في حروب الهيمنة، لا تقاس الانتصارات بما تُعلنه الجيوش المنتصرة، بل بما تحجبه القوى العظمى عن وسائل إعلامها. هذا هو جوهر سقوط طائرة الـ F-18 الأمريكية في البحر الأحمر، في لحظة لم تكن فيها الطائرة وحيدة، ولا الحاملة هاري ترومان على هامش المعركة. الحادثة -كما قد يسميها البنتاغون- ليست إلا أحد وجوه تفكك المشروع الإمبراطوري الأمريكي حين يُجبر على الانعطاف، لا نحو النصر، بل نحو النجاة.

غرق الطائرة… وانكشاف المنظومة

منذ لحظة إعلان سقوط الطائرة، سعت الرواية الأمريكية لتفكيك المشهد وتجزئته: حادث عرضي، طائرة تزحلقَت، جرار فقد السيطرة، إصابة طفيفة لأحد البحّارة. ولكن أيّ مراقب متابع لتسلسل الأحداث يدرك أن الرواية الأمريكية ليست إلا جملة من التكتيكات الخطابية المصممة للفصل بين الفعل وسياقه، أي لإخفاء حقيقة أن الطائرة سقطت في لحظة اشتباك عنيف مع القوات اليمنية.

الطائرة لم تسقط في حالة سلم. سقطت في خضم عملية عسكرية أعلنت عنها صنعاء، استُخدم فيها عدد من الطائرات المسيّرة والصواريخ، واستهدفت فيها حاملة الطائرات “هاري ترومان” مباشرة. والاعتراف الأمريكي نفسه، بأن الطائرة سقطت أثناء محاولة الحاملة مراوغة نيران يمنية، لا يُضعف هذا الربط، بل يعززه.

إذا كانت الطائرة، التي تزن بين 11 و17 طناً، قد زلّت بسبب انعطاف حاد، فإن السؤال هو: لماذا تنعطف “ترومان” أساساً؟ ما الذي دفع بها للفرار؟ إن هروب حاملة طائرات أمريكية من موقع تمركزها يعادل انهيار أحد أركان القوة الأمريكية التقليدية: وهم الردع البحري المطلق.

تفكيك الخطاب الأمريكي – وظيفة الاعتراف الجزئي

يملك الإعلام الأمريكي براعة فائقة في هندسة الاعترافات. لا تُقال الحقيقة دفعة واحدة. بل تُمنح عبر “التقطير الإعلامي”، من خلال تسريبات مسؤولين، مصادر غير مصرح بها، ووسائل إعلام شبه مستقلة، بغرض احتواء الكارثة دون أن تنفجر في وجه النظام.

بهذا المعنى، فإن اعتراف البحرية الأمريكية بسقوط الطائرة لا يمثل شجاعة أو شفافية، بل خطوة استباقية تكتيكية هدفها تفريغ الرواية اليمنية من زخمها، وتقديم القصة من منظور “حادث عرضي”. الاعتراف ليس قبولاً بالهزيمة، بل هو محاولة توجيه الرأي العام الأمريكي بعيداً عن الأسئلة الحقيقية: لماذا تنزلق الطائرات في عرض البحر أثناء الاشتباك؟ ولماذا تتراجع حاملات الطائرات؟ ولماذا تفشل أنظمة الدفاع الأمريكية في توفير الحماية في مواجهة قوات تعتبرها واشنطن “غير نظامية”؟

إن هذا النمط من التلاعب بالرواية هو امتداد لنهج إمبراطوري قائم على صناعة الوعي الكاذب، حيث تكون الغاية من الإعلام ليس تقديم الحقيقة، بل إنتاج سردية تُسكن القلق الجماعي وتُخدّر وعي الجمهور.

المعركة الرمزية – حين تنهار “الأسطورة”

طائرة الـ F-18 ليست مجرد قطعة حديد باهظة الثمن. إنها رمز. رمز للتفوق الأمريكي الجوي، للتقنيات التي لا تُقهر، للتفوق الساحق على الخصم. وسقوطها لا يعني مجرد خسارة عتاد بقيمة 67 مليون دولار، بل اهتزاز في صورة “القوة التي لا تُهزم”.

ولأن القوة العسكرية الأمريكية ليست مصممة فقط للقتال، بل للردع، فإن لحظة السقوط –بغض النظر عن السبب الميكانيكي أو الفني– هي لحظة تفقد فيها الولايات المتحدة أهم ما تمتلكه في حروب الهيمنة: الخوف. فإذا كانت طائرة فائقة مثل F-18 يمكن أن تسقط في البحر أثناء الاشتباك، وإذا كانت حاملة الطائرات “ترومان” نفسها تضطر للفرار والانحراف الحاد لتفادي نيران القوات المسلحة اليمنية، فما الذي تبقى من صورة “سيدة البحار”؟

هنا تتكشف معالم الأزمة الحقيقية: ليست أزمة تقنية، بل استراتيجية. فحرب البحر الأحمر ليست مجرد مواجهة مع اليمنيين، بل مع منظومة صاعدة من الوعي المقاوم، تقود فيه اليمن -رغم الحصار والحرب- تحولًا جذريًا في ميزان الردع.

الحجب كتكتيك – بين فشل الدفاعات وهروب الحقيقة

لو كانت أنظمة الحماية في حاملة الطائرات “ترومان” تعمل بكفاءة، لما اضطرت للهرب أصلاً. هذا يعني إما أن أنظمة الإنذار المبكر والرادارات لم تتعرف على المقذوفات اليمنية، أو أنها أدركت حجم الخطر ولم تستطع مواجهته، فكان الخيار الوحيد هو المناورة الحادة… والتي تسببت بسقوط الطائرة. في كلا الاحتمالين، نحن أمام اختراق استراتيجي غير مسبوق.

وحين تعجز ترسانة عسكرية متقدمة عن التصدي لصواريخ ومسيّرات “بلد محاصر”، فإن ما يسقط ليس الطائرة فقط، بل منظومة الهيمنة نفسها.

ولذلك فإن الحجب الأمريكي للمعلومات، والتشويش على السياق، والتسريب البطيء للوقائع، ليست إلا محاولات يائسة للإبقاء على وهم السيطرة في بحر لم يعد أمريكياً، لا عسكريًا، ولا رمزيًا.

اليمن تكتب المعادلة – لا تُستنزف بل تَستنزف

الرسالة اليمنية لم تعد دفاعية. لم تعد المعركة محصورة في حماية السفن التجارية من القرصنة، أو في الرد على الغارات الأمريكية. نحن أمام انتقال نوعي في طبيعة المواجهة: من الصد إلى المبادرة، من الدفاع إلى الهجوم، ومن التموضع إلى إعادة التموضع القسري للعدو.

أن تتراجع “ترومان” شمالًا، وأن تُجبر على الانعطاف الحاد، وأن تعيش قواتها في حالة رعب وإجهاد بعد أكثر من ستة أسابيع من العمليات المتواصلة، فهذا ليس فقط انهيارًا في الأداء، بل بداية لانهيار العقيدة العسكرية الأمريكية التي لطالما قامت على حسم المعركة من البحر.

في هذا السياق، يصبح الصمت اليمني عن تفاصيل إسقاط الطائرة ليس غموضاً، بل رسالة مدروسة: إننا لا نتحدث الآن، لأن القادم أعظم. ولأن ما نقوم به على الأرض، في البحر، وفي الجو، هو ما سيتحدث عن نفسه في الوقت المناسب.

من البحر الأحمر إلى الخليج – هل تسقط الإمبراطورية على وقع الطائرات المسيّرة؟

إن حادثة سقوط الـ F-18 ليست مجرد عنوان في نشرة إخبارية. إنها مؤشر على مرحلة جديدة، فيها تفقد القوة الأمريكية قدرتها على التحكم بالسردية، وتتحول من فاعل إلى مفعول به، ومن سيد للميدان إلى هارب منه. هذا الانزلاق المادي للطائرة، هو انعكاس رمزي لانزلاق المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط نحو الهزيمة.

حين تُجبر حاملة الطائرات على الفرار، وتتساقط طائراتها في عرض البحر، وينهار معها خطاب الردع، فإن سؤال ما بعد الهيمنة لم يعد نبوءة، بل واقع يتشكل بصواريخ تُصنع في كهوف جبال اليمن، وبأيدٍ حفاة لكنهم يمتلكون أكثر ما تخشاه الإمبراطوريات: الإرادة، والوعي، والإيمان بأن النصر ليس أرقامًا، بل صمودٌ وصبرٌ واشتباكٌ طويل النفس.

 

كاتب صحفي فلسطينيt

 

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

خطاب الحرب

أما وقد رفعت الحرب راياتها، وشدت إليها مطايا وأرحل، وأكلت النيران العباد والبلاد، وسنت القاتلات الماحقات، وأعِدت الهالكات المفنيات، وسويت الشاهقات العاليات بأسافل الأرض، وعاث بنو صهيون في الأرض تِيه مارد طليق اليد واللِسان، وأقيم خطاب القوة قبل السلام، فإن عجْزا في خطاب الفكر قد حل، وصمْتا للعقل قد ساد، إذ أطلقت أيادي مجانين المال وتحصيله من الحروب والأوبئة قد غلب.

يعنيني جدا أن يتفكر الأدب -وهو مجالي وعالمي- في ما يحيط به من عوالم، يعنيني أن يقول الفكر قوله في هذا العالم الذي يقام فيه خطاب الكراهية ويعيد توزيع العالم وفق إرادة القوة. أهتم كثيرا بالخطاب، بما في ذلك الخطاب السياسي، لأني أعتقد أن اللغة هي -دوما- أداة أثر وتأثير، ومنها يمكن أن نتبين أبعادا وأن نقرأ أرضيات، وأن ندرِك نفسيات.

أولا وجب أن نقف على نمط من خطاب المخاتلة و«الكذب» الذي يسوغ في حالة الحرب لا في حالة السلم، وأن نتبين أن حرب القول، لا تقل منزلة ولا أثرا عن حرب السلاح، حرب إيران، مشروع قتال مفن، وضع الناس على فوهة بركان، وخاصة أناس الشرق الأوسط، ومنطقة الخليج العربي.

هنالك خطاب قوي سائد أولا هو خطاب الكيان الإسرائيلي، هو خطاب لا منطق فيه، ولا سند له، غير أن العالم أعرض عن الوجاهة وعن المنطق وانخرط في زمن «فتونة الأقوياء»، خطاب الكيان الصهيوني، هو خطاب معاقبة من يرفضه، ومن يقف ضده بقوة السلاح، بقوة التدمير، دون حد أو ضبْط، ودون رقيب أو حسيب، وقد سادت عبارة صدرت عن رأس السلطة في هرم حكم الكيان الضالِ المضل، ابن يامين نتنياهو، تبدو عادية، بسيطة، تلقاها العالم بكل رضا واستسلام، وهي المقولة التي قال فيها: «الرئيس ترمب وأنا أقول دائما إن السلام يأتي من خلال القوة، القوة أولا، ثم يأتي السلام»، معادلة جديدة في منطق جديد لكون جديد، القوة ثم سلام يفرضه الأقوياء، أو هو استسلام في شكل سلام.

لا تعنيني السياسة في شكلها العملي في هذا المقال، ولكن تعنيني كثيرا سياسة الخطاب، كيف يبْني القوي خطابا مختلفا، خارجا أحيانا عن حدود الأعراف، وعن المنطق، ليصبح هو ذاته منطقا يحتج به. خطاب نتنياهو بعد ضربة أمريكية لدولة مستقلة، لها حرمة حدودها، وهي إيران، هو خطاب القوي، الذي انطلق بمفرده، لضرْب دولة قرر هو معاقبتها ومنعها من امتلاك السلاح النووي، قدر هو أنها اقتربت من صناعة النووي، ولذلك وجب أن ينقذ العالم منها، وسوق لهذا الخطاب، خطاب المنقذ، في حين أنه علنا، محا بفعلته تلك، كل ما بنته الحضارة الحديثة، من أمم متحدة تتخذ القرار بمعاقبة أو محاربة الدول التي تقدر أنها تهدِد السلم الكوني.

منطق الأشياء أن العالم الحديث تخلص من شريعة الغاب، ومن اتخاذ القرارات الفردية بإقامة الحروب، وتحديد الخارج عن السِرْب، من هي إسرائيل لتنوب الكون وتعتدي على دولة سيادية، لا تربطها بها حدود، وتتهمها بما هي مالكته، تتهمها بنية الطموح لامتلاك سلاح نووي تشرِع إسرائيل لنفسها امتلاكه، وتمنع الغير حتى من التفكير في تحصيله؟ هل صارت إسرائيل قاتلة الأطفال والنساء، الدولة التي تتهمها الأمم المتحدة بالإبادة الجماعية، هي حامية العالم؟ يكتسب الكيان الإسرائيلي قوة خطابه من مباركة أمريكا له، ومن مساندة العالم أيضا لما يفعله، وكأن أصحاب عصبة الأمم المتحدة اتفقوا على أن الفعل الغاصب هو الفعل الحق.

هذا باب من خطاب استسلم له الكون وقبله وروج له، وهو خطاب حول جذريا من اعتقاد إنساني ساد إيمانا بالإنسانية وبالعدالة الكونية، وهو اعتقاد سقط وهوى في أيامنا هذه، في انتظار قيام وعي جديد وإنسان جديد يؤمن بمبادئ كونية جديدة، لا نعرف محتواها.

في السياق نفسه يصرح وزير الدفاع الأمريكي بعد ضرْب أمريكا لإيران قائلا: «العملية ضد إيران كانت جريئة ورائعة»، استرعت اهتمامي في هذا التصريح عبارة «رائعة»، وهي عبارة متساوقة مع خطابات سائدة لترمب يسم بها كل فعل أمريكي عموما، ويصف فيها الانتصار الساحق الذي وصف به تدمير المفاعلات النووية الإيرانية، وما فعله أيضا من «تخليص» للكون من «الشرير»، دور المخلِص هو دور عقدي يؤديه شخص ترمب من جهة ونتنياهو من جهة ثانية، ودور «الشرير» تحدد لأهل غزة أولا، ثم لإيران ثانيا، وعودا إلى عبارة وزير الدفاع الأمريكي في وسْمه للعملية ضد إيران بالرائعة، فإن الروعة تلحق عملا فيه إبهار وتأثير، وله أثر إنساني عادة، فالرائع في المعاجم هو «الذي يجاوز الحد فنا أو حسنا أو شجاعة أو أخلاقا»، وما قام به الطيار الأمريكي الذي ألقى قنبلة، وهو عديم كل شعور إنساني، أو معرفة ذاتية بأثرها، أو وعيا وعلما بمن يحارب، هو فعل جمادي، لا يرتقي للحيوانية، لأنه قد يبيد مدينة كاملة برضعها وشيوخها بفعله «الرائع»، المروع، فالحيوان يقتل بحثا عن الطعام، أما الإنسان الأمريكي فإنه يقتل وهو يؤدي وظيفته. خطاب الروعة، لا صلة له بالشجاعة، فالطيار يمتطي حصانا معجِزا، ولا صلة له بالفن ولا بالجمال، وإنما صلته الأمتن بالتكنولوجيا التي يمتلكها صاحب الخطاب ويذل بها الكون، ويريد أن يقلب بها مفاهيم الوجود، «مطرقة منتصف الليل» درس في الخطاب وأثره، هي بيان لقوة تعيد توزيع مفاهيم الحق والباطل، العدل والجوْر، المنقذ المخلِص والشرير، المحور والهامش.

«مطرقة منتصف الليل» هي استعادة لخطاب ديني، يتبوأ فيه المنقذ المخلص دور حامي الكون، وهو الذي يحدد المارق، الكافر، وهو أيضا الذي يستمد قوته من شرعية دينية «عادلة، تمكنه من «معاقبة» الأشرار، صاحب قوة القول، مستند إلى قوة فعل، وهو حامل مطرقة يهرس بها كل رأس يخرج من قمقمه.

مقالات مشابهة

  • شاهد.. راكبة تُهدد الطاقم وتُربك رحلة روسية متجهة إلى مصر
  • من فوق ركام الهزيمة .. العدو الصهيوني ممسكاً بالذراع الأمريكية لخوض مغامرة استخبارية في اليمن
  • إصابة ركاب وطاقم طائرة هندية بإعياء غريب
  • وزير الخارجية الأمريكي: إيران أصبحت أبعد عن امتلاك السلاح النووي بعد الضربة الأمريكية
  • كركوك.. العثور على منصة إطلاق صواريخ داخل عجلة متروكة
  • خطاب الحرب
  • "الحرس الثوري": أطلقنا آخر موجة صواريخ على إسرائيل
  • إيران تنفي إطلاق صواريخ بعد وقف إطلاق النار على الكيان الصهيوني
  • صواريخ على حيفا رغم إعلان الهدنة بين إسرائيل وإيران
  • اليمن يدعو إلى إلغاء وجود القواعد الأمريكية في المنطقة