برحيل البابا فرنسيس، يطوي العالم صفحة أحد أهم الرموز الدينية والإنسانية في العصر الحديث، رجل تجاوز حدود الكنيسة الكاثوليكية ليصبح ضميرًا أخلاقيًا عالميًا، وصوتًا صريحًا في الدفاع عن الفقراء، والمهمشين، وضحايا الظلم والإقصاء، ومبادرًا حقيقيًا في تعزيز الحوار بين الأديان، وخاصة مع العالم الإسلامي. كان البابا فرنسيس ـ خورخي ماريو برغوليو ـ القادم من الأرجنتين، هو أول بابا من خارج أوروبا منذ أكثر من ألف عام، وأول من اختار أن يحمل اسم “فرنسيس”، تيمنًا بالقديس فرنسيس الأسيزي، رجل السلام والبساطة والفقر الطوعي، ليجعل من هذا الاسم مشروع حياة، لا مجرد رمز.

لم يكن حضوره الكاريزمي وليد البروتوكول أو المناصب، بل كان نتيجة حقيقية لما اختطه لنفسه من التزام روحي عميق تجاه الإنسان، بغض النظر عن عرقه أو دينه أو طبقته الاجتماعية. اختار أن يغيّر صورة البابوية منذ اللحظة الأولى لانتخابه عام 2013، حين تخلى عن الإقامة في القصر الرسولي واختار بيت القديسة مرتا، وأطل على الناس من شرفة الفاتيكان طالبًا منهم أن يصلّوا له قبل أن يمنحهم هو البركة. هذا التحول لم يكن مجرد إشارة رمزية، بل كان تعبيرًا عن قناعة راسخة أن الزعامة الروحية لا تُقاس بترف السلطة، بل بالقدرة على الإنصات للآخر، لا سيما المنسيين على هوامش العولمة.

البابا فرنسيس أعاد تعريف مفهوم القيادة الدينية في زمن تعاظمت فيه الهويات المغلقة وتصاعدت فيه موجات الكراهية. اختار أن يكون صانع جسور لا باني جدران، وكرّس جزءًا كبيرًا من رسالته لتعزيز ثقافة الحوار مع المسلمين، إدراكًا منه أن المستقبل الإنساني مرهون بالخروج من منطق التصادم إلى أفق التعارف والتعاون. لم يكن ذلك مجرد خطاب ديبلوماسي يقتضيه المنصب، بل رؤية لاهوتية وإنسانية متجذرة في فهمه للمسيحية بوصفها دعوة للسلام العالمي.

من أبرز تجليات هذه الرؤية توقيعه وثيقة “الأخوة الإنسانية” مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في أبوظبي سنة 2019، في لحظة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الإسلامية-المسيحية، حيث وُضعت للمرة الأولى وثيقة مشتركة تُقرّ بحق الجميع في المواطنة الكاملة، وتدين العنف باسم الدين، وتدعو إلى حماية دور العبادة لكل الأديان. كان البابا في هذه الوثيقة يتحدث بلغة الحقوق لا المجاملة، بلغة الإنسان لا المؤسسة، بلغة من أدرك أن الأديان ليست مشكلة العالم بل يمكن أن تكون جزءًا من الحل.

ولم تكن هذه الوثيقة إلا محطة من محطات متعددة في مسيرته نحو ترسيخ ثقافة الحوار والتقارب، ومن أهمها زيارته التاريخية إلى المملكة المغربية سنة 2019، حيث التقى بالملك محمد السادس، أمير المؤمنين، في لحظة لافتة تعانق فيها البعدان الديني والسياسي، على أرض مشبعة برمزية التسامح الديني عبر التاريخ. فقد جسّد هذا اللقاء تأكيدًا على المشترك الإنساني بين الإسلام والمسيحية، وتعزيزًا لمبدأ إمارة المؤمنين كمرجعية دينية ضامنة للحرية الدينية والعيش المشترك. وتميزت هذه الزيارة بالإعلان المشترك للبابا والملك عما عُرف بـ”إعلان الرباط حول القدس”، الذي أكد على الأهمية الدينية والحضارية للقدس بوصفها مدينة للسلام، ومهدًا للديانات السماوية الثلاث، ودعا إلى صيانة خصوصيتها التاريخية والثقافية، ورفض كل الإجراءات الأحادية التي تمس هذا الوضع.

كان هذا الإعلان ثمرة قناعة عميقة بأن حماية القدس لا تهم الفلسطينيين وحدهم ولا المسلمين أو المسيحيين فقط، بل هي مسؤولية أخلاقية لكل الضمائر الحية، ولكل المؤمنين بوحدة المصير الإنساني. لقد جاء البيان بلغة سياسية ناعمة لكنها صارمة في تأكيد الحق والعدل، وهو ما أضفى على زيارة البابا للمغرب طابعًا يتجاوز المجاملات البروتوكولية إلى رسم خط أخلاقي واضح في قضايا العدل والحقوق.

زيارة البابا إلى العراق ولقاؤه بالمرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني في النجف، كانت بدورها علامة فارقة في هذا المسار، حيث لم يذهب إلى العراق من أجل الصورة، بل من أجل الموقف، في بلد جُرِح طويلًا بالحروب والانقسامات الطائفية. حمل رسالته ذاتها: أن لا سلام دون اعتراف متبادل، ولا تعايش دون احترام كرامة كل إنسان. وهكذا رسم البابا بخطواته المتزنة والمتأنية خريطة أخلاقية للعلاقات الإسلامية-المسيحية، تتجاوز السياسة إلى بناء جسور روحية حقيقية.

إن ما يميز شخصية البابا فرنسيس في هذا المجال ليس مجرد انفتاح ديبلوماسي ولا مبادرات مجاملة موسمية، بل قناعة فكرية وروحية أن الحوار مع المسلمين ليس خيارًا بل ضرورة، ليس سياسة بل إيمان. في كل خطاباته عن العلاقة مع الإسلام كان يصر على استخدام تعبير “إخواننا المسلمين” وليس “الآخر”، وهو اختيار لغوي يحمل في طياته قطيعة مع الخطاب الكنسي الكلاسيكي، ويُعيد ضبط اللغة على مبدأ الأخوة الكونية لا الصراع الحضاري.

وقد كان البابا فرنسيس من القلائل الذين امتلكوا شجاعة الإدانة الصريحة لكل مظاهر الإسلاموفوبيا، بما في ذلك حرق المصحف أو التعدي على المقدسات الإسلامية، واعتبر هذه الأفعال خيانة لجوهر الإيمان المسيحي ذاته، لأنها تناقض رسالة المحبة التي دعا إليها الإنجيل. بهذا الموقف الصارم، لم يُهادن التطرف في أي جهة، بل وضع حدودًا واضحة بين الحق في التعبير والاعتداء على كرامة الآخرين.

اللافت أن انشغال البابا بالحوار الإسلامي-المسيحي لم يكن على حساب القضايا الأخرى، بل كان جزءًا من منظومة فكرية أوسع ترى أن الإنسان هو محور كل التزام ديني، سواء أكان ذلك في قضايا اللاجئين، أو البيئة، أو العدالة الاجتماعية. فلطالما ربط بين الاقتصاد غير العادل، والظلم الاجتماعي، وتفكك العلاقات الإنسانية، وكان يرى أن الأزمة الأخلاقية في العالم المعاصر ليست إلا نتيجة لفقدان البوصلة الروحية التي تهتدي بقيم الأخوة والرحمة.

ورغم أن فترة بابويته لم تخلُ من الانتقادات، خاصة من بعض الدوائر المحافظة داخل الكنيسة الكاثوليكية، فإن ذلك لم يدفعه إلى التراجع عن قناعاته، بل ظل وفيًا لرؤيته أن الانفتاح على الآخر لا يهدد الهوية بل يطهرها من الانغلاق، وأن قوة الإيمان لا تقاس بعلو الصوت بل بقدرة صاحبه على أن يكون جسرًا بين المختلفين.

برحيله، يفقد العالم أحد أبرز صانعي السلام الحقيقيين، ويفقد المسلمون صديقًا صادقًا سعى جادًا إلى أن يجعل من الحوار معهم خيارًا دائمًا لا طارئًا. البابا فرنسيس لم يكن زعيمًا دينيًا فحسب، بل كان معلمًا أخلاقيًا عالميًا أدرك أن البناء المشترك للحضارة الإنسانية لا يكون إلا على أسس من الاحترام المتبادل، والتعاون، والاعتراف بالكرامة المشتركة لكل البشر.

لقد ترك إرثًا لن يموت بموته، بل سيظل علامة فارقة في تاريخ العلاقات بين الأديان، وشاهدًا على أن في هذا العالم قلوبًا لا تزال تؤمن أن الكلمة الطيبة أقوى من الرصاصة، وأن اليد الممدودة أقوى من الجدار المشيد، وأن الإيمان الحقيقي لا يُقاس بعدد الشعائر بل بقدر ما يحمله من حب للإنسان وخدمة للحياة.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: البابا فرنسيس الكنيسة الكاثوليكية رحيل البابا فرنسيس المزيد البابا فرنسیس لم یکن بل کان

إقرأ أيضاً:

بين نكسة القانون ونصرة الضمير.. هل تنقذ غزة النظام الحقوقي أم تدفنه؟

هناك جدل كبير بين المثقفين حول العلاقة بين النظام الفكري الذي تشكل مع فلسفة الحداثة، والنظام القانوني والحقوقي الذي تشكل مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وشكل معه قواعد النظام الدولي. البعض يرى أن النموذج الفكري الحداثي نجح في أن يشكل مرجعية العالم، من خلال القانون الدولي الإنساني ومرجعية حقوق الإنسان الكونية، لاسيما بعد سقوط المعسكر الشرقي، والبعض الآخر، ومنهم مثقفون من قوام عال غربي وعربي وإسلامي، يرى أن هذا النظام يعبر عن إرادة القوى الغالبة، بل ومصالح ولوبيات الرأسمالية المتوحشة التي سيطرت على الديمقراطية عبر المال والإعلام، ورهنت الرأي العام لديها، وأعملت معايير   انتقائية وازدواجية في تنزيل مقتضيات القانوني الدولي، ووظفت القضايا الحقوقية والاثنية لابتزاز الشعوب والضغط عليها لخدمة مصالح القوى المتنفذة.

كتب نعوم شومسكي كثيرا عن أعطاب الديمقراطية الأمريكية، وعن نظام الهيمنة الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وكتبت إيما سيزار وكتب سنغور عن الهيمنة الغربية على مقدرات الشعوب، وعن حق دول الجنوب في التحرر والانطلاق من الذات لبناء مستقبلها، وكتب منير العكش ومحمد السماك عن الإبادة الحضارية التي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية ضد شعوب عدة، بقصد الإبقاء على تحكمها على العالم، وانتقد مفكرون إسلاميون، من أمثال سيد قطب ومحمد قطب ومنير شفيق وعلال الفاسي، لعبة المعايير المزدوجة، وديمقراطية الرجل الأبيض، وكيف كان يتصرف الاستعمار البريطاني مع أبناء المستعمرات  في الهند ومصر والمغرب،  وأن الغرب كان لا يعتبر إلا بالبشرة البيضاء، ولا يعتد بالقوانين الدولية في التعامل مع دول الجنوب، وتحدث المهدي المنجرة عن الحرب الحضارية التي تمارسها دول الشمال في حق دول الجنوب،  فيما يشبه قناعة متداولة لدى مثقفي دول الجنوب على أن الغرب يستخدم النظام الفكري الحقوقي والكوني لخدمة مصالحه الخاصة، وينقلب إلى وحش كاسر لا يعبأ بحق شعوب مستعمراته السابقة إذا تعلق الأمر بحقها في الاستقلال والتحرر والتنمية والنهضة، بل وبحقها فقط في الوجود والحياة.

على مستوى النخب، مُسحت الأيديولوجيات العربية من على الطاولة، القومية منها والاشتراكية، وتم خوض حرب إيديولوجية محلية ودولية على أطروحة الإسلام السياسي، وأضحت أدلوجة النظام الفكري الذي أحدثه النظام الدولي خاصة في الشق الحقوقي والمرجعي هي الإطار الحاضن للنخب، وبدل أن يقع تركيزها على الحقوق السياسية والاقتصادية، وعلى الحقوق الاستراتيجية المرتبطة باستقلال الدولة وتأمين قرارها السيادي، أضحت أكثر اهتماما بالحقوق الفردية، وخوض معارك مع المرجعيات والقيم، وتكريس واقع الانقسام المجتمعي، فأضحت من حث أدري أدوات يستعملها المهيمنون على النظام الدولي لفرض أجنداتهم الخاصة.

إيديولوجية مكافحة الإرهاب

أنتجت القوى الدولية، مع الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، أطروحة جديدة، جنبتها حرج المساءلة بخصوص المعايير المزدوجة في التعامل مع حقوق دول الجنوب، والتحيز ضد القضايا العادلة للأمة، فبدت مكافحة الإرهاب ومواجهة التحدي الأمني، أولوية على قضية الديمقراطية والقيم الحقوقية المرتبطة بالحق في التعبير.

لقد كان الجميع مدركا بأن الأسباب العميقة للحادي عشر من أيلول / سبتمبر  لها علاقة عميقة بالتحيز لإسرائيل، وتواتر المظلوميات العربية والإسلامية، وإمعان الغرب في استعمال الفيتو والقوانين الدولية ضدا على العدالة الدولية، ومع ذلك تم استحداث إيديولوجية مكافحة الإرهاب، بحجة تحكمية لمنع الشعوب والأنظمة على السواء من الانتصار للقضية الفلسطينية أو دعم قواها المقاومة.

لقد كان الجميع مدركا بأن الأسباب العميقة للحادي عشر من أيلول / سبتمبر لها علاقة عميقة بالتحيز لإسرائيل، وتواتر المظلوميات العربية والإسلامية، وإمعان الغرب في استعمال الفيتو والقوانين الدولية ضدا على العدالة الدولية، ومع ذلك تم استحداث إيديولوجية مكافحة الإرهاب، بحجة تحكمية لمنع الشعوب والأنظمة على السواء من الانتصار للقضية الفلسطينية أو دعم قواها المقاومة.بدأ الأمر مع تنظيمات القاعدة وداعش، ثم انتهى إلى فصائل المقاومة التي تم تصنيفها أمريكا ضمن المنظمات الإرهابية، ووضعت الدول والمجموعات التي تقدم الدعم لهذه الحركات المقاومة في جدول العقاب والحظر والعقوبات، حتى أضحت إيديولوجية مكافحة الإرهاب، أقوى سلاح بيد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، لتقديم دعم منقطع النظير إسرائيل، ومحاكمة كل نظام أو مجموعة داعمة للمقاومة.

وانتهى العالم، بتحييد القوى التي تعترض على النظام الدولي، أو تفضح معاييره المزدوجة، أو تكشف زيف انتصاره لقضية العدالة، فعلى شاكلة ما حصل للقوى اليسارية زمن الحرب البادرة، تم وضع حركات المقاومة في لائحة الإرهاب، ثم تم تعديل تصنيف الحركات الإسلامية المعتدلة، من حركات محورية في عملية التحول السياسي في منطقة الشرق الأوسط، إلى حركات تنشر ثقافة التطرف والكراهية، وتعرض الأمن الإقليمي للخطر، وذلك حتى تطهر من المجتمع العربي الإسلامي كل القوى التي تدعم حقوق الشعب الفلسطيني أو أي حركة تحررية تناهض الهيمنة الغربية.

حرب غزة.. النظام الحقوقي والقانوني الدولي في الاختبار

ليس من الإنصاف القول بأن تعرض النظام الحقوقي والقانوني الدولي للاختبار حصل فقط عند حرب الاحتلال الإسرائيلي على غزة، فقد تعرض هذا النظام لهزات عنيفة في أكثر من مناسبة، وخيضت حروب على دول بعيدا عن مظلة القوانين الدولية، بل افتعلت حجج واهية من قبيل "أسلحة الدمار الشامل" لغزو العراق والتحكم في مقدراته وتدمير بنيته العلمية والعسكرية والنهضوية، وحظيت إسرائيل بدعم أمريكي كامل، وتم التغطية على جرائمها على مدى أكثر من سبعين سنة. وفي نهاية المطاف، تم حصد نتائج استعمال أطروحة مكافحة الإرهاب، للضغط على الدول العربية لإبرام الاتفاقات الإبراهيمية، وهي التي سبق وأعلنت سنة 2002 في مؤتمر القمة العربية على رؤيتها لإحلال السلام، وأن ذلك لا يتصور دون حل الدولتين وانحساب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية إلى حدود 1967.

الصورة اليوم أضحت واضحة، تجريد حزب الله من السلاح، ومنع الجيش السوري وقوات الأمن من الوجود بالجنوب السوري، وإخلاء غزة وتهجير شعبها، وتجريد فصائل المقاومة الفلسطينية من السلاح، والضغط على الدول العربية للانضمام إلى خطة إسرائيل للتحكم في الشرق الأوسط وتمكينها من إعادة صياغته، بما في ذلك صياغة خارطته من جديد على ضوء أهدافها التوسعية لكن، مع الأخذ بعين الاعتبار مجمل الانتهاكات التي حصلت على مستوى الانضباط للقانون الدولي، والمرجعية الحقوقية الأممية، فإن الحرب على غزة، أضحت تمثل نموذجا ليس فقط لانتهاك واحد، بل لنسف الاحتلال الإسرائيلي للقانون الدولي الإنساني برمته، وضرب جميع قواعده، وارتكاب كل الجرائم التي يدينها ويرتب وعقوبات قانونية صارمة عليها، ويصنف مسؤوليها على أساس أنهم مجرمي حرب، أو مرتكبي إبادة إنسانية.

بدأ الأمر باستهداف المدنيين، وكانت حجة إسرائيل أنهم مقاتلون من حماس وقوى المقاومة الفلسطينية، ثم بدأ العالم بعد ذلك أن هذه الحجة كاذبة، وأن استراتيجية إسرائيل أصلا موجهة لتقتيل المدنيين لإرغام فصائل المقاومة على الاختيار بين مزيد من معاناة الشعب الفلسطيني وبين الاستمرار في المقاومة، بل تأكد فيما بعد أن خطة الاحتلال الإسرائيلي، تستعمل الديمغرافيا سلاحا استراتيجيا، وتستهدف النساء والأطفال على الخصوص إحداث تغيير جدري في معدلات الإخصاب المرتفعة في غزة.

في المرحلة الثانية، تم التوجه إلى ضرب المنشآت الحيوية المدنية، مجسدة في محطات الماء والكهرباء، ومستودعات المنظمات الإغاثية الدولية، وظهر أن القصد من ذلك هو الامعان في استعمال المعاناة الإنسانية للضغط على المقاومة، وإحداث مشكلة في البيئة الحاضنة.

ثم استبان في المرحلة الثالثة، لما بدأ استهداف المستشفيات واحدا تلو الآخر، وتهجير المواطنين الفلسطينيين من الشمال إلى الجنوب أن الهدف الأساسي هو التهجير القسري من خلال إعدام شروط العيش في غزة، لإجبار الفلسطينيين إلى ترك الهجرة.

عبر الرئيس الأمريكي بكلماته الواضحة عن هذا السيناريو أكثر من مرة، حين قال بأن شروط العيش في غزة منعدمة، وأن من حقهم أن يحظوا بعيش كريم بعيدا عن غزة التي توفر ذلك، بل عبر بوضوح عن وجود خطط عقارية وسياحية إسرائيلية أمريكية في قطاع غزة وحلم تحويله إلى ريفيرا.

المفاوضات التي أثمرت اتفاقا جزئيا في يناير الماضي، غيرت الصورة جزئيا، وتبين كما ولو أن خطة الاحتلال الإسرائيلي فشلت، وأن الولايات المتحدة الأمريكية، بضغط دولي إنساني، تدخلت لإنهاء هذه المأساة، لكن، الخرق الإسرائيلي للاتفاق بعد شهرين من انضباط حماس الحرفي لمقتضياته، أظهر بأن خطة التهجير ليست فقط أداة تكتيكية للتفاوض، بل خطة استراتيجية بعيدة المدى، يتم استخدام كل التكتيكات العسكرية والتفاوضية من أجل إنفاذها، وأن المفاوضات لم تكن إلا   لحظة امتصاص للضغط الدولي، وفرصة لاستدراك النقص في الأسلحة للمرور إلى مرحلة أخرى أكثر إيلاما  للشعب الفلسطيني، وانتهاكا للقانون الدولي.

الإبادة والتجويع في أفق التهجير:

المرحلة الجارية، تشي بتطور خطير، إذ اتجه الاحتلال الإسرائيلي إلى سياسة التجويع، بسد المعابر كلها، ومنع إيصال المساعدات الإنسانية إلى الشعب الفلسطيني.

المنظمات الدولية، تورطت في نوع من التواطؤ، حينما امتنعت بحجج قانونية واهية إلى منع توصيف الحالة في غزة على أساس أنها إبادة أو مع تصنيفها في درجات عالية من مجاعة، لكن قادة الدول الغربية، أيقنوا أن لبعة التغطية والتواطؤ هذه ستنكشف أمام الخطط الإسرائيلية، التي يعلن قادتها ومسؤولوها علنا أنهم بصدد خطط عسكرية لإخلاء غزة وتهجيرها واحتلال القطاع كله وتوسيع الاستيطان فيه، وأن الخطة الموازية للضغط العسكري هي تجويع الشعب الفلسطيني ومنع المساعدات الإنسانية من الوصول إلى غزة.

ليس من الإنصاف القول بأن تعرض النظام الحقوقي والقانوني الدولي للاختبار حصل فقط عند حرب الاحتلال الإسرائيلي على غزة، فقد تعرض هذا النظام لهزات عنيفة في أكثر من مناسبة، وخيضت حروب على دول بعيدا عن مظلة القوانين الدولية، بل افتعلت حجج واهية من قبيل "أسلحة الدمار الشامل" لغزو العراق والتحكم في مقدراته وتدمير بنيته العلمية والعسكرية والنهضوية، وحظيت إسرائيل بدعم أمريكي كامل، وتم التغطية على جرائمها على مدى أكثر من سبعين سنة. وفي نهاية المطاف، تم حصد نتائج استعمال أطروحة مكافحة الإرهاب، للضغط على الدول العربية لإبرام الاتفاقات الإبراهيمية، وهي التي سبق وأعلنت سنة 2002 في مؤتمر القمة العربية على رؤيتها لإحلال السلام، وأن ذلك لا يتصور دون حل الدولتين وانحساب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية إلى حدود 1967.الولايات المتحدة الأمريكية استعملت مرة أخرى السلاح ذاته، أي كسب مزيد من الوقت من خلال التوسط لإجراء مفاوضات بين الطرفين، مع الإعلان بعد ثلاثة أسابيع عن الانسحاب من هذه المفاوضات التي أحرزت تقدما كبيرا بحسب الوسطاء، لإعطاء الفرصة للاحتلال للمضي جولة أخرى في سياسة التهجير.

وهي تعمل اليوم بتنسيق كلي مع تل أبيب من أجل تقديم جواب عبر الشاشات عن حقيقة تجويع إسرائيل لشعب غزة من خلال تصوير دخول شاحنات إغاثة إنسانية لغزة أو صور طائرات تنزل المساعدات على قطاع غزة، حتى يتم امتصاص الضغط الإنساني الدولي، ثم العودة مرة أخرى لجولة جديدة من خطط التهجير القسري عبر استعمال آلية التجويع والقتل والإبادة.

حديث واشنطن وتل أبيب عن بدائل أخرى، وتصريح ترامب بالعودة للقتال،  وتقديم الجيش الإسرائيلي مخططا جديدا للتوسع العسكري في غزة، يبين إلى حد كبير هذه البدائل التي لا تعني سوى استئناف جولة جديدة لإجبار الشعب الفلسطيني إلى الهجرة القسرية بأدوات عسكرية، وبسياسة تجويع تضطلع الولايات المتحدة الأمريكية بتبييضها وتبريريها أمام العالم.

في المحصلة، لقد تورط الاحتلال في قطاع غزة في كل الجرائم التي يدينها القانون الدولي الإنساني، ومثلت غزة بذلك الحالة النموذجية لاغتيال النظام الحقوقي والقانوني الدولي.

سقوط النظام القانوني والحقوقي الدولي بيد المقاومة كما إنقاذه

يتحدث محللو الوقائع السياسية عن سيناريوهين اثنين لما يجري في قطاع غزة، إما تحقيق الأهداف الإسرائيلية الأمريكية بتهجير الشعب الفلسطيني من غزة وإبادة من رفض الانصياع للتهجير، وإما صمود المقاومة وفشل كامل لخطط الجيش الإسرائيلي واضطراره إلى صفقة شاملة لوقف الحرب.

لا يهمنا الدخول في أي التوقعات أقرب إلى الاستشراف الواقعي، لكن ما يهمنا بدرجة أولى هو أن نثبت أنه في الحالتين معا، سيكون سقوط أو إنقاذ النظام القانوني والحقوقي الدولي بيد فصائل المقاومة.

تفسير ذلك، أن إصرارها على المقاومة إلى آخر قطرة دم في عروق أي مقاوم، سيدفع إسرائيل إلى جعل خطة التهجير أكثر دراماتيكية، وهو ما سيزيد من تأجيج الضمير العالمي، ووضع أمريكا في حرج إقبار النظام الدولي، ومن ثمة، سيكون إصرار الاحتلال الإسرائيلي على المضي في هذا السيناريو الخطير، تهديدا استراتيجيا إما للعالم، أو لوجودها، لأن الأمر يتعلق بانهيار النظام القانوني والحقوقي الدولي، وهو السيناريو الذي لا يمكن توقع تداعياته الخطيرة على الأمن الإقليمي والدولي.

وأما السيناريو الثاني، أي اضطرار الكيان الإسرائيلي إلى الجلوس هذه المرة في طاولة مفاوضات جدية لوقف الحرب بشكل نهائي، فسيعني عودة بعض الروح للنظام القانوني الحقوقي الدولي، ليس لأن الذاكرة لا تحتفظ بجرائم الكيان الإسرائيلي، ولكن لأن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بانتصار الضمير الإنساني العالمي، وانتصار ما تبقى من الأفكار الإنسانية في النظام القانوني والحقوقي الدولي.

وهكذا يمكن القول بدون تردد أن مصير النظام الحقوقي الإنساني الدولي بات اليوم بيد المقاومة في غزة، فنجاحها في ردع العدوان، سيكون بمثابة إحلال روح جديدة فيه، وموتها أو نهايتها دون هذا الهدف، يعني النهاية الكلية لهذا النظام ولكل أطره الفكرية والحقوقية والإنسانية.

الصورة الجارية اليوم، لا تعطي إشارة حقيقية إلى أين المتجه، لكن، ثمة مؤشرات ظاهرة على فشل الخطط الأمريكية والإسرائيلية، وأن القيادة السياسية في إسرائيل، لا تزال تلعب أوراقها الأخيرة، ليس بقصد إنجاح أهدافه الاستراتيجية في التهجير، ولكن لتحقيق أهداف سياسية شخصية فقط.

مقالات مشابهة

  • بين نكسة القانون ونصرة الضمير.. هل تنقذ غزة النظام الحقوقي أم تدفنه؟
  • أحمد حسن يكشف موقف الزمالك من رحيل محمد صبحي
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: الرباعية الدولية .. صراع المصالح يبدد فرص الحل..!
  • د. حسن محمد صالح يكتب: متلازمات ولزوميات
  • رئيس النواب : العالم يعيش لحظات فارقة تمس جوهر الاستقرار الإنساني العالمي
  • محمد مندور يكتب: ثقافة الإصغاء وتحقيق العدالة الثقافية
  • اقتراب رحيل لاعب جديد من الأهلي بعد وصول عرضين من السعودية وفرنسا
  • مجزرة الجوع في غزة: أكثر من 700 ضحية في مشهد دموي يهز الضمير الإنساني
  • الترجمة الأدبية.. جسر غزة الإنساني إلى العالم
  • الذايدي بعد رحيل بن نافل: الهلال لا تسقطه الظروف .. فيديو