في عام 1960 تمكنت الاستخبارات الاسرائيلية من اختطاف ادلوف ايخمان من مكان اختبائه بالارجنتين و نقلته سرا الي اسرائيل حيث تمت محاكمته في محاكمة مشهورة عالميا بالقدس و من ثم اعدامه. كان ايخمان من كبار النازيين خلال فترة حكم هتلر ويعتبر أحد العقول المدبرة لتنفيذ خطة الابادة الجماعية لليهود. كانت نظرة النخبة الصهيونية و معظم اليهود أنذاك لأيخمان باعتباره نازيا متوحشًا ساديًا فعل فعلته الشريرة تلك مع سبق الأصرار بموجب قناعة أيدلوجية, الا أن المفكرة و الباحثة الالمانية-الامريكية حنا أرندت (هي أيضا يهودية) صدمت مواطنيها اليهود ( وآخرين كثر) فيما أوردته في كتابها الشهير (أيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر).



أهم أطروحة كتاب حنا أرندت هي:
• أن إيخمان لم يكن شيطانًا متوحشًا أو ساديًا كما كان يُعتقد، بل كان بيروقراطيًا عاديًا، ينفذ الأوامر دون التفكير في عواقبها الأخلاقية.
• الشر، بحسبها، لا يأتي دائمًا من الحقد أو الكراهية العميقة، بل يمكن أن يأتي من اللامبالاة والتفكير السطحي والطاعة العمياء.
• وصفت أيخمان بأنه "يفتقر إلى القدرة على التفكير"، لا بمعنى الغباء، بل بمعنى عدم التفكير الأخلاقي: لم يتأمل في ما كان يفعله أو في معاناة ضحاياه.
• رأت أرندت أن النظام النازي حوّل القتل الجماعي إلى عملية إدارية منظمة، وأن أمثال أيخمان كانوا مجرد تروس في آلة.
• الطاعة العمياء للسلطة، والميل إلى اتباع القوانين دون تساؤل، جعلا من الجرائم الكبرى ممكنة.

نفس ماتوصلت له حنا أرندت فكريا توصل له باحثون بجامعة ييل الامريكية الشهيرة عمليا و تجريبيا, وذلك في التجربة المشهورة عالميا بتجربة ميلغرام و تلخيصها كالتالي:
• طُلب من المشاركين وهم طلبة بجامعة ييل (الذين كانوا يظنون أنهم يشاركون في تجربة عن التعلم والذاكرة) أن يلعبوا دور "المُعَلِّم-المشارك"، ويقوموا بصعق "طالب" بالكهرباء كلما أجاب إجابة خاطئة.
• الطالب" كان في الحقيقة ممثلًا، ولم تكن هناك أي صدمات حقيقية.
• مع كل إجابة خاطئة، يُطلب من "المعلم" زيادة شدة الصدمة
• كلما أبدى المشاركون ترددًا، كان هناك رجل يرتدي معطفًا أبيض (رمز السلطة العلمية) يأمرهم بعبارات مثل:
"الرجاء الاستمرار"، "من الضروري أن تتابع"، "ليس لديك خيار آخر، يجب أن تواصل.

النتائج الصادمة لتجربة علم النفس تلك هي:
أكثر من 65٪ من المشاركين-الطلبة استمروا في إعطاء "صدمات" كهربائية حتى الحد الأقصى (450 فولت)، رغم سماعهم صراخ "الطالب" وطلبه التوقف, ولو كانت تلك الصدمات حقيقية لمات بعض من تلقاها, علما بأن أؤلائك الطلاب منفذو الصدمات كانوا طلبة في واحدة من أعرق الجامعات الامريكية- جامعة ييل- وهي جامعة لايقبل بها الا الطلبة المبرزون علميا.

الاستنتاج: أغلب الناس يميلون لطاعة السلطة, مهما كانت درجة تعليمهم, حتى لو كان ذلك يعني إلحاق الأذى بالآخرين، إذا ما شعروا أنهم غير مسؤولين شخصيًا.

الصلة مع "تفاهة الشر":
تُعد تجربة ميلغرام تطبيقًا عمليًا لفكرة حنة أرندت حول "تفاهة الشر" — أي أن الأشخاص العاديين قد يرتكبون أفعالًا شريرة عندما يخضعون للسلطة دون تفكير أخلاقي مستقل.

جال خاطري بكتاب حنا و بتجربة ميلغرام و أنا مثلي مثل مع بقية السودانيين, في هذا الزمان الصعب, نتابع فظائع و مذابح الجنجويد ضد أهلنا في الجنينة و الجزيرة و الصالحة و كل منطقة دخلوها و عاثوا بها فسادا. تذكرت سفاحي الجنينة و غرب دارفور الذين دفنوا المدنيين الأبرياء أحياء , تذكرت سفاح الجزيرة عمر شارون و سفاح الصالحة جار النبي! تابعت تساؤلات البعض حول كيف يمكن لبشر أن يفعل مافعله أولائك؟

أيضا تذكرت ماحكاه لي قبل سنوات أحد أصدقائي اليساريين الذي كان معتقلا في أحد زنازين جهاز الأمن في عهد البشير و خلال اعتقاله تم استجوابه و تعذيبه قبل اخلاء سبيله. أفاد بأنه بعد اطلاق سراحه لم يعيدوا له ساعة يد قيمة كانوا قد أخذوها منه وهو لم يجرؤ للسؤال عنها عند مغادرته المعتقل. و للحصول علي ساعته طلب معاونة أحد أقاربه ممن يعملون في جهاز الأمن و ذهب بمعية قريبه لمكان اعتقاله السابق. قال بأنهم عند دخولهم لحوش المعتقل رأي من البعد رجلا فأشار لقريبه بأن ذلك الشخص شارك في تعذيبه بل أنه قد رآه يضرب فتيات معتقلات ضربا مبرحا و يمزق ملابسهن. فما كان من قريبه الا أن قال له: ( ياخ دا زول كويس, و كمان حافظ للقرآن الكريم)!

المجرم الذي قام بتعذيب صديقي هو (زول كويس) لبعضهم, تماما كما و أن السفاح عمر شارون (زول كويس) لبعض معارفه و كذلك سفاح الصالحة جار النبي و غيرهم من سفاحي الجنجويد الكثيرون. بالتأكيد فكلهم يشاركون في أفراح و أتراح أقاربهم و أصدقائهم, ربما يدفعون ماتيسر من المال في كشوفات العزاء و ألافراح, الا أنهم كلهم يتفقون في (عدم القدرة علي التفكير الأخلاقي: لم يتأمل أي منهم في ما كان يفعله أو في معاناة ضحاياه.) تماما كما قالت حنا أرندت. لم ينتقلوا من المرحلة النفسية التي وصفها القرآن الكريم ب (النفس الأمارة بالسوء) للمرحلة القرآنية التي تليها علوا وهي (النفس اللوامة) وهذا الوصف القرآني الذي تفتقده نفوس السفاحين و معذبي الناس هو نفس ماوصفته حنا أرندت ب (عدم المقدرة علي أنتقاد المرء لأفعاله) وهو يطابق ماأورده العارف بالله ابن عطاء الله السكندري في أحد حكمه حيث قال: (أصل كل معصية و غفلة و شهوه: الرضا عن النفس, و أصل كل طاعة و يقظه و عفه: عدم الرضا منك عنها).

أعتقد أيضا أن تفهاء السفاحين و المجرمين ممن ينتمون لجماعة ما, يفعلون منكرهم متأثرين بنظريه في علم الاجتماع تسمي نظرية السلوك الجمعي (Collective Behavior ) فحسب هذه النظرية:
عندما يكون الإنسان ضمن مجموعة، تحدث عدة آليات نفسية واجتماعية تجعله يتصرف بشكل مختلف , عن تصرفه عندما يكون منفردا و ذلك للأسباب التالية:
إزالة الهوية الفردية (Deindividuation)
يشعر الفرد بأنه مجهول أو غير مرئي داخل الحشد, و أن جرم ماسيرتكبونه كجماعه لن يتحمله وحده. يؤدي هذا الشعور إلى انخفاض الإحساس بالمسؤولية، فيكون أكثر عرضة لارتكاب سلوك غير أخلاقي أو عدواني.
العدوى الاجتماعية (Social Contagion)
تنتشر العواطف والسلوكيات بسرعة بين أفراد المجموعة (كالغضب، الصراخ، الفوضى).
التبرير الجماعي (Diffusion of Responsibility)
عندما يكون هناك الكثير من الناس، يقل الإحساس بالمسؤولية الفردية ("الكل يفعلها"، أو "لست وحدي")
الضغط الجمعي (Peer Pressure)
يخاف عضو المجموعة التي ترتكب فعلا اجراميا من أن يُعزلوا أو يُنتقدوا إذا لم يتبعوا سلوك المجموعة.

يصف القرآن الكريم هذا السلوك الجمعي, الذي يذيب المسؤلية الفردية في قوله تعالي ( وكنا نخوض مع الخائضين), أي أن الكل حولنا كان يفعل ذلك و نحن كنا نفعل مثلهم. الإسلام يؤكد بوضوح أن الإنسان مسؤول عن أفعاله فرديًا، بغض النظر عن ما يفعله الآخرون. ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾, أي لا أحد يتحمل ذنب غيره. ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾, أي كل نفس مسؤولة عن عملها الخاص. لكل ذلك نري أن المسؤلية في الأسلام هي مسئؤلية فردية في المقام الأول {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} , حتى لو كنت ضمن جماعة في الدنيا، تقف فردًا يوم الحساب. ففي ذلك اليوم الذي هو آت لاريب فيه لايمكن للسفاح, المغتصب , أو من يعذب الناس بأن يبرر جريمته بالقول (بأن الكل كان يفعل ذلك),
و نجد مزيدا من محاربة الأسلام للانقياد للسلوك الجمعي في حديث المصطفي عليه أفضل الصلاة و السلام:"لا يكن أحدكم إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا".
و بالله التوفيق و السداد.

husseinabdelgalil@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: تفاهة الشر ما کان

إقرأ أيضاً:

علي جمعة يكشف عن مواقف حلم النبي مع قومه

قال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف عبر صفحته الرسمية على فيس بوك : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستحق تلك المكانة التي جعلها الله له، ويستحق أن نحبه بكل قلوبنا، فهو الذي كان يتحمل الأذى من أجلنا، ولا يخفى ما يؤثر من حلمه صل الله عليه وسلم واحتماله الأذى، وإن كل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة، وهو صل الله عليه وسلم لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبرًا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلمًا.

ما الذي يقوي العلاقة بين الزوجين؟.. احرصا على هذا الأمر ولو مرة يوميالماذا سميت سورة الرحمن بعروس القرآن؟.. 5 أسباب عليك معرفتهاإذا كانت ذنوبك من الأرض إلى السماء.. علي جمعة: بعملين تكفرها كلهاماذا يحدث لمن يؤخر صلاة الفجر عند استيقاظه للعمل قبل الشروق بدقائق؟

مظاهر من حلم النبي

ونوه انه يؤكد هذا الخلق العالي دعاءه لقومه الذين آذوه وعادوه، وما دعا عليهم، وإن كان الدعاء عليهم ليس بمنقصة، فإن الدعاء على الظالم المعاند لا شيء فيه، وفعله أولو العزم من رسل الله كنوح وموسى عليهما السلام. 

فكان دعاء سيدنا نوح، فقد قال القرآن عنه في دعائه على قومه: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً}. 

 وسيدنا موسى عليه السلام، فقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ}.

 وقد كانا عليهما السلام على حق، ولكن كان المصطفى ﷺ أحق، فقد روى الطبراني وذكره الهيثمي في مجمعه وقال: "رجاله رجال الصحيح": أن النبي ﷺ لما كسرت رباعيته، وشج وجهه الشريف ﷺ يوم أحد، شق ذلك على أصحابه شقًا شديدًا، وقالوا : لو دعوت عليهم. فقال: إني لم أبعث لعانًا، ولكني بعثت داعيًا ورحمة، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

 وأخرج البخاري في صحيحه عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي ﷺ: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت. وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك فسلم علي ثم قال: يا محمد، فقال ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبي ﷺ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا).

وعفا النبي ﷺ عمن جذبه من الأعراب جذبة شديدة، وأعطاه سؤاله وزاد، وعفا ﷺ عن اليهودية التي سمت الشاة له بعد اعترافها، ولم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره، ولا عتب عليه فضلًا عن معاقبته. فهذا هو الأسوة الحسنة، والنموذج الأعلى المرضي عند ربه ﷺ.

طباعة شارك حلم النبي مواقف فى حياة النبي مع قومه النبي حب النبي رحمة النبي

مقالات مشابهة

  • علي جمعة: النبي ﷺ أنسب الناس والله أثنى عليه وشرَّف مكانه وزمانه
  • أفضل دعاء قبل النوم.. 15 آية قرآنية داوم عليها النبي كل ليلة
  • فعل يمنعك من غضب الله.. أوصى به النبي
  • أدعية ثلث الليل الواردة عن النبي الكريم
  • دعاء النبي ﷺ عند اشتداد مياه المطر
  • ماذا قال النبي عن خير أجناد الأرض.. ووصيته بأهل مصر وجيشها؟
  • علي جمعة: النبي ﷺ كان يستحق مكانته عند الله تعالى ومحبتنا له
  • علي جمعة يكشف عن مواقف حلم النبي مع قومه
  • في حب النبي .. أجمل ما قال الراحل أحمد عمر هاشم في آل البيت
  • علي جمعة: حب النبي ﷺ من محبة الله تعالى