حاتم الطائي
◄ ترامب يقود أمريكا نحو هاوية تاريخية وسط تراجع سياسي واقتصادي
◄ أفكار ترامب منتهية الصلاحية ولا يملك نظرية اقتصادية حقيقية
◄ الديمقراطية الأمريكية تنهار أمام اعتقال المتظاهرين والتنكيل بالمهاجرين
ظلّت الولايات المتحدة الأمريكية طيلة عقود خلت، تزعم أنها راعية الحُريات في العالم، وأنها تملك المنظومة الأكثر تنوعًا وتسامحًا مع الآخر؛ بل وادَّعت أنها بلد الديمقراطية الأول في الكوكب، وأنها الدولة صاحبة براءات الاختراع في جميع المجالات، وفوق كل ذلك سعت للارتكاز على قوتها العسكرية المُفرِطة، لتكون القوة الغاشمة في العالم، دون الالتزام بأية قيم أو مبادئ أو أخلاقيات.
وفي المُقابل نعتت أمريكا الكثير من دول العالم بعكس هذه، وأشهرت سلاح الديمقراطية في وجه العديد من البلدان، ومارست ابتزازًا سمجًا على مُعظم دول الشرق الأوسط، تحت مزاعم "الحريات" و"الديمقراطية"، واستباحت خيرات الدول تحت مظلة "التجارة الحُرة"، لكنها اليوم وبعد كل هذه العقود، تتراجع عن كل هذه الشعارات، وتتخلى عن "القيم الأمريكية"، لأنَّ عجوزًا ديكتاتوريًا عاد مرة أخرى إلى البيت الأبيض، في أعقاب عجوز ضعيف حكم لمدة 4 سنوات. هذه المفارقة العجيبة أصبحت حديث العالم، منذ أن عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الحكم إثر إلحاق الهزيمة الطبيعية بسلفه جو بايدن. عاد ترامب زاعمًا أنه يقود بلاده نحو "أمريكا العظيمة"، غافلًا عن حقيقة لا تقبل الشك وهي أن الولايات المتحدة ومنذ فترة حكمه الأولى ثم فترة حكم بايدن، قد دخلت فعليًا مرحلة الشيخوخة السياسية، وها هو اليوم يقودها في مرحلة الشيخوخة الاقتصادية.
التراجع السياسي للولايات المُتحدة في العالم، دشنه ترامب في عُهدته الأولى؛ إذ حرص على جني المال على حساب الدور السياسي لواشنطن كقوة عالمية، في ظل النظام أحادي القطب، وفاقم من هذا التراجع، إثر هزيمته النكراء أمام جو بايدن "النائم"- كما كان يُحب أن يُسميه. ولا أدلَّ على ذلك من الفضيحة العالمية التي تسبب فيها ترامب عندما حرّض مؤيديه على اقتحام مبنى الكابيتول في الكونجرس الأمريكي، ومشاهد عشرات الآلاف من مُناصريه يحاولون إحراق أمريكا، ويسيرون بين النَّاس بالأسلحة والسيوف والسكاكين، عندئذ زُلزِلت صورة أمريكا الديمقراطية، وصعدت صورة أمريكا الرجعية. وعندما عاد مُجددًا هذه المرة قبل نحو 100 يوم فقط، بدأت أمريكا مرحلة الشيخوخة الاقتصادية، مع إشعال ترامب لحرب تجارية عالمية، وارتكاب انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان وحرية التعبير في بلده!
هذه الشيخوخة، ليست سوى انعكاس للانحطاط الأمريكي الذي انزلقت له الولايات المتحدة، خاصة وأنَّ الأفكار التي يطرحها ترامب ويتوهم أنها قادرة على معالجة أزمات وتحديات الاقتصاد الأمريكي، هي أفكار بلهاء ومُنتهية الصلاحية، وتعود إلى فترة السبعينيات من القرن الماضي وما قبلها، وتطبيقها اليوم يُلحق بالفعل أضرارًا هائلة بالاقتصاد الأمريكي، وهي أفكار تجاوزتها الثورة الصناعية الرابعة بفكرها المُتجدِّد في عالمٍ بلا حدود وبلا رسوم جمركية. ومن تبعات هذا الفكر الترامبي العقيم أنَّ المصانع الأمريكية لم تعد تستوعب الآلاف من العمال، على عكس ما أراد ترامب؛ حيث إنَّ الروبوتات وتقنيات الذكاء الاصطناعي أصبحت هي المُسيطرة على عمليات التصنيع. فمثلًا هناك مصانع في الصين تُديرها الآلة الروبوتية بنسبة 95%، بينما تعتمد بنسبة 5% على العنصر البشري! بينما أصبح دور البشر حاليًا يتركز في البحث والتطوير، ولذلك- في المُقابل- نجد الصين تتفوق بسرعة الصاروخ في الكثير من المجالات، ولا أدلَّ على ذلك من عدد براءات الاختراع المُسجلة في الصين، مقارنة بالولايات المتحدة. هذا التطور المُذهل في الصين الناتج عن الانفتاح الاقتصادي والتنمية الشاملة، أسهم في تقدم الصناعات الصينية، وتوفقها على نظيرتها الأمريكية، سواء من حيث الجودة أو التكلفة، وحتى في المجالات التقنية، نجحت الصين في أن تضع قدمًا راسخة في ميدان الذكاء الاصطناعي، خاصة بعد إطلاق عدة نماذج من أشهرها "ديب سيك" بتكلفة أقل نحو 27 مرة من النماذج الأمريكية.
من العجب أنَّ الرئيس الأمريكي الذي يقترب من سن الثمانين عامًا، يعتقد أنَّه يطرح أفكارًا ستُعيد إلى الولايات المتحدة "مجدها" المزعوم، غير مُدرك لأن أفكاره الاقتصادية تتعارض مع أبسط قواعد الاقتصاد، ويقود بلاده بلا خطة ولا نظرية اقتصادية حقيقية؛ بل إنَّ فهمه لمصطلحات مثل "العجز التجاري" يكشف عن جهل مُطبق؛ حيث يظن أن العجز ناتج عن زيادة الاستيراد على حساب الصادرات، وهذا فهم قاصر للغاية، لأنَّ الأمر يتعلق بمستوى الطلب وتكلفة التصنيع المحلية وغيرها من العوامل، وفرض أي رسوم جمركية لن يقضي على العجز التجاري؛ بل سيقود إلى أزمات اقتصادية خانقة، أقلها حدة ارتفاع التضخم، وعجز في المعروض المحلي من السلع والخدمات.
وبينما يحارب ترامب طواحين الهواء الاقتصادية، يغفل تمامًا عن القطاعات الأساسية، فمثلًا يلغي وزارة التعليم، ويتعمّد تسريح أكثر من 120 ألف موظف، من مؤسسات فيدرالية وأمنية واستخباراتية، بحجة تقليص النفقات، ويمارس عمليات ابتزاز على الشركات الأمريكية التي لها مصانع خارج الولايات المتحدة، بسبب ارتفاع تكلفة التصنيع الأمريكية مقابل انخفاضها في دول مثل المكسيك والصين وغيرها.
ويكفي أن نعلم أن الصناعات الأمريكية لا تساهم إلّا بحوالي 17% فقط في الناتج الصناعي العالمي، بينما قفزت حصة الصين منفردة إلى 29% من الناتج الصناعي العالمي، ما يعني أن ثلث صناعة العالم تأتي من الصين.
أمريكا باختيارها للعجوز المُتصابي صاحب "الرقصة الترامبية"، انزلقت فعليًا في أزمة قيادة، وقبلها في أزمة أخلاقية بسبب تورطها في حرب الإبادة الشاملة في قطاع غزة، ولا ريب أن أزمتي: القيادة والأخلاق، تحت قيادة رؤساء عجائز، ستقود الولايات المتحدة إلى الانهيار الشامل. تمامًا كما حدث في العقد الأخير من عمر الاتحاد السوفييتي؛ حيث كان كل الرؤساء في الثمانين من العمر، مما تسبب في الانهيار المُريع.
الحقيقة الإنسانية التي يُدركها الجميع، أنَّ المجتمعات غير القادرة على تجديد قياداتها من المؤكد أنها تتراجع وتنهار، والتاريخ لا يرحم من لا يُجدد أفكاره وقياداته؛ حيث يتجاوزه الآخرون في السباق الحضاري نحو التقدم وبسط النفوذ، وهذه سنة كونية في التدافع، لذلك اعتقاد ترامب بأنه سيُعيد أمريكا "عظيمة مُجددًا" محض خيال، وهراء تام، فهو لا يملك سوى الشعارات الجوفاء عديمة الجدوى.
وعلى المستوى الأخلاقي، تتراجع أمريكا بسرعة الصاروخ؛ فالقيود غير المسبوقة على الحريات تؤكد الانحطاط الأمريكي، بالتوازي مع حملة اعتقالات بحق الطلبة المُناهضين للعدوان الصهيوني على غزة، وحرمان الجامعات المؤيدة للحق الفلسطيني من الدعم الفيدرالي، أضف إلى ذلك ملاحقة المُهاجرين والتنكيل بهم بصورة عنصرية بغيضة، وطردهم بصورة مُذلة وكأنهم أسرى حرب أو معتقلين في جرائم خطيرة. كل ذلك دليل واضح للعيان على التراجع الأمريكي العنيف.
لقد شاخت أمريكا بشيخوخة رؤسائها، وسوء سياساتها الداخلية والخارجية، والأفكار عديمة الجدوى التي تنتمي لحقبة الاستعمار، مثل فكرة احتلال غزة والاستيلاء على جزيرة جرين لاند الدنماركية، وتسمية خليج المكسيك باسم "خليج أمريكا"، وسرقة قناة بنما، والمطالبة بمرور السفن الأمريكية في قناة السويس المصرية بالمجان، وهي جميعها أفكار مُتعفنة، لا وجود لها في عالم اليوم.
الانحطاط الأمريكي يتجلى في أحقر صوره، باستهداف اليمن، التي تُعد واحدة من أفقر دول العالم، اقتصاديًا وعسكريًا، نتيجة الاعتداءات المتواصلة والعقوبات الظالمة المفروضة على هذا البلد الذي يُكافح من أجل أن يحيا بكرامةٍ.
ويبقى القول.. إنَّ التراجع العنيف في مكانة الولايات المتحدة، ستزداد وتيرته يومًا تلو الآخر، في ظل انعدام القيادة الشابة الطموحة القادرة على ابتكار الحلول، لا صناعة الأزمات، قيادة تجذب العالم ومواطنيها حولها، لا أن تواجه عدائيات خارجية وتصل شعبيتها لأدنى مستوى على الإطلاق في أقل من 100 يوم، قيادة تؤمن بقيم السلام والاستقلال وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولا تسعى لابتلاع العالم، قيادة يجب أن تستشعر مسؤوليتها الأخلاقية العالمية وأن تجتهد لترسيخ السلام والاستقرار بدلًا من تجارة الحروب وجرائم الإبادة الجماعية.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: الولایات المتحدة فی الم
إقرأ أيضاً:
كاتب أميركي: على ترامب إدراك ألا أحد يفوز في حرب تجارية
أوضح فريد زكريا الصحفي الأميركي الشهير والكاتب بصحيفة واشنطن بوست أن الولايات المتحدة، صانعة الاقتصاد العالمي المفتوح وداعمته، تفرض أعلى معدل رسوم جمركية لها منذ نحو قرن، مما يحدث تحولا مزلزلا في الشؤون العالمية، مشددا على أن لا أحد يفوز في حرب تجارية.
وأضاف الصحفي -المتخصص في العلاقات الدولية والتجارية- أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تغير مسار 80 عاما من السياسة الاقتصادية والخارجية الأميركية التي دفعت الدول باستمرار إلى إزالة القيود والضرائب على التجارة، وهو تغيير يحدث ثورة سياسية واقتصادية لا يمكن قياس آثارها في أسعار الأسهم اليوم، بل في شكل العالم الذي سينشأ نتيجة لذلك.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2إعلام إسرائيلي: العالم يتكتل ضدنا بعد أن اتحد لدعمنا في 7 أكتوبرlist 2 of 2إعلام إسرائيلي: العالم يرانا متوحشين وحماس ذكية وتلقننا درساend of listوذكر زكريا بأن البيت الأبيض تباهى بأن ترامب فتح الأسواق الخارجية أمام البضائع الأميركية، وكأنه يجبر اقتصادات كانت مغلقة سابقا على الانفتاح.
ولكن الحقيقة -يتابع زكريا- أن متوسط التعريفة الجمركية على البضائع الأميركية في الاتحاد الأوروبي كان قبل ولاية ترامب الثانية 1.35% مقابل 1.47%. وحتى اليابان التي تعتبر شديدة الحمائية، كان متوسط تعريفتها الجمركية على البضائع الأميركية حوالي 3% مقابل نحو 1.5%.
وكان الناس يعيشون في عالم تجارة حرة، تعد فيه التعريفات الجمركية ضئيلة للغاية لدرجة أنها غير ذات أهمية، مع أن دولا أخرى تفرض حواجز غير جمركية على الواردات، وكانت الولايات المتحدة تفعل الشيء نفسه.
ومع ذلك، تنفست الأسواق الصعداء لأن الحواجز ليست بالقدر الذي اقترحه ترامب في "يوم التحرير" وبعد أن توقع المستثمرون تعريفات جمركية فلكية، فرحبوا بهذه المعدلات. علما بأن الاقتصاد الأميركي محلي، حيث كانت قيمة الصادرات عام 2024 أقل من 11% من الناتج المحلي الإجمالي.
ويتكون الاقتصاد الأميركي الآن بشكل كبير من الخدمات -حسب الكاتب- لأن 86% من الوظائف غير الزراعية في قطاع الخدمات الأسرع نموا، حيث حققت البلاد فائضا تجاريا يقارب 300 مليار دولار عام 2024، وهو يفلت تقريبا من أي تعريفات جمركية، لأن ترامب يرى أن القوة الاقتصادية لا تتمحور إلا حول التصنيع.
اعتبار المكاسب الصغيرة انتصارات أميركية يسيء فهم الاقتصاد لأنه لا أحد ينتصر في حرب تجارية، خاصة أن الولايات المتحدة تثقل كاهل مستهلكيها لأن أي ضريبة من المرجح أن تلحق الضرر الأكبر بالفقراء.
لا أحد يفوز في حرب تجاريةوقد زعم قادة حركة "لنجعل أميركا عظيمة مجددا" (ماغا) أن ترامب "يفوز بالحرب التجارية" ضد الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، ولكن الحقيقة أن الرئيس أدرك أن لأميركا نفوذا خاصا على تلك الدول نظرا لحجم سوقها والأمن الذي توفره كحليف، وبالتالي استغل هذا الواقع الجيوسياسي للضغط على أقرب الأصدقاء وإجبارهم على تقديم تنازلات.
إعلانلكن اعتبار هذه المكاسب الصغيرة انتصارات أميركية يسيء فهم الاقتصاد -حسب الكاتب- لأنه لا أحد ينتصر في حرب تجارية، خاصة أن الولايات المتحدة تثقل كاهل مستهلكيها لأن أي ضريبة من المرجح أن تلحق الضرر الأكبر بالفقراء.
وسيكون التأثير الأوسع لهذه التعريفات الجمركية -يتابع الكاتب- هو تغيير البنية الأساسية للاقتصاد العالمي، بعد أن ابتعدت الدول عن التدخل الحكومي التعسفي بالأسواق العالمية، ونجحت الولايات المتحدة في اختيار مسار أفضل هيمنت فيه شركات التكنولوجيا لديها على العالم، متعلمة من رواد السوق مثل سوني اليابانية وفيليبس الهولندية، بفضل وجود سوق عالمية شديدة التنافس.
وبذلك كوّنت الولايات المتحدة سابقا عالما تجاريا كانت فيه الدول قادرة على تحقيق مكاسب كبيرة بالحفاظ على السلام، كما صنعت نظاما بيئيا كانت فيه الديمقراطيات الليبرالية مترابطة ومتشابكة اقتصاديا وجيوسياسيا، على حد تعبير الكاتب.
أما الآن -يتابع زكريا- فتتحرك القوة التي صنعت هذا العالم المسالم والمزدهر، في الاتجاه المعاكس.