الدولة والسلفيات الدينية والمذهبية
تاريخ النشر: 15th, April 2025 GMT
الدولة - إن صح التعبير - مؤسسة متطورة، وإذا كانت هناك قيم مطلقة عابرة للزمكانية، إلا أن الدولة إجرائيا لها ارتباط وثيق بالظرفية، ولا يمكن بحال استنساخ نماذج إجرائية سالفة في واقع مختلف تماما، كما لا يمكن الوقوف عند حرفية النصوص الإجرائية الماضوية في واقع مختلف، قد تكون الروح مطلقة كالمساواة والعدل والحرية، إلا إن إجراء تحقق ذلك لا ينفصل عن الواقع المعيش، وفي نظري لا توجد ديانة أو فلسفة من حيث الابتداء أرادت أن تختزل الدولة في صورة إجرائية مغلقة، لكنها تناولت الدولة وفق ظرفية واقعها الذي تعيشه، فإذا وجدت نصوص في ذلك فهي لا تخرج عن روح القيم المطلقة، أو الظرفية المقيدة بواقعها، وعليه ربط الدولة كليا بواقع ظرفي مختلف تماما ربط يقود العقل المعاصر إلى الجمود والتخلف، وقد يقوده إلى الصراع والنزاع والاحتراب، كما يجعل العقل يعيش في مخيال وهمي يتمثل في أن استنساخ الدولة في صورتها الإجرائية الماضوية تقوده إلى الرفاهية والكرامة والخلاص من آلام الواقع، وهو نوع من الوهم، والهروب من واقع الحال الذي ينبغي أن يدرس بعقلانية الواقع، لا بأوهام الماضي، والكثير مما يروى عن الماضي يصلنا منه ما هو مختزل عن واقعه، وليست الصورة الحقيقية المرتبطة بإنسان تلك المرحلة وفق تقدمه أو تأخره وفق مقياس واقعه وظرفية زمنه.
ولما نتحدث عن السلفية لا نريد هنا السلفية بالمفهوم المذهبي المغلق المتمثل في بعض الجماعات الدينية المعتدة بأرثوذوكسيتها، أو التي ترى الخلاص في رؤى واجتهادات السلف، وليس المراد أيضا الوقوف عند بعض الجماعات الإصلاحية المعاصرة والتي تبنت السلفية لقبا لها، والمراد من حديثي هنا أنه لا يوجد ديانة أو مذهب أو حركة لا سلف لها، أو لا رؤية سلفية لها، تسمت باسم السلفية، أو حتى كانت رافضة لهذا المصطلح، فالعديد من هذه الحركات لها ارتباط سياسي في النشأة، ولها رؤية سلفية حول الدولة والاجتماع البشري، قد تجمد عليها، وقد تتطور رؤيتها إذا ما حدث انفتاح عند بعض منظريها وأتباعها، بيد أن الخلاص من الرؤية الماضوية لا يمكن أن يتمثل في جميع أفرادها، وقد يتعرض المنظرون الجدد لإقصاء من قبل التقليديين - السلفيين - في كل مذهب، والذين يستخدمون البراجماتية النفعية وفق كيان الدولة القائم، وإن كان واقع خطابهم له رؤية ماضوية خلاصية حول واقع الدولة، لهذا يحاربون المنظرين الجدد باسم الدولة نفسها عندما تكون المصلحة واقعة بين السياسي والديني الأرثوذكسي.
قد يكون من الناحية الشكلانية لا خطورة في علاقة السلفيات الدينية والمذهبية بالدولة في الخطوط الجامية والنفعية البراجماتية، الخطورة لما تتسع دائرتها حيث يتمثل إشكاليتها في رفض الآخر القريب دينيا أو مذهبيا إذا كانت مخالفا لسلفيتها الحرفية، ورفض البعيد خارج التفكير الديني ذاته محاولة لإقصائه وإبعاده، مستخدمة أدوات الدولة ذاتها من حيث المؤسسات، وقد تتسع إلى القضائية والضغط الاجتماعي، ولو كانت الدولة لها صورة ليبرالية أو علمانية من حيث الابتداء، ليخرج مفهوم الآخر المختلف من دائرة المواطنة المرتبطة بالذات الواسعة، إلى المواطنة المرتبطة بمدى النفعية من جهة، وبضيق التصنيفات المذهبية تجاه المختلف من جهة ثانية، وتتسع الخطورة عندما يملأ العقل الجمعي المستقِبل لخطابات سلفية ترى الخلاص في نماذج ماضوية هي بذاتها تصارعت وتحاربت، واختزلت في روايات وقصائد شعرية، يستقبل العقل الجمعي هذه الخطابات بلا إعمال عقلي، ولا نقد معرفي، تجعله يعيش الازدواجية بين مخيال الخطاب وظرفية الواقع، ليسقط ذلك سلبا في تأثره بجماعات متطرفة باسم الدين، أو يكون ناقما لمحيطه الذي يعيش فيه.
لهذا لابد من إعادة قراءة الدولة وفق نظريات الواقع، ولابد من نقد مثل هذه الخطابات غير المنضبطة من تديين الدولة وإخراجها من إطارها الإنساني المتحرك، إلى الأطر اللاهوتية المغلقة من جهة، ومن طبيعتها الحالية الواقعية إلى الخلاصات الماضوية الوهمية من جهة أخرى، ليبنى العقل الجمعي على المواطنة المرتبطة بالذات المتساوية بين الجميع، هذه الذات لا تلغي الخصوصيات الدينية والمذهبية والفكرية والثقافية، ولكنها من حيث الدولة يبقى الجميع ذاتا واحدة لا تمايز بينهم، والكل سواء في العمل والاجتهاد والشراك والإبداع والكفاءة، فإذا لم يحدث مثل هذا النقد، وإذا لم يتم إعادة التعامل مع العقل الجمعي ليكون متعقلا ناقدا محاورا، وليس مستقبلا فقط لخطابات من الخارج باسم المقدس أو غيره، قد ينضبط تفكيره حاليا نتيجة قوة الدولة الوطنية، وليس لسبب ما يتمثله من ثقافة جمعية مؤمنة بإنسانية الدولة وظرفيتها الزمكانية، يظهر ضرر ذلك في الخطابات غير المنضبطة التي قد تتحول إلى فعل حال ضعف الدولة المركزية.
فالجماعات الحركية المتطرفة مثلا لم تكن بعيدة عن هذه الخطابات والسلفيات غير المنضبطة، التي بنيت على كراهية وإقصاء الآخر تحت مفهوم «الولاء والبراء»، أو تحت عمومية الأسلمة بما في ذلك المتحرك في الاجتماع البشري، ومحاولة لاستنساخ تجارب سابقة لها ظرفيتها وفق التديين والخلاص باسم المقدس، ولو كانت مرجعيتها روائية وتطبيقات تراثية لا علاقة لها بالنص الأول من حيث الابتداء، هذه الجماعات تجاوزت حد الخطاب إلى الفعل، بيد أن الخطاب الذي تحمله لا يختلف عن خطاب السلفيات الدينية والمذهبية في عالمنا العربي والإسلامي، فما زالت النظرة الخلاصية للدولة في صورتها الماضوية حاضرة، والعديد من أدبيات هذه الجماعات الحركية المتطرفة لا يختلف تماما عن الذي يطرح في الجامعات والمساجد، وما نراه أيضا في الكتب الدينية التقليدية فيما يتعلق بالحكامة، وتصنيف المختلف الديني والمذهبي، وكلاسيكية الولاء والبراء والتكفير والتفسيق، وإسقاطات ذلك على المعاملات والحدود والقوانين المدنية وما يماثلها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العقل الجمعی من جهة من حیث
إقرأ أيضاً:
إقبال دبلوماسي كثيف نحو السودان.. كيف يمكن أن تتم ترجمة نتائجه على أرض الواقع
شهد الأسبوع الذي انقضى، وهذا الذي يكاد، نشاطاً دبلوماسياً أجنياً غير معتاد في العاصمة الإدارية بورتسودان، إذ أقبلت على المدينة الساحلية وفود من جهات متعددة، إقليمية و دولية، للتباحث مع المسؤولين في حكومة الأمل، حول ما الذي ينبغي فعله لتخفيف وطأة الحرب على السودانيين.
ما وراء الحراك:
مصدر دبلوماسي رفيع، فسَّر لـ”المحقق” هذا “التدافع نحو السودان” بسببين رئيسيين، أولهما ما بدأ يلوح في الأفق، من احتمال التوصل إلى وقف لإطلاق النار، على خلفية الحراك الذي أحدثته المبادرة الأمريكية السعودية، وما يتصل بها من مبادرة المجموعة الرباعية، وبالتالي رأت العديد من الجهات أنه عليها أن تكون حاضرة “في الميدان” قبل أن يصبح وقف إطلاق النار أمراً واقعاً، خاصة وأن العالم الغربي عموماً مقبل على عطلة أعياد الميلاد، وأن غالب المسؤولين فيه، سيغيبون عن ساحة الفعل السياسي، قريباُ و لنحو أسبوعين.
أما السبب الثاني، برأي المصدر الرفيع، فهو أن حجم الكارثة الإنسانية والجرائم التي تعرض لها السودانيون، طوال سنوات الحرب، والتي تكشفت جوانب مرعبة منها للعالم، في أعقاب استيلاء مليشيا الدعم السريع على مدينة الفاشر، هز الضمير العالمي، ووضع صناع القرار في الدول الغربية والمنظمات الحقوقية الدولية، أمام حقائق كاشفة، يصعب تجاهلها، ولهذا لم يكن هناك بد من التحرك.
أبعاد إنسانية:
ولفت المصدر، في حديثه لـ”المحقق” إلى أن جوهر الحراك الدبلوماسي الذي شهده السودان خلال الأيام العشرة الماضية، هو إنساني، تنموي، أكثر من كونه حراكاً سياسياُ، إذ أن طبيعة الوفود التي قدِمت إلى بورتسودان، تصنف في هذا الإطار.
مبعوثون غربيون:
خلال الفترة الماضية، زار عدد من المبعوثين الخاصين الغربيين بورتسودان، والتقوا بعدد من المسؤولين في الدولة، وتباحثوا في عدد من المجالات، وكان أبرز هولاء المبعوث النرويجي والمبعوث البريطاني، لكن هذا الحراك الدبلوماسي – يضيف المصدر – تصاعد بزيارة ثلاثية قام بها مبعوثون لما أسموا أنفسهم “دول شمال أوروبا”، وهي كل من السويد وفنلدا والنمسا، والتقوا خلال زيارتهم لبورتسودان برئيس الوزراء دكتور كامل إدريس، وبمسؤولين في مستشارية مجلس السيادة للعمل الإنساني، فضلاً عن لقائهم بالمسؤولين في وزارة الخارجية، وكذلك التقت وزيرة شؤون مجلس الوزراء، دكتورة لمياء عبد الغفار، بمنسقة الشؤون الإنسانية في السودان ، دينس براون، حيث قدمت المنسقة تنويراً عن الدور الذي تقوم به منظمات الأمم المتحدة من مساعدات للسودان في مجالات التعليم والصحة والعون الانسان، مؤكدة كامل استعدادها للتعاون مع الحكومة لإحكام التنسيق والتأكد من وصول العون الانسانى للمحتاجين، معربة عن أملها بأن يعم السلام كافة ربوع السودان.
وزارة المالية في قلب الحراك:
مصدر دبلوماسي رفيع، تحدث هو الآخر لـ”المحقق” لفت إلى أهمية النظر إلى النشاط الذي شهدته وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، ممثلة في وزيرها الدكتور جبريل إبراهيم، خلال الفترة الماضية، معتبراً أن ما حدث يمهد لتطبيع علاقات السودان المالية مع عدد من المؤسسات الإقليمية والدولية التي انخرطت بالفعل في الحراك الدبلوماسي الموجه للسودان.
ولفت المصدر إلى أنه خلال هذه الفترة، تباحث وزير المالية، مع صندوق النقد العربي، ومع البنك الأفريقي للتنمية، ومع مبعوثين من البنك الدولي ومع بعثة الصندوق الدولي للتنمية “إيفاد”، وأن هناك تفاهمات جديدة حدثت، سيجني السودان ثمارها في السنة المالية التي أقبلت.
حراك أممي سياسي وإنساني:
المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، رمطان لعمامرة، زار بورتسودان هو الآخر في بداية هذا الحراك الدبلوماسي، والتقى بكبار المسؤولين في الدولة وعلى رأسهم رئيس مجلس السيادة ورئيس الوزراء و وزير الخارجية، ومن المؤكد أنه أطلعهم على الجهود المشتركة التي تبذلها الأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي ومنظمة “إيغاد” والجامعة العربية والإتحاد الأوروبي، لإيجاد منبر للحوار بين الفرقاء السودانيين، وهو الحوار الذي بات الآن مهدداً بسبب إصرار هذا “الخماسي” على دعوة مجموعة “تأسيس” التي أضحت الواجهة السياسية لمليشيا الدعم السريع.
أما الجانب الأهم في الحراك الأممي، فهو الزيارة المطولة التي قام بها المفوض السامي لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي إلى السودان، والتي اختتمت أمس، وزار خلالها الولاية الشمالية و ولاية الخرطوم، ليقف على حجم الاحتياجات الإنسانية في معسكرات النزوح، ويستمع إلى شهادات ناجين من مأساة الفاشر، ويقف كذلك على الخطوات التي اتخذتها ولاية الخرطوم لترحيل اللاجئين الأجانب إلى معسكرات حدودية في كل من القضارف والنيل الأبيض.
وعلى الرغم من أن غراندي، ليس معنياً بموضوع النازحين، إلا أن طبيعة الوفد الذي رافقه، واللقاءات التي عقدها عقب عودته إلى بورتسودان مع رؤساء مكاتب الأمم المتحدة، ممثلين في منسقة الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة بالسودان، والمديرة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونسيف”، وممثلي منظمة الصحة العالمية، وغيرها، يوضح بجلاء أن الأمم المتحدة قررت الانخراط الإيجابي مع الحكومة السودانية لمعالجة الجوانب الإنسانية للآثار التي خلفتها حرب مليشيا الدعم السريع على الشعب السوداني والبنى التحتية في البلاد.
ماذا بعد ؟:
لا شك أن هذا الحراك الدبلوماسي، بجانبيه الثنائي ومتعدد الأطراف، لم يأت من فراغ، بل هو نتيجة تواصل دبلوماسي كثيف، قادته وزارة الخارجية وعدد من مؤسسات الدولة المعنية بالعمل الخارجي، لكن من المؤكد أن ذلك التواصل والانخراط يحتاجان إلى متابعة لصيقة حتى يصبح ما تم الإتفاق عليه خلالهما أمراً واقعاً، ويكون بوسع السودان أن يجني الثمار في أقرب الأجال.
المحقق – خاص
إنضم لقناة النيلين على واتسابPromotion Content
أعشاب ونباتات رجيم وأنظمة غذائية لحوم وأسماك
2025/12/12 فيسبوك X لينكدإن واتساب تيلقرام مشاركة عبر البريد طباعة مقالات ذات صلة وداع إفريقيا في “أقصر حرب في التاريخ”!2025/12/11 «المستشارة التى أرادت أن تصبح السيدة الأولى».. قصة لونا الشبل مع النظام السورى بعد فيديوهات مسربة مع بشار2025/12/09 السيسي يحبط خطة “تاجر الشاي المزيف في السودان”.. كيف أفشل الرئيس المصري تحرك الموساد؟2025/12/09 ما يزال وصول المنظمات الدولية إليها ممنوعاً.. الفاشر تتحول إلى “مسرح جريمة هائل”2025/12/07 الخرطوم تنهض من تحت الركام (1-3)2025/12/07 تقرير إسرائيلي يحذر من صاروخ مصري “قد يغير قواعد اللعبة”2025/12/07شاهد أيضاً إغلاق تحقيقات وتقارير المصارف السودانية في مصر … عقبات تنتظر الحلول 2025/12/04الحقوق محفوظة النيلين 2025بنود الاستخدامسياسة الخصوصيةروابطة مهمة فيسبوك X ماسنجر ماسنجر واتساب إغلاق البحث عن: فيسبوك إغلاق بحث عن