الخرطوم- بخطوات متثاقلة تحاول العاصمة السودانية الخرطوم النهوض من تحت الركام. المدينة التي كانت تعج بالحياة تحوّلت معظم مناطقها إلى أطلال بفعل عامين من الحرب.
من الوهلة الأولى لدخول الخرطوم تتضح لك آثار الحرب، الرصاص رسم لوحات دامية على جدران المنازل وبعض أبنيتها الشاهقة، فوارغ الذخيرة تبدو واضحة على الطرقات لا سيما بالقرب من المناطق العسكرية عند مداخل المدينة، مثل الجيلي شمالا حيث آثار معركة بائنة شهدت أعنف أنواع الأسلحة الجوية والبرية، وسالت دماء غزيرة على التراب والأسفلت.
تمكن الجيش السوداني من استعادة كامل مدينة بحري شمالي الخرطوم من قوات الدعم السريع المتحصنة بمصفاة الجيلي للبترول، التي كانت بمثابة خط دفاعها الأول.
مدينة بحري أحد الأضلاع الثلاثة المكونة لولاية الخرطوم (الخرطوم، وبحري، وأم درمان)، بها أعرق الأسواق والمدارس والجامعات والساحات العامة وكلها خضعت لسيطرة قوات الدعم السريع لمدة أكثر من عام ونصف، وتمكن الجيش مؤخرا من استعادة السيطرة عليها، بيد أنها تبدو جريحة تائهة.
وفي أحياء بحري الطرفية مثل الدروشاب والسامراب والكدرو، بدأت الحياة تعود جزئيا بعد عودة بعض الأسر إلى منازلها وبعض المتاجر والمحلات التجارية المختلفة للعمل، وعودة حركة المواصلات الداخلية.
بيد أن تلك الأحياء تعاني من انقطاع التيار الكهربائي منذ أكثر من 10 أيام وسط معاناة في الحصول على المياه.
إعلانويُظهر التوغل جزئيا صوب وسط بحري، حيث أحياء الحلفايا وشمبات والمزاد والأملاك، فصول الحرب والمعاناة.
وتبدو فصول تلك المعاناة في أن تلك الأحياء كانت خاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع بشكل كلي منذ بداية الحرب، وغادرها معظم سكانها إلا قليلا ممن بقوا تحت إمرة تلك القوات التي كانت تقيّد حركتهم، حسب روايات منقولة من سكان أحياء بحري.
وتتجلى مظاهر الحرب في هذه المدينة بوضوح، حيث توقفت الأسواق تماما، وتعطلت جميع محطات الكهرباء والمياه، بل تدمرت كليا. ومصانع الدقيق التي كانت عنوانا بارزا فيها سُرقت ونُهبت بشكل كامل وتوقفت عن العمل، بحسب ما رصدته الجزيرة نت، وحركة مواصلاتها الداخلية توقفت كليا.
وعاد إليها قليل من السكان بعد استعادة الجيش السيطرة عليها في فبراير/شباط المنصرم، ومعظم العائدين من فئات الشباب. وعلمت الجزيرة نت أن عودتهم لبحري لحماية ما تبقى من منازلهم تمهيدا لعودة الأسر بعد استعادة خدمات الكهرباء والمياه والاتصالات.
حركة وحياة
ما بين بحري وأم درمان يوجد جسر واحد صالح للعمل وهو جسر الحلفايا رغم ما أصابه من ندوب وخدوش جراء المعارك، بينما توقف المعبر الآخر وهو جسر شمبات.
وفي جسر الحلفايا ثمة حركة سيارات تنقل المواطنين ما بين بحري وشرق النيل من جهة الشرق، وأم درمان من جهة الغرب.
وفي أم درمان، خاصة جنوبها، يرصد موفد الجزيرة نت مظاهر طبيعة الحياة خاصة عند مدخل جسر الحلفايا والاتجاه جنوبا وصولا إلى الجزيرة إسلانج وشمالا إلى أم درمان القديمة.
ولم تتأثر أحياء -مثل الحتانة والشاطئ وكرري- بالحرب كثيرا وشهدت اشتباكات استمرت 48 ساعة، بعدها سيطر الجيش عليها وطبع بها الحياة، بحسب شهادات الأهالي.
وفي شارع الوادي الأشهر بأم درمان تبدو الحياة كأنها لم تكن هنالك حرب، ازدحام مروري، ومتاجر تعمل، وباعة متجولون على الطرقات، وانتشار لرجال شرطة المرور، مقاهٍ ومطاعم تعمل وتعج بالناس.
إعلانوبالمضي إلى أحيائها القديمة المتاخمة للنيل مثل أبوروف، وود البنا والعباسية وود نوباوي، بدت الحياة أفضل، وعاد إليها شيء من البريق، رغم أن تقارير إعلامية تقول إن بعض أحياء أم درمان القديمة شهدت أشرس المعارك في مارس/آذار 2024، واستطاع الجيش استعادتها.
وفي أم درمان القديمة، الحياة تبدو عادية وحركة الناس تجاوزت مرحلة الحرب إلى مرحلة البناء، وعادت كثير من الأسر، بحسب ما رصدته الجزيرة نت من مشاهد في الأسواق والطرقات، كما عادت خدمات الكهرباء والمياه والاتصالات إلى تلك الأحياء.
في المقابل، لا تزال بعض أحياء شمال أم درمان وغربها بدءا من أحياء المهندسين والنخيل وأمبدة والصالحة تحت زخات الحرب، والخدمات منعدمة وأصوات الرصاص تُسمع بوضوح، ولم تسجل عودة ملحوظة للعائلات رغم استعادة الجيش لأجزاء واسعة منها.
وتبدو الخرطوم الأكثر تأثرا بالحرب، فهذه المدينة التي كانت مركز الحكم والنشاط السياسي والأسواق النشطة والعامرة والجامعات المكتظة بالطلاب وأكبر المستشفيات، كل ذلك ذهب في مهب الريح، وتكاد تكون الحياة متوقفة كليا فيها.
دمرت الحرب جميع أبراجها التجارية والحكومية التي كانت تمثل ملمحا من ملامح العاصمة مثل برج النيل للبترول وبرج الفاتح وبرج الاتصالات وبرج الساحل والصحراء. وجامعاتها أغلقت أبوابها بشكل تام وانتقلت للعمل في مدن أخرى.
أسواقها نُهبت وسُرقت منذ رصاصة الحرب الأولى وبنوكها حُرقت كليا، وتوقفت صحفها عن الطبع، وأغلقت منتدياتها السياسية أبوابها، ومساجدها هُجرت، وحركة الجسور التي كانت تنبض بالحياة توقفت عن الخفقان.
وفي وسط الخرطوم تبدو آثار الحرب أعنف، دبابات معطلة وسيارات قتالية محترقة، وسواتر ترابية في وسط الطرقات، وفوارغ رصاص تبدو آثارها واضحة على كل شيء بما في ذلك المساجد والكنائس، جثث تحولت لهياكل عظمية تسعى حكومة الخرطوم لسترها، وجدران لا تخلو من آثار الرصاص.
إعلانوتوقفت الحياة كليا وسط الخرطوم، الذي يعتبر مركز الحكم والسياسة، رغم استعادته بواسطة الجيش، فلا حركة به غير حركة سيارات الدفع الرباعي التابعة للقوات المسلحة.
أما القصر الجمهوري مركز الحكم والسيادة فيقف حزينا بعد أن ارتوت أرضه بالدماء من طرفي القتال، وتحولت القيادة العامة للجيش إلى واجهة للمعارك وستكون شاهدة على عصر الحرب في السودان.
وفي جنوب الخرطوم بدأت الحياة تعود تدريجيا في بعض الأحياء مثل الكلاكلة وطيبة حيث شهدت أسواق الكلاكلة عودة جزئية مع انتشار للجيش لتأمين الناس وحركة الحياة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الجزیرة نت التی کانت أم درمان
إقرأ أيضاً:
أزمة نفسيّة متفاقمة داخل “الجيش” الإسرائيلي
منذ اندلاع حرب طوفان الأقصى، التي دخلت شهرها العاشر من دون أفقٍ للنهاية، يتكشّف يومًا بعد آخر، وبحسب التقارير الإسرائيليّة الرسميّة والإعلاميّة، عن بذور لظاهرة الأزمة النفسيّة المجتمعيّة داخل “إسرائيل”، ولا سيّما في صفوف جنود الجيش، الذين لم يعودوا فقط قرابين للكمائن أو العبوات الناسفة لحربٍ بات يصفها منتقدوها بالحرب العبثيّة الأبديّة، غير واضحة الأفق والمآل، بل باتوا أيضاً أسرى لاضطرابات نفسيّة خطيرة تفجّرت على وقع استمرار إعلانات الـ”سمح بالنشر” وعدّاد القتلى والجرحى في قطاع غزّة، وذلك إلى جانب المآزق الأخلاقيّة والانتهاكات الميدانيّة التي دفعت بكثيرين منهم إلى حافّة الانهيار، بل وما بعدها.
من الجبهة إلى العيادة
شهادات الأمّهات، كقصّة والدة الجندي التي وصفت بيتها بأنّه “حقل ألغام عاطفي”، تنقل معاناة لا تُرى، لكنها تلتهم أرواحًا شابّة تنوء تحت عبء الحرب المستمرّة.
وتحكي عن قصص المصابين بصدمات الحرب حيث لا يعود الجنود كما كانوا، بل يعودون من الخدمة ونفوسهم محطّمة ومرهقة. هذا الانفجار الداخلي يتجلّى في المعطيات الرسميّة: أكثر من 3769 جندي اعترف بهم الجيش كمصابين باضطراب ما بعد الصدمة منذ بدء الحرب، وأكثر من 10,000 آخرين يواجهون أزمة نفسيّة، في حين تشير التقديرات إلى أنّ تزايد الأعداد سيصل في الفترة الزمنيّة القريبة إلى حوالي الـ50 ألف شخص غالبيّتهم بسبب الحرب المستمرّة في غزّة، وأنّ نصف مصابي الجيش الإسرائيلي المتوقّعين حتى العام 2028 سيعانون إعاقات نفسيّة دائمة، سترفع رقم الجرحى المسجلين والمعاقين المعترف بهم من قبل شعبة التأهيل في وزارة الأمن الإسرائيليّة إلى ما لا يقلّ عن 100 ألف معاق، وهذه الأرقام كما تشير التقارير وإن كانت صادمة، ليست سوى قمّة جبل الجليد الآخذ بالتصاعد.
الأخطر من المعطيات هو ما تكشفه الظواهر النفسيّة ذاتها. اضطراب ما بعد الصدمة، الذي يظهر في استمرار العيش بدوامة الحدث الصادم والتي تتجلى أهم أعراضها، بالأرق الدائم، ونوبات غضب، وتجنب اجتماعي، وانفصال عن الواقع، وكوابيس واضطراب مصاحب في المزاج، هذه المعطيات لا تشير إلى مجرّد ضرر نفسي عابر، بل بداية لظاهرة انهيار عميقة في البنية المعنويّة داخل المجتمع الإسرائيلي. فعندما يكون المصاب جنديًّا مقاتلاً، يصبح الاضطراب تهديدًا مباشرًا لقدرة الجيش على القتال، ولصورة “الصلابة والصمود النفسي” الذي لطالما تباهت بها المؤسّسة العسكريّة الإسرائيليّة.
انهيار “الصلابة النفسية”
مصطلحات مثل “المرونة النفسيّة” و”الصلابة والصمود النفسي” لم تعد تنطبق على من يعانون من كوابيس الحرب والقتال وصرخات الجرحى وصور أصحابهم القتلى من الجنود. لقد عَبَر الكثر من جنود الجيش الإسرائيلي ما يُعرف في علم النفس بـ”عتبة الانفجار النفسي”، وهي اللحظة التي لا يعود فيها الجسد والعقل قادرَين على التحمّل. فيصبح الهروب من القتال، ورفض تنفيذ الأوامر، وارتفاع نسب الانتحار ظاهرة تتجاوز توصيف الحالات الفرديّة، بل تصبح مؤشّرات على اهتزاز بنية الصمود الداخلي للمنظومة العسكريّة.
رفض الخدمة لم يعد محصورًا في جماعات “يساريّة” أو معارضة لسياسات الحكومة ورئيسها، بل بات سلوكًا دفاعيًّا يلجأ إليه جنود عاديّون أنهكتهم الحرب. الجنود من لواء النخبة الناحل 933 الذين رفضوا تنفيذ أمر الدخول إلى القتال في قطاع غزّة، وأُرسلوا إلى السجن، والجندي الذي انتحر بعد أشهر من عمله في وحدة التعرّف على الجثث، وتزايد حالات الانتحار كلها تكشف عن حالة التصدع النفسي الذي يضرب داخل الجيش. عندما يتحوّل القتل إلى “روتين يومي”، تفقد المعايير الأخلاقيّة معناها، ويتحوّل الجندي إلى كائن هشّ يبحث عن مخرج – أحيانًا عبر التمرد، وأحيانًا عبر الموت.
الصمت الأعلى: أخوّة الضباط ونادي الذكورة المنهار
في هذا المشهد، يبرز “صمت القادة” بوصفه صمتًا منهجيًا لا يمكن فصله عن المنظومة. المتخصّص في الشؤون الأمنيّة والعسكريّة يوسي ملمان وصف صمت الجنرالات بـ”صمت الخراف”، مدفوعًا بمصالح متشابكة داخل نادٍ مغلق من الضباط. الصمت ليس فقط أخلاقيًّا، بل هو صمت على مأساة نفسيّة تتفشّى على حدّ قوله في المؤسّسة العسكريّة من أعلى الهرم حتى أدنى الجنود. الجنود يتحدّثون عن ضباط يمنعونهم من التذمّر أو حتى الحديث مع أهاليهم، ويهدّدونهم بالسجن إن أبدوا هشاشتهم. إنّه قمع مزدوج: قمع للعدو وقمع للنفس.
الانتحار: حين تفشل كلّ الآليّات الدفاعيّة
الانتحار هو الكارثة القصوى. منذ بداية الـ2025، أُعلن عن المئات من الجنود الذين وصلوا إلى أوضاع متطرّفة استدعت دخولهم إلى مؤسسات استشفائيّة نفسيّة قسرًا فيما سُمح بالنشر والكشف عن 17 حالة انتحار منذ بداية العام الحالي 2025 لا تشمل جنود جيش الاحتياط – وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الحروب الإسرائيليّة. ومن المتوقّع، بحسب علماء النفس، أن يرتفع هذا الرقم أكثر بعد انتهاء الحرب، حين تبدأ الأعراض المتأخّرة بالظهور. هؤلاء المنتحرون ليسوا فقط من المقاتلين، بل يشملون أيضاً جنودًا في وحدات الدعم، مثل وحدة التعرف على الجثث، ما يشير إلى أنّ “خط النار” لم يعد يفصل بين الجنود المعرّضين للخطر والآخرين.
الجميع متورّط في الجبهة، حتّى من لا يطلق النار.
التمويل بدل العلاج: رشوة نفسيّة لتعويض الفشل
في مواجهة هذا الانهيار، اختارت المؤسّسة العسكريّة الإسرائيليّة خيار “المال بدل العلاج”. مضاعفة رواتب الاحتياط بثلاثة أضاعف قرابة الـ(8000 $) كمعدّل وسطي. دفع رواتب تعادل رواتب موظّفي الهايتك للجنود المرهقين، لا يشكّل حلاً نفسيًّا، بل إدمانًا جديدًا على الإنكار والتهدئة الاصطناعيّة. تعويض الجنود ماليًّا لإبقائهم في جبهة مهترئة معنويًّا، يعني فقط ضخّ المزيد من الوقود في نار الانهيار الجماعي.
نحو انهيار نفسي جماعي؟
ما يواجهه الكيان الإسرائيلي اليوم ليس مجرّد أزمة أمنيّة أو استراتيجيّة، بل أزمة نفسيّة جماعيّة قد تهدّد كيانها من الداخل. تآكل الجبهة الداخليّة، وانفجار الاضطرابات النفسيّة في صفوف الجنود والمدنيّين، وتفشّي الانتحار، كلّها إشارات إلى أنّ الحرب، ومع طول أمدها عسكريًّا، فإنّها ستتسبّب بالمزيد من التراجع في حافزية القتال وانخفاض الروح المعنويّة لدى الجنود وبالتالي المزيد من التراجع في جاهزيّة الجيش للاستمرار في الحرب وتضرّر تحقيق أهدافها المعلنة.
“لا هدنة للنفس” ليست مجرّد استعارة عابرة من الطبيبة النفسيّة الإسرائيليّة يردن لفينسكي، بل وصف دقيق لحالة جماعيّة من الإنهاك النفسي، يتوارى خلفها جيش يفقد بالتدريج قدرته على التحمّل، وتنهار داخله ركائز “الجاهزيّة النفسيّة” و”الاستعداد القتالي”، في ظلّ حرب لم تترك للكثيرين منهم حتّى حلم العودة… إلا في التوابيت أو مع إعاقات وجراح جسديّة ونفسيّة دائمة.
كاتب واستاذ جامعي لبناني