مرتضى بن حسن بن علي

 

الثورة التكنولوجية التي تكتسح العالم، هي بداية حقبة تاريخية غير مسبوقة في تاريخ البشرية وسوف تؤدي إلى إحداث تغييرات واسعة في أنماط الحياة والعادات والتقاليد وفرص العمل والإنتاج. وفي مجال فرص العمل فإنَّ عشرات الألوف من الوظائف الحالية سوف تختفي ووظائف كثيرة سوف تظهر.

وعلى الصعيد الزراعي- مثلًا- فإنه نتيجة للتقدم الكبير في مجال التكنولوجيا الحيوية، تم إنتاج سلالات جديدة أكثر تطورًا، وإنتاج أنواع جديدة من الأرز المُهجَّن، الذي يتمتع بقدرة أعلى على مقاومة الأمراض والحشرات وزرعه في المياه المالحة أو الأراضي غير الصالحة للزراعة.

ولم يرتق المحصول من حيث النوع فحسب؛ بل إنه زاد من حيث الكم أيضا بين ضعفين إلى أربعة أضعاف من مستوى الإنتاج السابق.

وتُشكِّل البحوث العلمية في مجال السلالات الجديدة التي هيأتها مراكز البحوث الزراعية الدولية المتقدمة، مجالا راقيا في مجال البحوث والعلوم الزراعية التطبيقية. وتستطيع الإنجازات الحيوية العلمية الكبرى أن تقدم المساعدة لحل المشاكل المرتبطة بالجفاف وقلة المياه وتدني جودة التربة، إضافة إلى عدم كفاية الأراضي الصالحة للزراعة.

من الصعب معالجة الفقر الزراعي أو تحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء، عن طريق الإصلاحات الفنية أو بالقرارات الإدارية فقط، ما لم يتم معالجة الجوانب الهيكلية والثقافية والعلمية من المشكلة الزراعية. وبينما أخفقت الحلول الأكثر تقليدية في حل المُعضلة، تَركَّزَ الاهتمام في السنوات الأخيرة على التكنولوجيا الحيوية، إحدى ثمار الثورة التكنولوجية. ويُقصد بالتكنولوجيا الحيوية أية طريقة تستخدم أعضاء حيَّة وتعمل معالجات معينة لإيجاد أو تعديل المنتجات أو تحسين سلالات من الحيوانات والنباتات أو لتطوير أعضاء حيَّة دقيقة بغية استخدامها في أغراض محددة، وغدا بإمكان مهندس الوراثة حقن جين جديد داخل الحمض النووي المعروف باسم "دي. إن. إيه DNA" الموجود في كل خلية، بهدف تحسين قوة العضو الحي أو زيادة حجمه أو تعزيز مقاومته للأمراض وتحسين الإنتاج من ناحيتي الكم والنوع أو إيجاد نباتات مهجنة جديدة تتمتع بصفات أحسن.

الثورة التكنولوجية تعتمد على الإلكترونيات الدقيقة والهندسة الحيوية، والذكاء الصناعي، وتوليد المعلومات حول كل شؤون الأفراد والمجتمعات والطبيعة، واختزانها واستردادها وتوصيلها بسرعة مُتناهية؛ بل آنية، وعلى الاستخدام الأمثل للمعلومات المتدفقة بوتيرة سريعة. وهي تعتمد أساساً على العقل البشري.

ولأنَّ العقل البشري يُمثل طاقة متجددة لا تُنضب، فإنَّ هذه الثورة سوف لن تكون حكرا على المجتمعات الكبيرة المساحة والضخمة السكان أو الغنية بمواردها الأولية أو القوية بجيوشها التقليدية؛ بل إنِّها ثورة يُمكن لجميع شعوب العالم -بما في ذلك عُمان-أن تخوض غمارها -سواء أكانت كبيرة أم صغيرة- إذا ما أحسنت إعداد أبنائها تربويا وعلميا وتدريبيا واجتماعيا وفكريا لذلك. والدليل على ذلك ما حققته سنغافورة- مثلًا- وهي دولة صغيرة جدًا في المساحة وعديمة الموارد الطبيعية، لكنها استطاعت استثمار وتطويع مواردها البشرية المتاحة بشكل علمي صحيح، مما مكَّنها من أن تكون على قائمة الدول المتقدمة في العالم في ثورة المعلوماتية التكنولوجية مثلا.

وعكس ذلك، فإنَّ هذه الثورة سوف تنطوي على أذى كبير للدول النامية بما في ذلك عُمان، لأنها سوف تُحِيل مُعظم الأنشطة الاقتصادية والوظائف الحالية إلى مشروعات لا جدوى منها. وستكون التكنولوجيا الحديثة عِبئًا ثقيلًا على كواهلنا في حالة إخفاقنا باستيعابها، بينما في حالة استيعابها وتوطينها وتوظيفها، فإنَّها ستنطوي على منفعة كبيرة لنا. وكيفية إدارتنا لمواردنا البشرية والتكنولوجية سوف تلعب دورا كبيرا في تحديد قدراتنا على مواجهة التحولات العالمية الضخمة الحاصلة. والحكومة وأدواتها المختلفة يُمكن أن تؤدي دورًا محوريًا لإنجاحها، وعلى الجهات المسؤولة ضمان توفر مهارات التعلم والتدريب على الوظائف الجديدة، والانطلاق المعرفي المستمر، وضرورة قبول الأخطاء والاعتراف بها؛ وذلك لأنَّ المنهج التجريبي يقتضي الخطأ، والولوج من خلاله إلى النجاح بدلاً من حشو عقل الإنسان الصغير بمعلومات تجاوزها العلم والزمن.

وعلى المجتمع والأسرة أيضًا زرع قيم العمل والإنتاجية والصبر والمثابرة والأنَّاة في أبنائها؛ فالمستقبل لأولئك الذين عملوا ومنحوا لأنفسهم ولأبنائهم فرص الإبداع والابتكار والتجربة والصواب والخطأ.

لكن من جهة أخرى، يترتب على هذه الثورة التكنولوجية الكاسحة أو يصاحبها تداعيات كثيرة يكفي أن نذكر منها:

1- التغير الاجتماعي المُتسارع؛ إذ إنَّ القيم والمعايير والعادات والتقاليد والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية ستكون عرضة للتغير والتحول والتبدل عدة مرات في حياة الفرد، لا بين جيل وجيل كما كان عهدنا في الماضي، ولكن في حياة نفس الجيل وبطريقة مستمرة. ولن يقتصر هذا التغير الاجتماعي المتسارع على من يشاركون أو يصنعون هذه الثورة، ولكنه سيشمل كل شعوب الأرض.

2- الانفتاح الإعلامي الثقافي الحضاري العالمي المتسارع؛ فوسائل الاتصال السريعة، بل والآنيّة تعبُر الحدود بلا حدود ولا شروط ولا قيود برسائلها ومضامينها وأفكارها من أي مجتمع لأي مجتمع آخر، وسوف تصبح وسائل الإعلام والرقابة التقليدية أدوات بدائية عديمة الكفاءة وقليلة الفاعلية في منع أو تحصين الفرد والمجتمع ضد استقبال محتويات الرسائل الإعلامية والثقافية والعادات الوافدة من مجتمعات وثقافات أخرى.

إنَّ التحصين الحقيقي في مواجهة هذا التدفق الإعلامي الثقافي الوافد، هو وعي الفرد والمجتمع وقدرتهما على الفرز النقدي، وفي قدرة وسائل الإعلام والتعليم والثقافة الوطنية والأنظمة الاجتماعية، على تقديم بدائل أكثر جدية ومصداقية وجاذبية. وهذه مهام تتجاوز قدرات أنظمة التعليم والإعلام والثقافة والاجتماع كما عرفناها في الماضي، أو كما نعرفها الآن في مجتمعاتنا، فهذه المهام تتطلب أجهزة خلَّاقة ومقتدرة إذا كان لها أن تحافظ على هويات مجتمعاتها الحضارية القومية الثقافية وتحفظها من المسخ والذوبان، وفي نفس الوقت الذي لا يتحول فيه المجتمع إلى متحف تاريخي تراثي منغلق وجامد.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

"معلومات الوزراء" يستعرض تحليلًا شاملًا لتقنية التوأم الرقمي واستخداماتها المتعددة في القطاعات الحيوية

أصدر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء تحليلًا حديثًا تحت عنوان "تقنية التوأم الرقمي"، تناول فيه بالشرح والتفصيل ماهية هذه التقنية الحديثة وتطبيقاتها المتنامية في العديد من القطاعات الاقتصادية والصناعية والخدمية حول العالم، مؤكدًا أنها تُعد من أبرز أدوات الثورة الصناعية الرابعة، وتسهم في تعزيز كفاءة التشغيل، وتقليل التكاليف، وتحسين دقة القرارات.

مفهوم التوأم الرقمي.. من "أبولو 13" إلى التحول الرقمي المعاصر

أوضح التحليل أن التوأم الرقمي هو تمثيل افتراضي لكائن مادي، مثل مبنى أو منتج أو نظام، يتم إنشاؤه باستخدام تقنيات متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والتعلم الآلي. 

عاجل- رئيس الوزراء يهنئ الرئيس السيسي بعيد الأضحى ويؤكد استمرار جهود التنمية الشاملة عاجل- رئيس الوزراء يهنئ شيخ الأزهر بعيد الأضحى ويشيد بدور الأزهر في ترسيخ القيم الإسلامية

وتكمن أهميته في قدرته على محاكاة الأداء الفعلي للكائن طوال دورة حياته، مما يسمح بالتنبؤ بالمشكلات وحلها قبل وقوعها.

ورغم أن المفهوم الحديث للتوأم الرقمي ظهر في عام 2002، خلال عرض تقديمي من جامعة "ميتشيجان" في المملكة المتحدة، فإن جذوره تعود إلى ستينيات القرن الماضي، حين استخدمت وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" تقنية التوأمة الرقمية لتطوير أنظمة مكررة تحاكي مركبة "أبولو 13".

الفارق بين المحاكاة التقليدية والتوأمة الرقمية

أكد المركز أن التوأم الرقمي يختلف عن المحاكاة التقليدية من حيث المرونة والعمق؛ إذ إنه قادر على جمع بيانات حقيقية من أجهزة استشعار على مدار الوقت، وتحليلها باستخدام الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالأعطال وتحسين الأداء، فضلًا عن دمج هذه البيانات مع واجهات المستخدم لإعطاء رؤية أكثر دقة وشمولية، وإن كان يتطلب استثمارات أعلى في تركيب الأجهزة والتحليل التقني.

استخدامات التوأم الرقمي في مختلف القطاعات

استعرض التحليل أبرز المجالات التي تستفيد من تطبيقات التوأم الرقمي، ومن بينها:

الفضاء والدفاع

تلعب التوائم الرقمية دورًا جوهريًا في تحسين أداء المعدات الدفاعية، وتعزيز الأمن السيبراني، واتخاذ قرارات عسكرية دقيقة من خلال محاكاة المهمات في الزمن الفعلي.

الهندسة والإنشاءات

تُستخدم التوائم الرقمية في تصميم وبناء وصيانة المباني والمدن الذكية، وتساعد في تقليل الانبعاثات وتحقيق الاستدامة. 

ومن الأمثلة مدينة أورلاندو الأمريكية، التي طورت نموذجًا ثلاثي الأبعاد لمحاكاة مشاريعها، وكذلك سنغافورة التي أنشأت توأمًا رقميًا يغطي كامل بنيتها التحتية.

الزراعة الذكية

دمجت شركة "CropX" النيوزلندية بيانات الأقمار الصناعية والتربة وتوقعات الطقس لإنشاء نماذج توأمية رقمية تساعد على اتخاذ قرارات دقيقة وتحقيق إنتاجية عالية، ما يسهم في تعزيز الأمن الغذائي العالمي.

التكنولوجيا المالية

توفر التوائم الرقمية مزايا كبيرة في إدارة الأصول غير الملموسة والمعاملات المالية، من خلال تحسين الكفاءة التشغيلية والأمان والتحقق من العمليات.

النقل والخدمات اللوجستية

تُسهِم التقنية في تسريع اتخاذ القرارات، وتحسين حركة المرور، وتقليل الانبعاثات الكربونية، وتقديم تجربة نقل أكثر أمانًا وكفاءة، لا سيما في قطاعات الشحن والمواصلات العامة.

الطاقة والموارد الطبيعية

تتيح التوائم الرقمية التنبؤ بالأعطال وتحسين استخدام الموارد، مما يجعلها أداة رئيسية في تعزيز كفاءة الطاقة المتجددة (مثل الشمسية والرياح)، والتقليل من الفاقد، وتعزيز الاستدامة.

الرعاية الصحية وصناعة الأدوية

تساعد هذه التقنية في محاكاة استجابة المرضى للأدوية، وتحسين التصميم التجريبي، وتسريع الموافقات التنظيمية، وتقليل النفايات، وضمان الجودة في صناعة الدواء، مما يعزز سلامة المرضى وفعالية العلاج.

الاتصالات السلكية واللاسلكية

تُوظّف التوائم الرقمية في مراقبة أداء الشبكات وتحليل أنماط الاستخدام، ما يساعد في تحسين تغطية الشبكات وتحقيق أداء أفضل للمدن الذكية، إلى جانب تعزيز الاستجابة للكوارث الطبيعية.

توقعات السوق.. نمو هائل في السنوات المقبلة

أشار مركز المعلومات إلى أن سوق التوأم الرقمي العالمي في قطاع التصنيع وحده يُتوقع أن يسجل نحو 6.7 مليارات دولار بحلول عام 2025، بزيادة تفوق عشرة أضعاف مقارنة بعام 2020. 

ويُتوقع أن تشهد قطاعات السيارات والطيران نموًا كبيرًا في الاعتماد على هذه التقنية، إلى جانب توسع استخدامها في الطاقة، والرعاية الصحية، والخدمات اللوجستية، والتجزئة.

أهمية الفهم الاستراتيجي للتقنية

اختتم التحليل بالتأكيد على ضرورة تعزيز الوعي بتأثيرات تقنية التوأم الرقمي وأهميتها في جميع مراحل دورة حياة المنتج، مشددًا على أن هذا الفهم سيسهم في دعم عملية اتخاذ القرار، ودفع عجلة الابتكار، وتحقيق استدامة أكبر في ظل التحديات العالمية المتسارعة، والتحولات الرقمية التي تشهدها مختلف القطاعات.

مقالات مشابهة

  • "القوات البرية" تشارك في تنظيم الحشود وتأمين المواقع الحيوية بالمشاعر المقدسة
  • قصر الوطن.. فعاليات تراثية احتفاءً بالعيد
  • "معلومات الوزراء" يستعرض تحليلًا شاملًا لتقنية التوأم الرقمي واستخداماتها المتعددة في القطاعات الحيوية
  • رئيس جامعة أسيوط التكنولوجية يشارك في ورشة عمل الفضاء والتنمية المستدامة
  • مراكز المساعدات في رفح تتحول إلى مصائد موت
  • مجزرة رفح.. خبز مغمس بالدم ومساعدات تتحول لأفخاخ موت
  • ترامب يدمر ريادة أمريكا التكنولوجية
  • خبير اقتصادي: نمو القطاعات الحيوية يدفع بسوق العمل نحو التعافي
  • استعمار العقول أخطر من احتلال الأوطان
  • الأعلى للجامعات يحدد الأعداد المقبولة في كليات التكنولوجيا والتمريض والجامعات التكنولوجية