادلة بينه وبين ترامب، شن أفورقي هجوما غير مسبوق على رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد واصفا تصريحاته بـ"الطفولية" وبالهرب من أزماته الداخلية.

وفي هذا السياق، يرى مراقبون أن أسمرة ستعمل على إقناع واشنطن ببذل الجهود للحيلولة دون لجوء إثيوبيا إلى أي خيارات عسكرية ضد إريتريا، حيث أشار أفورقي إلى أن الروايات الإثيوبية عن دعم واشنطن لمساعي أديس أبابا في الوصول إلى منفذ بحري "مضللة وبعيدة كل البعد عن الموقف الأميركي الفعلي".

وكان وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو قد أكد في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في 22 يوليو/تموز على "أهمية الحوار والاستقرار الإقليمي" للاستثمارات الأميركية المحتملة في بلاده.

أفورقي (يسار) شن هجوما غير مسبوق على آبي أحمد واصفا تصريحاته بـ"الطفولية" وبالهرب من أزماته الداخلية (أسوشيتد برس)الرقص وسط حقل من الألغام

بعد كل ما سبق، تبدو التحركات الأميركية الإريترية في مرحلتها الأولى، حيث وضح أفورقي أن خطته هي استئناف التعامل مع الإدارة الأميركية في العام القادم في مخاض يبدو أنه لن يكون يسيرا، وهو ما يستشف من وصفه للمناخ السياسي في واشنطن بأنه "في حالة من التقلب"، وأن التطورات عرضة للتأثر بالعديد من الشكوك.

وقد رجحت ورقة بحثية بعنوان "سياسة ترامب المحتملة تجاه القرن الأفريقي: أولوية المصالح الأميركية وسط الرهانات الإقليمية" نشرت مطلع هذا العام، تشديد إدارة ترامب العزلة على أسمرة لأسباب منها تزايد تقاربها مع المحور الصيني الروسي وتراجع حماسة حلفاء واشنطن الإقليميين لأداء أدوار فاعلة لجهة إعادة إدماج إريتريا مع محيطها الإقليمي، وتأزُّم علاقاتها مع جارتها الإثيوبية.

وفي هذا السياق، تبدو العلاقة مع بكين وموسكو حقلا من الألغام تسير عليه هذه المحاولات الوليدة، حيث يشير الدبلوماسي الإريتري السابق فتحي عثمان إلى أن المقابل الذي سيطلبه ترامب سيكون التخلي عن الحليف الصيني وطرد الشركات الصينية من البلاد، إضافة إلى تجاهل مبادرة طريق الحرير الصينية، مع إمكانية غض النظر عن علاقات إريترية روسية بسقف محدود.

ويرى مراقبون إريتريون أن هذا الثمن سيكون من الصعب على أسمرة تقبله نظرا لعدم الثقة العميقة بينها وبين واشنطن، و"العقيدة" الرسمية المتكررة في كل مقابلات الرئيس الإريتري والتي تنص على استهداف الولايات المتحدة للكيان الإريتري منذ خمسينيات القرن الـ20، وانحيازها الدائم طوال تلك الأعوام إلى جانب إثيوبيا حليفها التقليدي في المنطقة، وهو اختبار قد يتكرر من جديد في حال اتخاذ التوتر بين أسمرة وأديس أبابا منحى دمويا من جديد.

مقالات مشابهة

  • باكستان وأميركا تواصلان المحادثات التجارية
  • ترامب يعلن نشر الحرس الوطني في العاصمة واشنطن لمكافحة الجريمة
  • سابقة تاريخية.. بوتين سيلتقي ترامب في الأسكا.. الولاية التي باعها الروس للأمريكان
  • قادة أوروبا والناتو يدعمون زيلينسكي قبيل قمة ترامب وبوتين
  • أوروبا:لا يمكن تحديد مسار السلام في أوكرانيا بدون حضورها
  • ترامب وأفورقي.. ما تخفيه الرسائل المتبادلة بين إريتريا والولايات المتحدة
  • ترامب يرشح تامي بروس نائبة لمندوب واشنطن لدى الأمم المتحدة
  • لماذا فشل ترامب في إخضاع بوتين؟
  • قطر وأميركا تتحركان لصياغة خطة توقف الحرب على غزة خلال أسبوعين
  • أكسيوس: قطر وأميركا تعدان مقترحا جديدا بشأن وقف حرب غزة