حين تنقشع سحبُ الماضي والحاضر، وتطلّ علينا ملامحُ المستقبل عبر فضاءات العلم الواسعة؛ فتلوح في الأفق طفراتٌ تقنية تتجاوز حدود التصور البشري بأشكال متعددة منها ما يمكن أن نصفه بـ «التقنيات الحيوية الثورية»، ومثل هذه التقنيات خصوصا بعد عام 2025، لم تعد في عداد التنظير العلمي المحصور في أروقة المختبرات، ولكنها غدت واقعا نافذا يتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية في: الصحة، والغذاء والصناعة، وكذلك نراه مساهما في إعادة تعريف الإنسان وتحديد مستقبله بوضوح مسبّق، وفي ظل هذه التطورات العلمية التي تعمل على إعادة تشكيل حياتنا، يبرز سؤالٌ ملّحٌ يفرض نفسه بإلحاح فلسفي متعدد الأوجه مفاده: أتمثل هذه التقنيات نافذةَ نجاةٍ للإنسانية من تحدياتها المعقدة، أم أنها تفتح أبوابا لمخاوف مجتمعية يمكن أن تعصف بأسس الهوية والأخلاق؟

شهد العالمُ قبل عام 2025 إرهاصات هذه الثورة عن طريق التقدّم المدهش في الهندسة الوراثية مثل تقنية كريسبر (CRISPR) التي أتاحت إمكانية التعديل الدقيق على الجينات البشرية ورسم خريطة الإنسان الصحية بشكل مذهل، ولكن منذ دخولنا عامنا هذا؛ فإننا نشهد مظاهرَ علمية أكثر جرأة؛ حيث نشهد تطبيقات حقيقية للذكاء الحيوي الاصطناعي «Bio-AI» والأعضاء الاصطناعية الحيوية المزروعة، واللحوم المستزرعة مخبريا، والمزارع الجينية، واللقاحات المُعدَّلة حسب البنية الوراثية الفردية؛ فتستدعي مثل هذه التقنيات إعادة النظر في فهمنا للحياة وتفاصيلها الجزئية المعقدة بما في ذلك المعاناة والمرض وفكرة الخلود البيولوجي، وفي الوقت نفسه؛ فإنها تفرض على الفكر البشري مراجعات أخلاقية عميقة.

من حيثُ البعد الاقتصادي، تحمل هذه الطفرات فرصا قلّ نظيرها؛ فيمكن لتقنية التعديل الجيني في الزراعة أن ترفعَ من إنتاجية المحاصيل وتقضي على المجاعات وأزماتها في العالم، ونرى في العلاجات الجينية فرصا في تقليل كلفة علاج الأمراض الوراثية والمزمنة، وهذا ما يمكن أن يُحدث تحولا نوعيا في نظم الرعاية الصحية العالمية.

كذلك، فإن التوسّع في تصنيع الأعضاء من خلايا جذعية بشرية يمكن أن يُنهي مأساة قوائم الانتظار الطويلة لزراعة الأعضاء، ويفتح سوقا حيوية ضخمة تتجاوز تريليونات الدولارات في غضون عقدين. لكن لمثل هذه الفتوحات التقنية زوايا أخرى لا تأتي ببراءتها المطلقة، فكما يولد النور من رحم الظلام؛ فإن هذه التقنيات بنورها الذي أشرنا إليه آنفا تخفي في أعماقها مساحتها المظلمة التي تحفّ بها أسئلة وجودية قلقة منها: من يملك الحق في تعديل الجينات البشرية؟ وهل يصبح الأغنياء «كائنات مطوّرة» على حسابِ فقراءَ محكومين بيولوجيًا بالعجز والمرض؟ وهل سيُعاد تشكيل مفهوم «الإنسان» ليصبح أقرب إلى منتج صناعي منه إلى كائن طبيعي؟ هنا تتقاطع أسئلة الفلسفة مع تحديات الأخلاق والتفوق التقني غير الواضح، وينعكس «التمييز الجيني» باعتباره تهديدا للنسيج الاجتماعي والبنية المجتمعية؛ فيمكن أن يُمنح التفوّق الوراثي امتيازا طبقيا جديدا يُكرّس الفوارق بدل أن يردمها.

بالإضافة إلى ذلك؛ فثمّة قلق متصاعد من تحوّل البيانات البيولوجية الفردية إلى سلعة تُباع وتشترى -وهذا ما سبق أن حذرنا منه في مقالات سابقة تتعلق بثورة الذكاء الاصطناعي وتداخلها مع البيانات بما فيها بياناتنا البيولوجية التي باتت مكشوفة عبر ما يعرف بالفحص الجيني «DNA»-؛ فيجعل من الإنسان سلعةً مكشوفةً بيولوجيًا أمام الشركات والحكومات بتعدد نواياها وأهدافها سواء التجارية أو السياسية. في عالم يمكن أن يُقرأ فيه الجينوم كما تُقرأ جملة مكتوبة، تصبح الخصوصية متاحة ومنتهكة، والمستور مُباحًا؛ ليضعنا أمام إشكاليات سياسية وأخلاقية في غاية التعقيد؛ فنتساءل: كيف نضمن ألا تتحوّل أدوات التفوق الصحي إلى وسائل للهيمنة والتحكّم وأدوات لانتكاسة أخلاقية ومجتمعية إنسانية جديدة؟

وبين دفتي الحلم والهاجس، تتكئ هذه التقنيات على مفترق طرق؛ فالإنسان الذي يصوغ مسارات حياته عبر أدوات قاده عقله إلى صناعتها، يجد نفسَه أمام سؤال جوهري مهم آخر: هل ستظل التقنية أداةً في يد الإنسان أم ستتحوّل إلى سيّد جديد يعيد صياغة الإنسانية ومصيرها؟ ولعلّنا مع مواجهة جديدة مع ما يمكن أن نطلق عليها «الغطرسة العلمية» التي تأتي فارغةً من الجوهر الفلسفي والأخلاقي؛ فإنها تقودنا إلى مستقبلٍ فاقدٍ للمعنى حتى لو وافق أهدافنا العلمية التي تعكس تطورًا في نظامنا الصحي، ولعلّ الرهان الأكبر يكمن في الموازنة بين الممكن والواجب، وبين ما نستطيع فعله علميا وما ينبغي فعله إنسانيا؛ فالعقل العلمي، حين لا يتهذّب بحكمة أخلاقية وفلسفية؛ سيسلك طريقا مفرغا من القيم الإنسانية؛ ليُنتج عالَمًا مشوّها رغم بريقه الظاهر، وهنا لست بصدد الانتقاص من قدر العلم ومكانته، ولكنني أمنح نفسي حق الإقرار أن العلم سلاحٌ ذو حدين؛ فيكون نفعه وخيره حال التصاقه بالمنهج الأخلاقي، وإلا فإنه أشبه بكابوس جاثم على البشرية ولنا في القنبلة النووية والأسلحة البيولوجية وخوارزميات الذكاء الاصطناعي المتمردة والقاتلة خير مثال على ما نقصده.

نأتي إلى الإقرار أنه لا يمكن الفصل بين الأبعاد الاقتصادية والسياسية والمجتمعية لهذه التقنيات؛ إذ يمكن أن نعتبر هذه الأبعاد مرتبطة بعضها بعضا؛ فكل طفرة اقتصادية وسياسية لا تستند إلى عدالة اجتماعية؛ فإنها بمثابة إعصار يسبق العاصفة، ولذلك؛ يتطلب المستقبل خطابا معرفيا مركبا يجمع بين العقل العلمي والبصيرة الفلسفية والضمير الإنساني؛ لنؤكد أن مثل هذا التآلف يمكن أن يجعل من التقنيات الحيوية الثورية فرصةً لتحرير الإنسان لا لتشويهه، ولتعزيز إنسانيته لا لتقويضها، ويمكنه أن يسمح للأطر الأخلاقية أن تأخذ مساحتها المسلوبة؛ فتعيد إلى الإنسانية ومجتمعاتها حقوقها العلمية التي تعطي رحيقها لا سمومها؛ فنتساءل: أنملك الشجاعة والقدرة لتوجيه هذه القاطرة المتسارعة نحو مستقبل عادل، أم سنتركها تمضى بلا بُوصلة في دهاليز اللايقين؟ والجواب ليس في المعامل والمختبرات وحدها، ولكن في ضميرنا الجمعي وفى إرادتنا على تحويل العلم إلى حكمة، والتقنية إلى إنصاف.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذه التقنیات یمکن أن ی

إقرأ أيضاً:

وزيرة النقل تؤكد مواصلة تنفيذ المشاريع الحيوية

صراحة نيوز ـ أكدت وزيرة النقل المهندسة وسام التهتموني، أن الوزارة ماضية في تنفيذ مشاريعها الحيوية، مشيرة إلى أهمية تضافر الجهود وتحمل المسؤوليات للنهوض بالقطاع وتحقيق أهدافه الاستراتيجية بما يعود بالنفع على الوطن.
وقالت التهتموني خلال احتفال الوزارة بعيد الاستقلال التاسع والسبعين، إن الاستقلال ليس مجرد مناسبة وطنية، بل محطة تأمّل واعتزاز بالإنجازات المتحققة في شتى القطاعات، وعلى رأسها قطاع النقل الذي شهد في السنوات الأخيرة نقلة نوعية بفضل التوجيهات الملكية السامية.

ورفعت الوزيرة التهتموني أسمى آيات التهاني والتبريكات لجلالة الملك عبدالله الثاني وسمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني بهذه المناسبة.

من جهته، أكد أمين عام الوزارة فارس أبو دية، أن هذه المناسبة المجيدة تعكس تضحيات الأردنيين الأوائل الذين صنعوا الاستقلال، مشيرا إلى أن الوزارة كانت وما تزال جزءا أساسيا من مسيرة البناء الوطني، ومستمرة في تنفيذ استراتيجيتها الشاملة لتطوير منظومة النقل البري والبحري والجوي، وبما ينسجم مع رؤية التحديث الاقتصادي.

وكرمت التهتموني، خلال الحفل، عددا من الموظفين المتميزين وسلمتهم شهادات تقديرية على تفانيهم في العمل وجهودهم الدؤوبة في خدمة القطاع.
وتخلل الحفل فقرات فنية قدمتها فرقة أمانة عمان، تضمنت أغاني وطنية جسدت مشاعر الفخر والاعتزاز، كما عزفت مقطوعات موسيقية استحضرت رمزية الاستقلال وعمق الانتماء الوطني

مقالات مشابهة

  • 112 كادرًا متخصصًا من التدريب التقني بالجوف لفحص وصيانة مركبات الحجاج بأحدث التقنيات
  • «ماستر كلاس»: التقنيات الحديثة تعزّز الحضور والتأثير
  • دراسة توضح كيفية تناول الطعام بعد المضادات الحيوية
  • الدكتورة سميرة إسلام.. سيرة حياة حافلة بالعطاء والريادة العلمية
  • مسيرات الدعم السريع تهاجم للمرة الثالثة على التوالي المنشآت الحيوية جنوبي البلاد
  • بالصور.. مأدبة عشاء في قصر العلم العامر تكريمًا للرئيس الإيراني
  • وزيرة النقل تؤكد مواصلة تنفيذ المشاريع الحيوية
  • لافتات كفرنبل الثورية تحط رحالها في محطة الحجاز وسط دمشق
  • خدمات النقل للحجاج.. خطط شاملة تُراعي الكثافات بأحدث التقنيات
  • اختتام الدورات الصيفية في مدرستي أبي ذر الغفاري العلمية وجيل القران المغلقتين بالبيضاء