كيف نمنع اندلاع حرب بين أمريكا والصين؟
تاريخ النشر: 26th, August 2023 GMT
لا تزال الولايات المتحدة والصين تسيران على مسار تصادمي. وقد تصبح الحرب الباردة التي اندلعت حديثا بينهما ساخنة في النهاية بسبب قضية تايوان. إن «فخ ثوسيديدس»ــ حيث تتجه قوة صاعدة نحو الصدام مع قوة مهيمنة قائمةــ يلوح في الأفق بصورة مخيفة. ولكن لا يزال ممكناً تجنب تصعيد خطير للتوترات بين الصين وأميركا، بما في ذلك نشوب حرب بينهما، مما سيجنب العالم العواقب الكارثية الحتمية الناجمة عن ذلك.
عندما تتحدى قوة صاعدة معينة القوة العالمية السائدة، دائماً ما سينشأ بينهما بعض التوتر على الأقل. ولكن الصين تواجه الولايات المتحدة في الوقت الذي ربما تشهد فيه أمريكا بداية تقهقر قوتها النسبية، وتلتزم فيه بمنع تراجع دورها الاستراتيجي. إذن، أصبح كلا الجانبين مرتابين على نحو متزايد بخصوص نوايا الطرف الآخر، وقد حلت المواجهة في الأغلب محل المنافسة والتعاون السليمين. ويقع اللوم جزئيا على كلا الجانبين.
وفي عهد الرئيس شي جين بينغ، انتقلت الصين أكثر إلى نظام رأسمالية الدولة، بدلاً من الالتزام بمفهوم «الإصلاح والانفتاح» لـ «دنغ شياو بينغ». وفضلاً عن ذلك فإن مقولة دنغ «أخفِ قوتك وانتظر حتى يحين وقتك» أفسحت المجال أمام الحزم العسكري. وتفاقمت النزاعات الإقليمية بين الصين والعديد من جيرانها في آسيا. فقد سعت الصين إلى السيطرة على بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، وأصبح صبرها ينفد على نحو متزايد فيما يتعلق بـ «إعادة توحيدها» مع تايوان بأي وسيلة يتطلبها الأمر.
ولكن «شي» اتهم الولايات المتحدة بمواصلة استراتيجيتها العدوانية المتمثلة في «الاحتواء والتطويق والقمع على نطاق شامل». ومن ناحية أخرى، يخشى كثيرون في الولايات المتحدة أن تتحدى الصين الهيمنة الاستراتيجية الأمريكية في آسيا- وهي عامل حاسم فيما شهدته المنطقة من سلام وازدهار وتقدم نسبي منذ الحرب العالمية الثانية.
ويخشى القادة الصينيون أيضاً أن تتخلى أمريكا عن التزامها بمبدأ «صين واحدة»، الذي عزز العلاقات الصينية الأمريكية طيلة نصف قرن من الزمان. ولم تصبح أمريكا أقل «غموضاً على المستوى الاستراتيجي» فحسب فيما يتصل بمسألة ما إذا كانت ستدافع عن تايوان؛ بل أثارت أيضا مخاوف الصين من اعتماد أمريكا سياسة الاحتواء عن طريق تعزيز تحالفاتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ من خلال حلف AUKUS (أوكوس) الذي يضم (أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)، والتحالف الرباعي (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، والمحور الآسيوي من خلال حلف الناتو.
وتتمثل الخطوة الأولى نحو منع الاصطدام في إدراك أن بعض المخاوف السائدة مبالغ فيها. فعلى سبيل المثال، يذكرنا قلق الولايات المتحدة بخصوص صعود الصين الاقتصادي بموقفها تجاه صعود ألمانيا واليابان قبل عقود من الزمن. فعلى أي حال، تعاني الصين من مشاكل اقتصادية كبيرة قد تؤدي إلى خفض نموها المحتمل إلى 4-3 في المائة فقط سنوياً، وهو معدل أدنى بكثير من معدل النمو السنوي الذي حققته على مدى العقود القليلة الماضية (10 في المائة). إذ تعاني الصين من شيخوخة السكان وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب إلى مستويات عالية؛ وارتفاع مستويات الديون في كل من القطاعين العام والخاص؛ وتراجع الاستثمار الخاص بسبب الترهيب الممارس من جانب الحزب الحاكم؛ والالتزام برأسمالية الدولة التي تعيق نمو إنتاجية العامل الإجمالي.
وفضلا على ذلك، تراجع الاستهلاك المحلي الصيني، بسبب تفاقم حالة عدم اليقين الاقتصادي والافتقار إلى شبكة أمان اجتماعي واسعة النطاق. ومع بداية الانكماش، يتعين على الصين الآن أن تقلق من أن يحدث لها ما حدث مع اليابان: فترة طويلة من عدم النمو. وعلى غرار العديد من الأسواق الناشئة، فقد ينتهي بها الأمر إلى الوقوع في «فخ الدخل المتوسط»، بدلا من الوصول إلى مكانة الدخل المرتفع والتحول إلى أكبر اقتصاد في العالم.
وفي حين أن الولايات المتحدة ربما بالغت في تقدير صعود الصين المحتمل، فإنها ربما تكون قد قللت من تقدير تفوقها في العديد من صناعات المستقبل وتكنولوجياته: الذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي، وأشباه الموصلات، والحوسبة الكمومية، والروبوتات والأتمتة، ومصادر الطاقة الجديدة مثل الاندماج النووي. فقد استثمرت الصين بصورة مكثفة في بعض هذه المجالات في إطار برنامج «صنع في الصين 2025»، ولكن هدفها المتمثل في تحقيق الهيمنة في الأمد القريب على عشر صناعات في المستقبل يبدو الآن بعيد المنال.
إن المخاوف الأمريكية بخصوص هيمنة الصين على آسيا مبالغ فيها أيضاً. فالصين محاطة بما يقرب من 20 دولة، والعديد منها منافس استراتيجي لها أو «صديق معاد لها» ـ وأغلب حلفائها القلائل، مثل كوريا الشمالية، يستنزفون مواردها. وفي حين كان من المفترض أن تعمل مبادرة الحزام والطريق على تكوين صداقات جديدة وخلق تبعيات جديدة، فإنها تواجه العديد من التحديات، بما في ذلك المشاريع الضخمة الفاشلة (الأفيال البيضاء) التي تؤدي إلى التخلف عن سداد الديون. ومع أن الصين ترغب في السيطرة على الجنوب العالمي و«دوله المتأرجحة» على المستوى الدولي، فإن العديد من القوى المتوسطة تقاوم هذا الطموح وتتصدى له.
لقد فرضت الولايات المتحدة عن حق بعض العقوبات لإبقاء التكنولوجيات الرئيسية بعيدة عن أيدي المؤسسة العسكرية الصينية، وإحباط سعي الصين نحو الهيمنة في مجال الذكاء الاصطناعي. ولكن يتعين عليها أن تكون حريصة على جعل استراتيجيتها مقصورة على إزالة المخاطر، بدلاً من الفصل، بصرف النظر عن بعض عمليات الفصل التكنولوجي الضرورية، والقيود المفروضة على الاستثمار المباشر في الصين والولايات المتحدة. وبينما تحدد الصين القطاعات التي يتعين عليها إدراجها في نهج «سياج عال حول ساحة صغيرة»، يتعين عليها أن تتجنب الذهاب إلى أبعد من ذلك. إن العقوبات التجارية التي فرضها دونالد ترامب على الصين تنطبق على مجموعة واسعة من السلع الاستهلاكية، وينبغي إلغاء أغلبها تدريجيا.
وفيما يتعلق بتايوان، يتعين على الولايات المتحدة والصين أن تحاولا التوصل إلى تفاهم جديد لنزع فتيل التصعيد الخطير اليوم. ويتعين على الرئيس الأمريكي، جو بايدن، أن يعيد التأكيد بوضوح على مبدأ صين واحدة وأن يعيد مواءمة التزاماته وتصريحاته العامة مع مبدأ «الغموض الاستراتيجي». ويتعين على الولايات المتحدة أن تبيع لتايوان ما تحتاجه من أسلحة للدفاع عن نفسها، ولكن ليس بالسرعة أو النطاق اللذين قد يدفعان الصين إلى غزو الجزيرة قبل أن تتقدم قواتها الدفاعية التي تعتمد استراتيجية «النيص» بعيدا جدا. ويتعين على أميركا أيضاً أن تقول بوضوح أنها تعارض أي تحرك تايواني نحو الاستقلال الرسمي، ويتعين عليها أن تتجنب الزيارات رفيعة المستوى مع الزعماء التايوانيين.
ومن جانب الصين، يتعين على هذه الأخيرة أن توقف توغلاتها الجوية والبحرية بالقرب من تايوان. ويجب أن تذكر بوضوح أن إعادة التوحيد في نهاية المطاف ستكون سلمية تمامًا ومتفقا عليها بصورة متبادلة؛ ويتعين عليها أن تتخذ خطوات جديدة لتحسين العلاقات عبر المضيق؛ وينبغي لها نزع فتيل التوترات مع جيرانها الآخرين بشأن النزاعات الإقليمية.
ويجب أن تتبع كل من الصين وأمريكا سياسات من شأنها أن تقلل من التوترات الاقتصادية والجيوسياسية، وتعزز التعاون السليم فيما يتعلق بالقضايا العالمية مثل تغير المناخ، وتنظيم الذكاء الاصطناعي. وإذا أخفقتا في التوصل إلى تفاهم جديد بشأن القضايا التي تشعل فتيلة مواجهتهما الحالية، فسوف تصطدمان في النهاية. وهذا من شأنه أن يؤدي حتماً إلى مواجهة عسكرية من شأنها أن تدمر الاقتصاد العالمي، بل وربما تتصاعد إلى صراع (نووي) غير تقليدي. وتتطلب المخاطر العالية امتناع الجانبين عن استخدام القوة العسكرية.
نورييل روبيني أستاذ فخري للاقتصاد في كلية ستيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك، وهو كبير الاقتصاديين في فريق أطلس كابيتال، والرئيس التنفيذي لشركة روبيني ماكرو أسوشيتس.
خدمة بروجيكت سنديكيت
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة یتعین على العدید من
إقرأ أيضاً:
دعوة لبناء خط طوارئ فضائي لتفادى صدام المدارات بين أميركا والصين
التوتر بين القوتين الكبيرتين، الولايات المتحدة والصين، لم يعد مقتصرا على الأرض، بل امتد إلى الفضاء، حيث باتت المخاطر أكبر وأكثر حساسية. وفي هذا السياق، اقترحت واشنطن إنشاء "خط طوارئ فضائي مباشر" يهدف إلى تخفيض التوتر وتفادي الحوادث المدارية التي قد تتسبب في اشتعال صراع غير مقصود خارج الغلاف الجوي.
وتجسد هذا التوتر الفضائي في أكثر من مناسبة خلال السنوات الأخيرة، ففي عام 2021 أبلغت الصين الأمم المتحدة رسميا أن قمرها الصناعي في محطة "تيانقونغ" اضطر مرتين إلى تنفيذ مناورات لتفادي الاصطدام بأقمار صناعية تابعة لشركة "سبيس إكس" الأميركية، متهمة واشنطن بالتقاعس عن التعاون في تبادل بيانات المدار.
وفي عام 2023، حذر البنتاغون من أن الصين تطور أسلحة مضادة للأقمار الصناعية، تشمل ليزرات أرضية وأقمارا صناعية انتحارية، وسط قلق متزايد من محاولات بكين لتعطيل أو شل البنية التحتية الفضائية الأميركية عند اندلاع أي نزاع.
كذلك اتهمت واشنطن الصين مرارا بإطلاق أقمار صناعية "غامضة المهام" قادرة على تتبع أقمار أخرى أو تعطيلها، مما يزيد من ضبابية النوايا في الفضاء ويعقد المشهد الأمني هناك.
ويتسابق الطرفان لبناء قواعد على سطح القمر، وهو ما دفع وكالة "ناسا" إلى التحذير من أن السباق القمري مع الصين قد يؤدي إلى احتكار الموارد وخلق توترات جيوسياسية جديدة، ما لم توضع قواعد واضحة تنظم هذا التنافس.
إعلانوفي ظل تصاعد هذه التوترات، جاء مقترح إنشاء "خط الطوارئ الفضائي المباشر" مع الصين كخطوة تهدف إلى تفادي الحوادث المدارية والصدامات العرضية التي قد تتحول إلى مواجهات مفتوحة في الفضاء.
وجاءت هذه التوصية ضمن تقرير صادر عن مجلس العلاقات الخارجية الأميركي بعنوان "تأمين الفضاء: خطة للعمل الأميركي"، عرض خلال أعمال المنتدى الأربعين لمؤسسة الفضاء (منظمة غير ربحية أميركية أسست عام 1983) الذي استضافته مؤخرا مدينة كولورادو سبرينغز.
ويحث التقرير واشنطن على اعتبار الفضاء "أولوية وطنية"، مشيرا إلى أن المشهد الفضائي بات أكثر ازدحاما وتعقيدا، في وقت لا توجد فيه بعد قواعد دولية موحدة لتنظيمه أو احتواء الأزمات بين الخصوم.
لماذا "الخط الساخن" الآن؟وفكرة إنشاء خط ساخن فضائي ليست جديدة تماما، إذ يوجد بالفعل خط مماثل بين الولايات المتحدة وروسيا. هذا ما أكدته الجنرال المتقاعدة نينا أرماجنو، إحدى المشاركات في إعداد التقرير، في تصريحات نقلتها منصة "سبيس دوت كوم" المختصة بعلوم الفضاء.
وقالت إن " إنشاء خط مماثل مع الصين يمكن أن يسهم في تفادي الحوادث المدارية وسوء الفهم، خاصة في ظل النشاط المكثف لإطلاق الأقمار الصناعية".
وأضافت "بإمكاننا، في حالة الطوارئ أو الخطأ في الحسابات، أن نلتقط الهاتف ونتحدث مباشرة، فهذه ليست فكرة معقدة، لكنها ضرورية".
ومن جانبه، أوضح الخبير الأمني صامويل فيزنر، أحد أعضاء فريق إعداد التقرير، أن القطاع التجاري الفضائي الأميركي، الذي يمثل ركيزة الابتكار والتقدم التكنولوجي، بات هدفا متزايدا لهجمات محتملة من خصوم مثل الصين وروسيا.
وأشار فيزنر إلى أن أول هجوم إلكتروني في حرب أوكرانيا استهدف منظومة فضائية تجارية، مضيفًا أن "الأنظمة الفضائية التي تعتمد عليها الزراعة والنقل والاتصالات أصبحت أهدافا عسكرية مشروعة، وهذه حقيقة يجب أن تؤخذ بجدية".
إعلان هل تنجح الدبلوماسية الفضائية؟وفي ظل عجز المنظمات الدولية حتى الآن عن فرض قواعد ملزمة تنظم الفضاء وتمنع انفلات النزاعات، ترى الولايات المتحدة أن خلق آليات للثقة، مثل الخط الساخن، قد يقلل من مخاطر الانزلاق إلى صدام فضائي مباشر.
لكن يبقى السؤال مطروحا: هل تقبل الصين بمثل هذه الآلية؟
يرى الخبراء أن احتمالات قبول بكين تبدو محدودة، خصوصا أنها ترفض في الغالب الانضمام إلى المبادرات التي تقودها واشنطن، مفضلة إطلاق مشاريعها ومبادراتها الفضائية المستقلة، مثل مبادرة "طريق الحرير الفضائي".