عن الدين والدولة ملاحظات أوَّلية
تاريخ النشر: 8th, April 2025 GMT
العلاقة بين الدين والدولة مثيرة للاهتمام بسبب أهميتها البالغة عبر مسار التاريخ فيما يتعلق بنشأة الحضارات ونهضتها وأفولها، وربما يكون هذا أحد الدروس الكبرى التي يمكن أن نتعلمها من فيلسوف التاريخ الشهير أرنولد توينبي. ولكني أريد أن أقتصر هنا على إثارة بعض الملاحظات والتأملات حول دور العلاقة بين الدين والدولة في تحديد شكل الدولة ومكانتها ومدى تقدمها.
سيبادر هنا على الفور أصحاب التوجهات الدينية من الأصوليين والمتأسلمين على السواء إلى القول: حقًا إنها علاقة هامة وضرورية؛ فالدين هو سبب نهوض الأمم والدول التي تتقدم بسبب تمسكها بتعاليم الدين في كل مناحي الحياة والفاعليات الإنسانية، وسيرددون الشعارات التي يرفعونها دائمًا والتي تقول «الإسلام دين ودولة» و«الإسلام هو الحل»، وسيرددون دومًا كلام المولى عز وجل، من قبيل: «إنْ الحكم إلا لله». ولكننا عندما نمتحن مثل هذا الطرح للعلاقة بين الدين والدولة في ضوء وقائع التاريخ السابقة واللاحقة والراهنة، يتبين لنا على الفور عدم مصداقيتها باعتبارها توظيفًا بشكل مضلل لدور الدين ومقاصده. والحقيقة أن هذا لا يصدق فقط على ماضي الدولة الإسلامية التي كانت مترامية الأطراف، وإنما يصدق أيضًا على ماضي الدولة المسيحية في أوروبا: فمن المعروف أن العصور الوسطى في أوروبا قد شاعت تسميتها بالعصور المظلمة؛ لأن الكنيسة كانت مهيمنة على كل مناحي الحياة، بما في ذلك شؤون العلم والفلسفة والفكر عمومًا. وحتى إذا كان هناك إبداع فني فريد في هذه الحقبة يُعرف باسم «فن التصوير المسيحي»، فقد ظل الفن في معظمه محدودًا في إطار خدمة الدين. وفي مقابل ذلك، فإن الدولة الإسلامية (بمعناها الواسع) كانت متطورة في هذه الحقبة؛ بالضبط لأنها (على الأقل في فترات تألقها) قد تحررت من هذه العلاقة المريضة بين الدين والدولة، واستطاعت استلهام روح الدين التي تحث على العلم والفكر وإعمار الأرض؛ ولهذا أمكن لهذه الدولة أن تفسح المجال للعلماء والمفكرين والشعراء والمترجمين من غير العرب، بل من غير المسلمين؛ وأن تعمل على تشجيعهم بأن تجزل لهم العطاء نظير إنجازهم، استنادًا على مدى كفاءاتهم، وليس عرقهم أو دينهم. ولهذا لا غرابة في أن نجد إنتاجًا إبداعيًّا مثمرًا في تلك الحقبة في مجالات العلم والفكر والآداب والفنون (خاصةً فن العمارة).
هذه الرؤية نفسها تصلح لفهم علاقة الدين بالدولة في عالمنا الرهن، وتشهد عليها أمثلة لا حصر لها. وحينما نتأمل هذه العلاقة في عالمنا العربي المعاصر، فسرعان ما يتبين لنا أنه كانت هناك حالة من الاستقرار في هذه العلاقة التي يتعايش فيها طرفاها من دون أن تجور سلطة أحدهما على سلطة الأخرى، فلم يكن الدين يسعى إلى تجاوز سلطته الروحية بحيث يجور على السلطة الزمنية أو سلطة الدولة. وقد أدى هذا إلى نشوء مشروعات نهضوية مثمرة في كثير من بلدان العالم العربي التي عاشت عقودًا طويلة من التألق والازدهار (مثلما كان حال مصر- على سبيل المثال- خلال النصف الأول من القرن العشرين).
اقترن التدهور مع نشأة الحركات الإسلاموية والمتأسلمة، وغني عن البيان أن صفة إسلاموي Islamist تختلف عن صفة إسلامي Islamic، وهي صفة تمثل اشتقاقًا جديدًا أو دخيلًا على اللغة العربية، ولكنها أصبحت مستقرة ومتداولة الآن؛ لأن المتغيرات السياسية العالمية قد فرضت واقعًا جديدًا فرض استخدام هذه الكلمة لوصف الحركات الدينية التي تَدخل تحت عباءة الإسلام السياسي، بصرف النظر عن درجة تطرفها أو مدى استخدامها للعنف، وبصرف النظر عما بينها من خلافات واختلافات؛ ومنها على سبيل المثال: تنظيم القاعدة، وتنظيم داعش، وجماعة بوكو حرام.. إلخ. نعم، هناك اختلافات عديدة بين هذه الحركات أو الجماعات، ولكن ما يجمع بينها في إطار عام هو أنها تستخدم الدين كسلطة متماهية مع سلطة الدولة، ومن ثم كسلطة روحية وزمنية في آن واحد، وأحيانًا ما تستخدم الدين كوسيلة لاعتلاء السلطة الزمنية. وعلى هذا، فإن هذه الحركات والجماعات تتاجر بالدين حينما تريد أن تجعله (أو تتظاهر بأنها تجعله) بديلًا عن شؤون الدنيا ومهيمنًا عليها؛ وبذلك فإنها لا ينبغي أن توصَف بأنها «إسلامية»، بل بأنها «متأسلمة»: فهي لا تفقه قول رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) «أنتم أعلم بشؤون دنياكم»، ولا تفهم روح الدين باعتباره قوة روحية وعلاقة بين العبد والرب، وليس أداة أو وسيلة لاعتلاء السلطة. وربما يكون من المهم في هذا الصدد أن نتذكر أن مثل هذه الجماعات الدينية هي صنيعة القوى الإمبريالية في الغرب؛ بالضبط لأنها تمثل الدين الإسلامي الذي تريد هذه القوى أن تراه في العالم الإسلامي، وبوجه خاص في العالم العربي؛ فبذلك يمكن استخدام أحد الأسلحة القوية في تفكيك دول هذا العالم وإضعافها من داخلها.
والحقيقة أنني لا أريد من خلال هذا الطرح اللجوء إلى نظرية المؤامرة بحيث نعفي الدول من المسؤولية عن أحوالها ومصائرها. كما أنني لا أريد اختزال أسباب التدهور في إطار الوضع السلبي الذي آلت إليه العلاقة بين الدين والدولة (وإلا كان هذا تبسيطًا للأمر)، ولكننا لا يمكننا إنكار أن هذا الوضع قد ساهم بقوة في حالة التدهور في كثير من البلدان. غير أن مجمل هذا الطرح له أبعاد أخرى متعددة ومثيرة للجدال، وهذا ما سوف نتناوله في مقال تال.
د. سعيد توفـيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
جدلية العلاقة بين أرباب العمل والمواطنين
سالم بن نجيم البادي
وكعادتي في كل ما أقول أو أكتب، أبتعد عن التعميم والتهويل قدر الإمكان، وحين أكتب -وكما أصرح دائمًا- لا أقدح من رأسي، ولا أكتب من فراغ؛ بل أستقي كل مواضيعي من أفواه الناس ومن واقع معاناتهم.
وإني لأشكر القراء الكرام الذين منحوني ثقتهم وأحسنوا الظن بي، وأنا أكتب عن أوجاعهم منذ عام 2011 وباستمرار. كما إنني أكتب بلغتهم البسيطة، وأبتعد متعمدًا عن حشو مقالاتي بالإحصائيات والنظريات والكلمات الفخمة والعبارات المنمقة، ولا أحتاج إلى العودة إلى قواميس اللغة العربية، وجمهوري هم بسطاء الناس وعامتهم، وهذا غاية ما أُريد.
وموضوعنا اليوم مسكوتٌ عنه، إلّا من بعض الحديث همسًا، وهنا لن أصدر أحكامًا، كما إنني لا أريد تأكيد أو نفي وجود مشكلة عامة ومنتشرة؛ وهي: سوء تعامل بعض الهنود من أصحاب الشركات والمولات الكبرى مع المواطن العُماني، وخاصة الشباب والشابات الباحثين عن عمل، أو المواطنين الذين يعملون تحت إدارتهم، أو حتى المواطن العادي الذي يتعامل معهم في البيع والشراء.
ومنذ أن ظهر ذلك الشاب العُماني وهو يمسك بلوحة ورقية كبيرة مكتوب عليها اسم محل تجاري شهير يملكه هندي، وأمام هذا الشاب يجلس مجموعة من الهنود يحتفلون ويمرحون ويأكلون، وهو خلفهم يرفع ذراعيه عاليًا بتلك اللوحة، ثار الحديث عن التعامل غير اللائق، والقول الفظّ، والنظرة الدونية، والتعالي على المواطن العُماني، والاعتقاد بأنه أدنى منزلة من الهنود، وأنه غير جاد، وغير مُنتج، ولا يصلح لشغل الوظائف في شركاتهم. وهم بالتالي يفضلون أبناء جلدتهم لشغل الوظائف، وإن وظفوا العُماني، فيتم ذلك على مضض، ولتحقيق نسبة التعمين الإلزامية.
لقد سمعتُ قصصًا كثيرة عن تعامل هؤلاء الهنود مع المواطن العُماني، وخاصة الباحثين عن عمل، والعُمانيين الذين يعملون تحت قيادتهم في شركاتهم الخاصة؛ فحين يدخل الباحث عن عمل على صاحب العمل الهندي، يُعامَل في الغالب بفوقية وغطرسة ظاهرة، وخالية من التقدير والاحترام، ويأتي الرد جافًا وقاسيًا: "ما في وظيفة"، حتى دون النظر إلى وجهه، وكأن لسان حاله يقول له: "اغرب عن وجهي".
ويكثر الحديث في المجالس ووسائل التواصل الاجتماعي عن “كومار وشلة كومار”، و”توغل كومار”، و”سيطرته على الشركات الكبرى ومفاصل الاقتصاد”، وعن “نفوذ كومار في مجال المال والأعمال”. والمقصود بكومار هنا ليس فردًا واحدًا؛ بل هو رمز يشير إلى كل أفراد الجالية الهندية من أرباب الأعمال.
وقد حدّثني أحدهم عن تجربته عندما تم الإعلان عن وظيفة في شركة هندية، وكانت المقابلة عن بُعد، فقال: لقد كانت المقابلة مأساوية، شعرت خلالها بإهانة بالغة. كانوا يضحكون ويستهزؤون بي، واتسمت المقابلة بالسخرية وعدم الجدية، والأسئلة الغريبة.
وشهدتُ بنفسي في الأسبوع الماضي حادثة تدل على عجرفة هؤلاء، حين جاء مواطن، يبدو أنه في الستين من عمره، إلى هندي صاحب محل كبير، يطلب منه المساعدة في أمرٍ ما. وعندما رفض الهندي مساعدته، قال له المواطن العُماني كلمة باللهجة المحلية، قالها ببراءة وعلى سبيل المزاح، لكن الهندي غضب غضبًا شديدًا، وهدده بالشرطة، وقال له كلامًا جارحًا، فرد عليه المواطن بهدوء: “روح خبّر الشرطة”، ثم انصرف.
أما عن بيئة العمل التي يكون فيها الهندي هو صاحب العمل، وهو المسيطر، وهو المدير، والمدير التنفيذي، ورئيس مجلس الإدارة، وكل المسؤولين من الهنود، والعاملين من الهنود، والعُمانيون أقلية… ربما مضطهدة، ومهمشة، وربما يكون التعامل معهم غير لائق في بعض الأحيان، في بعض أماكن العمل المملوكة للهنود.
وأطرحُ هنا هذه المشكلة للحوار والمناقشة، وأُسلِّط الضوء عليها حتى لا يصبح المواطن العُماني عرضة للذل والإهانة وعدم التقدير، وهو يسعى لطلب لقمة العيش في وطنه ومن خير وطنه، في الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه عزيزًا، وكرامته مصونة، وله اليد العليا في وطنه، وفي خيرات وطنه، والتي هو أولى بها من الغريب، الذي قد لا يكون أديبًا ولا محترمًا.
إنَّ كرامة المواطن فوق كل اعتبار، فلا تجعلوا المواطن العُماني الشامخ يريق ماء وجهه على أبواب الغرباء، يستجديهم وظيفة من أجل قوته وقوت أهله وعياله، فالوطن الحاني عزيز وغالٍ، وزاخر بالخيرات، وفيه من الموارد ما يكفي أبناءه ويزيد، لو أننا نحسن إدارة هذه الموارد.
رابط مختصر