السلم الاجتماعي في مرحلة ما بعد الحرب
تاريخ النشر: 15th, April 2025 GMT
على فراشِ الموت
يرسمُ الوطن خارطةً جديدة.
لكن الخطوط ترتعش،
كأنها تخشى أن تكون بدايةً،
لنهايةٍ أخرى.
(قصيدة: وطن معلق على حافة النسيان للشاعر ادوارد كورنيليو)
في مرحلة ما بعد الحرب، تبرز أهمية السلم الأهلي والاجتماعي كأولوية قصوى لإعادة بناء المجتمع والدولة في السودان، لا سيما في دارفور، حيث مزقت الحرب النسيج الاجتماعي وأضعفت الثقة بين المكونات السكانية.
يمكن لآلية تقودها الإدارات الأهلية، إذا ما توفر لها الإطار الأخلاقي والمنهجي السليم، أن تلعب دوراً محورياً في رأب الصدع، خصوصاً في ملف دار مساليت الذي أصبح جرحاً مفتوحاً قابلاً للاستغلال من قبل أطراف متعددة. فبينما تعمدت بعض النخب المركزية على مدار عقود إلى بث الفتن بين مكونات المنطقة، ها هي اليوم تعمل على تجنيد شباب المساليت لأغراض التعبئة القبلية، وليس من أجل نزع الألغام المجتمعية والسياسية التي ظلت الاستخبارات العسكرية تستزرعها بوعي ممنهج.
أما الجهات الغربية، فقد اختزلت ما جرى في دار مساليت في سردية الإبادة الجماعية، متناسية أن الجريمة وقعت نتيجة لصراعات مركبة غذتها الدولة المركزية وأدارتها ضمن سياسة “فرّق تسد”، فتمّت عسكرة الهوية وتسييسها من أجل إضعاف أي إمكانية لبناء تحالفات محلية قادرة على فرض معادلة حكم عادلة أو إحداث اختراقات تنموية ذات طابع جهوي.
ولا يغيب عن أي متابع لتاريخ دارفور السياسي والاجتماعي التداخل العميق بين السودان وتشاد، خاصة في البعد العسكري. فزغاوة دارفور هم من اقتلعوا حسين هبري ومكّنوا إدريس دبي من الحكم، ومع ذلك فإن زغاوة تشاد اليوم يتحفظون على دعم مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم، لسببين اثنين: أولاً، إدراكهم أن النخب العسكرية في المركز تريدها حرباً قبلية تُضعف الزغاوة والزرقة معاً وتخرجهم من معادلة الحكم. وثانياً، لعلمهم أن جبريل ومني لا يمثلان الهامش بصدق، فقد قبض الأول ثمن صفقة أبوجا ورهن نفسه لتجار الحروب، بينما استخدم الثاني حركة العدل والمساواة كأداة لتنفيذ أجندة الإسلاميين، لا سيما خلال تحالفه مع خليل إبراهيم الذي أدخل دارفور في أتون صراع لصالح مركز الخرطوم، لا لصالح أبنائها.
اليوم، دفعت ذات الحركة الإسلامية بالكادر التنظيمي صالح عبد الله، رئيس مجلس شورى الزغاوة، بهدف توظيف فصيلي جبريل ومناوي واستخدامهما لتفجير صراع بين أهل دارفور، وهو صراع لا يخدم الزغاوة بل يخدم المركز، وتحديدًا يخدم "عصابة الإنقاذ" التي تسعى للهيمنة على أي محاولة لبناء كتلة سياسية جديدة تنطلق من الهامش.
ما لم تعمل النخب الواعية بقضايا الدولة وأسس البناء السياسي على رأب الصدع بين مستويات الحكم والسلطة، بين الـsuperstructure والـsubstructure، فإننا نخاطر بإعادة إنتاج دولة فاشلة. ومجرد انفصال دارفور أو أي إقليم آخر عن السودان لا يضمن بالضرورة الخلاص من أمراض الفساد والاستبداد، ما لم تكن هناك مراجعات حقيقية للمنظومة السياسية والقيمية التي زرعها نظام الإنقاذ وأدمنتها نخب ما بعد الإنقاذ.
الحذر كل الحذر من اختزال تحرير الفاشر في كونه مناجذة قبلية، بل هذه انتفاضة شعبية يجب أن تعقبها مساومة تاريخية تقيم لكل قبيلة وزنها من مساهمتها في التنمية والسلام الأهلي والاجتماعي. هنالك دور مهم يجب أن تقوم به نخب الرزيقات والزغاوة خاصة، سيما أنهما الكيانان اللذان تم استغلالهما وتوظيفهما من قبل المركز العروبي الإسلامي، ولذا فهما يتحملان مسؤولية أكبر في محاولتهما لخلق السلام ورتق النسيج الاجتماعي.
وإذا ما ورثت حكومة التأسيس القادمة نظام المحاصصة الراهن، فإنها ستخفق في استقطاب الكادر المؤهل القادر على بناء الدولة، وسندخل ذات الدائرة الشريرة التي غرقت فيها دولة جنوب السودان. لا بد من تجاوز معيار كبر القبيلة أو صغرها، والانحياز بدلاً من ذلك إلى معيار العدالة والمشروعية، وتأسيس بنية قاعدية تشجع على الانتقال التدريجي من الوعي القبلي إلى الممارسة المدنية.
وإذ تعمد بعض نخب المركز إلى الدفع نحو خيار الانفصال لإحساسها بأن الكفة الديمغرافية والاقتصادية لم تعد في صالحها، فإن المطلوب اليوم هو مقاومة هذا الاتجاه الضيق، والانخراط في مشروع وطني يغلّب الخيار المدني الديمقراطي. فغرب السودان يمتلك الموارد البشرية والمادية، لكن عليه ألا يركن فقط إلى منطق السلاح، بل أن يقود مسار التحول الديمقراطي، مسلحاً بالفكر والرؤية الأخلاقية والسياسية العميقة.
auwaab@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
انتشار السلاح.. تحدي السلام أمام الفوضى في السودان
منتدى الإعلام السوداني
ملاك جمال بلة
الخرطوم، 13 أكتوبر 2025، (شبكة إعلاميات)- لم يعد حمل السلاح في السودان مقتصرًا على القوات النظامية أو الأجهزة الأمنية، بل أصبح مشهدًا يوميًا في الأسواق والطرقات والأحياء. بعد اندلاع حرب 15 أبريل 2023، تحولت البنادق إلى أدوات في أيدي المدنيين والمليشيات والمستنفَرين، الأمر الذي خلق حالة من الفوضى العارمة، وألقى بظلال الخوف والاضطراب على حياة المواطنين، لتتحول إلى دائرة من القلق المستمر.
النوم على أصوات الرصاص والاستيقاظ على أخبار القتل والنهب أصبح أمرًا اعتياديًا. الأطفال فقدوا الشعور بالأمان، النساء يخشين الخروج بمفردهن، والشباب يعيشون على حافة الخطر. أوضاع نفسية، كما يقول الأهالي: “تقتل في الناس روح الحياة وتزرع اليأس”.
رعب يومي في قلب الخرطومتقول أمنية القذافي، مواطنة من سكان الخرطوم جنوب، إنها عادت إلى منزلها لكنها لم تعد تشعر بالأمان. وتضيف: “أشعر بالخوف عندما أرى شخصًا يحمل سلاحًا، لأن معظمهم خارج وعيهم ولا أثق بهم. انتشار السلاح يؤثر معنويًا على المواطن، خاصة القادم من المناطق الآمنة، حيث يزداد التخوف من أن يتهور أحد حاملي السلاح ويقوم باطلاق النار على الناس في أي لحظة”.
وتكشف أن الأمر لا يقتصر على الرعب النفسي، بل تعدّاه إلى حوادث نهب وقتل واغتصاب تحت تهديد السلاح في منطقتها، مع انتشار واسع لمسلحين من شباب وأطفال تحت سن 18 عام.
الصحفي إسماعيل حسابو يوثق لمعاناة أطفاله عبر حسابه في أحد مواقع التواصل الاجتماعي، حيث كتب: “ابني يقول (بابا الطيارة دي عزبتني ماخلتني انوم).. هذه العبارة يكررها يومياً عند الساعة السادسة صباحا”. يقول: أهرع إليه واقتاده واخوته إلى داخل الغرفة، الأبواب والنوافذ ترتج على وقع القصف كأنها ستقتلع اقتلاعا.. انتقلنا إلى عدة مناطق بحثاً عن الأمان والاستقرار بعيدا عن أصوات الرصاص والطيران، لكن لاحقتنا تلك الأصوات مرة أخرى وليس لنا أو أمامنا إلا الهروب مجددا بأطفالنا، أكثر من دفع ثمن هذه الحرب العبثية هم أبناؤنا الذين لا ذنب لهم سوى أنهم من طينة هذه البلد”.
المجتمع يفقد تماسكهالناشط المجتمعي فضيل عمر يرى أن غياب الدولة لحسم العنف، ساهم في انتشار السلاح الذي أصبح أداة لتصفية الحسابات. ويقول: “في الماضي كانت الخلافات تُحل بالكلمة أو القانون. اليوم صار امتلاك السلاح كافيًا لتحويل مشادة بسيطة إلى جريمة قتل. السلاح يختصر المسافة بين الغضب والموت”. ويشير إلى أن الخلافات الاجتماعية التي كانت تنتهي بالمصالحة أصبحت تُحسم بالرصاص، تفشت الفوضى وغاب الإحساس بالأمان.
جذور تاريخيةالمختصة في مجال النزاعات منال محمد عبد الحليم توضح أن انتشار السلاح في السودان ليس وليد اللحظة، بل نتيجة تراكمات من ضعف المؤسسات العسكرية والأمنية وفقدانها للمهنية، والاعتراف بالمليشيات المسلحة خارج القانون وتحويلها إلى قوى موازية، وكذلك الحركات المسلحة التي دعمتها الحكومات منذ السبعينيات، بالإضافة إلى انتشار تجارة الأسلحة الخفيفة خاصة في دارفور. وحسب قولها إن هذه العوامل مجتمعة مهدت الطريق لتحول المدنيين إلى مجموعات مسلحة خارج سيطرة الدولة.
وتقول عبد الحليم: “انتشار السلاح وسط المدنيين يؤدي إلى حوادث كثيرة، حيث أن 99% ممن يحملونه رجال وشباب يستسهلون استخدامه في أي خلاف بسيط”. وذهبت إلى أن جمع السلاح مهمة شبه مستحيلة، مستشهدة بتجارب دول أخرى أظهرت صعوبة نزع السلاح بعد الحروب، خاصة مع تفكك المؤسسة العسكرية في السودان.
أزمة إنسانية وأمنيةالحقوقية سلوى أبسام يوسف تعتبر أن انتشار الأسلحة يشكل تهديدًا للأمن حتى بعد وقف الحروب، فهو المغذي الأساسي للعنف والجريمة. كما أن غياب الشفافية في توزيع السلاح من قبل القوات النظامية خلال الحرب الأخيرة جعل من الصعب تتبع مساره أو جمعه لاحقًا.
وتقترح ابسام الاستفادة من تجارب عالمية مثل جنوب أفريقيا التي خصصت حوافز مالية لتسليم السلاح. وفي السلفادور كانت هنالك حملات توعوية وحوافز، وأيضا في كولومبيا التي قامت بتوثيق ومراقبة الأسلحة لمنع عودتها للسوق السوداء.
القانون السوداني: نصوص حاضرة وتنفيذ غائبالمحامية شيماء تاج السر تؤكد أن قانون حيازة السلاح السوداني لعام (1986 – 2015)، ينظم حيازة السلاح بصرامة ويجرّم حيازته أو الاتجار به دون ترخيص، لكن المشكلة تكمن في ضعف التطبيق. وتوضح أن انتشار السلاح يقوض سيادة القانون. وتضيف قولها: “القوانين موجودة، لكن ثقافة حمل السلاح اصبحت متغلبة على الثقافة القانونية”.
سيناريو مخيف نحو دولة المليشياتالمحامي بابكر يحذر من أن انتشار السلاح سيؤدي إلى تكوين المجموعات المسلحة خارج إطار الدولة، ما سينتهي إلى “دولة المليشيات”. محذراً من أن بعض المناطق قد تطالب بالانفصال أو الحكم الذاتي، لتصبح “دويلات صغيرة تحكمها القبيلة والسلاح”.
وفي ذات السياق يرى خبراء أن الحل يكمن في سياسة وطنية لجمع السلاح تستند إلى القانون ودمج وتسريح المليشيات ضمن اتفاقات رسمية تنتهي بحصر السلاح في يد القوات النظامية- الجيش والشرطة. والعمل على تعزيز دور الشرطة في تطبيق قانون الأسلحة والذخائر، ووضع برنامج حملات توعية وحوافز لتشجيع المواطنين على تسليم أسلحتهم.
يظل انتشار السلاح أخطر تحدٍّ يواجه السودان اليوم وما بعد الحرب. فغياب القانون وضعف مؤسسات الدولة وتفشي المليشيات جعل من السلاح أداة اعتيادية تشيع القتل والنهب والانتقام. ولا سبيل لسلام حقيقي إلا بإعادة احتكار السلاح للدولة، بتنفيذ استراتيجية شاملة لنزع السلاح من أيدي المدنيين، حتى يستعيد المواطن شعوره بالأمان، ويعود الشارع السوداني مكانًا للحياة لا للخوف.
ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء هذه المادة من إعداد (شبكة إعلاميات) لتسليط الضؤ على تصاعد ظاهرة انتشار السلاح بين المدنيين في السودان منذ اندلاع حرب أبريل 2023، وما نتج عنها من انفلات أمني وعنف واسع حوّل حياة المواطنين اليومية إلى دائرة من الخوف والرعب. ويرصد معاناة الأسر والمجتمع من تفكك النسيج الاجتماعي وغياب الدولة أمام تنامي المليشيات والمسلحين. داعيًا إلى استراتيجية وطنية شاملة لجمع السلاح واستعادة سلطة الدولة.
الوسومحاملي السلاح حرب الجيش والدعم السريع