لجريدة عمان:
2025-12-10@04:45:01 GMT

روائح الكُتب

تاريخ النشر: 22nd, April 2025 GMT

يُرْوَى أنَّ أبا الفرج الأصفهاني لمَّا ألّف كتاب الأغاني، وكان موسوعةً شاملةً، مستوعبةً لكتب جمّة، محتويةً الأخبار والأشعار والأمثال وأيّام العرب والعجم، وأغلب ما قِيل من شعرٍ، استُغْنِيَ به عن حمولة من الكتب، كان الأمراء وأصحاب الشأن يحملونها معهم فـي تنقُّلهم، لِسَمرهم ومجالسهم، فمثّل كتاب الأغاني الكتاب البديلَ أو الكتاب الموسوعيّ الشّامل الذي يُمكن أن يُسْتغَنى به عن كُتُبٍ جمّة.

واليوم لم تعد لنا حاجةٌ أحيانًا حتّى إلى النهوضِ من المكتب لفتح كتابٍ والبحث عن شاهد أو فكرةٍ أو رأيٍ موجود فـي كتاب قرأناه أو أحلْنَا عليه، وإنّما هو أن نضغط على زرّ فـيأتينَا النصّ شعرًا أو نثرًا، أدبًا أو نقْدًا، علمًا أو إبداعًا، فنقطعه ونضعه فـيما نكتب وما نطلب.

قلّت اليوم حاجتنا إلى الكتاب الورقيّ، وزاد تفاعلنا مع الكتاب الرقميّ أو مع الكتب الموزَّعة بلا نظام على صفحات الويب، فهل هذا نذيرٌ بنهاية الكتاب الورقي، وحلول لعالم افتراضيّ رقميّ سائد، خاصّة مع تنامي أشكال بروز الذكاء الاصطناعي وحلوله اليسيرة فـي التفاعل مع القضايا والمسائل؟ لا شكَّ أنَّ الأمر مقلقٌ ومزعجٌ، ولا علم لنا بنهاية هذا الجموح الآليّ وما ستنتهي إليه مآلات البشر، ولكن الأزمة تضيق وتزيد حدَّة عند شعوب لم تتعوّد على ثقافة الكتاب، على ملمسه، على رائحته، على التواجد معه والتفاعل.

نحن الذين عهدنا الكتب وما زلنا فـي ورطةٍ معها، وأخذت من أذهاننا وأعمارنا وأموالنا الشيء الوفـير، ولمسنا الورق وتعطّرنا بروائحها، وجلنا المكتبات كلّما ذهبنا مكانًا، عهدنا الكتاب وما زلنا نميِّزه على الكتاب الإلكتروني الذي يبدو باردًا، خالي الرّوح، فاقد الأثر، هو عمليٌّ جدًّا، فاعلٌ جدًّا، غير أنّ صلتنا بالكتاب ليست صلة امتصاص معلومة فحسب، بل هي صلة وجوديّة، وعلاقة تاريخيّة، فبعضُ الكتب تقترن بأحداثٍ ووقائع، ذاتيّة أو عامّة.

كنَّا صغارًا نتنافسُ فـي شراء الروايات والمسرحيّات والكتب الفكريّة، وبها نتطاول ونُحدث جلبةً فـي المناقشات والحوارات. توفّرت لنا كتب زهيدة الثمن أحيانًا فـي طبعاتٍ شعبيَّة قادها السياسيّون الحاكمون لإظهار اهتمامهم الشكليّ بالثقافة، ولإرضاء المثقّفـين، أيّام كان للمثقّف وزن وصوت.

هذه المظاهر بدأت تندثر، وبدأ التكالب على تحصيل البرمجيّات والأجهزة المتطوّرة، وبدأنا نفقد التاريخ الذاتي مع الكتاب، بدأنا نفقد بُعْدًا نفسيًّا مريحًا فـي تعاملنا مع الورق، واستبدلنا ذلك ببرود الأجهزة والأنظمة المعلوماتيّة.

تقرّ أغلب الدِّراسات المهتمّة بمستقبل الكتب أنّ تراجعًا حاصلاً فـي صلة الإنسان بالكتاب، غير أنّه من الصَّعب توقّع موت الكتب، وإنَّما الأغلب هو التعايش اللاسلميّ بين الكتاب الإلكتروني والكتاب الورقي، هذا فـي الأمم التي تقرأ، وتُحافظ على عادة القراءة، وتغرس فـي الأجيال القادمة حبّ الكتاب وتمتين الصِّلة به، أمَّا بالنسبة إلى الأمم غير القارئة، فلا جديد يُذْكَرُ إذ أنّ نسب القراءة عند العرب مثلا هي نسب هزيلة، مخجلة، قد لا تتعدّى الدقائق المعدودات عند الفرد فـي السَّنة، وهو أمرٌ لافت فـي أمَّة «اقرأ»، فمتى تُصبِحُ القراءة فـي مجتمعاتنا عادة؟ لا ريب أنَّ الأجيال الحاليَّة أفضل منَّا وأحسن وأقدر على تمتين فعل القراءة، فهم يُتابعون إلى حدٍّ ما حركة الكتاب، وقد ظهرت طفرةٌ فـي الخليج نرجو ألاَّ تكون عابرة فـي تأثيث معارض الكتاب وتحقيق كثافة عالية لمرتاديها، وهي كثافةٌ مهمةٌ إن أحسنَّا إعْمالها واستثمارَها، كما ظهرت مجموعات قرائيّة، وبرامج دافعة للقراءة، مشجّعة عليها، أشرف عليها قَوَمةٌ أحسنوا صنيعًا، مهما كانت مراميهم.

معارض الكتب فرصة لاستعادة الصّلة بالكتاب من جهة ولتدريب الناشئة على وجود عالم حقيقيّ بعد أن انغمسوا تدريجيّا فـي الكون الافتراضي، لا نُريد لأطفالنا وأبنائنا أن يحملوا معهم إلى المدارس لوحًا إلكترونيا فحسب، كما لا نريدهم أن يحملوا معهم أثقالا مُجهدة من الكتب فارغة المحتوى، نريدهم أن يبقوا على صلة بعالمهم وألاّ يفقدوا قيما نفـيسة أثبت علم النفس قدرتها على تخفـيف الاكتئاب وبعث الأمل وإحلال الراحة النفسية العلاجية، نريد أن تبقى صلتهم بالكتاب، وهذه ثقافةٌ على أولياء الأمور ومعلّمي المدارس زرعها فـي الناشئة.

فارقٌ حقيقيّ بين تفاعلك مع الكتاب وتفاعلك مع الرقميّات، على قيمة الرقميّات وقدرتها على تيسير البحث واختصار الزمن، فالكتابُ عالمٌ بذاته، كونٌ موسَّعٌ، وأذكرُ جيِّدًا أنَّا كُنّا نذهب إلى المكتبة الوطنيّة أيّام البحث والارتحال فـي الكتب، نجلس السّاعات الطّوال، فـي ظروفٍ من الحرِّ والقرِّ لا تشجّعُ على البقاء، مع قلَّة الأكل وضيق ذات اليد، فلا نعرف عمّا نبحثُ ونقضّي الساعات الطّوال والأيّام والأسابيع، نبحث أوّلا فـي عناوين الكتب فقط، أو فـي أسماء الكُتَّاب، ومنها نعلم ونُدركُ كتبًا كنَّا نجهل وجودها، وقد ننتهي من بعد ذلك إلى طلب كتابٍ استعاره أحد الباحثين، ولذلك كنَّا نمدّ عون المكتبة بأكثر من طلبٍ، ونُعدُّ قائمة بعدد من الكتب إن ظفرنَا ببعْضها جلسنا عليها بقيَّة يومنا، مخافَة ألاَّ نحصل عليها بيسر فـي اليوم التّالي.

كنتُ يومًا أبحث عن كتاب محمّد الطاهر بن عاشور فـي شرحه لديوان النابغة الذبياني، فإذا أنا أتعثَّر بكتابٍ لا يُوجَد فـي قائمة كتب ابن عاشور ولم أسمع به من قبلُ، ولم أعهد وجوده، وهو كتاب أصول الإنشاء والخطابة، فأفدت منه كبير الفائدة. وما زلتُ لحدّ اليوم أدخل مكتبة الكليّة المهجورة من الطلبة والأساتذة، أبحث بين أروقتها ورفوفها عن كتب استعرتها منذ ربع قرن، فأجدها وفـيّة، جالسة فـي مكانها، مهترئة أحيانًا من وفرة استعارتها.

قد تجد الكتاب معروضًا على مواقع الشبكة العنكبوتية، وقد يتيسّر لك أن تطّلع عليه، ولكن ستفقد قيمة هامّة هي رائحة الكتب، وما أحوجنا اليوم إلى روائح الأشياء والموجودات، فـي عالم بدأ يفقد روائحه، ومذاقه، وملمس الأعيان فـيه!

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

مدير معرض الكتاب يكشف تفاصيل الاستعداد لدورة نجيب محفوظ

قال الدكتور أحمد مجاهد، المدير التنفيذي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، إن الشعار الرسمي للدورة الجديدة تم استلهامه من مقولة موثقة للكاتب العالمي نجيب محفوظ حول أهمية القراءة ودورها الفعال في تقدم الشعوب.


وأشار خلال برنامج "الساعة 6"،المذاع على قناة "الحياة "، إلى أن إدارة المعرض واجهت تحديات كبيرة في التحقق من صحة المقولات المنسوبة لمحفوظ قبل الاستقرار على العبارة المختارة.


وأوضح مجاهد، أن شعار الدورة الحالية وهو "دعوة مفتوحة للقراءة" لا يمثل محورًا فكريًا محددًا للندوات والمناقشات، على عكس الدورات السابقة، بل يحمل رسالة عامة وهي دعوة مفتوحة للتمسك بالكتاب ومواجهة تراجع معدلات القراءة.


وأكد أن القضايا الثقافية الكبرى ستظل حاضرة بقوة ضمن أجندة الفعاليات، وسيتم الكشف عن أبرز الملفات الفكرية والثقافية خلال مؤتمر صحفي سيعقد في الأسبوعين المقبلين.


وذكر أن اختيار هذا الشعار لم يكن مجرد انتقاء لجملة لافتة، بل هو قرار ثقافي مدروس يستند إلى الإرث العظيم لنجيب محفوظ، الذي تحل الذكرى العشرون لوفاته هذا العام.


ونوه إلى أن هذا التوقيت هو ما دفع إدارة المعرض لاختياره شخصية المعرض تكريمًا لإسهاماته التي أثرت في الوعي العربي والعالمي. وأشار أيضًا إلى أن الإمكانيات المتوفرة حاليًا في أرض المعارض توازي أكبر الإمكانات العالمية، بل وقد تفوقها في بعض الجوانب.


وتابع قائلا: "في دماغي سكة مختلفة شوية، في دماغي أننا نروح للجيل الأصغر الذي لم ينل حظه من الاهتمام في المعارض السابقة، خاصة وأن 80% من زوار المعرض في العام الماضي كانوا من الشباب".


وأضاف أن المعرض سيتضمن هذا العام سلسلة ندوات يومية تحت عنوان "جيل يكتب العالم بطريقته".


كما أشار إلى أن استهداف الأطفال من خلال تنفيذ ندوات خاصة بهم، إلى جانب مسابقة لرسم أغلفة شخصية المعرض هذا العام، وهي شخصية نجيب محفوظ.

لمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا

لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا

مدير معرض الكتاب دورة نجيب محفوظ الدكتور أحمد مجاه

فيديو قد يعجبك



محتوى مدفوع

أحدث الموضوعات شئون عربية و دولية كيف ساعدت فرنسا بنين في إحباط محاولة الانقلاب؟.. تقرير يكشف اقتصاد تنظيم الاتصالات يحذر المواطنين من محاولات اختراق تستغل ثغرات جديدة على حوادث وقضايا حكم بالإعدام في أقل من 10 أيام.. بيان من النيابة العامة بشأن واقعة التعدي سينما تعرف على قائمة الأفلام العالمية الأعلى تحقيقا للإيرادات في 2025 رياضة عربية وعالمية "أساطيرنا تأخذ التقدير".. تعليق ساخر من حساب الدوري الإيطالي بعد أزمة صلاح أخبار مصر وزارة الأوقاف تكلف مديرين جديدين لمديريتي الغربية والقليوبية منذ 5 دقائق قراءة المزيد أخبار مصر مجدي أحمد علي عن فؤاد نجم: له فهم خاص للعلاقات الإنسانية منذ 30 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر مثقفون وشعراء يتوافدون لحضور حفل توزيع جوائز أحمد فؤاد نجم منذ ساعتين قراءة المزيد أخبار مصر ساويرس: فؤاد نجم كان عبقرياً.. ودفع فاتورة مواقفه منذ 56 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر ننشر القائمة الكاملة لجوائز أحمد فؤاد نجم لشعر العامية منذ 41 دقيقة قراءة المزيد أخبار مصر رئيس الوزراء يستقبل النائب الأول لرئيس البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية منذ 16 دقيقة قراءة المزيد المزيد

إعلان

أخبار

المزيد شئون عربية و دولية إعلام سوري: انفجارات في منطقة المزة بدمشق وتحقيقات لتحديد مصدر القذائف أخبار مصر وزارة الأوقاف تكلف مديرين جديدين لمديريتي الغربية والقليوبية أخبار مصر مجدي أحمد علي عن فؤاد نجم: له فهم خاص للعلاقات الإنسانية مصراوى TV نصبوا الشباك 5 أيام.. مطاردة تماسيح بلبيس مستمرة والأهالي: استخبّوا خايفين أخبار مصر مثقفون وشعراء يتوافدون لحضور حفل توزيع جوائز أحمد فؤاد نجم

إعلان

أخبار

مدير معرض الكتاب يكشف تفاصيل الاستعداد لدورة "نجيب محفوظ"

روابط سريعة

أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلاميات

عن مصراوي

من نحن اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصية

مواقعنا الأخرى

©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا

هل ترتفع أسعار كروت الشحن و"الفكة" الفترة المقبلة؟ نجيب ساويرس ينفي زيارته إلى تل أبيب: لم تحدث في حياتي ماذا حدث للوثائق المصرية بمتحف اللوفر: كيف أتلفت المياه 400 كتاب نادر؟ حكم بالإعدام في أقل من 10 أيام.. بيان من النيابة العامة بشأن واقعة التعدي على أطفال مدرسة الإسكندرية 26

القاهرة - مصر

26 18 الرطوبة: 17% الرياح: جنوب غرب المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي من نحن إتصل بنا إحجز إعلانك سياسة الخصوصية خدمة الإشعارات تلقى آخر الأخبار والمستجدات من موقع مصراوي لاحقا اشترك

مقالات مشابهة

  • هيئة الكتاب تعيد إصدار الخرز الملون لمحمد سلماوي
  • مدير معرض الكتاب يكشف تفاصيل الاستعداد لدورة نجيب محفوظ
  • كتاب يوثق مائة قصة من شهداء غزة.. استغرق 300 يوم
  • "الإنسان أولًا".. دار الكتب تحتفي باليوم العالمي لحقوق الإنسان
  • بعد واقعة سرقة مجوهرات بـ102 مليون دولار.. فضيحة جديدة تضرب متحف اللوفر بإتلاف مئات الكتب النادرة
  • تسرب مياه في متحف اللوفر يتلف مئات الكتب بقسم الآثار المصرية
  • تحذير.. استنشاق روائح المعطرات القوية يرفع خطر تهيج الرئة في الشتاء
  • «في مرايا الشعر» جديد هيئة الكتاب للشاعر جمال القصاص
  • في مرايا الشعر.. جديد هيئة الكتاب للشاعر جمال القصاص
  • المطيعي بمعرض الكتاب .."حُجّة الله على خليقته" بيان كلام الله من البشر