سودانايل:
2025-06-14@03:27:48 GMT

السلم الاجتماعي في مرحلة ما بعد الحرب

تاريخ النشر: 15th, April 2025 GMT

على فراشِ الموت
يرسمُ الوطن خارطةً جديدة.
لكن الخطوط ترتعش،
كأنها تخشى أن تكون بدايةً،
لنهايةٍ أخرى.

(قصيدة: وطن معلق على حافة النسيان للشاعر ادوارد كورنيليو)

في مرحلة ما بعد الحرب، تبرز أهمية السلم الأهلي والاجتماعي كأولوية قصوى لإعادة بناء المجتمع والدولة في السودان، لا سيما في دارفور، حيث مزقت الحرب النسيج الاجتماعي وأضعفت الثقة بين المكونات السكانية.

ولأن الدولة المركزية ومؤسساتها الرسمية (superstructure) باتت عاجزة، أو غير موجودة عملياً، في أغلب مناطق النزاع، فإن العبء الأكبر يجب أن تتحمله الإدارات الأهلية، كجزء من البنية التحتية الاجتماعية (substructure) التي ما زالت تتمتع بشرعية اجتماعية وقدرة على الوساطة والتأثير المحلي.

يمكن لآلية تقودها الإدارات الأهلية، إذا ما توفر لها الإطار الأخلاقي والمنهجي السليم، أن تلعب دوراً محورياً في رأب الصدع، خصوصاً في ملف دار مساليت الذي أصبح جرحاً مفتوحاً قابلاً للاستغلال من قبل أطراف متعددة. فبينما تعمدت بعض النخب المركزية على مدار عقود إلى بث الفتن بين مكونات المنطقة، ها هي اليوم تعمل على تجنيد شباب المساليت لأغراض التعبئة القبلية، وليس من أجل نزع الألغام المجتمعية والسياسية التي ظلت الاستخبارات العسكرية تستزرعها بوعي ممنهج.

أما الجهات الغربية، فقد اختزلت ما جرى في دار مساليت في سردية الإبادة الجماعية، متناسية أن الجريمة وقعت نتيجة لصراعات مركبة غذتها الدولة المركزية وأدارتها ضمن سياسة “فرّق تسد”، فتمّت عسكرة الهوية وتسييسها من أجل إضعاف أي إمكانية لبناء تحالفات محلية قادرة على فرض معادلة حكم عادلة أو إحداث اختراقات تنموية ذات طابع جهوي.

ولا يغيب عن أي متابع لتاريخ دارفور السياسي والاجتماعي التداخل العميق بين السودان وتشاد، خاصة في البعد العسكري. فزغاوة دارفور هم من اقتلعوا حسين هبري ومكّنوا إدريس دبي من الحكم، ومع ذلك فإن زغاوة تشاد اليوم يتحفظون على دعم مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم، لسببين اثنين: أولاً، إدراكهم أن النخب العسكرية في المركز تريدها حرباً قبلية تُضعف الزغاوة والزرقة معاً وتخرجهم من معادلة الحكم. وثانياً، لعلمهم أن جبريل ومني لا يمثلان الهامش بصدق، فقد قبض الأول ثمن صفقة أبوجا ورهن نفسه لتجار الحروب، بينما استخدم الثاني حركة العدل والمساواة كأداة لتنفيذ أجندة الإسلاميين، لا سيما خلال تحالفه مع خليل إبراهيم الذي أدخل دارفور في أتون صراع لصالح مركز الخرطوم، لا لصالح أبنائها.

اليوم، دفعت ذات الحركة الإسلامية بالكادر التنظيمي صالح عبد الله، رئيس مجلس شورى الزغاوة، بهدف توظيف فصيلي جبريل ومناوي واستخدامهما لتفجير صراع بين أهل دارفور، وهو صراع لا يخدم الزغاوة بل يخدم المركز، وتحديدًا يخدم "عصابة الإنقاذ" التي تسعى للهيمنة على أي محاولة لبناء كتلة سياسية جديدة تنطلق من الهامش.

ما لم تعمل النخب الواعية بقضايا الدولة وأسس البناء السياسي على رأب الصدع بين مستويات الحكم والسلطة، بين الـsuperstructure والـsubstructure، فإننا نخاطر بإعادة إنتاج دولة فاشلة. ومجرد انفصال دارفور أو أي إقليم آخر عن السودان لا يضمن بالضرورة الخلاص من أمراض الفساد والاستبداد، ما لم تكن هناك مراجعات حقيقية للمنظومة السياسية والقيمية التي زرعها نظام الإنقاذ وأدمنتها نخب ما بعد الإنقاذ.

الحذر كل الحذر من اختزال تحرير الفاشر في كونه مناجذة قبلية، بل هذه انتفاضة شعبية يجب أن تعقبها مساومة تاريخية تقيم لكل قبيلة وزنها من مساهمتها في التنمية والسلام الأهلي والاجتماعي. هنالك دور مهم يجب أن تقوم به نخب الرزيقات والزغاوة خاصة، سيما أنهما الكيانان اللذان تم استغلالهما وتوظيفهما من قبل المركز العروبي الإسلامي، ولذا فهما يتحملان مسؤولية أكبر في محاولتهما لخلق السلام ورتق النسيج الاجتماعي.

وإذا ما ورثت حكومة التأسيس القادمة نظام المحاصصة الراهن، فإنها ستخفق في استقطاب الكادر المؤهل القادر على بناء الدولة، وسندخل ذات الدائرة الشريرة التي غرقت فيها دولة جنوب السودان. لا بد من تجاوز معيار كبر القبيلة أو صغرها، والانحياز بدلاً من ذلك إلى معيار العدالة والمشروعية، وتأسيس بنية قاعدية تشجع على الانتقال التدريجي من الوعي القبلي إلى الممارسة المدنية.

وإذ تعمد بعض نخب المركز إلى الدفع نحو خيار الانفصال لإحساسها بأن الكفة الديمغرافية والاقتصادية لم تعد في صالحها، فإن المطلوب اليوم هو مقاومة هذا الاتجاه الضيق، والانخراط في مشروع وطني يغلّب الخيار المدني الديمقراطي. فغرب السودان يمتلك الموارد البشرية والمادية، لكن عليه ألا يركن فقط إلى منطق السلاح، بل أن يقود مسار التحول الديمقراطي، مسلحاً بالفكر والرؤية الأخلاقية والسياسية العميقة.

auwaab@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

السودان: حرب بلا معنى (2)

خالد بن عبد الرحمن العوض

اشتهر أشقاؤنا السودانيون بروح الأخوّة والجماعة والتعاطف بينهم إلى الدرجة التي يُصاب فيها المرء بالحيرة عندما يحاول فهم هذه الحرب البغيضة بينهم داخل السودان. ولهذا يجد المرء مرارة في قراءة هذا الصراع بين السودانيين، وخاصة الطريقة الغامضة التي نشأت فيها وبرزت بها ميليشيا الدعم السريع، والتي تضم مقاتلين من خارج السودان، بعضهم في سن المراهقة، والتي تتلقّى الدعم من قوى أجنبية لا تهمها مصلحة السودان. لقد ارتكبت هذه الميليشيا الكثير من الجرائم في هذه الحرب العبثية.

من الصحفيين القلائل الذين حاولوا نقل الصورة البشعة لهذه الحرب وعواقبها الوخيمة على الشعب السوداني، الصحفي البريطاني أنتوني لويد، الذي تمكّن من الدخول إلى الخرطوم وأم درمان وكشف عن جانب مظلم تستخدمه ميليشيا الدعم السريع كسلاح في هذه الحرب.

يسرد الكاتب البريطاني هذه القصة بعد أن أجرى مقابلة مع والدة إحدى الفتيات التي تعرّضت للاغتصاب. اختارت الفتاة المراهقة أن تنام في غرفتها بدلاً من النوم مع أمها وبقية الأطفال في الرواق، حيث النسيم العليل القادم من النيل، في أحد أحياء الخرطوم الذي كانت تسكن فيه هذه الأسرة، والذي يخضع لاحتلال ميليشيا الدعم السريع. لم يخطر ببالها أنه في الهزيع الأخير من الليل سيدخل ثلاثة جنود يحملون السلاح من نافذة المنزل ذي الدور الواحد، ثم إلى غرفتها، دون أن تلاحظ ذلك الأم التي كانت تغط في نوم عميق. لم يكن والدها موجودًا في المنزل ذلك اليوم. كان هؤلاء يبحثون عن أي شيء يسرقونه، وإذا لم يجدوا شيئًا أمعنوا في إهانة أهل هذا الحي بارتكاب جرائم الاغتصاب التي يحجم الكثير من الضحايا عن التصريح بها مخافة العار والفضيحة في مجتمع ديني محافظ. لم يجد هؤلاء الجنود الثلاثة أي ذهب أو مال أو هاتف محمول، فأقدموا تحت تهديد السلاح على ارتكاب هذه الجريمة التي أصبحت، بحسب تقرير بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، “منتشرة” في هذه الحرب، رغم عدم وجود إحصاءات دقيقة لهذه الاعتداءات بسبب صعوبة حصرها أثناء الحرب، وبسبب الخوف الذي يعتري الضحايا من التصريح بها.

عندما وجدت الأم ابنتها ترتجف خوفًا بجانبها في الظلام، أدركت أنها أمام وقت عصيب. لم تُجدِ الصرخات التي أطلقتها في الشارع وأيقظت الجيران الذين ملأوا ساحة بيتها، ولم تنفعها الشكوى لدى نقطة التفتيش التابعة للدعم السريع في نفس الشارع. تكرر السيناريو ذاته بعد ثلاثة أشهر، عندما هجم ثلاثة أفراد من الميليشيا على المنزل وأخذوا الفتاة من يدها، لكن الجيران أنقذوا الموقف بعد سماع صيحات الأم. لم تُخبر الأم والد الفتاة الغائب بما حلّ بابنته، ولا تدري كيف ستكون ردّة فعله لو أخبرته بالأمر. غادرت الأسرة هذه المنطقة التي تسيطر عليها الميليشيا، متوجهة إلى أم درمان، دون التفكير في العودة إلى المنزل الذي أصبح مكانًا للذكريات المؤلمة.

لم تنتهِ قصة الأم المكلومة، فأمامها الكثير من الجهد لتساعد ابنتها على تجاوز هذه المعضلة.

هذا جانب واحد فقط من الأعراض الجانبية للحرب. فما بالكم بالحرب نفسها؟

مقالات مشابهة

  • الهيمنة الثقافية وتفاهة الشر، لماذا لم تُقاوِم الخرطوم/المركز مذابح الهامش؟
  • حظر وسائل التواصل الاجتماعي للأطفال في فرنسا: ما هي العقبات التي تواجه ماكرون؟
  • السودان: توقعات بمعدلات أمطار عالية وفيضانات وحرارة مرتفعة
  • السودان.. لجنة إغاثية تتهم (الدعم السريع) بقتل 8 أشخاص في الفاشر
  • “التطورات الدستورية المهمة” .. السفير الزين يلتقي مفوض السلم والأمن والشؤون السياسية بالاتحاد الأفريقي
  • المليشيا لن تنتصر كقوة غازية يتم تجهيزها في ليبيا أو أي دولة أخرى لغزو السودان
  • تصاعد التوترات الأمنية والإنسانية في السودان وسط انسحاب للجيش واتهامات لليبيا.. التفاصيل
  • السودان: حرب بلا معنى (2)
  • مرحلة ما بعد الحرب تقتضي وجود شرطة (قوية ، فاعلة ، قادرة)
  • وزارة الخارجية بالحكومة الليبية: لم ننخرط في الصراع السوداني بأي شكل من الأشكال