يُرْوَى أنَّ أبا الفرج الأصفهاني لمَّا ألّف كتاب الأغاني، وكان موسوعةً شاملةً، مستوعبةً لكتب جمّة، محتويةً الأخبار والأشعار والأمثال وأيّام العرب والعجم، وأغلب ما قِيل من شعرٍ، استُغْنِيَ به عن حمولة من الكتب، كان الأمراء وأصحاب الشأن يحملونها معهم فـي تنقُّلهم، لِسَمرهم ومجالسهم، فمثّل كتاب الأغاني الكتاب البديلَ أو الكتاب الموسوعيّ الشّامل الذي يُمكن أن يُسْتغَنى به عن كُتُبٍ جمّة.
واليوم لم تعد لنا حاجةٌ أحيانًا حتّى إلى النهوضِ من المكتب لفتح كتابٍ والبحث عن شاهد أو فكرةٍ أو رأيٍ موجود فـي كتاب قرأناه أو أحلْنَا عليه، وإنّما هو أن نضغط على زرّ فـيأتينَا النصّ شعرًا أو نثرًا، أدبًا أو نقْدًا، علمًا أو إبداعًا، فنقطعه ونضعه فـيما نكتب وما نطلب.
قلّت اليوم حاجتنا إلى الكتاب الورقيّ، وزاد تفاعلنا مع الكتاب الرقميّ أو مع الكتب الموزَّعة بلا نظام على صفحات الويب، فهل هذا نذيرٌ بنهاية الكتاب الورقي، وحلول لعالم افتراضيّ رقميّ سائد، خاصّة مع تنامي أشكال بروز الذكاء الاصطناعي وحلوله اليسيرة فـي التفاعل مع القضايا والمسائل؟ لا شكَّ أنَّ الأمر مقلقٌ ومزعجٌ، ولا علم لنا بنهاية هذا الجموح الآليّ وما ستنتهي إليه مآلات البشر، ولكن الأزمة تضيق وتزيد حدَّة عند شعوب لم تتعوّد على ثقافة الكتاب، على ملمسه، على رائحته، على التواجد معه والتفاعل.
نحن الذين عهدنا الكتب وما زلنا فـي ورطةٍ معها، وأخذت من أذهاننا وأعمارنا وأموالنا الشيء الوفـير، ولمسنا الورق وتعطّرنا بروائحها، وجلنا المكتبات كلّما ذهبنا مكانًا، عهدنا الكتاب وما زلنا نميِّزه على الكتاب الإلكتروني الذي يبدو باردًا، خالي الرّوح، فاقد الأثر، هو عمليٌّ جدًّا، فاعلٌ جدًّا، غير أنّ صلتنا بالكتاب ليست صلة امتصاص معلومة فحسب، بل هي صلة وجوديّة، وعلاقة تاريخيّة، فبعضُ الكتب تقترن بأحداثٍ ووقائع، ذاتيّة أو عامّة.
كنَّا صغارًا نتنافسُ فـي شراء الروايات والمسرحيّات والكتب الفكريّة، وبها نتطاول ونُحدث جلبةً فـي المناقشات والحوارات. توفّرت لنا كتب زهيدة الثمن أحيانًا فـي طبعاتٍ شعبيَّة قادها السياسيّون الحاكمون لإظهار اهتمامهم الشكليّ بالثقافة، ولإرضاء المثقّفـين، أيّام كان للمثقّف وزن وصوت.
هذه المظاهر بدأت تندثر، وبدأ التكالب على تحصيل البرمجيّات والأجهزة المتطوّرة، وبدأنا نفقد التاريخ الذاتي مع الكتاب، بدأنا نفقد بُعْدًا نفسيًّا مريحًا فـي تعاملنا مع الورق، واستبدلنا ذلك ببرود الأجهزة والأنظمة المعلوماتيّة.
تقرّ أغلب الدِّراسات المهتمّة بمستقبل الكتب أنّ تراجعًا حاصلاً فـي صلة الإنسان بالكتاب، غير أنّه من الصَّعب توقّع موت الكتب، وإنَّما الأغلب هو التعايش اللاسلميّ بين الكتاب الإلكتروني والكتاب الورقي، هذا فـي الأمم التي تقرأ، وتُحافظ على عادة القراءة، وتغرس فـي الأجيال القادمة حبّ الكتاب وتمتين الصِّلة به، أمَّا بالنسبة إلى الأمم غير القارئة، فلا جديد يُذْكَرُ إذ أنّ نسب القراءة عند العرب مثلا هي نسب هزيلة، مخجلة، قد لا تتعدّى الدقائق المعدودات عند الفرد فـي السَّنة، وهو أمرٌ لافت فـي أمَّة «اقرأ»، فمتى تُصبِحُ القراءة فـي مجتمعاتنا عادة؟ لا ريب أنَّ الأجيال الحاليَّة أفضل منَّا وأحسن وأقدر على تمتين فعل القراءة، فهم يُتابعون إلى حدٍّ ما حركة الكتاب، وقد ظهرت طفرةٌ فـي الخليج نرجو ألاَّ تكون عابرة فـي تأثيث معارض الكتاب وتحقيق كثافة عالية لمرتاديها، وهي كثافةٌ مهمةٌ إن أحسنَّا إعْمالها واستثمارَها، كما ظهرت مجموعات قرائيّة، وبرامج دافعة للقراءة، مشجّعة عليها، أشرف عليها قَوَمةٌ أحسنوا صنيعًا، مهما كانت مراميهم.
معارض الكتب فرصة لاستعادة الصّلة بالكتاب من جهة ولتدريب الناشئة على وجود عالم حقيقيّ بعد أن انغمسوا تدريجيّا فـي الكون الافتراضي، لا نُريد لأطفالنا وأبنائنا أن يحملوا معهم إلى المدارس لوحًا إلكترونيا فحسب، كما لا نريدهم أن يحملوا معهم أثقالا مُجهدة من الكتب فارغة المحتوى، نريدهم أن يبقوا على صلة بعالمهم وألاّ يفقدوا قيما نفـيسة أثبت علم النفس قدرتها على تخفـيف الاكتئاب وبعث الأمل وإحلال الراحة النفسية العلاجية، نريد أن تبقى صلتهم بالكتاب، وهذه ثقافةٌ على أولياء الأمور ومعلّمي المدارس زرعها فـي الناشئة.
فارقٌ حقيقيّ بين تفاعلك مع الكتاب وتفاعلك مع الرقميّات، على قيمة الرقميّات وقدرتها على تيسير البحث واختصار الزمن، فالكتابُ عالمٌ بذاته، كونٌ موسَّعٌ، وأذكرُ جيِّدًا أنَّا كُنّا نذهب إلى المكتبة الوطنيّة أيّام البحث والارتحال فـي الكتب، نجلس السّاعات الطّوال، فـي ظروفٍ من الحرِّ والقرِّ لا تشجّعُ على البقاء، مع قلَّة الأكل وضيق ذات اليد، فلا نعرف عمّا نبحثُ ونقضّي الساعات الطّوال والأيّام والأسابيع، نبحث أوّلا فـي عناوين الكتب فقط، أو فـي أسماء الكُتَّاب، ومنها نعلم ونُدركُ كتبًا كنَّا نجهل وجودها، وقد ننتهي من بعد ذلك إلى طلب كتابٍ استعاره أحد الباحثين، ولذلك كنَّا نمدّ عون المكتبة بأكثر من طلبٍ، ونُعدُّ قائمة بعدد من الكتب إن ظفرنَا ببعْضها جلسنا عليها بقيَّة يومنا، مخافَة ألاَّ نحصل عليها بيسر فـي اليوم التّالي.
كنتُ يومًا أبحث عن كتاب محمّد الطاهر بن عاشور فـي شرحه لديوان النابغة الذبياني، فإذا أنا أتعثَّر بكتابٍ لا يُوجَد فـي قائمة كتب ابن عاشور ولم أسمع به من قبلُ، ولم أعهد وجوده، وهو كتاب أصول الإنشاء والخطابة، فأفدت منه كبير الفائدة. وما زلتُ لحدّ اليوم أدخل مكتبة الكليّة المهجورة من الطلبة والأساتذة، أبحث بين أروقتها ورفوفها عن كتب استعرتها منذ ربع قرن، فأجدها وفـيّة، جالسة فـي مكانها، مهترئة أحيانًا من وفرة استعارتها.
قد تجد الكتاب معروضًا على مواقع الشبكة العنكبوتية، وقد يتيسّر لك أن تطّلع عليه، ولكن ستفقد قيمة هامّة هي رائحة الكتب، وما أحوجنا اليوم إلى روائح الأشياء والموجودات، فـي عالم بدأ يفقد روائحه، ومذاقه، وملمس الأعيان فـيه!
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
العشرية السوداء”.. كتاب جديد يوثق عقدًا من الانهيار الاقتصادي
انضم إلى قناتنا على واتساب
شمسان بوست / متابعات /عبدالله العطار
أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مؤخرًا، كتابًا جديدًا للباحث والاقتصادي اليمني دبوان عبد القوي الصوفي بعنوان: “العشرية السوداء للاقتصاد اليمني: دراسة تحليلية لآثار الحرب على الاقتصاد خلال الفترة 2011–2021”
يوثّق الكتاب بالأرقام والتحليل العلمي عقدًا كاملًا من الانهيار الاقتصادي الذي شهدته اليمن تحت وطأة الحرب والانقسام المؤسسي ويمثل محاولة جادة لفهم طبيعة التحولات الاقتصادية العميقة التي طالت مختلف قطاعات الدولة، ويدخل في تفاصيل الانهيار الذي طال الاقتصاد الوطني منذ ما قبل اندلاع الحرب وحتى ذروتها
ويقع الكتاب في 211 صفحة من القطع المتوسط، ويتوزع على أربعة فصول رئيسية، تبدأ بتشخيص البيئة السياسية والمؤسسية الهشة التي سبقت الحرب، وتتبع بدايات تفكك الدولة وتصاعد الأزمات التي ساهمت في تفجير النزاع.
ثم ينتقل في الفصل الثاني إلى مراجعة المؤشرات الاقتصادية خلال الفترة 2001–2010، ويعرض كيف كان الاقتصاد هشًا وقائمًا على الريع النفطي دون تنويع حقيقي.
أما الفصل الثالث – وهو الأهم والأكثر تفصيلًا – فيحلل آثار الحرب المستمرة منذ عام 2011 وحتى 2021، مسلطًا الضوء على الانكماش الكبير في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تجاوزت 50%، وتراجع نصيب الفرد من الدخل القومي إلى أقل من النصف، وتدهور سعر صرف العملة بأكثر من 500%، وارتفاع معدلات الفقر إلى 82.7%، والبطالة إلى أكثر من 35%، مع توقف أكثر من 60% من المنشآت الصناعية عن العمل، وتراجع الإنتاج الزراعي بنسبة قاربت 45%.
ويرصد الكتاب في هذا الفصل أيضا الآثار الاجتماعية والإنسانية المترتبة على الأزمة الاقتصادية، وفي مقدمتها موجات النزوح الداخلي التي بلغت أكثر من 4.3 ملايين نازح، غالبيتهم دون دخل ثابت، إلى جانب اتساع فجوة الدخل، وضعف شبكات الأمان الاجتماعي، وتآكل الطبقة الوسطى.
ويُختتم الكتاب بفصل رابع يطرح مجموعة من التوصيات والسياسات المقترحة للخروج من الوضع القائم، مع التمييز بين الإجراءات العاجلة التي تستجيب للاحتياجات الإنسانية والاقتصادية الفورية، والحلول الاستراتيجية التي تستهدف إعادة بناء المؤسسات الاقتصادية والمالية
مستعرضا أبرز تلك الحلول ويأت في مقدمتها توحيد البنك المركزي، وإعادة الثقة بالنظام المصرفي، وتوجيه الإنفاق العام نحو الخدمات والبنى التحتية، وتفعيل برامج الحماية الاجتماعية على أساس شفاف، وتعافي القطاعات الإنتاجية عبر دعم دولي فني وتمويلي ممنهج.
من جانبه أكد مؤلف الكتاب أن المشكلة الاقتصادية في اليمن ليست وليدة الحرب فقط، بل ناتجة عن تراكمات طويلة من غياب التخطيط، وانعدام الرؤية، وضعف مؤسسات الدولة، وتضارب المصالح السياسية والاقتصادية، وهو ما يجعل المعالجة تتطلب تفكيكًا علميًا دقيقًا، ورؤية إصلاحية متماسكة وشاملة.