الجزيرة:
2025-06-24@17:56:31 GMT

الصين وآسيان.. شراكة متنامية على صفيح ساخن

تاريخ النشر: 22nd, April 2025 GMT

الصين وآسيان.. شراكة متنامية على صفيح ساخن

"آسيا هي موطننا المشترك، ومستقبلنا يرتبط باستقرارها وتعاون شعوبها"، بهذه الكلمات لخّص الرئيس الصيني شي جين بينغ رؤية بلاده للمنطقة، مؤكدًا أنّ آسيا ليست مجرد جوار جغرافي، بل هي عمق إستراتيجي وحيوي لأمن الصين القومي ومجالها الحيوي في مواجهة التحديات الدولية.

تعتبر جمهورية الصين قارة آسيا وخاصة جنوبها الشرقي حلبة الصراع الحقيقية بينها وبين التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، خلال السنوات الأخيرة وربما ميدان المواجهة المقبلة.

ومع تزايد الحديث الغربي عن مواجهة الصعود الصيني خاصة في بحر جنوب الصين، تتشكل ملامح صراع ناعم ومعقد بين القوى الكبرى في المنطقة، ومع اشتداد الصراع الدولي على النفوذ، تحولت رابطة (آسيان) إلى ما يشبه ساحة مواجهة وصراع على التحالفات العسكرية والاقتصادية.

وفيما تروّج بكين نفسها كـ"شريك اقتصادي تنموي" للرابطة، ترى واشنطن الوجود الصيني خطرًا على مكانة الرابطة العالمية وسيطرتها على المنطقة، في حين تحاول دول الرابطة الموازنة في العلاقة بين الطرفين.

أصبحت الصين شريكا اقتصاديا لا غنى عنه لرابطة آسيان (مكتب رئيس الوزراء الماليزي) علاقات تاريخية واقتصادية

شهدت العقود القليلة الماضية تحولًا ملحوظًا في طبيعة العلاقة بين الصين وجيرانها، خاصة دول رابطة "آسيان" التي تحولت إلى قوة اقتصادية متنامية، يُصنف اقتصادها في المرتبة السابعة عالميًا، وتضم 10 دول هي إندونيسيا، وتايلاند، وفيتنام، وماليزيا، والفلبين، وسنغافورة، وميانمار، وكمبوديا، ولاوس، وبروناي.

إعلان

وبلغ الناتج المحلي الإجمالي لدول آسيان مجتمعة حوالي 3.86 تريليونات دولار أميركي في عام 2023، مما يضعها ضمن أكبر الكتل الاقتصادية في العالم، كما تُظهر بيانات عام 2023 أن إندونيسيا تصدرت دول الرابطة من حيث الناتج المحلي الإجمالي بقيمة 1.42 تريليون دولار، تليها تايلاند، سنغافورة، والفلبين. ​

ومنذ عام 2009 أصبحت الصين شريكًا اقتصاديًا لا غنى عنه للرابطة، حيث تجاوز التبادل التجاري بين الطرفين 975 مليار دولار عام 2023، إضافة لتقديمها مشاريع ضخمة في البنية التحتية ضمن مباردة "الحزام والطريق"، وقروضًا بمليارات الدولارات.

وتلعب مبادرة "الحزام والطريق" التي أعلن عنها الرئيس شي جين بينغ عام 2013، دورًا محوريًا في ترسيخ النفوذ الصيني بالمنطقة، حيث تسعى من خلال مشاريع البنية التحتية إلى بناء شبكات لوجستية وتجارية تضمن لها مرورًا آمنًا ومستقرًا لبضائعها نحو المحيط الهندي.

وتُعتبر اتفاقية التجارة الحرة بين الصين وآسيان، الموقعة عام 2010، واحدة من أقوى المحفزات للنمو التجاري بين الطرفين، إذ أزالت كثيرًا من القيود الجمركية وساهمت في تعزيز التعاون الاقتصادي العابر للحدود.

وساهم النهوض الصيني في التأثير إيجابيا على دول آسيان، خاصة من خلال نقل الإنتاج من الصين إلى هذه الدول، وزادت صادرات الصين إلى دول آسيان في عام 2023 حوالي 14.2% مقارنة بالعام السابق، واستثمرت الشركات الصينية حوالي 24 مليار دولار في قطاع التصنيع في دول آسيان، مع تركيز كبير على فيتنام وماليزيا.

خلافات عميقة

لكن هذا التعاون الاقتصادي، يمتزج بخلافات سياسية عميقة وتاريخية خصوصًا مع دول مثل فيتنام والفلبين وماليزيا، تتنازع مع الصين على السيادة في بحر جنوب الصين، بالإضافة إلى تصاعد المخاوف من الوقوع في "فخ الديون" أو فقدان السيطرة على مشاريع إستراتيجية ممولة من الصين، كما هو الحال في لاوس وكمبوديا، حيث تشير تقارير إلى ارتفاع نسبة الديون الصينية وتنامي النفوذ الاقتصادي لبكين على حساب السيادة الوطنية.

إعلان

لا يقتصر الدور الصيني في آسيان، على الجانب الاقتصادي، بل يمتد إلى الجانب السياسي والعسكري، إذ وفرت الصين على سبيل المثال غطاءً سياسيًا ودبلوماسيًا للنظام العسكري  في ميانمار، الذي جاء نتيجة انقلاب في فبراير/شباط 2021، وأطاح بالحكومة المدنية المنتخبة بقيادة أونغ سان سو تشي، عبر منع صدور قرارات من مجلس الأمن ضده، ودعمه ضمنيًا في المحافل الدولية بما فيها اجتماعات آسيان، رغم أنها لم تُعلن تأييدها الصريح للانقلاب.

وأثار هذا الدعم قلق عدد من دول آسيان، التي رأته يُضعف موقف الرابطة في دفع عملية السلام وإعادة الديمقراطية، ويُعقّد من إمكانية التوصل إلى موقف موحد تجاه ميانمار.

وفي عام 2018، اعتُبر موقف الصين من الأزمة السياسية في جزر المالديف -عندما أعلن الرئيس عبد الله يمين حالة الطوارئ واعتقل قضاة المحكمة العليا ومعارضين سياسيين متجاهلا أوامر المحكمة بالإفراج عن السجناء السياسيين- دعما ضمنيا للرئيس، وخلال حكم الرئيس يمين، وقّعت المالديف اتفاقية تجارة حرة مع الصين، ضمن مبادرة "الحزام والطريق".​

تعتبر الصين معظم بحر جنوب الصين جزءا من أراضيها الوطنية (رويترز) التوتر في بحر جنوب الصين

تُعد قضية بحر جنوب الصين المحور الأخطر في العلاقة بين الصين ودول آسيان، إذ تدّعي بكين أن لها حقوقا تاريخية على مساحات واسعة في هذه النقطة المائية، أو ما يُعرف بـ"خط التسع نقاط"، الذي يغطي مياهًا في تلك الدول، وتزعم أنّ هذا البحر يُعد تاريخيا جزءا من "التراب الأزرق" وهو مصطلح يستخدم للإشارة إلى المناطق البحرية التي تعتبرها بكين جزءًا من أراضيها الوطنية.

ويتضمن النزاع مناطق أرخبيل "سبراتلي" وجزر "باراسيل" في بحر جنوب الصين، وهي مناطق تزخر بالموارد الطبيعية، وبينما تطالب الفلبين وماليزيا وفيتنام وبروناي بالسيادة على مناطق متنازع عليها في البحر، تؤكد الصين أنها صاحبة الحق التاريخي على نسبة 90% من جُزره والمياه المحيطة بها.

إعلان

ومنذ عام 2013، عززت الصين من وجودها العسكري في المنطقة عبر بناء جزر صناعية وتحويل الشعاب المرجانية إلى قواعد جوية وبحرية، مزودة بأنظمة دفاع جوي ورادارات ومهابط للطائرات.

وتسببت هذه التحركات في احتجاجات متكررة من دول مثل الفلبين، التي حصلت في 2016 على حكم من محكمة التحكيم الدولية في لاهاي، يبطل المزاعم الصينية، لكن بكين رفضت الاعتراف بالحكم.

وتبنى الرئيس الفلبيني آنذاك رودريغو دوتيرتي موقفًا براغماتيًا مرنًا تجاه الصين، يظهر حرصه على عدم الإضرار بالعلاقة معها، حيث وصف الحكم بأنه "مجرد ورقة يمكن وضعها في الدرج والعودة إليها لاحقًا"، وأكد أن بلاده لا تستطيع "الدخول في حرب" مع الصين.

تعكس هذه المعادلة الحرجة على نطاق أوسع محاولات دول آسيان للمحافظة على التوازن في العلاقة مع الصين، فهي لا تريد مواجهة مع بكين، وفي نفس الوقت لا تريد أيضا أن تتخلى عن سيادتها على المياه المتنازع عليها. أما دول مثل كمبوديا ولاوس، فتبدو أكثر قربًا لبكين، بل تُتهم أحيانًا بأنها "تتحدث باسم الصين" داخل آسيان، مما يثير انقسامًا داخل التكتل نفسه.

هذا التباين أضعف قدرة آسيان على اتخاذ مواقف موحدة تجاه الملفات الإقليمية الكبرى، وأدى إلى فتور في مفاوضات طويلة الأمد مع الصين حول مدونة سلوك ملزمة لتنظيم النزاعات في بحر جنوب الصين.

سفن أميركية وفلبينية في تدريبات ببحر جنوب الصين (الجزيرة) دور أميركي في العلاقة

لا يمكن الحديث عن العلاقة بين الصين وجيرانها من الدول الآسيوية وخاصة دول آسيان دون أخذ السياسة الأميركية ودورها في المنطقة بالاعتبار، فالولايات المتحدة لا تزال حاضرة بقوة عبر قواعدها العسكرية، وتحالفاتها الإستراتيجية، ووجودها في بحر جنوب الصين، خاصة في الفلبين وتايلاند وسنغافورة، وكذلك عبر مشاريعها في مجالات التكنولوجيا والطاقة.

إعلان

وتحاول الولايات المتحدة حصار الصين في محيطها، وترى أن تحركات بكين تمثل تهديدًا مباشرًا لحرية الملاحة البحرية، وتحاول عبر إستراتيجيات متعددة التصدي لما تصفه بـ"التمدّد الصيني".

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2024، قال وزير الخارجية الأميركي آنذاك، أنتوني بلينكن، في قمة آسيان 2024، إن "الولايات المتحدة ستواصل دعم حرية الملاحة والتحليق في منطقة المحيطين الهندي والهادي".

وترى الولايات المتحدة واليابان وأستراليا أنّ حرية الملاحة ستكون معرضة للخطر إذا فرضت الصين سيادتها على البحر، الذي يُعتبر ممرًا مائيا رئيسيًا وأهم شرايين التجارة العالمية في يدها.

وبدأت واشنطن مع حلفائها من الدول الغربية، تعزيز التحالفات في جنوب شرق آسيا منذ سنوات، مثل التحالف "الرباعي" الذي يضم أميركا واليابان والهند وأستراليا، وتحالف "أوكوس" (AUKUS) الأمني مع بريطانيا وأستراليا، الذي بدأ تنفيذ دوريات بحرية في المنطقة منذ 2015، تحت شعار "حماية حرية الملاحة"، بهدف تعميق التعاون الدبلوماسي والأمني والدفاعي في منطقة المحيطين الهندي والهادي، والعمل على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، في إشارة غير صريحة أيضا إلى الصين.

كما أطلقت واشنطن مبادرات بديلة لمبادرة "الحزام والطريق"، والتي تعتبر عنوان النفوذ الاقتصادي والسياسي الصيني، وأبرزها مبادرة "الممر الاقتصادي" التي أعلن عنها الرئيس الأميركي جو بايدن خلال قمة العشرين 2023 في نيودلهي، حيث يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، ويضم استثمارات في السفن والسكك الحديدية، ويربط الهند أيضا بأنحاء أوروبا، عبر الإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل.

عسكرة البحر

وتدعم الولايات المتحدة جهود دول آسيان في مواجهة المطالب الصينية، حيث تسيّر دوريات بحرية مشتركة مع الفلبين، وتقدم مساعدات عسكرية وتكنولوجية لدول مثل فيتنام وإندونيسيا.

إعلان

وعززت وجودها العسكري والدبلوماسي مع دول "آسيان"، خاصة عبر اتفاقيات دفاع مع الفلبين وتايلاند، وتعاون وثيق مع سنغافورة وفيتنام، وهو ما تراه الصين تهديدًا مباشرًا لأمنها الإقليمي، متهمة واشنطن بأنها تزرع "الفتن البحرية" وتشجع الدول على تحدي المطالب الصينية في بحر جنوب الصين.

وقال وزير الخارجية الصيني وانغ يي في 2020، إن الولايات المتحدة أصبحت "أكبر محرك لعسكرة بحر الصين الجنوبي" و"العامل الأكثر خطورة.. في المنطقة".

وفي مارس/آذار 2023 حذرت الصين من "الاستفزازات الأميركية" بعد دخول مدمرة أميركية المياه الإقليمية لجزر شيشا الصينية دون إذن،​ وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، حضّت واشنطن بكين على إنهاء أعمالها "الخطرة والمزعزعة للاستقرار" في بحر جنوب الصين بعد اصطدام زورق فلبيني وسفينة لخفر السواحل الصيني قرب منطقة شعاب مرجانية متنازع عليها.​

وأعلنت الفلبين في أغسطس/آب 2024 إجراء مناورات مشتركة مع كل من الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، في منطقة بحر جنوب الصين، الأمر الذي ردت عليه الصين بتسيير دوريات مشتركة في المجال البحري والجوي قرب الجزر المرجانية المتنازع عليها مع مانيلا.

وبدأت الصين عام 2021، في نشر صواريخ طويلة المدى مضادة للسفن على طول سلسلة الجزر التي تمتد من اليابان إلى تايوان والفلبين، ونشرت قوات قادرة على تنفيذ عمليات في ما تصفه بـ"ما بعد السلاسل الأولى من الجزر"، ما يعني استعدادها لعمليات عسكرية بعيدة المدى.

وترى بكين أن السيطرة على بحر جنوب الصين ليس مسألة سيادة فقط، بل مسألة بقاء إستراتيجي، خاصة مع إمكانية تطور النزاع حول تايوان إلى مواجهة أوسع تشمل المنطقة بأكملها.

نظرة مستقبلية

يبدو أن العلاقة بين الصين وآسيان ستظل رهينة للتوازنات الدقيقة بين الاقتصاد والسياسة، بين المصالح المشتركة والخلافات المتجذّرة، لكنها ستميل على الأرجح باتجاه تحسين العلاقة مع الصين كونها قوة صاعدة ومجاورة، أمام السياسة الانسحابية التي يتبناها الرئيس دونالد ترامب، وسياساته الاقتصادية الشرسة.

إعلان

وتحاول الصين تعزيز استثماراتها مع دول الرابطة والحفاظ على علاقات جيدة دون الوصول إلى مرحلة المواجهة، حيث أعربت في أبريل/نيسان 2023، عن استعدادها لتسريع المشاورات مع دول آسيان بشأن مدونة قواعد السلوك في بحر جنوب الصين، بهدف تقليص احتمالات تفجر الصراعات البحرية في المنطقة، لكنها مع ذلك يمكن أن تواجه مقاومة متزايدة في ظل تنامي المشاعر القومية في بعض الدول وإثارة الخلافات الحدودية.

أما آسيان، فسيكون هاجسها المستمر الحفاظ على استقلال قرارها، دون الانجرار إلى محور ضد الآخر، رغم الضغوط المتزايدة من واشنطن وبكين.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات العلاقة بین الصین الولایات المتحدة فی بحر جنوب الصین الحزام والطریق فی المنطقة فی العلاقة دول آسیان مع الصین دول مثل عام 2023 مع دول

إقرأ أيضاً:

الزمن المفقود.. الموجة الإنسانية في أدب التنين الصيني

الأدب مرآة مجتمعه، فلا يوجد أدب قوي في دولة ضعيفة، والعكس صحيح. لقد كان انعكاسا حقيقيا لنهضة السوفيات ومعبرا عن نهضة الروس، ليصبحوا واحدة من أكبر القوى العالمية في القرن العشرين. ثم جاء الأدب الأميركي ليكون ترجمة طبيعية لقوة الدولة وصورة حقيقية عن تفوقها، وما زال الأدب الأوروبي معبرا عن تفوق الغرب وتقدمه. وكان أدب أميركا اللاتينية الحديث مقدمة لتحرير دول هذه المنطقة من عقال الهيمنة والفساد إلى الديمقراطية وإصلاح الدولة.

والآن يشهد العالم نهوضا صينيا عظيما، ويواكب هذه النهضة الاقتصادية ارتقاء أدبي رفيع. ولأن دول العالم الثالث ما زالت تدور في فلك الغرب المعادي لكل ما هو شرق، مقتفية آثار غبار "الميديا" الغربية لطمس العيون فلا ترى حقيقة تقدم الأدب الصيني واعتلائه ربى سامقة في الآداب الإنسانية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"فيلة صغيرة في بيت كبير" لنور أبو فرّاج: تصنيف خادع لنص جميلlist 2 of 2الدكتور حلمي القاعود فارس الهوية والأصالةend of list

وحديثا جاء الاعتراف بالأدب الصيني من الغرب نفسه، اعترافا بجدارته وحيويته وعمق محتواه، وهناك سباق شرس لترجمة الأدب الصيني إلى كل لغات العالم.

ورغم الصلات والعلاقات العربية الصينية القديمة على طول التاريخ، التي أدت إلى احتضان الصين الدين الإسلامي في مناطق كثيرة من ربوعها، فإن ترجمة الآداب الصينية لم تكن على نفس مستوى العلاقات البينية. ومع النهضة الحديثة له، تولدت حركة ترجمة كبيرة للأدب الصيني في البلاد العربية.

ولن يتسع المجال هنا لرصد كل الترجمات العربية للأدب الصيني، ولكن في العام الماضي كانت رواية "الزمن المفقود" للصيني وانغ شياو بو الأكثر قراءة في العالم العربي على تطبيق "أبجد". وهي من الروايات القليلة التي كسرت حاجز الرهبة بين القارئ العربي والثقافة الصينية.

وتحقق في تلك الرواية مجموعة من السمات رفعت من إقبال المتلقي العربي عليها، أبرزها: أن الحدوتة فيها قوية، وفكرة الجنون أو فلسفة الصعاليك موجودة، وأبطالها من أبناء الشعب العاديين، ومن الممكن للمتلقي العربي أن يتخيل أنه أحدهم. وكل هذه العوامل أو السمات ساعدت المتلقي العربي على أن يعيش داخل أجواء الرواية.

الدكتور أحمد السعيد الخبير في الشأن الصيني الرئيس التنفيذي لمجموعة بيت الحكمة للثقافة (الجزيرة) ضد الثورة الثقافية

رواية "الزمن المفقود" موضوعها سنوات الثورة الثقافية في الصين -منتصف الستينيات وحتى منتصف السبعينيات- أو ما يطلق عليها "سنوات الصين السوداء" في العصر الحديث. وهي تحكي عن الزمن المفقود للرجل الذي يحاول أن يكون بطلا لكنه يسقط في النهاية بلا بطولة أو إنسانية. وتجري الأحداث لما بعد الثورة الثقافية حيث تمزج الرواية بين البطولة الفردية والقومية.

إعلان

ويعد الروائي الصيني وانغ شياو بو أشهر من كتب عن الحب والسياسة في الأدب الصيني، وبحسب الأرقام فهو من أكثر كتاب العالم تأثيرا. وهو أيضا الملهم والملك المتوج بالصين على قلوب الشباب ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وقد توقف قلبه فجأة وهو بالأربعينيات من عمره سنة 1997، وبرغم رحيله المبكر فهو ينافس الأحياء من الأدباء على لافتات الأكثر مبيعا في الصين.

ويعد الصينيون وانغ أعظم من كتب سردا ونثرا وشعرا بالصينية في العصر الحديث، وهو من اقتحم الدروب السرية للنفس البشرية ففضحها بلطف ثم عالجها بعنف. ويكتب عن الحب فيجبرك على التفكير في السياسة، ويكتب عن العلاقات الإنسانية فتفكر في مغزى الحياة وتناقضاتها.

وأنت تقرأ الرواية تشعر أنها ليست بعيدة عنك، مثلها مثل رواية 100 عام من العزلة، تستطيع أن تتخيل نفسك واحدا من شخصيات ماكوندو، وتعيش نفس أجوائها. وقد منعت الرواية في البداية ثم نشرت في هونغ كونغ، ثم نشرت بعد وفاة المؤلف بالصين، وحتى الآن لا تنقطع إعادة طباعتها عدة مرات في العام الواحد.

ورواية الزمن المفقود نزلت إلى الشارع الصيني المزدحم تعبر عن أبناء الشعب في أدق تفاصيلهم الحياتية، محتفظة في ذات الوقت بالعمق السردي، بعد أن تخلصت من إيثار الحكمة والغموض الفلسفي الذي تتميز به الرواية الصينية.

وعلى العكس، عندما تقرأ رواية "الذرة الرفيعة الحمراء" للكاتب مو يان، الحائز جائزة نوبل عام 2012، التي يسرد فيها لمحات من تاريخ الريف الصيني في ظل الغزو الياباني للصين من عام 1937-1945، تشعر وأنت تقرأها كأنك خارج أجواء الرواية، وهذه صفة يتسم بها الأدب الصيني بشكل عام.

ومع أن رواية "الزمن المفقود" منعت بعض الوقت في الصين، فإنها كانت تباع في تايوان، ومؤلفات وانغ شياو بو هي الأكثر تأثيرا على مواليد الثمانينيات والتسعينيات في الصين. وبرغم رحيله المبكر عام 1997 وهو دون الـ45 من عمره، فأعماله تطبع كل عام وتباع بأرقام خرافية، ومقالاته مؤثرة جدا، منها كتاب "الأغلبية الصامتة" الذي يعتبر "إنجيل الصينيين".

الرواية الأكثر تأثيرا على مواليد الثمانينيات والتسعينيات بالصين (الجزيرة) الذائقة التابعة

ورواية "الزمن المفقود" من ترجمة الدكتور أحمد السعيد الخبير بالشأن الصيني، والأستاذ الزائر بجامعة الاتصالات الصينية، والرئيس التنفيذي لمجموعة بيت الحكمة للثقافة الذي التقيناه لنحلق معه في الوضع الثقافي الصيني ونعرف من خلاله أين العرب من الثقافة الصينية، وكيف عبرت الثقافة عن طموحات ومستقبل الشعب الصيني.

لماذا لا نرى الأدب الصيني في المنطقة العربية مقارنة بانتشاره بالغرب وبقية أنحاء العالم؟

– ما يحدد معايير انتشار الأدب المترجم في المنطقة العربية هو الذائقة الغربية، وليست الذائقة العربية. ولما يكون الكاتب مشهورا في اللغة الإنجليزية، تكون فرصته أكبر في الانتشار بالعربية أو اللغات الأخرى، التي هي لغات المفعول به، وليست لغات الفاعل. وأضرب لك مثالا بالكاتب الياباني هاروكي موراكامي، فلأنه يكتب بالإنجليزية أصبح مشهورا في بريطانيا، ونحن في مصر وفي المنطقة بالكامل لم نعرفه على أنه ياباني، بل عرفناه لأنه مشهور في الغرب.

إعلان

والأمر الآخر لعدم انتشار الأدب الصيني كما ينبغي هو القطيعة الثقافية التي حدثت بين الصين والعالم بعد الثورة الصناعية أواخر السبعينيات، ثم بدأت الصين تركز على البناء الاقتصادي للدولة، فلم تهتم بإحياء حركة جيدة للأدب الصيني، فضلا عن أن الأدب الصيني شديد العمق لأنه أدب فلسفي، والقارئ العادي المعتاد على قراءة "سوشيال ميديا" ستكون درجة تلقيه للأدب الصيني غير مريحة.

وأيضا هو أدب مثقل بكثير من الأحداث التاريخية والسياسية والثقافية بالنسبة للصين، فتشعر أنه محتاج إلى كتالوج لكي تفهمه. فمثلا، الكاتب الصيني مويان الفائز بجائزة نوبل عام 2012، قليلون هم من قرؤوا أدبه وفهموه. ولأن الأدب الصيني ثقيل، فهو يحتاج قبل ترجمته إلى عين كاشفة لانتخاب ما هو مناسب للترجمة إلى اللغات الأخرى، أو أن ينشأ في كل عمل مترجم كتالوج يشرح من خلاله المقصود ومرامي الأدب الصيني.

ومن ناحية أخرى، تجد أن الأدب الصيني المترجم إلى العربية بدأ مع انتشار الآداب الروسية التي غزت العالم، ثم انتقلت الذائقة الأدبية العالمية إلى الأدباء الأميركان، ثم انتقلت الموجة إلى أدب أميركا اللاتينية بالطفرة التي طفت على سطح العالم مع الواقعية السحرية، وكل هذه المراحل استغرقت سنوات من البناء.

ولهذا تأتي اختيارات دور النشر بناء على شهرة الكاتب أو العمل في أوروبا أو أميركا. فعندما تقول "واشنطن بوست" هذه قائمة أشهر 100 رواية في العالم، تتسابق كل دور النشر لشراء حقوقها وترجمتها، وأكيد لن تختار عملا صينيا، لأن القوى الناعمة الغربية دائما تظهر نفسها على أنها الأفضل، وتنتقي لنفسها ما يخدم أهدافها. فمثلما ترى أن الأعمال العربية المترجمة في الغالب ما يخدم الرؤية الغربية عن العرب.

والأدب الصيني صعب على الذائقة العربية، لأننا في الأصل ثقافة "حواديت": ألف ليلة وليلة، كليلة ودمنة. أما الصين، فهي ثقافة فلسفة، ولهذا الحبكة السردية ليست أصل الرواية، والأصل هو قراءة واعية لما بين السطور. والكاتب يبعث برسالة، وعلى القارئ أن يكون واعيا لما يقول الكاتب لأن هذه هي الطريقة الصينية في التعبير: الاقتضاب والاستعارات الكثيرة. والموجة الإنسانية في أدب "التنين الأصفر" هي المقابل الحقيقي لإرهاب راعي البقر.

هذه الرواية وصفها النقاد بأنها بمثابة "إعلان تمرّد أدبي" على القيم المحافظة (الجزيرة) أدب إنساني

– وهناك روايات مثل "العصر الذهبي" لـ"وانغ" وكذلك "الربع الأخير من القمر" للكاتبة تشيه زيه جيان، قال عنها النقاد إنها "100 عام من العزلة الصينية" فعالمها مليء بالسحر، لكن البطلة ترويه لنا وكأنه شيء عادي.

وهي أعمال مؤثرة في الصين جدا، إنما ثقافة المتلقي مغايرة لثقافة الأصل، والأدب لا يمكن نشره بالدولار والدينار، لأنه من قوى التأثير الناعمة التي من ميزاتها أنها تقنع المتلقي بأنها اختياره وليس بالضغط والجبر من قوى أجنبية.

من هم الأدباء الصينيون الأكثر شهرة على الساحة العربية وعالميا بعصرنا الحالي؟

– الكاتب ليو جين يون هو الأكثر ترجمة ومبيعا على الساحة العربية، ومن أعماله المعروفة: "طلاق على الطريقة الصينية"، "تاريخ آخر للضحك" و"1941″، و"جهة العمل"، "رب جملة بعشرة آلاف جملة".

ويأتي الكاتب الثاني في المبيعات ليو خوان، وهو الأشهر داخل الصين، وكل أعماله لا تتجاوز 7 روايات، وجميعها مترجمة إلى العربية. ورواية "نهر الزمن" طبعت 4 مرات، والإقبال عليها في تزايد.

كما يأتي مو يان الفائز بجائزة نوبل عام 2012، وأعماله كلها ترجمت إلى العربية، ومبيعاتها جيدة رغم صعوبة فهمها إلى حد ما.

ومن أشهر الكتاب في الصين أيضا الروائي شيو تسي تشين، الذي فاز بجائزة ماو دون الأدبية المحلية، وهي تعادل نوبل في قيمتها المعنوية والمادية داخل البلاد.

إعلان

ونحن نترجم لحوالي 30 أديبا صينيا هم الأكثر تأثيرا وانتشارا ومبيعا داخل الصين، وشيو تسي تشين كاتب شاب، وكتاباته كلها عن الشباب، ولهذا التلقي عنه سهل.

وتتحدث روايته الأكثر شهرة المترجمة إلى العربية "رحلة إلى الشمال" عن مجموعة من العائلات التي تواجه تحديات مختلفة في بكين، إلى جانب رواية "بكين" التي تتناول حياة المهاجرين من المناطق الريفية إلى العاصمة، وروايتي "لقاء في بكين" و"حكايات ضاحية بكين الغربية".

ويضاف إليهم الروائي الذي رحل شابا، وانغ شياو بو. وهؤلاء الخمسة هم الكتاب الأكثر تعبيرا عن الأدب الصيني، وهم الأكثر انتشارا، والجمهور في المنطقة العربية مهتم كثيرا بأعمالهم.

أما الكاتب يان لي، فهو كل عام موجود على ترشيحات جائزة نوبل، وله أعمال لم يسمح بنشرها في الصين، مع أنه يعيش هناك مرفها ويشغل منصبا حزبيا كبيرا. وأعماله تباع بسلاسة كبيرة، لأن الصين لا يوجد لديها سياسة المنع.

الكاتب يجسد صراع الإنسان الصيني البسيط مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة (الجزيرة) كيف تتعامل الدولة في الصين مع السياسة الثقافية؟ وهل لديها خطة لنشر ثقافتها بالخارج؟

– تلتزم الدولة الصينية بالدعم الكامل لترجمة ونشر الأدب الصيني بالخارج، وبدون توجيه سياسي مباشر. والناشر الأجنبي هو من يختار الرواية أو الكتاب المراد ترجمته، ويتقدم به للمشروع الموجه بالدعم من وزارة الثقافة أو وزارة الإعلام أو اتحاد الكتاب أو من دار النشر نفسها، ويحصل على الدعم اللازم للترجمة طالما انطبقت عليه الشروط.

ما أثر النهضة الثقافية على الإنسان الصيني في الوقت الحالي؟

– النهضة الثقافية أدت إلى أن أكثر 10 أدباء دخلا في الصين في السنوات العشر الأخيرة ولا يوجد لديهم كتاب واحد مطبوع، فكلهم يكتبون أدبا رقميا على المنصات. ومعنى ذلك أنهم شباب، وأن الأجيال الشابة والصغيرة هناك تقرأ بشغف. والأهم من ذلك أن هؤلاء الكتاب يكتبون عن أحداث اجتماعية تهم الناس، فهم عيونهم ومشاعرهم على نبض المجتمع وأين تكمن مشكلاته.

هذه الرواية أكثر ترجمة وانتشارا عربيا (الجزيرة) لا رقابة على الأفكار كيف تتم الرقابة على الأفكار داخل الصين؟ وهل تختلف فكرة الرقابة عما هي عليه بالغرب أو الدول العربية؟

– فكرة الرقابة المتخيلة لدينا غير موجودة لدى الصينيين. وأضرب مثالا على ذلك: كنت مرافقا للكاتب مو يان، الحائز على جائزة نوبل عام 2012، في معرض الكتاب بالجزائر 2019، وكانت الصين ضيف الشرف. وفي الندوة سأله أحد الحضور: هل تعتقد أن في الصين حرية للإبداع الأدبي؟

ورد الكاتب بسؤال: ماذا تقصد بالحرية؟ وما تعريفك للحرية؟

فأجاب السائل: الحرية المطلقة.

فقال مو يان: يعني لو كتبت رواية عن البوذية في الجزائر، التي دينها الإسلام، هل الحكومة الجزائرية ستتركني أفعل ما أشاء؟ هل أستطيع أن أهاجم الإسلام أو أهاجم العادات والتقاليد الجزائرية داخل الجزائر؟

فما أقوله هنا إنه لا توجد حرية مطلقة. أنا لا أستطيع أن أذهب إلى ألمانيا وأكتب رواية في مدح النازية وأدعي أن هذه حرية. وبنفس الإطار، في الصين، المجتمع هناك هو من يقرر حدود الحرية التي يتحرك فيها الأفراد، وفي الإطار المسموح به أنا حر جدا.

ويود بالصين نقد مجتمعي واضح. فمثلا، رواية "طلاق على الطريقة الصينية" للروائي ليو جين يون هي نقد مباشر للمسؤولين حتى نائب رئيس الدولة. ولنفس المؤلف رواية "سرير الغرباء" التي تحكي قصة فساد حاكم مقاطعة على درجة وزير. والروائي مو يان يكتب رواية "الضفادع" التي تمثل نقدا شديدا جدا لسياسة الدولة في سياسة الطفل الواحد. كذلك وانغ شياو بو يكتب وينتقد "الإيمان الأعمى" بالحزب الشيوعي، وينتقد الأغلبية الصامتة التي لا تفكر.

ويكاد لا يوجد عمل أدبي صيني لا يوجه انتقادات للمجتمع، ولكن على الطريقة الصينية. ولن تجد كاتبا صينيا يكتب عن الجنس أو السياسة بشكل مباشر، فالكتابة دائما غير مباشرة، والقراءة عملية وعي وإدراك لما يرمي إليه الكاتب.

الطلاق بهذه الرواية مدخل لفضح الفساد الإداري والتعقيدات البيروقراطية (الجزيرة) في ظل النهضة الاقتصادية الحديثة بالصين، هل تواكب الثقافة هذا النهوض؟ وهل للثقافة والأدب أثر في هذه النهضة؟

– ما يحكم الصين ليس السياسة، بل الثقافة، لأنها بالنسبة للإنسان الصيني هي الدين. ومنظومة الدين عند الشرق أو الغرب بديلها في الصين الثقافة. ووضع الثقافة في هذا البلد يشبه أو يوازي وضع الدين في المنطقة العربية.

إعلان

والثقافة عند الصينيين موضوعها وإطارها أشمل من فهمنا نحن، فالثقافة ليست أدبا وفنونا فقط بل أسلوب الحياة وطريقة العيش، وسلوك الفرد في المجتمع، وهي تعليم أسس الكونفوشيوسية والطاوية، وتعليم الماركسية على الطريقة الصينية.

ولهذا (فالرئيس الصيني) شي جين بينغ في كل أحاديثه لا بد أن يرفق بها اقتباسات من أمهات الكتب الصينية التي تدرس للطلبة في كل مراحل التعليم، مثل: كتاب "الأغاني"، "حوليات الربيع والخريف"، "السندات التاريخية"، "حلم المقصورة الحمراء"، "حوارات كونفوشيوس"، كتاب "الطاو".

ولديهم ما يسمى "الأربعة كتب المقدسة"، و"الخمسة كتب الكلاسيكية"، مثل كتاب "التعليم الكبير" وكتاب "التغيرات". وكلها مؤثرة في الثقافة وتترك أثرها في كل شخص في الصين.

ولكي تفهم الصين لا بد من فهم ثقافتها، حتى تدرك كيف ستكون تحركاتها. وهناك حملات في الصين حاليا تدعو لإحياء الكونفوشيوسية لأنها تدعو للبر والتراحم واحترام الكبير للصغير، وطاعة أولي الأمر واحترام الآخر.

وكذلك هناك دعوات لإحياء الطاوية التي تدعو إلى التجانس بين الإنسان والطبيعة وتجنب الصراعات.

وماو تسي تونغ (مؤسس الصين الحديثة) أديب وناقد وله مؤلفات في النقد الأدبي.

مقالات مشابهة

  • رويترز: ديب سيك تساعد الجيش الصيني وتتفادى قيود الصادرات الأميركية
  • الجيش الصيني يكشف عن طائرة مسيرة بحجم البعوضة.. فيديو
  • الإمارات وكندا.. علاقات متنامية والتزام بتحقيق والسلام والأمن الإقليميين
  • عاجل| الخليج على صفيح ساخن.. إيران تستهدف قواعد أمريكية في قطر والعراق والإمارات تغلق مجالها الجوي
  • دول الخليج على صفيح ساخن
  • دول الخليج على صفيح نووي ساخن
  • وزير الاستثمار يشارك بفعاليات منتدى الأعمال المصري الصيني
  • المنطقة على صفيح ساخن: إسرائيل تشعل النار والجميع يدفع الثمن
  • الزمن المفقود.. الموجة الإنسانية في أدب التنين الصيني
  • الشرق الأوسط على صفيح ساخن.. هل تدق طبول الحرب بين أمريكا وإيران؟.. خبراء يجيبون