عربي21:
2025-08-01@01:02:53 GMT

صعود الدول الحضارية وأفول الأحادية القطبية

تاريخ النشر: 13th, April 2025 GMT

تجسد حرب الإبادة المستمرة التي تشنها المستعمرة الاستيطانية الصهيونية على غزة بدعم أمريكي وغربي حالة من الفزع والقلق من انهيار عصر الأحادية القطبية الليبرالي، بحيث بلغ السقوط الأخلاقي للغرب مستوى غير مسبوق من التدني والانحدار. فحرب الإبادة المشهدية التي أفضت إلى ارتقاء نحو 51 ألف شهيد معظمهم من الأطفال والنساء، وجرح أكثر من 117 ألف آخرين منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لم تحرك الضمير الليبرالي الغربي، بل شجعت الكيان الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي على استكمال مشروع التطهير العرقي للشعب الفلسطيني، باعتبارها حربا حضارية في مواجهة البربرية، وهو ما يشير إلى انقلاب القيم وموت الإنسانية في الغرب الإمبريالي، وتمجيد القوة والوحشية والهمجية، وبروز الأخلاقيات الرأسمالية القائمة على الجشع والعنف، وتكشف مقارنة التعامل الغربي بين وضع أوكرانيا والحالة الفلسطينية عن حجم المفارقة ومستوى الانحدار في النظام الليبرالي الغربي.



لم تكن حرب الإبادة في غزة سوى مؤشر صادم على تداعي المنظومة الأحادية القطبية، وفقدان الولايات المتحدة للأهلية السياسية والأخلاقية للتفرد بالعالم وقيادته، وتولي دونالد ترامب رئاسة أمريكا هو مؤشر آخر، فمقترحاته باستكمال التطهير العرقي وحرب الإبادة في غزة، لا تخالف قواعد القانون الدولي فحسب، بل تقوض الأساس الأخلاقي للبشرية، وأما حربه التجارية وتعريفاته الجمركية الغرائبية، فهي تنم عن إدراك بقرب نهاية حقبة الأحادية الأمريكية، وهي محاولة يائسة للحد من صعود الدول الحضارية التي تتحدى النظام العالمي الليبرالي أحادي القطب، إذ يشهد العالم تحولا في النظام العالمي من نظام عمودي، حيث يكون الغرب فوق البقية، إلى نظام أفقي، حيث يكون الغرب والبقية على قدم المساواة مع بعضهم البعض من حيث الثروة والقوة والأفكار.

إن أمريكا ترامب لا تختلف عن أمريكا بايدن، لكن ترامب هو صورة فجة بصيغة شعبوية يمينية، ففي عصره تشبه أمريكا جمهورية فايمار، حيث تذكر أوامر ترامب التنفيذية التي يبررها بأنها استجابة لـ"حالة طوارئ وطنية"؛ بنظرية "القرارية" التي وضعها الفقيه الألماني كارل شميت في عهد فايمار، الذي جادل بأن السلطة السيادية المطلقة تستمد شرعيتها من تعليق النظام الدستوري الطبيعي في "حالة استثنائية"، عندما تكون الدولة مُهددة من قِبل أعداء، من الداخل والخارج، وما يفعله ترامب هو تعطيل صعود دول الحضارة، وفي مقدمتها الصين.

وفي كتابه الجديد "أرض خراب: عالم في أزمة دائمة"، يبني روبرت كابلان حجته على صورة فايمار، لكن كابلان الذي يتحدث عن الخراب لا يتطرق إلى حرب الإبادة في غزة، بل يسعى إلى ديمومة الهيمنة الأمريكية وتثبيت الأحادية القطبية، فالنظام الذي يتحدث عنه يتجاوز غزة، حيث انتهجت أمريكا، القوة المهيمنة في العالم، سياسة تدمير متعمد، وفق رؤية جيوسياسية ولاهوتية مسيانية، حيث قوضت أمريكا النظام القانوني الدولي من جذوره، وزرعت بذور الكراهية والحقد في كافة أرجاء المنطقة. فصاحب كتاب "أرض الخراب"، لا يأتي على ذكر عمليات القتل والإبادة والتدمير الإسرائيلي لغزة بالسلاح الأمريكي، بل يُشيد كابلان بإسرائيل لثباتها، ولأنها أكثر صرامة من بايدن. وهو بلا شك من أنصار ترامب ونتنياهو ونهج "السلام بالقوة"، ولذلك فإن الأداة الأكثر فعالية للحفاظ على الوضع القائم يقوم على التوسع باستخدام القوة الوحشية الغاشمة باعتبارها الوسيلة الأكثر فعالية.

إن الوضعية العالمية المختلة واختلال منظومة الأحادية القطبية، تعيد مفهوم الدولة الحضارية إلى الصدارة، فالأطر الثلاثة الأساسية لإقامة النظام العالمي اليوم تقوم على نماذج الأممية الليبرالية، والدول الحضارية، والدول القومية. ويفترض كل إطار فهما محددا للوحدة الأساسية للنظام العالمي في بناء القيم، إذ تتخيل الأممية الليبرالية إطارا قيميا واحدا قائما على عالمية القيم الليبرالية، ويتضمن تطبيقه الأكثر اتساقا نسخة من دولة عالمية أو هيمنة ليبرالية، بينما يتخيل نموذج الدولة الحضارية عددا قليلا من مراكز القوة الإقليمية في العالم، يدعم كل منها رؤية حضارية راسخة للنظام. وعلى عكس النموذجين الأولين، تُعد الدولة القومية الوحدة السياسية الأساسية لنظام دولي تحافظ فيه كل دولة قومية على سيادتها بناء على الإرادة الموحدة لسكانها.

نشهد اليوم بداية حقبة أفول الأحادية القطبية، فبدلا من الدفاع عن القيم العالمية كالديمقراطية وحقوق الإنسان، انتهت الأحادية إلى الدفاع عن أسلوب حياة واحد ضد كل بديل. ويعود صعود عالم الدول الحضارية، إلى سبب جذري وهو انهيار مفهوم الحضارة العالمية، وهو مفهوم يكافئ مفهوم الهيمنة كما قرر عالم السياسة الأمريكي صموئيل هنتنغتون في مقاله عام 1993، ثم كتابه "صراع الحضارات" عام1996، حيث جادل في أحد أبرز مقاطع كتابه بأن مفهوم الحضارة العالمية يُسهم في تبرير الهيمنة الثقافية الغربية على المجتمعات الأخرى، وحاجة هذه المجتمعات إلى تقليد الممارسات والمؤسسات الغربية، فالعالمية هي أيديولوجية الغرب لمواجهة الثقافات الأخرى.

وبطبيعة الحال، يرى هنتنغتون أن على كل من هو خارج الغرب أن ينظر إلى فكرة العالم الواحد على أنها تهديد، حيث لعب مفهوم هنتنغتون دورا في تعزيز فكرة "الغرب ضد بقية العالم"، وبالتالي عزز نوعا من التعبئة الداخلية للغرب في ظل الظروف السياسية الجديدة بعد نهاية الحرب الباردة. وإن لم يكن تأثير هذا المفهوم مباشرا، إلا أنه يمكن تتبعه في تطور الممارسة السياسية للدول الغربية في "إسقاط الديمقراطية" على مناطق أخرى من العالم والحضارة بالمعنى الهنتنغتوني. وهكذا، وُضع مسارٌ لعولمة الحضارة الغربية واستيعابها من قِبل جميع الحضارات الأخرى في المستقبل (مع ترك الاختلافات الثقافية فقط، على نحوٍ ما، في سياقٍ فولكلوري).

إن مفهوم دولة الحضارة الذي بات سياسة ونهجا للتعددية القطبية يختلف عن مفهوم هنتنغتون الذي يرتكز على سياسات الهوية، فدولة الحضارة التي تبشر بها دول كالصين وروسيا والهند وتركيا وإيران، رغم الاختلافات في تعريفها، تبدو متفقة على ثلاثة محاور على الأقل: أولا، أنها جميعا حضارة فريدة، وثانيا، أنها سئمت من فرض الغرب لقيمه عليها باسم "القيم العالمية"، وثالثا، أنها تُقاوم التدخل الغربي في شؤونها الداخلية. فهذه الدول الحضارية الصاعدة تتحدى بالفعل ما يسمى بالنظام العالمي الليبرالي أحادي القطب، وبالتالي يشهد العالم تحولا في النظام العالمي من نظام عمودي، حيث يكون الغرب فوق البقية، إلى نظام أفقي، حيث يكون الغرب والبقية على قدم المساواة مع بعضهم البعض من حيث الثروة والقوة والأفكار.

أصبح صعود "الدولة الحضارية" شبحا يطارد الغرب الليبرالي حسب أريس روسينوس، فمع تراجع النفوذ السياسي الأمريكي وانهيار سلطته الأخلاقية، تبنى المتحدون الصاعدون في أوراسيا نموذج الدولة الحضارية لتمييز أنفسهم عن النظام الليبرالي المشلول، الذي يترنح من أزمة إلى أخرى دون أن يموت تماما أو يُنجب خلَفا صالحا.

ويلخص المنظر السياسي أدريان بابست نموذج الدولة الحضارية قائلا: "في الصين وروسيا، ترفض الطبقات الحاكمة الليبرالية الغربية وتوسع مجتمع السوق العالمي. فهم يُعرّفون بلديهما كحضارتين متميزتين بقيمهما الثقافية ومؤسساتهما السياسية الفريدة". فمن الصين إلى الهند، ومن روسيا إلى تركيا، تستمد القوى العظمى والمتوسطة في أوراسيا العون الأيديولوجي من الإمبراطوريات ما قبل الليبرالية التي تدعي أنها تنحدر منها، وتعمل على إعادة صياغة أنظمتها السياسية غير الديمقراطية والدولتية كمصدر للقوة وليس الضعف، وتقلب النزعة الانتصارية الليبرالية الديمقراطية في أواخر القرن العشرين .

يعود استخدم مصطلح "دولة الحضارة" إلى عالم السياسة الأمريكي لوسيان باي لأول مرة عام 1990 لتصنيف الصين كدولة ذات طابع اجتماعي وسياسي مميز، بدلا من اعتبارها دولة قومية وفق النموذج الأوروبي، ومن المستحيل فصل تراجع أمريكا عن صعود الصين. وقد روّج لمصطلح "الدولة الحضارية" الباحث البريطاني في الشؤون الصينية مارتن جاك في كتابه الأكثر مبيعا "عندما تحكم الصين العالم"، الصادر عام 2009، حيث أكد أن الصين كدولة قومية عمرها لا يتجاوز  120-150 عاما، بينما عمرها كحضارة يمتد لآلاف السنين، فعند صياغة مفهوم "الدول الحضارية"، عادة ما يُركز على الهوية الحضارية، والالتزام بالرموز الثقافية الموروثة من أجيال وأجيال من الأجداد، والمتجذرة في هويتهم الذاتية. ويجادل جاك بأنه كانت هناك حضارات عديدة في التاريخ، بما في ذلك دول حضارية كالهند، لكن لا شيء منها يُضاهي الصين.

إلا أن المنظر السياسي كريستوفر كوكر قدم في كتابه البالغ الأثر "صعود الدولة الحضارية"، تحليلا شاملا لظهور الدول الحضارية في العالم الحديث، مع التركيز بشكل خاص على الصين والهند وروسيا واليابان والخلافة الإسلامية. ويجادل كوكر بأنه في سياق نظام عالمي ما بعد الليبرالية، حيث تزداد هيمنة الليبرالية الغربية تنافسا، تستغل هذه الدول تراثها الثقافي والتاريخي الفريد لتأكيد استثنائيتها وهويتها. ويتميز هذا الانبعاث برفض الليبرالية الغربية العالمية، التي روجت تاريخيا لقيم مثل الديمقراطية وحقوق الفرد ورأسمالية السوق الحرة كمعايير عالمية. وبدلا من ذلك، تسعى الدول الحضارية إلى تأكيد أولوية أطرها الثقافية والحضارية، واضعة إياها كبدائل للرؤية الغربية للحوكمة العالمية والنظام السياسي.

إن البحث عن الجذور الثقافية والتاريخية الفريدة هو جوهر الدول الحضارية الذي يشهد صعودا متواترا في الصين وروسيا وغيرهما من الدول، ففي الصين بدأ "التحول إلى الكونفوشيوسية عام 2005، عندما أشاد الرئيس هو جين تاو بمفهوم الكونفوشيوسية للتناغم الاجتماعي، وأمر كوادر الحزب ببناء "مجتمع متناغم". لكن وصول شي جين بينج إلى منصب الرئيس الصيني في عام 2012 دفع فكرة "الدولة الحضارية" إلى صدارة الخطاب السياسي، حيث يعتقد شي أن "الحضارة تحمل على ظهرها روح بلد أو أمة"، حيث تنبع هذه الروح الحضارية من التحليل الصيني لمسار البلاد المستقبلي. ففي كتابه المؤثر الصادر عام 2012 بعنوان "الموجة الصينية: صعود دولة حضارية "، لاحظ المنظر السياسي الصيني تشانغ ويوي أن "الصين هي الآن الدولة الوحيدة في العالم التي دمجت أطول حضارة مستمرة في العالم مع دولة حديثة ضخمة".. كونها أطول حضارة مستمرة في العالم سمحت لتقاليد الصين بالتطور والنمو والتكيف في جميع فروع المعرفة والممارسات الإنسانية تقريبا.

لا تقتصر جاذبية نموذج الدول الحضارية على الصين. ففي عهد بوتين، تخلت روسيا علنا عن مشاريع التحرير التي ركزت على أوروبا في التسعينيات -وهي فترة من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي الدراماتيكي مدفوعا بالالتزام بسياسات المنظرين الليبراليين الغربيين- من أجل مسارها الثقافي الخاص أو مسارها الخاص لحضارة روسية فريدة تتمحور حول دولة قوية. ففي خطاب ألقاه عام 2013 أمام نادي فالداي، أشار فلاديمير بوتين إلى أن روسيا "لطالما تطورت كحضارة دولة، مدعومة بالشعب الروسي واللغة الروسية والثقافة الروسية والكنيسة الأرثوذكسية الروسية والأديان التقليدية الأخرى في البلاد. إن نموذج الدولة-الحضارة بالتحديد هو الذي شكل نظامنا السياسي". وفي خطاب ألقاه عام 2012 أمام الجمعية الفيدرالية الروسية، أكد بوتين أيضا أنه "يجب علينا تقدير التجربة الفريدة التي ورثناها عن أجدادنا. فعلى مر القرون، تطورت روسيا كأمة متعددة الأعراق منذ البداية، وحضارة دولة تجمعها حضارة الشعب الروسي، واللغة الروسية والثقافة الروسية الأصيلة لنا جميعا، مما يوحدنا ويمنعنا من الذوبان في هذا العالم المتنوع".

خلاصة القول أن جاذبية نموذج الدول الحضارية يؤذن بأفول زمن الأحادية القطبية، ونهاية عصر الحضارة العالمية التي تقوم على استراتيجية الهيمنة، فالدول المهيمنة تعتمد في المقام الأول على "القدرات المادية" التي تتجسد في التقدم السياسي والاقتصادي والعسكري، وتستخدم في نهاية المطاف نفوذها الثقافي، فقوتها الأساسية تكمن في قوتها المادية. أما الدول الحضارية فتستند إلى رؤية مختلفة، فهي تتأسس على "المكونات الثقافية والبشرية" أولا، ثم تتحول إلى قوى مادية وموضوعية. وهذا التقدم من العمق الثقافي إلى القوة المادية يشكل فرقا رئيسيا بين الدول الحضارية والقوى المهيمنة، حيث تعطي الأولى الأولوية للتراث الثقافي باعتباره جوهر قوتها وهويتها، بينما تحتفظ الثانية بالقدرات المادية كمصدر أساسي للقوة.

وقد كشفت غزة عن محدودية القوة المادية الذي تجسد في حرب الإبادة التي تشنها المستعمرة الاستيطانية الصهيونية على غزة بدعم أمريكي وغربي، وهي حرب تعكس حالة الفزع والقلق التي أصابت المشروع الغربي من انهيار عصر الأحادية القطبية الليبرالي، حيث السقوط الأخلاقي للغرب الإمبريالي والاستعمار الإسرائيلي بلغ مداه مع الدخول في حقبة أفول الأحادية القطبية، حيث تخلى الغرب عن الدفاع عن القيم العالمية كالديمقراطية وحقوق الإنسان، وانتهت الأحادية إلى الدفاع عن أسلوب حياة واحد ضد كل بديل، ففي النهاية يعود صعود عالم الدول الحضارية، إلى سبب جذري وهو انهيار مفهوم الحضارة العالمية، وهو مفهوم يكافئ مفهوم الهيمنة.

x.com/hasanabuhanya

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه غزة الحضارة امريكا غزة انسانية ابادة حضارة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأحادیة القطبیة الحضارة العالمیة الدولة الحضاریة النظام العالمی دولة الحضارة نموذج الدولة نموذج الدول حرب الإبادة الدفاع عن فی العالم فی کتابه

إقرأ أيضاً:

ما هو الاعتراف الدولي بالدول وأنواعه وماذا يعني الاعتراف بفلسطين؟

أعلنت العديد من الدول رغبتها في الاعتراف بدولة فلسطين بشكل رسمي، وسط الإبادة الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة، ومع تصاعد الاستيطان لمستويات قياسية في الضفة الغربية، وذلك في خطوة للضغط على الاحتلال من أجل تحسين الأوضاع الإنسانية للفلسطينيين.

ويأتي قرار بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا المرتقب للاعتراف بفلسطين خلال جلسات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المقرر انطلاقها في 9 أيلول/ سبتمبر 2025، بعدما اعترفت كل من أيرلندا والنرويج وإسبانيا وسلوفينيا وأرمينيا، إضافة إلى الباهاماس وجمايكا وترينيداد وتوباغو، بفلسطين خلال عام 2024.

وربطت الدول الجديدة اعترافها بعدم تحقق معايير معينة، مُعلنة بشكل واضح أو فضفاض، أن الاعتراف سيكون متعلقًا باستمرار الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة دون معالجة، وعدم وقف سياسة التجويع وإدخال المساعدات والتوصل إلى وقف إطلاق النار وإبرام صفقة لتبادل الأسرى.

معنى الاعتراف
يشير الاعتراف بدولة ما إلى إعلان دولة أخرى أو كيان دولي أن كيانًا آخر يملك "سمات الدولة"، أي وجود شعب له أرض وحكومة قادرة على إقامة علاقات خارجية، وبناء على هذا الاعتراف يتم معاملتها كدولة ذات سيادة.

وتتعدد أنواع الاعترافات بناءً على الغرض منها أو الآثار المترتبة عليها، ومن أبرزها الاعتراف الرمزي، الذي هو إعلان رسمي برغبة البلد المُعترِف في إقامة علاقات دبلوماسية معه، مع استخدام اسم الدولة الجديدة في البيانات الرسمية والبيانات الصحفية.

ويتم خلال هذا الاعتراف رفع الأعلام أو طباعة اسمها في بطاقات البريد والميداليات وغيرها من إجراءات الاستقبال الرسمية والرمزية.

ويوجد أيضًا الاعتراف الفعلي الذي يتضمن فتح سفارة أو مكتب تمثيلي وتعيين سفير، مع توقيع معاهدات ثنائية سواء تجارية أو أمنية أو ثقافية وغيرها من أنواع الاتفاقيات.


ويتم بناءً على هذا الاعتراف الانضمام المشترك للطرفين إلى منظمات دولية مثل الأمم المتحدة واليونسكو وصندوق النقد الدولي، وهو ما يُكسب الدولة العضو حقوقًا والتزامات قانونية.

وبناءً على هذا الاعتراف تصبح الدولة الجديدة طرفًا في القانون الدولي بما يمثله من معاهدات واتفاقيات، وتكتسب أهلية حماية مبدأ حصانة الدبلوماسيين وحق اللجوء إلى المنظمات القضائية الدولية مثل محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية.

وبعد ذلك يسهل على الدولة الجديدة التبادل التجاري والوصول إلى أسواق ومساعدات دولية، ويقدم الاعتراف الفعلي أيضًا رسالة دعم لحق تقرير المصير ويدفع نحو إحياء مفاوضات السلام، ويضع ضغطًا على الدول الرافضة للاعتراف أو المستمرة في احتلال أو ضم أراضٍ.

ويُمكّن الاعتراف الدول والكيانات من ممارسة الضغوط الدبلوماسية مثل فرض العقوبات أو تعليق الاتفاقيات.

وفي هذا الاعتراف يتم تجاوز رمزية الاسم إلى بناء علاقات عملية متكاملة تُقنن وضع الدولة وتكفل لها حقوقًا والتزامات تجاه المجتمع الدولي.

الدول والحكومات
يُعدّ الاعتراف الدبلوماسي إجراءً أحادي الجانب تتخذه دولة ذات سيادة لتُقِرّ بوجود كيان سياسي آخر، سواء كان دولة جديدة أو حكومة جديدة، ما يترتب عليه تبعات قانونية وسياسية محلية ودولية.

وقد يكون الاعتراف بحكم الأمر الواقع "De facto" أو بحكم القانون "De jure"، وغالبًا ما يتم التعبير عنه ببيان رسمي من الحكومة المُعترِفة.

ويُذكر أن لفظي "De facto" و"De jure" هما مصطلحان لاتينيان، ويُستخدمان حتى الوقت الحالي في القانون والسياسة والدبلوماسية لتمييز ما هو واقع فعلي وما هو وضع قانوني رسمي.

ويُفرّق القانون الدولي بين الاعتراف بالدول والاعتراف بالحكومات، فقد تعترف دولة بوجود دولة أخرى دون إقامة علاقات دبلوماسية معها، والعكس صحيح.

وبعض الدول تنتهج سياسة عدم الاعتراف الثنائي الرسمي، مكتفية بالتصويت لصالح عضوية الدولة في المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة كدليل غير مباشر على الاعتراف.

في حالات أخرى، يتعين على الدول الامتناع عن الاعتراف بكيانات قامت بانتهاك صريح لميثاق الأمم المتحدة، على سبيل المثال، أصدر مجلس الأمن قرارات ملزمة تمنع الاعتراف بدول مثل روديسيا وجمهورية شمال قبرص.


يُعدّ الاعتراف القانوني أقوى من الاعتراف الواقعي، فمثلًا، اعترفت بريطانيا بالاتحاد السوفيتي بحكم الواقع عام 1921، لكنها لم تعترف به بحكم القانون إلا في عام 1924، كذلك، اعترفت الولايات المتحدة بـ"إسرائيل" عام 1948 بعد ثلاثة أيام من اعتراف الاتحاد السوفيتي بها، لكن بشكل واقعي أولًا وليس قانونيًا.

لا يتطلب الأمر عادةً تجديد الاعتراف بالحكومات المنتخبة دستوريًا، لكن في حالات الانقلابات أو الثورات، يصبح الاعتراف الخارجي أداة ضرورية لتكريس شرعية السلطة الجديدة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك اعتراف باكستان والإمارات والسعودية بحكومة طالبان في أفغانستان في أواخر الألفية الماضية، مقابل اعتراف دول أخرى بحكومة الرئيس برهان الدين رباني حينها.

يحدث أحيانًا أن يكون الاعتراف ضمنيًا، مثل زيارة رسمية أو توقيع معاهدة، دون إصدار إعلان صريح، هذا ما حدث عندما بدأت الولايات المتحدة الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1988، دون الاعتراف بها كدولة.

وترسخت بعد الحرب العالمية الثانية قاعدة عدم الاعتراف بالكيانات التي تحقق مكاسبها الإقليمية بالقوة، تُعرف هذه القاعدة بـ"عقيدة ستيمسون"، وتُعدّ أداة قانونية لرفض شرعنة الاحتلال أو الضم، كما في حالة روديسيا عام 1965، أو ضم الأراضي بالقوة كما يحدث في النزاعات الإقليمية الحديثة.
غير المعترف بها

توجد كيانات جيوسياسية تسعى للاعتراف الدولي دون أن تنجح في نيله، تختلف درجة سيطرة هذه الكيانات على أراضيها، ويتباين وضعها القانوني، تُعرف هذه الكيانات غالبًا بـ"الدول الانفصالية"، بعضها يحظى بحماية دول أخرى من خلال تمثيل دبلوماسي غير رسمي، ما يُصعّب إعادة دمجها في دولها الأصلية.

والسيطرة في هذا السياق تعني السيطرة الفعلية على الأرض، وليس مجرد الادعاء بالسيادة. على سبيل المثال، تسيطر جبهة البوليساريو جزئيًا على الصحراء الغربية، رغم عدم نيلها اعترافًا واسعًا.

ويتعدى مفهوم الاعتراف الدبلوماسي الاعتراف بالدول والحكومات، فقد تعترف الدول بأطراف متحاربة أو بحالة نزاع، دون الاعتراف بالدولة ذاتها، مثلما اعترفت المملكة المتحدة بالولايات الكونفدرالية الأمريكية كـ"محارب" خلال الحرب الأهلية.

واعترفت بيرو والإكوادور وكولومبيا وفنزويلا بالجبهة الساندينية ككيان محارب في نيكاراغوا عام 1979.

الشرعية الدولية
بمجرد حصول دولة أو حكومة على الاعتراف الرسمي، تُفتح أمامها أبواب الشرعية الدولية، مثل تبادل التمثيل الدبلوماسي، والانضمام إلى المنظمات الدولية، والمشاركة في المفاوضات والاتفاقات الدولية.

في المقابل، تتحمل الدولة المعترف بها مسؤوليات قانونية ودبلوماسية على الساحة الدولية.
اعترافات 2024

وجاء اعتراف العديد من الدول بفلسطين خلال 2024، على وقع حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة، على أنها دولة ذات سيادة، بموجب بيانات حكومية رسمية، وغالبًا ما اقترنت هذه الاعترافات بقرارات برلمانية أو تنفيذية.

وتبع بعض هذه الاعترافات خطوات عملية منها رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي، ودعم عضوية فلسطين في المنظمات الدولية، والدعوة لاحترام حدود 1967 وشرق القدس كعاصمة، على مبدأ حل الدولتين الذي يحظى بدعم دولي.

وجاءت هذه الاعترافات على مبدأ حكم القانون "De jure" وليس الأمر الواقع "De facto" لأنها ليست مجرد اعتراف بواقع موجود على الأرض مثل وجود السلطة الفلسطينية، بل هي إقرار قانوني وسياسي بأن فلسطين تُعتبر دولة مستقلة، تستوفي الشروط القانونية للدولة وفقًا لاتفاقية مونتيفيديو عام 1933.


وتتعلق اتفاقية مونتيفيديو بحقوق وواجبات الدول، وهي معاهدة تم توقيعها في أوروغواي، في 26 كانون الأول/ ديسمبر 1933، خلال المؤتمر الدولي السابع للدول الأمريكية، وتُقنن الاتفاقية النظرية التصريحية للدولة باعتبارها مقبولة كجزء من القانون الدولي العرفي.

وتمت هذه الاعترافات بفلسطين دون اشتراط موافقة "إسرائيل" أو ربطها باتفاق سلام نهائي، مما يجعلها أقرب إلى اعتراف قانوني مستقل.

الأمر الواقع في القدس
تُعدّ مدينة القدس من أبرز الأمثلة على حكم الواقع "De facto"، ومنذ احتلال الجزء الشرقي منها عام 1967، فرضت "إسرائيل" سيطرة فعلية على المدينة بأكملها، بما في ذلك توسيع حدود البلدية، وفرض قوانينها وإدارتها الأمنية والإدارية، وهو ما يُشكّل ما يُعرف بـ"الأمر الواقع".

ولا يحظى هذا "الأمر الواقع" باعتراف قانوني دولي، إذ تعتبر غالبية دول العالم أن شرق القدس أرض فلسطينية محتلة، وينبغي أن تكون جزءًا من تسوية سلمية عادلة.

وأصدر مجلس الأمن الدولي عدة قرارات بهذا الخصوص، أبرزها القرار 478 لعام 1980، الذي رفض ضم القدس واعتبر أي تغيير في وضعها القانوني لاغيًا وباطلًا.

ويُستخدم مصطلح "الأمر الواقع" سياسيًا ودبلوماسيًا للإشارة إلى محاولة "إسرائيل" تكريس السيطرة الفعلية على القدس على أنها وضع نهائي، رغم رفض المجتمع الدولي لذلك قانونيًا.

ويُعدّ نقل بعض الدول لسفاراتها إلى القدس محاولة لتحويل السيطرة الفعلية (De facto) إلى اعتراف قانوني (De jure)، أو على الأقل هو اعتراف من قبل هذه الدولة بهذا الأمر الواقع حكمًا قانونيًا.

مقالات مشابهة

  • ما هو الاعتراف الدولي بالدول وأنواعه وماذا يعني الاعتراف بفلسطين؟
  • بعد تسونامي الاعترافات المنتظرة بفلسطين.. قصة دولة قررت الانتحار
  • تنافس ChatGPT.. الصين تزيح الستار عن نموذجها «GLM-4.5» بعدة مهام
  • بَللو: الديناميكية التي يشهدها قطاع السينما تعكس التزام الدولة إلى بعث الصناعات الإبداعية
  • بطل «أوروبا للسيدات» يواجه الصين في ويمبلي
  • قسام لـ سانا: إن اختيار شركة “فليك” يمثل خطوة نوعية نحو تطوير منظومة الإعلانات داخل مطار دمشق الدولي، بما يواكب المعايير الدولية، ويعكس الصورة الحضارية للمطار كمرفق حيوي يرحّب بالمسافرين من مختلف دول العالم
  • بسبب رسوم ترامب الجمركية.. أبل تبتعد عن الصين وتعتمد على هذه الدولة
  • الجبهة الوطنية: الدول التي تسقط لا تنهض مجددا وتجربة مصر العمرانية هي الأنجح
  • أكاذيب الكيان الصهيوني التي لا تنتهي
  • FT: العالم خذل الفلسطينيين وتجويع غزة وصمة عار