نجيب الحصادي… أفَلَ العقل المُنيف ومضى مَن أوقد البصيرة في ليل الفلسفة العربية
تاريخ النشر: 10th, July 2025 GMT
مطلع يوليو/تموز، ترجل المفكر والفيلسوف الليبي نجيب الحصادي عن صهوة العمر، مخلفا وراءه إرثا فكريا لم يصبغ يوما بالتكرار، إرث لا يوازيه في بهائه إلا صمته الأبدي الذي خيم على الأوساط الثقافية في ليبيا والعالم العربي.
ترك الحصادي -صاحب الذهن الوقاد المتأبي على الضحالة- إرثا معرفيا ينوء بثقله الحرف، ويشخص أمامه القارئ مبهوتا من سعة الإحاطة وبهاء الصنعة، ما يربو على 20 مؤلفا، كتب تنوس بين المنطق والتحليل، وبين مساءلة المقدس ومطارحة المسلم.
ولم يقتصر عطاء الحصادي على الإنشاء، بل كان في الترجمة طودًا لا يتزحزح، إذ نقل إلى لغة الضاد نصوصًا فلسفية مشتبكة وعتيدة دون أن تفقد بهاءها، ومن أبرزها: “الوضعية المنطقية” لألفريد جولز آير، و”ريادي فلسفة العلم” لبرنارد برودي، و”دليل أكسفورد للفلسفة”.
ولد الفيلسوف نجيب الحصادي في مدينة درنة شرقي ليبيا عام 1952، وتخرج من الجامعة الليبية، قسم الفلسفة، في العام 1973، ثم شد رحاله إلى الجامعات الأميركية، متنقلا بين جورج تاون وويسكونسن – ماديسون، ونال الدكتوراه عام 1983 بأطروحة في العقلانية العلمية ونقد تصور توماس كون.
أيضا، حمل رتبة الأستاذية منذ العام 1996، ودرس الفلسفة والمنطق وفلسفة العلم في الجامعات الليبية، ولازمه جيل من التلاميذ الذين تتلمذوا على يديه عقلا وأدبا.
وإزاء هذا الرحيل المهيب، التمست الجزيرة نت، أثره في ذاكرة من خبروه عقلا ومجالسة.
إعلان استقلال الفكرالقاضي بمحكمة البيضاء الابتدائية، مفتاح العلواني، وهو شاعر وصديق مقرب من نجيب الحصادي رحمه الله، يرى أن ما جعل الحصادي عصيا على الاصطفاف، قراره بأن يقف على ضفة الأسئلة متأملا ضفة الإجابات بارتياب متواصل، مسخرا جل وقته في تقويض المسلمات.
وبحسب حديث العلواني للجزيرة نت، كان نجيب "عقلا تشككيا نقديا، وظل بعيدا عن الجموع التي تطلب الولاءات من أي نوع: أيديولوجية أو دينية أو سياسية أو حتى فكرية.. فخرجت الأسئلة منه كأفكار متمردة على الروتين والتعود واليقين"، وفق تعبيره.
ويرى الشاعر وصديق الحصادي، أحمد يوسف عقيلة، أن رجلا في علم الحصادي ووعيه وعفته، من الطبيعي أن يكون عصيا على الاصطفاف، مشيرا إلى أن المرء حين يكون صادقا وعفيفا، فسيكون حتما عصيا على أي اصطفاف. واستطرد: مَن لا يطمع لا يصطف، حسب قوله.
فكيف كان يختار مشاريعه البحثية أو الترجمات أو كتبه؟ يقول العلواني للجزيرة نت، إن بحوث الحصادي وترجماته كانت منتقاة بعقل فيلسوف، إذ كانت تتجه نحو ما هو مفصلي، لكنه مخزون أو مهمل، فلم ينجرف مع تيار المباهاة الفكرية، بل كان يصطاد التساؤلات المهمشة على الرف، المتغافل عنها غيره لصعوبة دراستها أو وضعها فوق مصطبة الدراسة والنقد، وفق تصريحه.
وعمّا لم تنقله مؤلفات نجيب عنه من صفات، يجيب الشاعر عقيلة عن سؤال الجزيرة نت: "الحصادي الإنسان؛ كان عطوفا، محبا للخير، كثير العطاء للمحتاجين، وهذه صفات لا يعرفها إلا المقربون منه، كما أنه كان يحب الاستماع والحديث عن الأدب الشعبي، ويسألنا كثيرا عن بعض الأمثال الشعبية، وحتى عن بعض الأعراف السائدة، خاصة في حل الخصومات"، وفق تعبيره.
ويجيب العلواني: "إنصاته بحذر وانتباه، بصمت متأمل.. فما لا تجده في الكتب عن نجيب هو ما لا يمكن توثيقه، بل معايشته، والمتمثل في مروءة الفيلسوف وإنسانيته وأخلاقياته.. فلم يكن يدهم الأحاديث والمناقشات، بل يتسلل إليها بثبات حكيم، ويوجه أسئلته لا لهزيمة من أمامه، بل للوقوف وإياه على أرض مستوية"، حسب تعبير العلواني.
ويقول المصور المستقل محمد منينه، الذي يمتلك مركزا للفنون البصرية في مدينة درنة شرقي ليبيا -مسقط رأس الحصادي- إن نجيب، رحمه الله، لم يكن متعاليا في لغته، ولا متكلفا في فكره، فلم تنقل كتبه نبرته الهادئة وطريقته في طرح السؤال لا الجواب، إذ لم تنقل مؤلفاته صفات الحصادي الإنسان، الذي كان يفرح بميلاد المبدعين في أي مجال. كان هادئا في حضوره، لا يتحدث إلا بما ينفع، كريما معطاء، وكان دعمه لمن يحب فعلا لا قولا.
أبوة فكريةوعن علاقته بطلابه ومن يحضرون محاضراته، يقول رفيقه الشاعر أحمد يوسف عقيلة، إن الحصادي كان حريصا على تبسيط علمه وترجماته، وفي محاضراته التي يحضرها غير المتخصصين، كان أحيانا يذكر المصطلح ثم يعيد شرحه بلغة سهلة تناسب مستمعيه. هذا إضافة إلى أنه اهتم بقضايا مجتمعه الراهنة، فألقى محاضرات عن الدستور والمصالحة الوطنية والهوية وغيرها.
إعلانالناقد السينمائي محمد بن عمران -أحد تلاميذ الحصادي- يقص للجزيرة نت بامتنان تفاصيل حادثة تعود إلى العام 2014، إبان اضطراره وأسرته للنزوح من منزلهم بسبب الحرب إلى حي كان يجاورهم فيه الدكتور نجيب، وفي خضم ذلك الانتقال القسري، لم يسعفه الوقت لجمع مقتنياته الشخصية، وكان مما فقده جهاز حاسوب، اعتاد أن يكتب عليه بكثافة عن شؤون السينما ونقد الأفلام -وهي اهتمامات لطالما استرعت انتباه نجيب وأثارت تقديره- فما إن بلغ الحصادي الخبر عن طريق والد بن عمران، حتى استدعاه وسلمه أربعة أجهزة حاسوب مستعملة، نظيفة ومهيأة للاستعمال، قائلا له: "اختر واحدا منها لنفسك، وتبرع بالبقية لإحدى الجهات الخيرية، لكن لا تنس أن تستخرج مستندا رسميا يؤكد التبرع"، حسب بن عمران.
وأكد بن عمران -الذي يرى أن ما ميز مشروع الحصادي الفكري عمن سواه هو حسه النقدي- أنه تعلم من نجيب عدم وجود حقيقة مطلقة، "وأن معظم استدلالاتنا خاطئة، وأن طلب العلم رحلة طويلة، لا كمال فيها ولا نهاية، وأن المفكر الحقيقي لا يجب أن يتربع على عرش لا قيمة له، بل عليه أن يكون أقرب إلى الناس وقلوبهم، ويلتمس بساطة أرواحهم"، حسب تعبير بن عمران.
أما عن الفكرة التي طاردها عمرا ولم يغلق قوسها، يقول العلواني للجزيرة نت، إن أهم فكرة طاردها نجيب -والتي لو كان حيا، لظل يطاردها طوال حياته ولن يصل إليها- هي فكرة "اليقين"، التي جعلت نجيبا محتشدا بالتساؤلات والشكوك والريبة من كل إجابة جاهزة أو غير جاهزة، "إذ لطالما كان الشك دافعا لمواصلة ركضه خلف اليقين، وهو يعلم أنه لن يطاله.. وربما كان عدم الوصول هذا، في حد ذاته، مصدر استمتاعه بالفلسفة"، وفق وصفه.
كيف يرى الحصادي الرحيل؟في تدوينة للحصادي رحمه الله عبر حسابه على منصة فيسبوك تعود لعام 2019، قال: "سألني صديق، سؤالا محرجا بعض الشيء، عما إذا كنت أستعجل إتمام ما أنجز من تراجم ودراسات خشية المنية.. فاستشهدت في ردي عليه بقول أرنت حنة: إذا مت غدا فقد أنجزت ما يكفي.. وإذا لم أمت غدا فأمامي كثير لإنجازه" حسب تدوينته.
ويرثي العلواني رفيقه: "لقد خسرنا برحيل نجيب رجلا تمكن من تعبيد المسافة بين العلم والعمل، وبين المشهد الأدبي والمشهد الأكاديمي.. فنجيب لم يكن فيلسوفا عابرا، بل حاول تطويع الفلسفة لتشارك حتى في رأب الصدوع الوطنية والاجتماعية والسياسية وغيرها.. فكان رجل عدالة انتقالية ومصالحة وطنية وارتقاء أكاديميا، وكانت ندواته وورش عمله ومؤتمراته وأبحاثه ومشاريعه العلمية وكتبه وترجماته، كلها تصب في نبع واحد، وهو الحاجة الملحة لها على كل صعيد: فردي ووطني وعربي وعالمي"، حسب حديثه للجزيرة نت.
ودعا العلواني إلى ترجمة أعمال نجيب -كتبه وأبحاثه- إلى لغات أخرى، وإقامة جائزة سنوية للفلسفة باسمه، إلى جانب البحث عن مشاريع كان يسعى للبدء فيها أو إعادة ترميمها أو استكمالها، والتكفل بها وإنهائها كما كان يأمل.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات اجتماعي للجزیرة نت بن عمران
إقرأ أيضاً:
قيادي بالجماعة الإسلامية للجزيرة نت: الهند تنتهك حقوق السجناء الكشميريين
إسلام آباد- في ظلمات السجن تختفي معاناة العشرات من السجناء السياسيين في الشطر الهندي من كشمير، الذي تم ضمه "بالقوة" إلى السلطة الهندية في عام 2019.
ويعاني عديد من القيادات والنشطاء بالمقاومة الكشميرية في إقليم جامو وكشمير ظروفا إنسانية قاسية تهدد حياتهم في ظل التشديد عليهم ضمن الإجراءات الهندية في الإقليم. وتشمل معاناتهم الحرمان من الزيارات والإهمال ومنع الكشف الطبي، مما أدى إلى إصابتهم بأمراض خطيرة.
من بين المعتقلين عبد الحميد فياض، أمير الجماعة الإسلامية في جامو وكشمير (الشطر الهندي من كشمير)، الذي يقبع خلف القضبان وسط ظروف صحية غامضة وحرمانه من الاتصال بعائلته.
إدانة باكستانيةودان أمير الجماعة في كشمير الباكستانية مشتاق أحمد خان -في بيان حصلت الجزيرة نت على نسخة منه- الاعتقال "الظالم" لفياض، قائلا إن السلطات الهندية تصر على حرمانه المتعمد من العلاج والرعاية الطبية.
كذلك دانت وزارة الخارجية الباكستانية -يوم الجمعة الماضي- استمرار اعتقال السجناء السياسيين الكشميريين في السجون الهندية، مشيرة إلى القيادي شابير شاه، الذي يعاني سرطان البروستاتا، واستنكرت رفض محكمة هندية الإفراج عنه بكفالة رغم مرضه الذي قالت إنه من الصعب علاجه في "بيئة السجن".
من جانبه، قال مسؤول العلاقات الخارجية للجماعة الإسلامية بالشطر الباكستاني من كشمير خالد محمود خان -للجزيرة نت- إن هذه الإجراءات المتشددة جاءت مباشرة بعد اعتقال كل القيادات الكشميرية، وعلى رأسهم ياسين ملك وشابير شاه وعبد الحميد فياض، وذلك بعد إلغاء حكومة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي الحالة الخاصة بكشمير عام 2019.
وأضاف خان أن فياض "وقف بكل قوة ضد القرار الهندي بضم الإقليم، وناشد الشعب الكشميري الوقوف ضد هذا القرار الجائر، الذي بسببه تم القضاء على حركة المقاومة الكشميرية".
إعلانووفقا له، فإن القادة الكشميريين ممنوعون من الزيارات، ومن بينها الزيارات العائلية، ومن العلاج الطبي ويعانون أوضاعا صحية صعبة، لدرجة أن عددا منهم لا تُعرف ما الأمراض التي أصابتهم. وأشار إلى أن شابير شاه يعاني سرطان البروستاتا، في حين يحتاج عبد الحميد فياض لعملية جراحية عاجلة.
وأوضح أن رئيسة وزراء جامو وكشمير السابقة، حبيبة مفتي، ورئيس تحالف الأحزاب الكشميرية سابقا، مير واعظ عمر فاروق، طالبوا الحكومة الهندية بتوفير العلاج اللازم لفياض.
وأكد أن ما تقوم به السلطات الهندية "بحق القيادات الكشميرية يعد انتهاكا واضحا لحقوق الإنسان، التي يجب أن يحظى بها أي سجين سياسي في العالم".
وحسب خالد خان، تمنع الحكومة الهندية الاتصال بشكل كامل بين الكشميريين في الشطرين الهندي والباكستاني، مشيرا إلى أن بعض العائلات في كشمير الهندية يُمنعون من التواصل مع أقاربهم في الشطر الباكستاني، ويعتبر ذلك جريمة.
كما أضاف أن الجماعة الإسلامية في كشمير الباكستانية لا تستطيع التواصل مع نظيرتها في الشطر الهندي، وذلك بعد سيطرة الهند على إقليم جامو وكشمير، وحظر جميع أنشطتها ونشاطات المقاومة الكشميرية حظرا كاملا.
وعن دور الجماعة في المقاومة الكشميرية، قال خالد خان إنه أساسي، لأنها منذ اليوم الأول "لاحتلال" الإقليم لم تعترف بالسيطرة الهندية، وتمارس المقاومة السلمية عبر مدارسها والأنشطة السياسية المختلفة، مشبها دور الجماعة "بدور حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في فلسطين".
وحسب خالد خان، كان للجماعة دور واضح في بث الوعي لدى الكشميريين بعدم مشروعية السيطرة الهندية على جامو وكشمير، وطالبت بحق الشعب الكشميري في تقرير المصير والانضمام إلى باكستان أو الهند، و"هذا ما قررته الأمم المتحدة".
وذكر أن نحو 80% من "الشهداء" والجرحى في الإقليم من الجماعة الإسلامية، واعتبرها أكبر منظمة مقاومة تعمل في جامو وكشمير.
من جهته، قال المحلل السياسي المختص في الشأن الكشميري، خواجة كاشف مير، إن هذه الجماعة لطالما كانت العمود الفقري الأيديولوجي للمقاومة الكشميرية، ولها جذور عميقة في التعليم والرعاية الاجتماعية والتعبئة السياسية، إذ برز من صفوفها قادة مثل سيد علي جيلاني وأشرف سهراي، كما كانت تُدير مئات المدارس والبرامج الاجتماعية قبل حظرها عام 2019.
وأضاف مير -للجزيرة نت- أنه بعد أغسطس/آب 2019، حظرت الهند الجماعة بموجب "قانون مكافحة الإرهاب"، واعتقلت أكثر من 3 آلاف عضو واستولت على أكثر من 200 مؤسسة.
خطوة إستراتيجية
كما يقول مدير قسم الدراسات الهندية بمعهد الدراسات الإستراتيجية في إسلام آباد، خورام عباس، إن الجماعة الإسلامية، من وجهة النظر الباكستانية، كانت ركيزة أيديولوجية وتعليمية وتنظيمية رئيسية لحركة المقاومة الكشميرية. وقد أكسبتها شبكاتها الشعبية ودعمها لحق تقرير المصير نفوذا بين الشباب والمثقفين.
وأضاف عباس -للجزيرة نت- أن باكستان ترى أن حظر الهند للجماعة وقمع أعضائها محاولة لتفكيك البنية التحتية الاجتماعية والسياسية الداعمة للمقاومة. ومن هذا المنظور، يُعتبر إضعافها خطوة إستراتيجية من جانب نيودلهي لتمزيق التماسك الداخلي للحركة الكشميرية.
إعلانومنذ إعلان السيطرة على جامو وكشمير في أغسطس/آب 2019، اتخذت نيودلهي عديدا من الإجراءات لحظر الجماعات والحركات السياسية الكشميرية الرافضة "للاحتلال" الهندي لكشمير.
في هذا السياق، يقول كاشف مير إن استخدام قانون السلامة العامة، الذي يسمح بالاحتجاز دون محاكمة لمدة تصل إلى عامين، لا يزال أداة قانونية أساسية للقمع. وأوضح أنه في عام 2023 وحده، احتُجز أكثر من 500 كشميري بموجب قانون الأمن العام ونُقلوا إلى سجون هندية بعيدة، مما أدى فعليا إلى عزلهم عن عائلاتهم.
وحسب عباس، ترى باكستان أن التصعيد الأخير للإجراءات الهندية -خاصة منذ الإجراءات الأحادية الجانب التي اتخذتها في الخامس من أغسطس/آب 2019- جزء من إستراتيجية متعمدة لسحق المقاومة الكشميرية وتغيير الطابع الديمغرافي للمنطقة.
وأضاف أن تزايد العسكرة، وقمع المعارضة، وتقييد الحريات المدنية، وقمع وسائل الإعلام، يهدف إلى إسكات أصوات تقرير المصير، و"لكن ما يحدث هو العكس، إذ زادت هذه الإجراءات من عزم الكشميريين على مقاومة الاحتلال الهندي".